المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شروط حد القذف: - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٤

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌13 - كتاب الحدود

- ‌الحدود

- ‌الجرائم الحَدِّيَّة:

- ‌(1) حَدُّ الزِّنا

- ‌اللِّواط

- ‌(2) حَدُّ القَذْفِ

- ‌شروط حدِّ القذف:

- ‌(3) حَدُّ شُربِ الخَمر

- ‌(4) حَدُّ السَّرِقَة

- ‌عقوبات السارق

- ‌(5) حَدُّ الحِرَابَةِ

- ‌6 - حَدُّ الردَّة

- ‌التَّعْزير

- ‌من صور التعزير

- ‌14 - كتاب الجنايات والديات

- ‌أولًا: الجنايات

- ‌أولًا: الجناية على النفس (القتل)

- ‌القسم الأول: القتل العمد:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌القسم الثاني: القتل شبه العمد

- ‌القسم الثالث: القتل الخطأ

- ‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

- ‌ثانيًا: الديات

- ‌15 - كتاب البيوع

- ‌أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

- ‌انعقاد البيع بالمعاطاة

- ‌انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

- ‌انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره

- ‌شروط البيع

- ‌أولًا: شروط الانعقاد

- ‌بيع الفضولي

- ‌القول في شراء الفضولي

- ‌مسائل تتعلق بما سبق

- ‌ثانيًا: شروط صحة البيع

- ‌ثالثًا: شروط النفاذ

- ‌رابعًا: شروط اللزوم

- ‌الثمن وأحكامه

- ‌أحكام الجوائح

- ‌البيوع المحرمة

- ‌البيوع المحرمة

- ‌أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:

- ‌ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:

- ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

- ‌خلاصة البحث

- ‌ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

- ‌رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها

- ‌خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها

- ‌سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها

الفصل: ‌شروط حد القذف:

‌شروط حدِّ القذف:

يتَّضح من التعريف السابق للقذف أن أركانه ثلاثة: قاذف، ومقذوف، ومقذوف به، وحتى يجب حدُّ القذف على القاذف لابد من توفر شروط متعلقة بكلٍّ من هذه الأركان:

أولًا: شروط القاذف (1):

يشترط في القاذف ليجب عليه الحد:

1 -

أن يكون مكلَّفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا حدَّ على صبي ولا مجنون، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن

الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» (2).

لكن الصبي والمجنون قد يُعزَّران بحسب حالتهما.

2 -

أن يكون مختارًا: فلا حدَّ على مُكْرَهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم:«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3).

وهذان الشرطان اتفق على اعتبارهما الفقهاء، سواء في ذلك الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم وغير المسلم.

وهناك شروط أخرى اختلف الفقهاء في اعتبارها لإيجاب الحد على القاذف، ومن ذلك:

3 -

العلم بالتحريم: وهو شرط عند الشافعية، واحتمال عند الحنفية، فلا حدَّ على جاهل التحريم، لقرب عهده بالإسلام، أو بعده من العلماء.

قلت: وأصول الشريعة تقضي باعتبار هذا الشرط، وقد تقدم نحوه في «حد الزنا» .

4 -

عدم إذن المقذوف: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على من قذف غيره بإذنه، كما نقله الرافعي عن الأكثرين!!

(1)«ابن عابدين» (3/ 167)، و «فتح القدير» (4/ 196)، و «مغني المحتاج» (4/ 155)، و «الدسوقي» (4/ 325 - 331)، و «نيل المآرب» (2/ 360)، و «المغني» (8/ 219)، و «المحلي» (11/ 295).

(2)

صحيح: تقدم قريبًا.

(3)

حسن: تقدم مرارًا.

ص: 53

5 -

أن يكون القاذف غير أصل للمقذوف: فلو قذف الأبُ ابْنَه فلا حدَّ عليه عند الجمهور: أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم، وإسحاق، وهو المذهب عند المالكية، واستدلوا بما يلي:

(أ) قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} (1).

(ب) قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} (2) قالوا: فليس من البر ولا من الإحسان ولا من خفض الجناح ضرب الولد لأبيه في القذف (!!).

وأجاب المخالفون: بأن هذا كلام خاطئ؛ لأن من الإحسان والبر لهما إقامة الحدِّ عليهما؛ لأن الحدَّ حكمُ الله تعالى الذي لولاه لم يجب برُّهما فسقط تعلُّقهم بالآية.

(جـ) قياس إسقاط حد القذف عن الولد، على إسقاط القصاص عنه في القتل إذ لا يقاد والدٌ بولده، وإهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، وكذلك إسقاط حد السرقة عنه إن سرق ولَدَه.

وأجاب المخالفون: بأن هذا قياس باطل على باطل (!!) حيث إن القول بإسقاط القصاص عن الوالد إذا قتل ابنه أو عدم القطع إذا سرقه ليس له حجة ولا أوجبه نصٌ (!!) ولا إجماع، بل الحدود والقود واجبان على الأب للولد.

قلت: في هذا الكلام نظر، والنصوص فيه ثابتةً كما سيأتي تحريره في موضعه - إن شاء الله.

وذهب عمر بن عبد العزيز ومالك - وهو قول عند المالكية - والأوزاعي وداود وابن حزم وسائر أهل الظاهر إلى أن الأب يُحدُّ بقذف ابنه، واحتجوا بما

يلي (3):

(أ) عموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} (4).

