المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(4) حد السرقة - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٤

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌13 - كتاب الحدود

- ‌الحدود

- ‌الجرائم الحَدِّيَّة:

- ‌(1) حَدُّ الزِّنا

- ‌اللِّواط

- ‌(2) حَدُّ القَذْفِ

- ‌شروط حدِّ القذف:

- ‌(3) حَدُّ شُربِ الخَمر

- ‌(4) حَدُّ السَّرِقَة

- ‌عقوبات السارق

- ‌(5) حَدُّ الحِرَابَةِ

- ‌6 - حَدُّ الردَّة

- ‌التَّعْزير

- ‌من صور التعزير

- ‌14 - كتاب الجنايات والديات

- ‌أولًا: الجنايات

- ‌أولًا: الجناية على النفس (القتل)

- ‌القسم الأول: القتل العمد:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌القسم الثاني: القتل شبه العمد

- ‌القسم الثالث: القتل الخطأ

- ‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

- ‌ثانيًا: الديات

- ‌15 - كتاب البيوع

- ‌أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

- ‌انعقاد البيع بالمعاطاة

- ‌انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

- ‌انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره

- ‌شروط البيع

- ‌أولًا: شروط الانعقاد

- ‌بيع الفضولي

- ‌القول في شراء الفضولي

- ‌مسائل تتعلق بما سبق

- ‌ثانيًا: شروط صحة البيع

- ‌ثالثًا: شروط النفاذ

- ‌رابعًا: شروط اللزوم

- ‌الثمن وأحكامه

- ‌أحكام الجوائح

- ‌البيوع المحرمة

- ‌البيوع المحرمة

- ‌أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:

- ‌ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:

- ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

- ‌خلاصة البحث

- ‌ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

- ‌رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها

- ‌خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها

- ‌سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها

الفصل: ‌(4) حد السرقة

ويحرم على المسلم المكلف أن يسقي غيره الخمر ولو كان صبيًّا أو مجنونًا أو

كافرًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم:«لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (1).

وقد اختلفوا في غير شاربها - من هؤلاء - هل يحدُّ كذلك؟ فروي عن ابن عامر ومروان بن الحكم أنه يُجلد كذلك.

والصحيح أنه ليس عليه الحدُّ؛ لأن الحدَّ إنما ثبت في أصناف معينة منهم شارب الخمر، وأما غيره فلم يأت في إيجاب الحدِّ عليه قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب، قلت: لكن للإمام أن يؤدِّبه ويعزّره بما فيه المصلحة والله أعلم.

(4) حَدُّ السَّرِقَة

تعريف السرقة:

السرقة لغة: أخذ ما ليس له أخْذُه خفية.

واصطلاحًا: أخذ مالٍ محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله بلا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء (2).

حكم السرقة، وحدُّها:

السرقة من الكبائر، وقد اتفقت كلمة العلماء على تحريمها، وحدُّها ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة.

1 -

قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالًا

من الله والله عزيز حكيم} (3).

2 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (4).

3 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (5).

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3657)، وابن ماجة (3380).

(2)

«كشاف القناع» للبيهقي (6/ 129).

(3)

سورة المائدة: 38.

(4)

صحيح: أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687).

(5)

صحيح: أخرجه البخاري (6795)، ومسلم (1686).

ص: 88

4 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها» (1).

5 -

وقد أجمعوا على أن قطع يد السارق يجب، إذا شهد عليه بالسرقة شاهدان عدلان مسلمان حُرَّان (2).

حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده (3):

من ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن صيانة الأموال والمحافظة عليها فكان من حكمة الله ورحمته بعباده أن فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم ويخل بأمنهم على أموالهم. ففرض عقوبة قطع اليد من السارق. وجاء في نص صريح محكم وتنزيل يتلى فقال تعالى: {والسارق

والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (4).

