الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي سُرق رداؤه ثم أراد ألا يقطع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟» (1). والله تعالى أعلم.
2 -
اللعان: وذلك إذا رمى الرجل زوجته بالزنا، أو نفى حملها أو ولدها منه، ولم يُقم بيِّنة على ما رماها به، فإن الحدَّ يسقط عنه إذا لاعنها كما تقدم في «اللعان» .
3 -
البيِّنة:
فإذا ثبت زنا المقذوف بشهادة، أو إقرار، فإنه يُحَدُّ المقذوف، ويسقط الحد عن القاذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة
…
} (2).
4 -
زوال الإحصان عن المقذوف (3): فذهب الجمهور إلى أنه لو قذف محصنًا ثم زال أحد أوصاف الإحصان عنه، كأن زنى المقذوف، أو ارتد (4) أو جُنَّ، سقط الحدُّ عن القاذف، لأن الإحصان يشترط في ثبوت الحد، وكذلك استمراره.
وأما الحنابلة فقالوا: إذا ثبت القذف فإنه لا يسقط بزوال شرط من شروط الإحصان بعد ذلك، ولا يسقط الحدُّ عن القاذف بذلك.
5 -
رجوع الشهود على القذف عن الشهادة (5):
إذا ثبت حدُّ القذف بشهادة الشهود، ثم رجعوا عن شهادتهم قبل إقامة الحد، سقط الحدُّ باتفاق الفقهاء، وكذلك إذا رجع بعضهم ولم يبق منهم ما يثبت الحدُّ بشهادته منهم؛ لأن رجوعهم شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
(3) حَدُّ شُربِ الخَمر
تعريف الخمر (6):
الخمر: تجمع على خُمور، وهى مؤنثة، ويجوز تذكيرها، والتأنيث أكثر وأشهر،
وتؤنث بالهاء، فيقال: هذه أو هذا خمر، وهذه خمرة.
(1)، (2)«ابن عابدين» (3/ 168)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «روضة الطالبين» (8/ 327)، و «كشاف القناع» (6/ 105).
(2)
سورة النور: 4.
(3)
لكن قال الشافعية: لا يسقط الحدُّ بالردَّة بخلاف الزنا ونحوه.
(4)
انظر «الموسوعة الفقهية» (33/ 16)، (22/ 149).
(5)
«مختار الصحاح» (189)، و «القاموس» (2/ 32)، و «تهذيب الأسماء واللغات» ، و «القرطبي» (3/ 51)، و «فتح الباري» (10/ 32)، و «نيل الأوطار» (7/ 166)، و «الحدود والتعزيرات» (251).
(6)
وسميت بذلك لأنها تغطي حتى تدرك أي تغلي، وقيل: لأنها تستر العقل وتغطيه، وقيل: لأنها تخامر العقل أي تخالطه.
والتحقيق: أن هذه الأوجه كلها موجودة في الخمر، فالخمر تركت حتى أدركت وسكنت، فإذا شُربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه، فلا مانع من صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان.
حقيقتها في اللغة:
قال الفيروزآبادي: الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو هو عام، والعموم أصحُّ، لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وما كان شرابهم إلا البسر والتمر (1).
حقيقتها الشرعية:
اختلف العلماء في حقيقة الخمر الشرعية بناء على اختلافهم في حقيقتها في اللغة وإطلاق الشرع، على قولين (2):
الأول: أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد بطبعه دون عمل النار، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض الشافعية.
الثاني: أن الخمر كل ما أسكر سواء كان عصيرًا أو نقيعًا من العنب أو غيره مطبوخًا أو غير مطبوخ، وهو مذهب جمهور العلماء.
والحق أن هذه المسألة مما طال فيه النزاع مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل لها حدًّا أغنانا به عن هذا التعب والتطويل، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام
…
» (3).
وعن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن، البتع: وهو من العسل حين يشتد، والمزر: وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يَشتد، قال: - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه - «كل مسكر حرام» (4).
(1)«القاموس المحيط» مادة: (خمر).
(2)
«ابن عابدين» (5/ 288)، و «الدسوقي» (4/ 353)، و «مغني المحتاج» (4/ 186)، و «الروضة» (10/ 168)، و «المغني» (9/ 159)، و «كشاف القناع» (6/ 116).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (2003)، والترمذي (1861)، والنسائي (5582)، وأبو داود (3679)، وابن ماجة (3390).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733).