قالوا: فلفظ المحصنات في الآية عام ولم يخصص أحدًا دون أحد، ولم يقل:(إلا الوالد لولده) ولو أن الله أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبيَّن

(1) سورة الإسراء: 23.

(2)

سورة الإسراء: 23.

(3)

«المحلي» لابن حزم (11/ 295).

(4)

سورة النور: 4.

ص: 54

ذلك، ولما أهمله حتى يتفطَّن له من لا حجة في قوله، وقد قال تعالى:{وما كان ربك نسيا} (1). فصح بذلك أن الله تعالى لما عمم ولم يخصِّص أراد أن يحدَّ الوالد لولده، والولد لوالده وأجيب: بأن هذا العموم يخرج منه الولد على سبيل المعارضة بقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (2) والمانع مقدم.

(ب) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} (3).

فأوجب الله تعالى القيام بالقسط والشهادة على الوالدين والأقربين كالأجنبيين فدخل في ذلك الحدود وغيرها.

(جـ) ما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لا عفو عن الحدود ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام، فإن إقامتها من السنة» (4).

قال ابن حزم: فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف، وهو حجة عندهم، وقد خالفوه هنا لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمَّ جميع الحدود ولم يخصِّص.

(ر) ولأنه حدٌّ هو حق لله فلا يمنع من إقامته قرابة الولادة كالزنا، وأجيب بأن الفرق بين القذف والزنا: أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه، وحد القذف حق لآدمي، فلا يثبت للابن على أبيه، كالقصاص.

6 -

النطق: وهو شرط عند الحنفية، فلا حدَّ على الأخرس.

7 -

الإقامة في دار العدل: وهو شرط عند الحنفية، احترازًا عن المقيم في دار الحرب، وقد تقدم تحرير هذه المسألة في أول «كتاب الحدود» وترجيح أن الحدَّ لا يقام عليه في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام.

8 -

التزام أحكام الإسلام: وهو شرط عند الشافعية، فلا حدَّ على حربي لعدم التزامه أحكام الإسلام (!!).

(1) سورة مريم: 64.

(2)

سورة الإسراء: 23.

(3)

سورة النساء: 135.

(4)

له شواهد مرفوعة تقدمت.

ص: 55

ثانيًا: شروط المقذوف: (كون المقذوف محصنًا):

يشترط في المقذوف - الذي يجب الحدُّ بقذفه من الرجال (1) والنساء - أن يكون محصنًا.

وقد اختلف أهل العلم في شروط المقذوف بناء على اختلافهم في معنى «الإحصان» في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} (2).

فمنهم من رأى أن «الإحصان» في القذف معناه: (البلوغ والعقل والحرية والإسلام والعفة عن الزنا) وهو قول جمهور الفقهاء، فجعلوا هذه الخمسة شروطًا للمقذوف.

ومنهم من جعل «الإحصان» بمعنى «المنع» كما ورد في لغة العرب، فلم يجعل البلوغ ولا العقل ولا الحرية من شروط الإحصان، وهو قول ابن حزم، قال:«لأن الصغار والمجانين والعبيد محصونون بمنع الله تعالى لهم من الزنا، وبمنع أهليهم، وكذلك بعفَّتهم عن الزنا» (3).

قلت: ومن هنا يتبيَّن أن شروط المقذوف (شروط الإحصان) منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.

(أ) شرط متفق عليه:

1 -

العفة عن الزنا: فيشترط أن يكون المقذوف عفيفًا عن الفاحشة التي رمى بها، سواء كان عفيفًا عن غيرها أم لا.

(ب) شروط مختلف فيها:

2 -

الإسلام: فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه يشترط في المقذوف أن

(1) قال الحافظ في «الفتح» (12/ 181): «وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصن من النساء» اهـ. قلت: وإنما خصت الآية النساء بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ومن العلماء من قال: إن الآية تعم الرجال والنساء والتقدير فيها (والذين يرمون الأنفس المحصنات) وقيل: أراد بالمحصنات: الفروج، والله أعلم.

(2)

سورة النور: 23.

(3)

«المحلي» لابن حزم (11/ 273).

ص: 56

يكون مسلمًا، وقالوا: لا حدَّ على من قذف كافرًا، واستدلوا بقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات

} (1).

وبما يُروى عن ابن عمر مرفوعًا «من أشرك بالله فليس بمحصن» (2).

بينما ذهب ابن حزم رحمه الله إلى وجول الحد على من قذف محصنة من أهل الكتاب إذا كانت عفيفة.

3، 4 - العقل والبلوغ:

اختلف العلماء فيمن قذف صغيرًا أو مجنونًا (3)، فقال الجمهور: لا يجب عليه الحد، لأن ما رمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد، فلم يجب الحدُّ على القاذف، كما لو قذف عاقلًا بما دون الوطء.

وقال مالك بجلد من قذف المجنون دون الصغير، لكنه قال في الصبيَّة التي يجامع مثلها: يحدُّ قاذفها، خصوصًا إذا كانت مراهقة، فإن الحدَّ بعلة إلحاق العار، ومثلها يلحقه.