وفي هذه الآية، جماع القول بالحكمة (جزاءًا بما كسبا نكالًا من الله). فبيّن سبحانه أن (القطع) هو الحكم المطابق لمجازاة (السارق) لا نقص ولا شطط فلم يجعل عقوبته الجلد، فيكون جزاءً ناقصًا عن مقابلة الجرم. ولم يجعله إعدامًا للنفس فيكون فيه مجاوزة لما يستحقه الجرم. وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -:

(إن عقوبة القطع للسارق أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم).

وقال أيضًا:

(ولم يشرع في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدالته لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان. ويقنع كلّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه).

وقال أيضًا:

(1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).

(2)

«الإجماع» لابن المنذر (621).

(3)

نقلًا من «الحدود والتعزيرات» لبكر أبو زيد - حفظه الله - ص (351 - 352).

(4)

سورة المائدة: 38.

ص: 89

(إن المقصود هو الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفّ عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًّا كما

يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًّا لا يريد أن يفطن له. والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.

واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران. ولهذا يقال: (وصلت جناح فلان) إذا رأيته يسير منفردًا، فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق يقطع اليد قصًّا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه أن عاود السرقة.

فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفًا في العدو.

ثم تقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفًا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب.

ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة. ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحمًا على وضم فيستريح ويريح).

شبهات حول قطع يد السارق، وردُّها:

قال العلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره -في كتابه القيم «الحدود والتعزيرات عند ابن القيم» ما نصُّه:

أورد ابن القيم - رحمه الله تعالى - التساؤل المشهور من نفاة القياس والحكم والتعليل من وجود التفريق بين المتماثلين. والجمع بين المختلفين. وفي هذا ذكر إيرادهم في السرقة وكشف عنها بما لا يدع لقائل مقالًا.

ونفاة القياس إنما أوردوا هذا وأمثاله لفك شرعية القياس لا للقدح في حكم السرقة فحاشاهم بل هم مؤمنون بحكم الله ودينه وشرعه ولا يعتريهم في ذلك شك ولا يساورهم فيه وهم.

أما في عصرنا فهذه الإيرادات ونحوها هي النافذة الموهومة التي نفث منها - المستشرقون وأذنابهم - بإلقاء الشبه وتكوين الشكوك لا في هذا الحد (قطع السارق) فحسب بل ليتدرجوا بالرعاع من أولاد المسلمين، الغرباء عن إسلامهم - إلى ترك الإسلام جملة وتفصيلًا؟

ص: 90

ولكن نقول بكل ثبات: وأنى لهم أن يتم ذلك؟؟؟.

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (1).

وابن القيم - رحمه الله تعالى - في مباحثه هذه كأنما أعطى - رحمه الله تعالى - نسخة من شبه المستشرقين فكر عليها بالنقض والرفض حتى أصبحت أثرًا بعد عين بل ولا أثر.

لهذا فإنني أورد هذه الإيرادات على لسان مورد الشبه والاعتراض {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (2).

الاعتراض الأول: أن العقوبة بالقطع محض ضرر السارق.

نعى ابن القيم على المتباكين على هؤلاء اللصوص، الذين يقولون أن القطع شر محض على المقطوع فقال:

(السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه. وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرًا وحكمًا. لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو

المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه يذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة

أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الربّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة؟ فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.

ولا تلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلًا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة؟. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلًا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد

(1) سورة الحجر: 9.

(2)

سورة الأنفال: 42.

ص: 91

الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} (1). وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (2). وقوله: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل

المتقين كالفجار} (3).

فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزّه سبحانه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزّته وإلهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام كما إذا جاء من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر:

نعمة الله لا تعاب ولكن ربما استقبحت على أقوام

هذا ما قرره ابن القيم بحماس متدفق ضد هذا الاعتراض المريض المتلخص: أن في هذه العقوبة حماية للمجتمع من ضرر هذه الجريمة، واهتمامًا بتهذيب المجرم وتطهيره مع إبداء كمال المناسبة بين الجريمة والعقاب.