فهذا الحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر، وقد سماه (خمرًا) أفصح الأمة لسانًا صلى الله عليه وسلم، فمن خصَّ بنوع خاص من المسكرات فقد قصر فهمه، وهضم المعنى العام في الخمر الشامل معناه لكل مسكر.
ثم إن الأحاديث الواردة في هذا الباب تبطل المذهب الأول القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، ومن ذلك:
1 -
حديث أنس قال: «إن الخمر قد حُرمت، والخمر يومئذ: البُسر والتمر» (1).
2 -
وعنه قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب
يُشرب إلا من التمر» (2).
وفي لفظ: «
…
وما نجد خمر الأعناب، وعامة خمرنا البسر والتمر» (3).
3 -
وعن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذٍ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب» (4).
4 -
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا» (5).
5 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام عمر على المنبر فقال: «أما بعد، نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل» (6).
فهذه النصوص وغيرها كثير صريحة في دخول هذه الأشربة المتخذة من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن، وخوطب بها الصحابة، وهي تغني عن التكلف في إثبات تسميتها خمرًا بالقياس مع كثرة النزاع فيه، على أن محض القياس الجلي - على فرض عدم وجود هذه النصوص - يقتضي التسوية بينها، بل هي أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساوٍ للأصل في جميع أوصافه،
والعجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد (!!) ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة (7).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5584)، ومسلم (1980).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1982).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5580).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (4616)، ومسلم (3032).
(5)
صحيح: أخرجه أبو داود (3659)، والترمذي (1934)، وابن ماجة (3379).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032).
(7)
انظر: «تهذيب السنن» (5/ 262) لابن القيم، و «تفسير القرطبي» (6/ 295).
لا فرق بين قليل الخمر وكثيرها:
حرَّم الشارع القطرة من الخمر، وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكونها ذريعة إلى شرب كثيرها (1).
فعن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام» (2).
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» (3).
والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلًا.
الحشيشة والمخدرات حرام، وفيها الحدُّ:
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام
…
» (4).
وهذا يتناول كل ما يُسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولًا أو مشروبًا، أو جامدًا أو مائعًا، فلو اصطبغ كالخمر كان حرامًا، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حرامًا، ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها، سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن (5).
وقد صحَّ عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده بأن «الخمر ما خامر العقل» (6).
على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم كلَّ مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل جهة حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه (7).
ولذا فإن المخدرات بجميع أنواعها (الحشيشة والأفيون والهيروين وغيرها)
(1)«إغاثة اللهفان» (1/ 361).
(2)
صحيح: أخرجه ابن ماجة (3392) والنسائي مفرقًا (8/ 297، 300).
(3)
صحيح: أخرجه الترمذي (1928)، وأبو داود (3670).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (2003)، وغيره وقد تقدم.
(5)
«مجموع الفتاوى» (34/ 204).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (5581)، ومسلم (3032) من قول عمر رضي الله عنه.
(7)
«زاد المعاد» .
محرَّمة وهي خمر لأنها مسكرة تغيب العقل، وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك.
وقد نصَّ على تحريمها فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ولا خلاف في ذلك (1)، لكنهم لا يرون فيها الحدَّ (!!) بل يقولون بالتعزير، ويرى بعضهم أن
الحرمة إنما هي في تعاطي القدر المسكر!!
والتحقيق: أن هذه المخدرات - بعد الاتفاق على تحريمها - لها حكم الخمر بالنصِّ فلا وجه للتفريق بينهما وبين الخمر، فهي وإن كانت تجامع الشراب المسكر في تغييب العقل والنشوة والطرب، فإنها تشتمل على ضرر ف دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد صحَّ تسميتها خمرًا، فيكون القليل منها حرامًا كالكثير، ويُحدَّ متعاطيها، كما حقَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، قال: «وقاعدة الشريعة: أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات، كالخمر والزنا ففيه الحدُّ، لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير، والحشيشة مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها، فيجب فيها الحد، بخلاف البنج ونحوه مما يُغطى العقل من غير سُكر، ولا يشتهيه الناس، ففيه التعزير
…
» اهـ (2).