وأما ابن حزم فأوجب الحد على قاذف المجنون والصغير مطلقًا، وناقش الجمهور بما ملخصه: أن القاذف لا يخلو من ثلاثة: إما أن يكون صادقًا صحَّ صدقه فلا خلاف أنه لا حدَّ عليه، وإما أن يكون ممكنًا صدقه وممكنًا كذبه فيحدُّ بلا خلاف لإمكان كذبه فقط، ولو صح صدقه فلا حدَّ عليه، وإما أن يكون كاذبًا

صحَّ كذبه [وأنتم تقولون أن من قذف المجنون أو الصغير قد تيقن كذبه] فالآن حقًّا طابت النفس بوجوب الحد عليه بيقين.

5 -

الحرية:

اختلف العلماء فيمن قذف عبدًا أو أمة، هل يحدُّ أو لا؟ على قولين:

فقال جماهير أهل العلم (منهم: النخعي والشعبي وعطاء والحسن والزهري والأوزاعي والثوري، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، لا حدَّ عليه، واحتجوا بما يلي:

(1) سورة النور: 23.

(2)

أخرجه الدارقطني (3/ 147) وصوَّب وقفه.

(3)

«ابن عابدين» (3/ 156)، و «الدسوقي» (4/ 326)، و «المغني» (8/ 221)، و «المحلي» (11/ 273).

ص: 57

1 -

حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قذف مملوكه بالزنا يُقام عليه الحدُّ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» (1).

قالوا: «لو وجب على السيد أن يُجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خصَّ ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذٍ إلا بالتقوى» اهـ (2).

2 -

ادِّعاء الإجماع على أن الحرَّ إذا قذف عبدًا لم يجب عليه الحد (!!) وفيه نظر فإنه منقوض بما صح عن نافع قال: «سئل ابن عمر عمن قذف أم ولد لآخر،

فقال: يُضرب الحدُّ صاغرًا» (3) وبه قال الحسن البصري وأهل الظاهر (4).

3 -

أن العبد - وكذا الأمة - لا حرمة له (!!) قال ابن حزم: قولهم لا حرمة للعبد ولا للأمة فكلام سخيف، والمؤمن له حرمة عظيمة، ورب عبد جلف خير من خليفة قريش عند الله تعالى، قال تعالى:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} (5). والناس كلهم أولاد آدم لا تفاضل بينهم إلا بأخلاقهم وأديانهم، لا بأعراقهم ولا بأبدانهم.

الحاصل:

يتحصَّل مما تقدم أنه يشترط في المقذوف الذي يجب الحدُّ على قاذفه ..

ثالثًا: شروط المقذوف به (صيغة القذف):

القذف على ثلاثة أضربُ: صريح، وكناية، وتعريض.

فاللفظ الذي يقصد به القذف إن لم يحتمل غيره فصريح، كأن يقول:«يا زاني» أو «يا زانية» ، أو يقول عبارة تجري مجرى التصريح كنفي نسبه عنه.

وإلا فإن فُهم منه القذف بوضعه فكناية، كقوله لامرأة: «لا تردِّين يد

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6858)، ومسلم (1660).

(2)

نقله في «فتح الباري» (12/ 192 - سلفية) عن المهلب وكذا القرطبي في «التفسير» (12/ 174)، والنووي في «شرح مسلم» (11/ 131)، وابن قدامة في «المغني» (10/ 202).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق.

(4)

«فتح الباري» (12/ 192)، و «المحلي» (11/ 272).

(5)

سورة الحجرات: 13.

ص: 58

لامس»، وإلا فتعريض وهو الكلام الذي له وجهان ظاهر وباطن، فيقصد قائلُه الباطن ويُظهر إرادة الظاهر.

1 -

القذف الصريح:

من قذف غيره بصريح الزنا وجب عليه الحدُّ بشروطه باتفاق الفقهاء.

2 -

القذف الكنائي:

وأما الكناية - كمن قال لامرأة: «لا تردِّين يد لامس» أو قال لها: «يا قحبة» ونحو ذلك مما يحتمل القذف وغيره - فللعلماء فيه قولان (1):

الأول: يُحدُّ قائله إلا أنه إذا أنكر القذف صُدِّق بيمينه: وهو قول المالكية والشافعية، ويُعزَّرُ للإيذاء عند جمهور الشافعية، وقيَّده الماوردي بما إذا خرج اللفظ مخرج السبِّ والذم، فإن أبى أن يحلف حُبس عند المالكية، فإن طال حبسه ولم يحلف عُزِّر.

وهؤلاء اختلفوا في بعض الألفاظ كم قال لامرأته: «يا فاجرة أو يا فاسقة أو يا خبيثة» ونحو ذلك وهل يقبل يمينه بأنه لم يرد بها القذف أو لا، على أوجه تراجع في كتب الفروع.

الثاني: لا حدَّ عليه، وإنما الحدُّ على من صرَّح بالقذف فقط: وهو قول الحنفية والحنابلة، فلو قال:«يا قحبة أو يا فاجر» فلا حدَّ عليه عندهم لأنه لم ينسبه - أو ينسبها - إلى صريح الزنا، قالوا: والفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا، فلا يكون قذفًا بصريح الزنا، فلو أوجبنا الحدَّ، أوجبناه بالقياس، ولا مدخل للقياس في الحد، لكن عليه التعزير لارتكابه حرامًا، وليس فيه حدٌّ مقدَّر، ولأنه ألحق به نوع شَيْن بما نسبه إليه، فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه.