ويطيب لي في هذا المقام أن أذكر ما أوضحه الأستاذ عبد الكريم زيدان، في

تفنيد هذا الاعتراض ونقضه فقال:

(أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع فهذا إذا كان صحيحًا فمن الصحيح أيضًا أن يقال: أن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرمًا سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على

(1) سورة القلم: 36.

(2)

سورة الجاثية: 21.

(3)

سورة ص: 28.

ص: 92

السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم. فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلًا. بل أن السجن أصبح مكانًا أمينًا للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام.

أما قطع اليد فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جدًّا، والتاريخ خير شاهد على ما نقول فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق).

الاعتراض الثاني: كيف يكون القطع لمن سرق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاضبها.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك:

(هذا من تمام حكمة الشارع: فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه. فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضًا. وعظم الضرر. واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس. فيمكنهم أن يأخذوا على يديه. ويخلصوا حق المظلوم. أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه

وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه. وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس.

فليس كالسارق. بل هو بالخائن أشبه.

وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبًا، فإنه الذي يقاتلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه. وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا فهو كالمنتهب.

وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. ولكن يسوغ كفْ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال، والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال).

ومدار الدفع من ابن القيم لهذا الاعتراض: هو توفر الحرز في السرقة وهو غاية ما يملكه الناس من الاحتراز. مع اختفاء السارق. وهذا المعنى لا يوجد في كل من المنتهب والمختلس. والغاصب على ما أوضحه - رحمه الله تعالى -.

ص: 93

الاعتراض الثالث: التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها فإن ديّتها خمسمائة دينار وبين عقوبتها بالقطع إذا سرق فإن نصاب السرقة الموجب للقطع ثلاثة دراهم؟.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الجواب عن ذلك:

(وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار: فمن أعظم المصالح والحكمة.

فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف:

فقطعها في ربع دينار حفظًا للأموال. وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظًا لها وصيانة.

وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار

فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت.

وضمنه الناظم قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت لكنها قطعت في ربع دينار

حماية الدمّ أغلاها، وأرخصها خيانة المال، فانظر حكمة الباري

وروى أن الشافعي - رحمه الله تعالى - أجاب بقوله:

هناك مظلومة غالت بقيمتها وههنا ظلمت هانت على الباري

وأجاب شمس الدّين الكردي بقوله:

قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار

لا تقدحن زناد الشعر عن حكم شعائر الشرع لم تقدح بأشعار

فقيمة اليد نصف الألف من ذهب فإن تعدت فلا تسوى بدينار

ومنه يتضح للمنصف أن هذا التفاوت بين ديّة اليد إذا جنى عليها وبين نصاب القطع إذا جنت هو عين الحكمة والعدل والصيانة لأبدان الناس وأموالهم. وهذا الاعتراض الآثم أورده جماعة من العلماء ولكن لا يخرجون في جوابهم عما

ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى -. وهو نقض جلي مبناه على التفاوت العظيم بين الجنايتين.

ص: 94

وممن أورده الحافظ بن حجر في (فتح الباري). وفي (لسان الميزان) وقال:

(قال السلفي: إن كان المعرى قال هذا الشعر معتقدًا معناه فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب).

حكمة التشريع في جعل نصاب السرقة ربع دينار:

وابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد نقض هذا الاعتراض يتحفنا بحكمة الشرع في تخصيص القطع بهذا القدر (ربع دينار) زيادة منه في نقضن مقالة العرى وأضرابه فيقول:

(وأما تخصيص القطع بهذا القدر: فلأنه لابد من مقدار يجعل ضابطًا لوجوب القطع، إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك.

فلابد من ضابط: وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار.

وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه.

فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير عن أموالهم، إذ لا يلحقهم ضرر بفقده.

وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة: فإنها كفاية المقتصد في يومه له.

بم يثبت حدُّ السرقة؟

يثبت حدُّ السرقة، ويجب الحدُّ بأحد أمرين:

1 -

البيِّنة: وهي أن يشهد رجلان عدلان مسلمان حرَّان أمام القاضي بأن فلانًا سرق كذا، وعلى هذا إجماع الأمة (1).