عقوبة شارب الخمر:
ذهب عامة أهل العلم - بل حكي غير واحد منهم الإجماع (3) على أن
الشرع قد رتَّب على شرب الخمر عقوبة حدِّية مقدَّرة، فقد وردت أحاديث كثيرة في حد
(1)«ابن عابدين» (4/ 42)، و «الدسوقي» (4/ 352)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «الإنصاف» (10/ 228).
(2)
«مجموع الفتاوى» (34/ 214).
(3)
حكي الإجماع ابن حزم والقاضي عياض وابن هبيرة وابن قدامة وابن حجر وغيرهم، لكن حكي الطبري وابن المنذر وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حدَّ فيها وإنما فيها التعزير، وانتصر لذلك الشوكاني رحمهم الله، وقدح في صحة الإجماع باختلاف الصحابة قبل إمارة عمر وبعدها، وهذا الاعتراض على التحقيق غير وارد لأن اختلافهم إنما هو فيما زاد على الأربعين، وأما الأربعين فلا خلاف فيها بدلالة مثل أبي بكر رضي الله عنه وعمر في صدر خلافته.
شارب الخمر - يأتي بعضها - وأجمع الصحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر، ثم اختلفوا في مقداره على قولين (1):
الأول: مقداره أربعون جلدة: وهو مذهب الشافعي - ورواية عن أحمد - وداود وابن حزم وبه قال جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وحجة هذا المذهب:
1 -
حديث أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين» (2).
2 -
أن عثمان رضي الله عنه أمر عليًّا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر:«اجلده، فجلده، فما بلغ الأربعين قال: أمسك، جَلَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكُلٌّ سُنَّة، وهذا أحب إليَّ» (3).
3 -
وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نُؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، فصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا
جلد ثمانين» (4).
قالوا: ففيهما الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، واعتمده أبو بكر في خلافته، وعمر رضي الله عنه صدرًا من خلافته حتى تتابع الناس فيها فزادها أربعين «تعزيرًا» .
ولذا قال عليٌّ رضي الله عنه: «ما كنت لأقيم الحدَّ على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه» (5).
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقول تقديرًا لا يزاد عليه، ولذا زاد عمر أربعين أخرى بعدما استشار الصحابة تعزيرًا، لكن جلد عليٌّ أربعين فقط في خلافته وقال:«هذا أحب إليَّ» .
الثاني: مقدار الحدِّ ثمانون جلدة: وهو مذهب جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد، وهو القول الآخر عند الشافعية، واستدلوا بما يلي:
(1)«ابن عابدين» (5/ 289)، و «الفواكه الدواني» (2/ 290)، و «مغني المحتاج» (4/ 187)، و «المغني» (9/ 137)، و «المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 146).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1706).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1707)، وأبو داود (4480)، وابن ماجة (2571).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (6779)، وأحمد (15292).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707).
1 -
ما يُروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين» (1) وهو ضعيف لا تقوم به حجة.
2 -
حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب
الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، - قال: - وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر» (2).
قالوا: فاتفق رأيهم على الثمانين فكان إجماعًا (!!).
3 -
ما يُروى عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «إذا سكر أهذى، وإذا أهذى افترى، وحدَّ المفتري ثمانون» (3) ولا يصحُّ عنه، بل ثبت عنه أنه جلد أربعين.
قلت:
الذي يترجَّح لديَّ هو القول الأول: أن الحدَّ أربعون، لأنه الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر صدرًا من خلافته، وأما ما زاده عمر رضي الله عنه واستشار فيه الصحابة، فإنه قد زاده على الحدِّ من باب التعزير لما رأى من اجتراء الناس وتتابعهم على شربها، ويؤيد هذا أمران:
(أ) أن عمر تدرَّج بالجلد من أربعين إلى ستين ثم إلى ثمانين، فعنه «أن عمر رضي الله عنه جلد أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين، ثم قال: هذا أدنى الحدود» (4).
(ب) أنه كان يضرب في وقت واحد أربعين وثمانين تبعًا للمصلحة، فقد «أُتي عمر بشارب، فقال لمطيع بن الأسود: إذا أصبحت غدًا فاضربه، فجاء عمر فوجده
يضربه ضربًا شديدًا، فقال: كم ضربته؟ قال: ستين، قال: اقتصَّ منه بعشرين» (5).