3 -

التعريض بالقذف:

وأما التعريض بالقذف - كأن يقول لصاحبه في مقام الخصام والتنازع: «ما أنا بزانٍ، وأمي ليست بزانية!!» - فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ به على قولين (2):

(1)«الدسوقي» (4/ 328)، و «مغنى المحتاج» (3/ 368)، و «المبسوط» (9/ 119)، و «كشاف القناع» (6/ 110).

(2)

«ابن عابدين» (3/ 191)، و «فتح القدير» (5/ 100)، و «شرح الزرقاني» (8/ 87)، و «تفسير القرطبي» (12/ 173)، و «روضة الطالبين» (8/ 312)، و «فتح الباري» (9/ 443)، و «المغني» (8/ 222)، و «إعلام الموقعين» (3/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 216).

ص: 59

الأول: لا حدَّ في التعريض بالقذف: وهو قول الجمهور منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وابن حزم واحتجوا بما يلي:

1 -

حديث أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال:«هل لك من إبل؟» ، قال: نعم، قال:«ما لونها؟» قال: حُمْر، قال:«فيها من أوراق؟» قال: نعم، قال:«فأنَّى كان ذلك» ؟ قال: أراه عرق نزعه، قال:«فلعلَّ ابنك هذا نزعه عرق» (1).

قالوا: لما كان قول الأعرابي محتملًا لغير القذف لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم القذف، فدلَّ على أنه لا حدَّ في التعريض بالقذف.

واعترض ابن القيم على هذا الاستدلال بأن قول الأعرابي (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود)(2) ليس فيه ما يدل على القذف ولا صريحًا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيًا عن كم هذا الولد، أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه

النبي صلى الله عليه وسلم وقرَّب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح صدره له، فأين في هذا ما يبطل حدَّ القذف؟!!.

2 -

أن أحكام الشرع مضت في الحدود وغيرها على ما يظهره العباد، والله تعالى يُدين بالسرائر، بل قال الشافعية - في الأصحِّ عندهم -: إن هذا ليس بقذف وإن نواه (!!)؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، ولا دلالة هنا في اللفظ ولا احتمال، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال.

3 -

أن التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة تسقط الحدَّ.

4 -

أن الله تعالى فرَّق بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فكذلك في القذف.

القول الثاني: يجب الحدُّ في التعريض بالقذف إن فُهم القذف بتعريضه بالقرائن: وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب مالك - إلا أنه استثنى أن يكون المُعَرّض الأَبَ فإنه لا يحدُّ عنده لبعده عن التهمة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - فقالوا: هو كناية عن القذف لحصول الفهم والإيذاء، فإن أراد النسبة إلى الزنا فقذف عندهم فإلا

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6847)، ومسلم (1500).

(2)

وجه التعريض هنا: أنه قال: (غلامًا أسود) أي: وأنا أبيض فكيف يكون منِّي؟!

ص: 60

فلا (1) - وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وانتصر له العلامة ابن القيم، واحتج هؤلاء في الجملة بما يلي.

1 -

حدُّ عمر لمن عرَّض بالقذف وموافقة الصحابة عليه:

فقد ثبت أن رجلًا - في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أمي بزانية، ولا أبي بزان، قال عمر:«ماذا ترون؟» قالوا: رجل مدح نَفْسَهُ، قال:«بل انظروا، فإن كان بالآخر بأس فقد مدح نفسه، وإن لم يكن به بأس فلم قالها؟ فوالله لأحدَّنَهَ» فحدَّه (2).

وفي رواية: فاستشار عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه أمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمِّه مدح غير هذا، نرى أن تجلده الحدَّ، فجلده عمر الحدَّ ثمانين» (3).

وردَّ الشافعي رحمه الله دعوى الاتفاق بأن عمر استشار الصحابة فخالفه بعضهم، ومع من خالفه احتمال القذف وعدمه وهي شبهة تدرأ الحدَّ.

وأجاب ابن القيم بأن القائل الأول لم يكن يخالف عمر، فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فهم أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، على أنه قد صحَّ عن عمر هذا الحكم من أوجه أخر مما يدل على تقوية الاتفاق على استمرار عمر رضي الله عنه على الحكم بذلك واشتهاره، فعن ابن عمر:«أن عمر كان يحدُّ في التعريض بالفاحشة» (4).

2 -

ما رُوي «أن رجلًا قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فاستعدي عليه عثمان

بن عفان، فقال: إنما عنيتُ به كذا وكذا، فأمر عثمان بن عفان فجُلد الحدَّ» (5) ولا يصحُّ.

3 -

أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في

(1) ولا يكون للقرائن تأثير - عندهم - فيستوي في ذلك حال الغضب وغيره كما نص عليه في «روضة الطالبين» (8/ 312).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 425).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه مالك (1569)، والدارقطني، وانظر «الإرواء» (2371).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 421)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 334)، والبيهقي (8/ 252).

(5)

إسناده تألف: أخرجه الدارقطني، وانظر «الإرواء» (2372).

ص: 61

الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، والعبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.

4 -

أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، كما حكى الله تعالى عن مريم {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} (1). فعرضوا لمريم بالزنا ولذا قال تعالى:{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما} (2).

قال القرطبي رحمه الله: «وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي: ما كان أبوك امرأ سوء وكانت أمك بغيًّا، أي: أنت بخلافهما وقد أثبت بهذا الولد» اهـ.