2 -

الإقرار: بأن يعترف السارق على نفسه أنه سرق، وقد اختلف أهل العلم في عدد الإقرار على قولين (2):

الأول: لابُدَّ من إقراره مرتين: وهو مذهب الحنابلة، وحجتهم:

1 -

حديث أبي أمية المخزومي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلصٍّ قد اعترف

(1) المراجع التالية.

(2)

«فتح القدير» (5/ 126)، و «بداية المجتهد» (2/ 454)، و «نهاية المحتاج» (7/ 140)، و «المغني» (10/ 292).

ص: 95

اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما إخالك (1) سرقت» قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقطع

» (2).

قالوا: فلم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين.

2 -

أن هذا قضاء عليٍّ رضي الله عنه، فعن القاسم بن عبد الرحمن بن مسعود عن أبيه قال: جاء رجل إلى عليٍّ بن أبي طالب فقال: إني سرقت، فردَّه، فقال: إني سرقتُ، فقال:«شهدت على نفسك مرتين» فقطعه، قال عبد الرحمن:

فرأيت يده في عنقه معلّقة (3).

3 -

ولأنه يتضمن إتلافًا في حد، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا؛ ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة!!

الثاني: يكفي إقرار مرة واحدة: وبه قال عطاء والثوري وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، وحجتهم:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق المجن، وسارق رداء صفوان، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتكرار الإقرار، وما وقع من التكرار في بعض الحالات فهو من باب التثبت.

2 -

ولأنه حق يثبت بالإقرار، فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي.

3 -

ولأن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة، فيكتفى به كما في القصاص وحدِّ القذف.

قلت: أما حديث أبي أمية المخزومي فهو ضعيف، والذي يترجَّح لي أنه يكفي مرة لكن يستحب للقاضي أن لا يتسرع في إقامة الحد، وأن يراجعه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولقضاء عليٍّ رضي الله عنه، ولما فيه من الاحتياط والتثبت في إقامة الحد، والله أعلم.

3 -

هل يثبت الحد باليمين المردودة؟ (4).

إذا ادعى شخص على آخر سرقة نصاب، فأنكر المدعى عليه السرقة، فطلب

(1) أي: ما أظنك.

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (4380)، والنسائي (8/ 67)، وابن ماجة (2597)، وانظر «الإرواء» (2426).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 191)، وابن أبي شيبة، والطحاوي (2/ 97)، والبيهقي (8/ 275).

(4)

«البحر الرائق» (7/ 240)، و «روضة الطالبين» (10/ 143)، و «مغني المحتاج» (4/ 175)، و «حاشية البجيرمي على المنهج» (4/ 235)، و «المغني» (12/ 124 - مع الشرح الكبير).

ص: 96

المدعى منه أن يحلف لإثبات براءته، فنكل (أي: امتنع) عن اليمين، رُدَّت اليمين على المدعى، فإن حلف أن المدعى عليه سرق ما ادعاه، فهل يثبت الحد بهذه اليمين؟ قولان:

فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو مقابل الأصح عند الشافعية - إلى أن المال المسروق يثبت بهذه اليمين المردودة، لكن لا يقام الحد إلا بالإقرار أو البيِّنة، لأن القطع في السرقة حق الله تعالى وهو لا يثبت إلا بهما.

وقال الشافعية: في الأصح عندهم - تثبت السرقة بيمين المدعى المردودة ويقام الحدُّ، ومقابل الأصح عند الشافعية هو المعتمد في المذهب؛ لأنه نصُّ الشافعي في الأم.

4 -

هل يثبت الحد بالقرائن؟

جمهور الفقهاء على أن حدَّ السرقة لا يثبت إلا بالإقرار أو البيِّنة؟.