(1) ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 379) مرسلًا، وانظر «التلخيص» (4/ 72).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1706)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1443)، وأحمد (11729).
(3)
ضعيف: أخرجه مالك (2/ 842)، والدارقطني (354)، والطحاوي (2/ 88)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320)، وانظر «الإرواء» (2378).
(4)
مرسل: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 377).
(5)
صححه الحافظ: عزاه الحافظ في «الفتح» (12/ 75) إلى أبي عبيد في «الغريب» وقال: إسناده صحيح.
قال أبو عبيد: «يعني: اجعل شدة ضربك له قصاصًا بالعشرين التي بقيت من الثمانين» اهـ وقال البيهقي: «ويؤخذ من هذا أن الزيادة على الأربعين ليست بحد إذ لو كانت حدًّا لما جاز النقص منه بشدة الضرب إذ لا قائل به» اهـ (1).
وأما ادعاؤهم اتفاق الصحابة - بعد استشارة عمر لهم - على الثمانين وأنه إجماع، فهو متعقَّب بجلد عليٍّ للشارب أربعن، وكذلك عثمان رضي الله عنهما.
والذي يتحصَّل أن الحدَّ إنما هو أربعون، وللإمام أن يزيد عليها بحسب الحال تبعًا للمصلحة من باب التعزير، والله تعالى أعلم.
فائدتان:
صفة حد الشرب:
1 -
صفة حد الشرب: يجوز ضرب الشارب بالجريد أو الأيدي أو النعال أو الثياب أو السوط بحسب الحال، وما تقتضيه المصلحة، ففي حديث السائب بن يزيد المتقدم: «
…
فتقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا
…
» الحديث (2).
وعن أنس قال: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر بالجريد والنعال
…
» (3).
هذا مذهب الشافعي واختيار شيخ الإسلام، وأما الجمهور (4) فقالوا: يقام الحد بالسوط كسائر الحدود، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا شرب الخمر فاجلدوه» (5).
فأمر بجلده كما أمر الله بجلد الزاني فكان بالسوط مثله؛ ولأن الخلفاء الراشدين ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم، وأما الأحاديث المتقدمة فكانت في بدء الأمر ثم استقر الأمر على الجلد بالسوط.
قلت: وهذا له وجهه كذلك، والله أعلم بالصواب.
2 -
لا يجوز لعنُ شارب الخمر تعيينًا، ولا سبُّهُ إذا أقيم عليه الحد:
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه
(1) انظر «سنن البيهقي» ، و «فتح الباري» (12/ 75 - سلفية).
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
«الهداية» (2/ 111)، و «القوانين» (310)، و «مغني المحتاج» (4/ 179)، و «المغني» (4/ 354)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 483).
(5)
صحيح: يأتي قريبًا.
عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنْهُ، ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله» (1).
وعن أبي هريرة قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما
انصرف قال رجل: ماله أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» (2).
إذا تكرر منه الشرب وحُدَّ أكثر من ثلاث مرات:
من شرب الخمر فَحُدَّ فيها ثلاث مرات ثم شربها الرابعة، فقد ورد في قتله جملة أحاديث عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» (3).
ونحوه من حديث ابن عمر ونفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث معاوية ابن أبي سفيان وغيرهم.
وقد كان لأهل العلم في هذه الأحاديث وما في معناها اتجاهان، خرج عليها ثلاثة أقوال (4):
الاتجاه الأول: أن هذه الأحاديث منسوخة أو انعقد الإجماع على خلافها:
وبهذا قال الأئمة الأربعة وغيرهم وعليه تتابعت كلمتهم، حتى قال الترمذي في «كتاب العلل» من «سننه» (5/ 736): «قال أبو عيسى: جمع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معلول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا
حديثين
…
» وذكر منهما حديث القتل.
وقد استدلوا على النسخ بأمور:
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6780).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6781).
(3)
صحيح: أخرجه أبو داود (4484)، وأحمد (7704).
(4)
«المحلي» (11/ 365)، و «نيل الأوطار» (7/ 176)، و «الحدود والتعزيرات» (ص306 - 320).
1 -
حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه» قال: فثبت الجلد ودرئ القتل.