5 -

أن هذا الحكم مؤيد بالقياس على وقوع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالتصريح والكناية، والعلة كون الكل ألفاظًا يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده الصريح.

الراجح (3):

الذي يبدو أن الحدَّ يجب بالتعريض في القذف بشرط قيام القرائن على تحديد القصد في ذلك، بحيث يُفهم من التعريض القذفُ فهمًا واضحًا لا لبس فيه، إذ لا يكون للمعرِّض تأويل مقبول يصحُّ حمل الكلام عليه، وفي هذا إعمال لقاعدتي الشريعة:(العبرة في الشريعة بالمقاصد والنيات) وقاعدة (درء الحد بالشبهات).

فإذا احتفت القرائن مع أن المراد بالتعريض ذات القذف، انتفت الشبهة وتحقق الحدُّ، وإذا ضعفت القرائن، قويت الشبهة وانتفى الحد (4).

ولئلا يتذرَّع الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يُفهم منها القذف بالزنا، والله أعلم.

تنبيه: القائلون بانتفاء الحد عن المعرِّض بالقذف - أو أكثرهم - يرون أنه لابد أن يعاقب بالتعزير للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض.

(1) سورة مريم: 28.

(2)

سورة النساء: 156.

(3)

مستفاد من «الحدود والتعزيرات» (ص 223 - 224)، و «أضواء البيان» (6/ 99)، و «الروضة الندية» (ص: 282).

(4)

وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة المتقدم، فإن قول الرجل «ولدت غلامًا أسود» تعريض محتمل لم يقم بجانبه من القرائن ما يجعله يفهم منه بوضوح أنه قذف، ولذا لم يحدَّ، والله أعلم.

ص: 62

ثبوت حدِّ القذف:

يثبت القذف بأحد بأمرين (1):

(1)

إقرار القاذف: فإن أقرَّ على نفسه مرةً وجب عليه الحد، لكون إقرار المرء لازمًا له.

فإن أقرَّ بالقذف ثم رجع لم يُقبل رجوعه؛ لأن للمقذوف فيه حقًّا، فيكذبه في

الرجوع، بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى، لأنه لا مكذب له فه فيقبل رجوعه.

(2)

شهادة عدلين: ولا تقبل - في القذف - شهادة النساء مع الرجال في قول عامة الفقهاء، فعن الزهري قال: جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود».

ومما يؤيد ذلك أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال الله في شأن النساء:{أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (2).

ولا تقبل فيه الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن موجبه حدٌّ يندرئ بالشبهات، وهو قول النخعي والشعبي وأبي حنيفة وأحمد.

وقال مالك وأبو ثور والشافعي - في المذهب -: تقبل الشهادة على الشهادة، وفي كل حق؛ لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة، كما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.

فائدة: لو ادَّعى على رجل أنه قذفه فأنكر المدعي عليه:

ففي هذه المسألة مذهبان (3):

الأول: يستحلف، وبه قال الزهري وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، واختاره ابن المنذر، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على المدعى عليه» (4) ولأنه حق آدمي فيستحلف فيه كالدين.

(1)«المبسوط» (9/ 111)، و «فتح القدير» (4/ 199)، و «جواهر الإكليل» (2/ 132)، و «مغني المحتاج» (4/ 157، 442)، و «المغني» (9/ 206).

(2)

سورة البقرة: 282.

(3)

انظر: «المغني» (9/ 90 - الفكر).

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1711).

ص: 63

الثاني: أنه لا يستحلف: وبه قال حماد والثوري وأصحاب الرأي، قالوا: لأنه حد، فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة، فإن امتنع عن اليمين لم يقم عليه الحد، لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يُقضى فيه بالنكول كسائر الحدود.

عقوبات القاذف:

من قذف مسلمًا بفاحشة الزنا، أو ما يستلزم الزنا كنفي ولد المحصنة عن أبيه، وعجز عن إثبات دعواه هذه، فإن الله تعالى أوجب عليه ثلاث عقوبات في نصٍّ قرآني صريح مُحكم، قال تعالى:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يألوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (1).

وقد تضمنت الآية الكريمة العقوبات الآتية:

الأولى: جلد القاذف ثمانين جلدة:

وهذا من قواطع الأحكام في الإسلام، للآية الكريمة، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمن قذف عائشة رضي الله عنها في - حادثة الإفك - إذ جلد كل واحد ثمانين جلدة.

إذا قذف العبد حُرًّا:

العبد إذا قذف حرًّا محصنًا، فإنه يجب عليه الحد بشروطه المتقدمة، لكن اختلف أهل العلم: هل يُحدُّ كحدِّ الحرِّ (ثمانين جلدة) أم على النصف منه؟ على

قولين (2):

الأول: حدُّ أربعون جلدة: وهو قول جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، قالوا: لأنه حدٌّ ينتصَّف بالرقِّ كالزنا، وقد قال الله تعالى:{فإن أتن بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (3).

وقال مالك: قال أبو الزناد: سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال: «أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء وهلم جرا، فما رأيت أحدًا جلد عبدًا في فرية أكثر من أربعين» (4).

(1) سورة النور: 5.

(2)

«فتح القدير» (4/ 192)، و «تفسير القرطبي» (النور: 4)، و «فتح الباري» ، و «المحلي» (11/ 272).