ويرى بعضهم جواز ثبوت السرقة - ومن ثم إقامة الحد وضمان المال - بالقرائن والأمارات إذا كانت ظاهرة الدلالة باعتبارها من السياسة الشرعية التي تخرج الحق من الظالم الفاجر.

قال ابن القيم رحمه الله: «لم يزل الأئمة يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرَّق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نصٌّ صريح لا تتطرَّق إليه شبهة»

اهـ (1).

واستدل رحمه الله بقصة يوسف عليه السلام وإخوته إذ قالوا: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين - إلى قوله - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} (2) الآيات. قال: «فيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة، وغاية البيِّنة أن يستفاد منها الظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين» (3) اهـ.

شروط وجوب قطع السارق:

للسرقة أركان أربعة: السارق، والمسروق منه، والمال المسروق، وطريقة

(1)«الطرق الحكيمة» (ص: 8).

(2)

سورة يوسف: 73 - 76.

(3)

«إعلام الموقعين» (3/ 232).

ص: 97

الأخذ، ولا يجب حد السرقة إلا يتوفر شروط تتعلق بكل ركن من هذه الأركان، وإليك أهم هذه الشروط وما يتعلق بها من مناقشات:

أولًا: شروط تعتبر في السارق: يشترط في السارق حتى يستوجب حدَّ السرقة ما يلي:

1، 2 - التكليف والاختيار: فلا يُحدُّ غير المكلف، كالمجنون والصغير، فإذا سرق الصغير أُدِّب.

وكذلك لا يحدُّ المكره الذي لا اختيار له، وقد تقدمت أدلة هذين الشرطين

مرارًا.

3 -

القصد: بمعنى أن يكون عالمًا بتحريم السرقة، وأنه يأخذ مالًا مملوكًا لغيره دون علم مالكه وإرادته، وأن تنصرف نيته إلى تملكه.

4 -

انتفاء الشبهة: بمعنى أن لا يكون للسارق شبهة في المال المسروق، فإن الحدَّ يُدرأ بالشبهة.

ومن الشبهات التي يذكرها العلماء في هذا الباب ما يلي:

(أ) أن يسرق من شيء له فيه حق (1): وهذا له صور، منها:

1 -

سرقة الوالد من مال ولده: فهذه شبهة دارئة للحدِّ في قول عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، فلا يُقطع عندهم الوالد فيما أخذ من مال ولده، لأنه أخذ ما يحق له أخذه، فعن جابر رضي الله عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال صلى الله عليه وسلم:«أنت ومالك لأبيك» (2).

واللام في قوله (لأبيك) للتمليك، ففي هذا شبهة الانبساط بين الأب وابنه، فلا يجوز قطع من أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالًا له مضافًا إليه.

قال الشافعي: وكذلك الأجداد والجدات، كيف كانوا، لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم.

وخالف ابن حزم فقال: يُقطع الوالد - كغيره - إذا سرق من مال ابنه لعموم آية

(1)«فتح القدير» (5/ 144)، و «جواهر الإكليل» (2/ 293)، و «نهاية المحتاج» (7/ 435)، و «المغني» (10/ 284)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 378).

(2)

صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (838).

ص: 98

القطع، وأجاب عن الحديث بأنه منسوخ بآيات المواريث وغيرها، قال: ولا يخالف أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه فلا شيء عليهما، فإنما أخذا حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه إما سرًّا وإما جهرًا. اهـ. مختصرًا (1).

قلت: الحق أن الحديث مقصور على سببه وليس له عموم - لا أنه منسوخ - لإجماع العلماء على أن الولد يرث مع أبيه بل ويكون نصيه - أحيانًا - أكبر من أبيه، فصح أن للولد مالًا ولأبيه مالًا، ومع هذا فقول الجمهور بدرء الحدِّ عن الوالد إذا سرق من مال ولده أقوى؛ لأنه لا يقاد به، فلم يقطع به من باب الأولي، وإنما أتى ابن حزم من جهة أنه لا يقول بقياس الأولى (!!)، والله أعلم.