وفي لفظ: «فرأى المسلمون أن الحدَّ قد وقع، وأن القتل قد رُفع» (1).
2 -
حديث قبيصة بن ذويب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه» قال: فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة» (2).
3 -
حديث عمر بن الخطاب في قصة جلد الرجل الذي كان يلقب حمارًا في الخمر، وفيه: فقال رجل عن القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (3).
قال الحافظ (12/ 80): وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أُتي به أكثر من خمسين مرة. اهـ.
4 -
حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (4).
قالوا: فهذا تناول بعمومه شارب الخمر، لأنه ليس ممن استثنى في الحديث، فيفيد عدم حلِّ دمه (!!).
وتُعقِّبت دعوى النسخ بهذا الحديث بأنها لا تصح، لأنه عام وحديث القتل خاص.
5 -
واحتجوا على النسخ بدعوى الإجماع على خلاف حكمه، قال الشافعي - عقب حديث جابر في ترك القتل -: هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمتُه، وقال الترمذي: لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا في القديم والحديث.
(1) أخرجه النسائي في «الكبرى» ، والبيهقي (8/ 314)، والطحاوي (2/ 92).
(2)
إسناده مرسل: أخرجه أبو داود (4485)، والشافعي (291)، والبيهقي (8/ 314)، وعلَّقه الترمذي في الحدود.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6780).
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
الاتجاه الثاني: أن هذه الأحاديث محكمة ليست منسوخة: وهو قول أبي محمد بن حزم رحمه الله، وابن القيم، فاتفقا في المأخذ، لكنهما اختلفا في النتيجة، فقال ابن حزم: يُقتل في الرابعة حدًّا، وقال ابن القيم: يُقتل تعزيرًا حسب المصلحة، فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرًا لا حدًّا.
وقد ناقش كلاهما دعوى نسخ الأمر بقتل الشارب في الرابعة، ودعوى الإجماع على ذلك بما يلي:
1 -
تضعيف ابن حزم للأحاديث التي فها التصريح برفع القتل.
2 -
أن ادعاء النسخ بالحديث الخاص - كحديث عبد الله الملقب حمارًا -
إنما يتم بثبوت تأخره والإتيان به بعد الرابعة، ومنافاته للأمر بقتله.
3 -
أن ادعاء النسخ بحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
…
» لا يصح لأنه عام وحديث القتل خاص.
4 -
أن دعوى الإجماع يقدح فيها أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «ائتوني به في الرابعة فعليَّ أن أقتله» (1).
قالوا: وهذا كافٍ في نقص الإجماع أو نفي ادعائه.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن قول الجماهير من العلماء من أن قتل الشارب في الرابعة منسوخ أقوى لثبوت النص بذلك، وكذلك للإجماع عليه، وأما أثر عبد الله بن عمرو فهو ضعيف منقطع، فلا تقوم به حجة، ولا تتم دعوى نقص الإجماع به، وحتى لو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعَدَّ ذلك من نزره المخالف (2).
لكن .. إذا أدمن الناس شربها وانهمكوا فيها وتهالكوا في شربها، ولم يكن الحد بالجلد زاجرًا لهم، فهل للإمام أن يُعزِّر الشارب المتهالك بالقتل صيانة للعباد وردعًا للفساد من باب السياسة الشرعية للمصلحة كما اختاره ابن تيمية وابن القيم؟! هذا موضع نظر واجتهاد، والله أعلم.
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6752)، والطحاوي (2/ 91)، وابن حزم (11/ 366) وهو منقطع بين الحسن وعبد الله بن عمرو.
(2)
انظر «فتح الباري» (12/ 82 - سلفية).
ما يثبت به حَدُّ الخمر (1):
1 -
الإقرار: أي اعتراف الشارب بشربه للخمر، ويكفي فيه مرة واحدة في قول عامة أهل العلم، ولا يشترط مع إقرار وجود رائحة الفم - خلافًا لأبى حنيفة - لأنه ربما يُقرُّ بعد زوال الرائحة عنه.
2 -
البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان أنه شرب مسكرًا، ولا يحتاجان إلى تفصيل في نوع المشروب، ولا إلى ذكر الإكرام أو عدمه، ولا ذكر علمه أنه مسكر؛ لان الظاهر الاختيار والعلم.