(3)

سورة النساء: 25.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1567).

ص: 64

الثاني: حدُّ العبد كحد الحر ثمانون جلدة: وهو مروي عن ابن مسعود والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو مذهب ابن حزم، واحتجوا:

بعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (1).

قال صديق حسن خان رحمه الله: «الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحرُّ والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة، ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من

العذاب} (2). ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف، فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال، لاسيما مع اختلاف العلة، وكون أحدهما حقًّا لله محضًا، والآخر مشوبًا بحق آدمي» اهـ (3).

قلت: ويقول الجمهور أقول، لفعل الخلفاء الراشدين، والله أعلم.

العقوبة الثانية: رَدُّ شهادة القاذف:

وقد اتفقت الأمة على أن القاذف إذا حُدَّ للقذف، لم تُقبلْ شهادته بعد ذلك ما لم يَتُبْ، وقد نصَّ القرآن على ذلك، قال سبحانه: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا

} (4).

حكم قبول شهادته بعد توبته:

ثم اختلف أهل العلم في القاذف إذا تاب - وقد حُدَّ بقذفه - هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ على قولين مشهورين (5):

الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب: وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من السلف منهم: القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد، وحجة هذا القول ما يلي:

(1) سورة النساء: 25.

(2)

سورة النساء: 25.

(3)

«الروضة الندية شرح الدرر البهية» (ص: 281 - 282).

(4)

سورة النور: 4، 5.

(5)

«البدائع» (6/ 271)، و «فتح القدير» (6/ 475)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «جواهر الإكليل» (2/ 235)، و «المجموع» (22/ 101)، و «المغني» (12/ 76)، و «تفسير ابن كثير (3/ 257)، و «التشريع الجنائي» (2/ 491)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 225 - 244).

ص: 65

1 -

أن الله سبحانه قد أبَّد المنع من قبول شهادتهم بقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأييده.

وهذا الاستدلال راجع إلى مسألة أصولية مشهورة عند الحنفية، وهي:(أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات رجع الاستثناء للأخير فقط).

وعليه، فاستثناء الذين تابوا في هذه الآية إنما يرجع على وصفهم بالفسق فقط، فيرفع عنهم الفسق، ويبقون مردودي الشهادة أبدًا.

2 -

أن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلا يسقط هذا العقاب بالتوبة، كما أن الحد لا يسقط عنه بالتوبة.

وتُعقِّب هذا الاستدلال بأن ردَّ الشهادة ليس من تمام الحد، فإن الحد تمَّ باستيفاء عدده، وسببه نفس القذف، وأما ردُّ الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد.

ثم إن قياسهم هذه العقوبة - وهي رد الشهادة - على عقوبة الحد، وأنه كما لا تسقط عقوبة الجلد بالتوبة فكذلك عقوبته برد الشهادة، فهذا القياس يرد عليه القادح بافتراق العلة، فإن العلة في الحد بالجلد هي القذف، وأما في إيجاب ردِّ الشهادة فالعلة مترددة بين القذف وبين الفسق بالقذف، فلا يتم الاستدلال بالقياس.

3 -

واستدلوا بما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا

تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر على أخيه» (1).

وتعقب الجمهور هذا الاستدلال من جهتين: من جهة السند فهو ضعيف لاسيما ذكر المجلود في حد، ثم على فرض صحته فهو محمول على غير التائب، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (2).

«وهذا نقد مُسلَّم فإن قوله «ولا محدود» يشمل أي حد كالخمر والزنا والقذف ونحوها، والاتفاق جارٍ على أن المحدود في خمرٍ - مثلًا - تقبل شهادته إذا تاب،

(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2366)، وأحمد (2/ 208)، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155) بسند ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله شاهد من حديث عائشة عند الترمذي (2298) وغيره ولا يصح.

(2)

حسن: أخرجه ابن ماجه (4250) بسند منقطع وله شواهد يحسن بها.

ص: 66

فكذا يقال في القاذف، لاحتمال أن يكون الاستثناء في الآية مخصصًا لعموم الحديث بالنسبة له» (1).

4 -

قالوا: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، وردُّ الشهادة من أقوى أسباب الزجر.

وتُعقِّب بأن مصلحة الزجر متحصلة بالحد، وتغليظ الزجر وصف لا ينضبط فلا يعلق له حكم، ثم إن زجر القاذف بردِّ شهادته لا يتحقق في كل أحد لتفاوت الناس، والقذف عادة إنما يحصل من الرعاع لا من أعيان الناس، وهم لا ينزجرون غالبًا بردِّ شهاداتهم، وأيضًا فإن ما يترتب على ردِّ شهادته أبدًا من المفاسد - كفوات الحق على الغير، وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها - تغمر المصلحة

في ذلك، والقاعدة أن (رد المفاسد مقدم على جلب المصالح).

القول الثاني: تقبل شهادة القاذف إذا تاب: وهو مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد وجماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب، وعليه عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومما استدلوا به:

1 -

أن الاستثناء في الآية الكريمة عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} (2).

وهذا بناء على أصل الجمهور - خلافًا للحنفية - في أن (الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات فإنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها).

قال أبو عبيد: «وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر، وهو أصح في النظر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب» اهـ.

2 -

واستدلوا بعمل الصحابة رضي الله عنهم، كما في قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه قبل شهادة نافع وشبل لما تابا، وردُّ شهادة أبي بكرة إذا أبى أن يتوب (3).