2 -

سرقة الولد من والده:

ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه لا قطع على الولد ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين أو الأجداد أو الجدات، لأن الابن يتبسَّط في مال والديه عادةً.

وذهب مالك وأبو ثور وابن حزم إلى أنه يقطع عملًا بظاهر الآية، وهو عام لا مخصَّص له. قلت: لا ينبغي أن يُطلق الحكم هنا، فمتى كان الانبساط للابن في مال الأب لم يقطع بأخذه، ومتى كان محجوبًا عنه قطع والله أعلم.

3 -

سرقة الأقارب بعضهم من بعض (2):

ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابهُ: لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم، كالأخ والأخت والعم والعمة، والخال والخالة؛ لأن دخول بعضهم على بعض دون إذن عادة يعتبر شبهة تسقط الحدُّ، ولأن قطع أحدهم بسبب سرقته من الآخر يفضي إلى قطع الرحم، وهو حرام.

أما من سرق من ذي رحم غير محرم كابن العم أو بنت العم، وابن العمة أو بنت العمة، وابن الخال أو بنت الخال، وابن الخالة أو بنت الخالة، فيقام عليه حد السرقة - عندهم - لأنهم لا يدخل بعضهم على بعض عادة!!

وأما الجمهور - ومعهم ابن حزم - فذهبوا إلى أن سرقة الأقارب بعضهم من

(1)«المحلي» (11/ 345).

(2)

«البدائع» (7/ 75) والمراجع السابقة.

ص: 99

بعض ليست شبهة تدرأ الحد عن السارق، ولهذا أوجبوا القطع على من سرق من مال ذي رحم، محرمًا أو غير محرم.

قلت: وهو الصواب لعموم آية القطع، ولا دليل على تخصيصها بغير الأقارب.

4 -

سرقة أحد الزوجين من الآخر (1):

ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر، وكانت السرقة من حرز قد اشتركا في سكناه، لاختلال شرط الحرز،

وللانبساط بينهما في الأموال عادة، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث بغير حجب (!!).

أما إذا كانت السرقة من حرز لم يشتركا في سكناه، أو اشتركا في سكناه ولكن أحدهما منع من الآخر مالًا أو حجبه عنه، فاختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:

الأول: لا قطع على واحد منهما: وهو قول أبي حنيفة وقول عند الشافعية والرواية الراجحة عند الحنابلة، قالوا: وذلك لما بين الزوجين من الانبساط في الأموال عادة ودلالة، وقياسًا على الأصول والفروع، ولأن بينهما سببًا يوجب التوارث من غير حجب.

واستدل بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها

» (2).

قالوا: فكلاهما كالمودَّع والمأذون له في الدخول، فلا يقطع بسرقته منه.

الثاني: يُقطع الزوج دون زوجته: وهو قول للشافعية فيقطع الزوج إذا سرق من مال زوجته ما هو محرز عنه، ولا تقطع الزوجة إذا سرقت من مال زوجها ولو كان محرزًا عنها، قالوا: لأن الزوجة تستحق النفقة على زوجها، فصار لها شبهة تدرأ عنها الحد (!!) وربما استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها، فقال - صلى الله عليه

وسلم -: «خذي ما يكفيك وولدك

(1)«البدائع» (5/ 75)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المدونة» (16/ 76)، و «المغني» (10/ 287)، و «كشاف القناع» (6/ 141)، و «المحلي» (11/ 347).

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1839).

ص: 100

بالمعروف» (1) قالوا: فأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها على مال زوجها تأخذ ما يكفيها وولدها فهي مؤتمنة عليه كالمستودع، بخلاف الزوج فقد قال تعالى:{وأتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} (2).