فعن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتى بالوليد بن عقبة قد صلَّى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيَّأ، فقال عثمان:«إنه لم يتقيأ حتى شربها» فقال: «يا عليُّ، قم فاجلده» فقال عليٌّ: «قم يا حسن فاجلده» فقال الحسن: وَلِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال:«يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده» فجلده وعليٌّ يعدُّ حتى بلغ أربعين فقال: «أمسك»
…
الأثر (2).
فاعتبر عثمان وعليٌّ شهادة الرجلين ولم يستفصلا عن شيء مما ذكرنا.
هل تعتبر رائحة الخمر في الفم أو تقيُّؤ الخمر بمثابة البينة؟
اختلف العلماء في وجوب الحد بوجود الرائحة في الفم أو القيء على ثلاثة
أقوال (3):
الأول: لا يجب الحدُّ بوجود الرائحة من الفم أو القيء: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، قالوا: لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها، أو حسبها ماءً فلما صارت في فيه مجَّها، أو ظنَّها لا تُسكر أو كان مكرهًا، أو أكل نبقًا بالغًا، أو شرب شراب تفاح، فإنه يكون منه رائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يُدرأ بالشبهة (4).
(1)«المغني» (9/ 138 - الفكر)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 239)، و «التشريع الجنائي» (2/ 509).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1707) وقد تقدم.
(3)
«المبسوط» (24/ 31) و «القوانين الفقهية» (310)، و «المتقى» (3/ 142)، و «مغني المحتاج» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 332 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 339)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 325 - 342).
(4)
انظر: «المغني» لابن قدامة (س10/ 332 - مع الشرح الكبير).
الثاني: يجب إقامة الحد بالرائحة أو القيء: وهو مذهب مالك، وأحمد في الرواية الأخرى عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وحجتهم أن هذا القول هو مقتضى ما حكم به الصحابة رضي الله عنهم كعمر وعثمان وابن مسعود:
1 -
فعن السائب ين يزيد «أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يجلد رجلًا وجد منه ريح شراب، فجلده الحدَّ تمامًا» (1).
وأجيب: بأن هذا السياق فيه اختصار مخل، وإلا ففي رواية معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد - نفسه - قال: شهدت عمر بن الخطاب صلَّى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال: «إني وجدت من عبيد الله ريح الشراب، وإني سألته
عنها، فزعم أنها الطلاء، وإني سائل عن الشراب الذي شرب، فإن كان مسكرًا جلدته» قال: فشهدته بعد ذلك يجلده (2).
ومدار الأثر على السائب بن يزيد عن عمر فدلَّ على أن القصة واحدة، وعليه فإن جلد عمر لابنه عبيد الله كان لإقراره بأنه شرب الطلاء وقد علم أنه مسكر، ولم يجلده بمجرد وجود الرائحة، فلا يبقى فيه متعلق لمن أوجب الحدَّ بالرائحة، وهو واضح.
2 -
وعن حصين بن المنذر قال: «شهدا عثمان رضي الله عنه وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها
…
» الأثر وقد تقدم وفيه أنه جلده (3).
وأجيب بأنه ظاهر في أن عثمان رضي الله عنه لم يحدَّ الوليد بمجرد القيء للخمر، وإنما بانضمام ذلك إلى شهادة حمران بأنه شربها، ولذا لم يترجمه الأئمة الذين أخرجوه بما يفيد الحدُّ بالقيء!!
3 -
وعن علقمة قال: «كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود رضي الله عنه سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أُنزلت، فقال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنت»
(1) أخرجه بهذا السياق عبد الرزاق (10/ 228).
(2)
إسناده صحيح: علَّقه البخاري في «الصحيح» (10/ 62)، ووصله الشافعي (296)، ومالك (2/ 178)، وعبد الرزاق (10/ 228) واللفظ له.
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
ووجد منه ريح الخمر، فقال: أتجمع أن تكذب
بكتاب الله، وتشرب الخمر، فضربه الحدَّ» (1).