(1)«الحدود والتعزيرات» (ص: 234) بتصرف يسير.

(2)

سورة النور: 4.

(3)

إسنادها صحيح: أخرجها عبد الرزاق (7/ 384) بسند صحيح عن ابن المسيب. قال: «شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا، ونكل زياد، فحدَّ عمر الثلاثة، وقال لهم: «توبوا تقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته ..» وله طرق أخرى.

ص: 67

وقد حكى ابن قدامة في «المغني» أن هذا محل إجماع من الصحابة - رضي الله

عنهم.

3 -

القياس على قاعدة الشريعة المطردة من قبول شهادة كل تائب، قالوا: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قُبلت اتفاقًا، فالتائب من القذف أولى بالقبول، قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد يتاب منه ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم:«التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1)؟!

قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو لعلة الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، وهو سبب الرد، فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع.

وتعقبه الأولون: بأن العلة إنما هي تتمة الحد بسبب القذف لا الفسق به - كما تقدم - فهذا قياس مع الفارق!!

4 -

قالوا: الحدُّ يدرأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طهرة له، فكيف تقبل شهادته إذ لم يتطهر بالحد، وترد أطهر ما يكون، فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرًا كاملًا.

الترجيح:

الذي يظهر مما تقدم أن الحاسم في المسألة، معرفةُ ما يعود إليه الاستثناء في الآية الكريمة، ففي الآية تقدم الاستثناء ثلاثُ جمل متعاطفات وهي:

(أ){فاجلدوهم ثمانين جلدة} (2).

(ب){ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} (3).

(جـ){وأولئك هم الفاسقون} ثم قال {إلا الذين تابوا} (4).

وقد أجمعوا على أن الاستثناء غير عامل في جلده - في الجملة الأولى - فالتوبة لا تسقط عن القاذف حدَّ الجلد إجماعًا (5) أي: إذا رفعت إلى الحاكم.

وكذلك أجمعوا على أن الاستثناء عامل في فسقه - في الجملة الثالثة - فالتوبة تزيل عن القاذف وصف الفسق.

(1) حسن: تقدم قريبًا.

(2)

سورة النساء: 25.

(3)

سورة النساء: 25.

(4)

سورة النور: 4، 5.

(5)

نقل الإجماع غير واحد، انظر:«تفسير ابن كثير» (3/ 257)، و «المجموع» (22/ 101).

ص: 68

فيبقى الخلاف في عمل الاستثناء في ردِّ الشهادة؟! وقد علمت خلاف الجمهور والحنفية في عود الاستثناء على الجمل المتعاطفات.

والذي يظهر لي هو ما استظهره جماعة من الأصوليين (1) من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة، إلا بدليل يدل عليه، ويبدو لي أن فعل الصحابة وعمومات الشريعة بكون التائب كمن لا ذنب له يصلح دليلًا على جعل الاستثناء راجعًا إلى الجملتين - كما قال الجمهور - فيرتفع بالتوبة ردُّ الشهادة والحكم بالفسق، والله تعالى أعلم.

صِفَةُ توبةِ القَاذِفِ:

وأما صفة التوبة التي بها يرفع الحكم بالفسق عن القاذف وتقبل شهادته،

فللعلماء فيها قولان (2):

الأول: لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدَّ فيه، وبه قال عمر رضي الله عنه وجماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وحجتهم:

1 -

قصة عمر المتقدمة في حدِّ أبي بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا، وفيها أن عمر قال لهم:«توبوا تُقبل شهادتكم» فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته (3).

وفي رواية: «فلما فرغ من جلد أبي بكرة، قام أبو بكرة فقال: أشهد أنه زان

» (4).

قلت: وهذا يدلُّ على أن المراد بطلب توبتهم إكذاب أنفسهم.

2 -

أن إكذابه نفسه هو ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي الحق به القذف، وهو مقصود التوبة.

القول الثاني: يكفي في توبته أن يصلح ويحسن حاله، ويندم على ما كان منه ويستغفر، وإن لم يكذِّب نفسه: وهو قول جماعة من التابعين واختيار ابن جرير الطبري، وهو مذهب مالك رحمه الله.

(1) منهم القرطبي وابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستظهره العلامة الشنقيطي في «الأضواء» (6/ 90) والعلامة بكر أبو زيد - حفظه الله -.

(2)

«تفسير القرطبي» (12/ 179)، و «نهاية المحتاج» (8/ 291)، و «المغني» (12/ 77).

(3)

صحيح: تقدم قريبًا.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8873).

ص: 69

والأوَّل أرجح للأثر، ولأن مجرد الاستغفار لا مصلحة فيه للمقذوف، ولا يحصل له براءة عرضه مما قذف به، فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب، فإن فيه حقين: حق لله وحق للعبد، وحق العبد لا يؤدي إلا بتكذيب القاذف نفسه.

وهنا إِشْكال (1):

ولعله لأجله قال من قال: يكفي الاعتراف بالذنب والاستغفار، وهو: إذا كان صادقًا قد عاين الزنا فأخبر به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب، ويكون ذلك من تمام توبته؟

والجواب: أن الكذب يراد به أمران: أحدهما: الخبر غير المطابق لمخبره، والآخر: الخبر الذي لا يجوز الإخبار به، وإن كان مطابقًا لمخبره.