وأجيب: بأن دلالته غير مسلَّم بها، لاحتمال أن يكون الرجل اعترف بشرب الخمر بلا عذر، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
ولذا فإن البخاري رحمه الله ذكر هذا الأثر في (كتاب فضائل القرآن) ولم يترجم واقعة الخمر منه في كتاب الحدود، مع دقة فهمه وقوة استنباطه رحمه الله (!!) وكذلك فعل الإمام مسلم حين ذكره في زمرة أحاديث فضائل القرآن، وترجم له النووي (باب: فضل استماع القرآن) (2).
4 -
أن الحكم بحد الشارب بالقرينة الظاهرة عليه اتفاق الصحابة، إذ لا يُعرف لعمر وابن مسعود في حكميهما السابقين مخالف من الصحابة!!
وأجيب بأنه قد وقع عند الإسماعيلي النقل عن عليٍّ أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يشهد عليه، ذكره الحافظ في الفتح (3).
الثالث: أن الحد بالرائحة لا يجب إلا بضميمة قرنية إليه تنفي الشبهة فيحذر حينئذ: وبه قال جماعة من السلف منهم عمر رضي الله عنه وابن الزبير رضي الله عنه، وعطاء، وإليه مال ابن قدامة - رحمهم الله تعالى - وهو اختيار العلامة بكر أبو زيد أمتع الله بحياته ونفع بعلمه.
قلت: ولعلَّ هذا الأخير هو الأقرب، الذي تلتئم به الأدلة ويجتمع شملها،
وعليه فإن الحدَّ بالرائحة والقيء يكون في الصور الآتية (4):
(أ) أن يكون من وجدت منه الرائحة مشهورًا بإدمان شرب الخمر، وبها قال عمر رضي الله عنه (5).
(ب) أن يوجد جماعة الفساق على شراب فيكون في بعضهم سُكر، والبعض تنبعث الرائحة من فمه، فيحدُّ الجميع، وبها قال عمر بن عبد العزيز وعطاء (6).
(جـ) أن يوجد مع الرائحة عوارض السُّكر والتقيؤ، كما ذكر ابن قدامة.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (3580) واللفظ للبخاري.
(2)
أفاده العلامة بكر أبو زيد - حفظه الله - في «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» (ص 336).
(3)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 50).
(4)
«الحدود والتعزيرات» (ص: 340 - 341).
(5)
انظر «مصنف عبد الرزاق» (10/ 228).
(6)
انظر «مسند الشافعي» (298)، و «مصنف عبد الرزاق» (17037).
(ر) أن يشهد على شخص شاهدان أحدهما بالشرب والثاني بالرائحة أو القيء كما في قصة عثمان.
وأما الحدُّ بمجرد الرائحة ونحوها، فقد وقع ما يدل على أن ذلك غير موجب للحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:«شرب رجل فسكر، فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء» (1).
قال الخطابي رحمه الله: يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة
عدول، وإنما لقي في الفج يميل، فظن به السُّكر، فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وتركه على ذلك، والله أعلم. اهـ.
هل يُحدُّ السكران حال سكره؟ أو بعد صحوه؟ (2)
ذهب عمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأبو حنيفة والشافعي إلى أن السكران لا يحدُّ حتى يصحو، وحجتهم أن المقصود بالحد الزجر والتنكيل، وحصولهما بإقامة الحد عليه في صحوه أتمُّ، فينبغي أن يؤخر إليه، لأن السكران لا يعقل ذلك.
وقالت طائفة: يُجلد حين يؤخذ، وبه قال ابن حزم، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بالشارب فأقر فضربه ولم ينتظر أن يصحو، والنظر لا يدخل على الخبر الثابت، فالواجب أن يحد حين يؤتى به إلا أن يكون لا يحسُّ أصلًا، ولا يفهم شيئًا فيؤخر حتى يحسَّ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ.
مجالسة شاربي الخمر، وهل يُحدُّ غير شاربها؟ (3)
يحرم مجالسة شاربي الخمر وهم يشربونها، أو الأكل على مائدة يُشرب عليها شيء من المسكرات خمرًا كان أو غيره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر» (4).
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4476).
(2)
«المحلي» (11/ 371)، و «المغني» (9/ 140).
(3)
«المحلي» (11/ 371)، و «كشاف القناع» (6/ 118).
(4)
حسن بطرقه: أخرجه الترمذي (2801)، وأبو داود (3774)، وأحمد (126 - 14241)، والدرامي (2092) وله طرق يحسن بمجموعها، وانظر «الإرواء» (1949).