ومن الثاني خبر القاذف المنفرد برؤية الزنا، والإخبار به، فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقًا لمخبره، ولذا قال الله تعالى:{فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (2).

وعلى هذا فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب وإن كان خبره مطابقًا، فيلزمه أن يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى عنه، فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبًا، فأي توبة له، وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه؟!

العقوبة الثالثة: الحكم بفسق القاذف: ولا خلاف في ذلك لنصِّ الآية الكريمة {وأولئك هم الفاسقون} (3).

وقد علمت أن الحكم بفسقه يرتفع بتوبته إجماعًا لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} (4). وتكون التوبة على النحو الذي تقدم وصفه والله أعلم.

إذا قذف إنسانًا باللواط أو بإتيان البهائم (5):

من قذف رجلًا بفعل قوم لوط - إما فاعلًا أو مفعولًا به - فقد اختلف أهل

(1) للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 246 - 248).

(2)

سورة النور: 13.

(3)

سورة النور: 4.

(4)

سورة النور: 5.

(5)

«المغني» (9/ 79)، و «المجموع» (22/ 114)، و «المحلي» (11/ 283 - 285).

ص: 70

العلماء في إيجاب الحد عليه تبعًا لاختلافهم في إيجابهم الحد على اللوطي أصلًا، فقال الحسن والنخعي والزهري ومالك والشافعي وأحمد - وهو الخارج على قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن -: يجب عليه حدُّ القذف.

وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة وابن حزم: لا حدَّ عليه!!

وقد تقدم أن اللوطي يجب عليه الحدُّ كما قال الجمهور، فنقول: وكذلك يجب الحدُّ بقذفه باللواط.

وكذلك الشأن فيمن قذف إنسانًا بإتيان بهيمة، فمن رأي الحدَّ في إتيان البهيمة، قال: يحدُّ بقذفه، ومن قال: لا حد عليه - وهم الجمهور -، قالوا: كذلك لا حدَّ على قاذفه، وإنما يعزَّر لقوله بما يراه الإمام صالحًا له، لما في قوله من أذى

ومعرَّة تلحق بالمقذوف.

إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات:

من رمى جماعة بالزنا، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب (1):

الأول: يحدُّ حدًّا واحدًا: وبه قال طاوس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وصاحبيه ومالك والشافعي - في أحد قوليه - وإسحاق، واستدلوا بما يلي:

1 -

أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلاعن بينهما ولم يحدَّ شريكًا (2).

2 -

أن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حدًّا واحدًّا.

3 -

أنه قذف الجماعة قذف واحد، فلم يجب إلا حدٌّ واحد، كما لو قذف واحدًا.

4 -

أن الحدَّ وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه، ويحد واحد يظهر كذب القاذف وتزول المعرة عن المقذوف، فوجب أن يكتفى به.

5 -

أن قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (3) لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة.

الثاني: يحدُّ لكل واحد حدًّا: وهو قول الحسن وأبي ثور وابن المنذر وأحمد

(1)«المغني» (9/ 88).

(2)

تقدم حديثه في «اللعان» .

(3)

سورة النور: 4.

ص: 71

والشافعي في قوله الآخر، وحجتهم أن الحدَّ حق للآدميين، ولو عفا بعضهم ولم

يعفُ الكل لم يسقط الحد.

الثالث: التفريق بين رميهم بكلمة واحدة فيحدُّ مرة، أو بكلمات فيحدُّ لكل كلمة بحدٍّ: لأنه إذا تعدد القذف فيجب تعدُّد القذف.

مسقطات حدُّ القذف:

يسقط حد القذف عن القاذف، فلا يعاقب به، بواحد مما يأتي:

1 -

عفو المقذوف عن القاذف (1):

فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن للمقذوف أن يعفو عن القاذف، سواء قبل الرفع إلى الإمام أو بعد الرفع إليه، لأنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة المقذوف باستيفائه، فيسقط بعفوه، كالقصاص، وفارق سائر الحدود، فإنه لا يعتبر في إقامتها طلب استيفائها.

وذهب المالكية إلى أنه لا يجوز العفو بعد أن يرفع إلى الإمام، إلا الابن في أبيه، أو الذي يريد سترًا.

وأما الحنفية فذهبوا إلى أنه لا يجوز العفو عن الحدِّ في القذف، سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع.

وسبب اختلافهم - كما قال ابن رشد -: هل هو حق لله أو حق للآدميين أو حق لكليهما؟ فمن قال: حق الله، لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين، أجاز العفو، وعمدتهم أن المقذوف إذا صدَّقه فيما قذفه به سقط عنه الحد.

ومن قال: هو حق لكليهما وغلَّب حق الإمام إذا وصل إليه، قال بالفرق بين أن يصل إلى الإمام أو لا يصل.

قلت: ولعلَّ هذا الأخير يتأيَّد بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (2).

وبالقياس على الأثر الوارد في السرعة في حديث صفوان بن أمية في قصة

(1)«ابن عابدين» (3/ 182)، و «المدونة» (4/ 387)، و «بداية المجتهد» (2/ 331)، و «روضة الطالبين» (10/ 106)، و «المغني» (8/ 217).

(2)

حسن بشواهده: وتقدم في أول «الحدود» .

ص: 72