الثالث: يجب الحدُّ على السارق منهما لمال الآخر: وهو مذهب المالكية والراجح عند الشافعية والرواية الأخرى عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم، لعموم آية السرقة، ولأن الحرز هنا تام، وربما لا يبسط أحدهما للآخر في ماله، فأشبه سرقة الأجنبي، وأما استدلال الأولين بحديث «كلكم راع

» فقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله فقال: وهو أعظم حجة عليهم لأنه عليه السلام أخبر أن كل من ذكرنا راع فيما ذكر وأنهم مسئولون عما استُرعوا من ذلك، فإذ هم مسئولون عن ذلك، فبيقين يدري كل مسلم أنه لم تبح لهم السرقة والخيانة فيما استودعوه، وأسلم إليهم، وأنهم في ذلك إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد، ومن لم يسترع، فهم بلا شك أشد إثمًا وأعظم جرمًا وأسوأ حالة من الأجنبيين

فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ولابد

وأما قولهم: إن كليهما كالمودع وكالمأذون له في الدخول، فأعظم حجة عليهم؛ لأنهم لا يختلفون أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده - لكن من مال لمودع آخر في حرزه - وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف، فيلزمهم بهذا التشبيه البديع بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما

سرق أحدهما من الآخر إلا فيما أؤتمن عليه ولم يحرر منه

اهـ (3).

وأما استدلال من فرق بين سرقة الزوج وسرقة الزوجة بحديث هند بنت عتبة، فالجواب:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها ولا على أكثر من حقها، فلها ما أخذت بالحق، وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة (4).

قلت: والذي يظهر أن لا يُطرد حكم واحد، بل في كل قضية بما يناسبها على نحو ما ذكرته في سرقة الابن من مال والده، والله أعلم.

(1) صحيح: أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).

(2)

سورة النساء: 20.

(3)

«المحلي» (11/ 348).

(4)

«المحلي» (11/ 349) باختصار.

ص: 101

5 -

سرقة الشريك من مال الشركة (1):

فذهب الحنفية والشافعية - في الأصح عندهم - والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على الشريك إذا سرق من مالك الشركة؛ لأن للسارق حقًّا في هذا المال، فكان هذا الحق شبهة تدرأ عنه الحد.

واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «درأ القطع عن عبد من رقيق الخمس سرق الخمس» (2). وهو حديث ضعيف لا يحتج به.

وقال المالكية: يقطع إن تحقق شرطان، أحدهما: أن يكون المال في غير الحرز

المشترك، والآخر: أن يكون فيما سرق من حصة صاحبه فضل عن جميع حصته ربع دينار فصاعدًا.

وعند الشافعية قول آخر: أنه يقطع؛ لأنه لا حق للشريك في نصيب شريكه، فإن أخدًا زائدًا على حقه (نصيبه) بمقدار النصاب قطع، وهو مذهب ابن حزم، وهو الأقرب.

6 -

السرقة من بيت المال أو الغنيمة (3):

ذهب الحنفية والحنابلة إلى عدم إقامة الحد على من سرق من بيت المال، إذا كان السارق مسلمًا، غنيًّا كان أو فقيرًا، لأن لكل مسلم حقًّا في بيت المال، فيكون هذا الحق شبهة تدرأ الحد عنه كما لو سرق من مال له فيه شركة!!.

وقد استُدل لهم بما جاء عن القاسم بن عبد الرحمن قال: إن رجلًا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر إليه:«أن لا قطع عليه لأن له فيه نصيبًا» (4).

وعن عبيد بن الأبرص أن عليَّ بن أبي طالب أُتي برجل قد سرق من الخمس مغفرًا، فلم يقطعه عليٌّ، وقال:«إن له فيه نصيبًا» (5).

(1)«البدائع» (7/ 76)، و «المدونة» (4/ 418)، و «قليوبي» (4/ 188)، و «كشاف القناع» (6/ 142).

(2)

ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2590)، والبيهقي (8/ 282) من حديث ابن عباس، والمراد بالخمس: خمس الغنيمة.

(3)

«ابن عابدين» (3/ 208)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «مغني المحتاج» (4/ 163)، و «كشاف القناع» (6/ 142)، و «المحلي» (11/ 327).

(4)

ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، وانظر «الإرواء» (2422).

(5)

ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حزم (11/ 327)، والبيهقي (8/ 282)، وانظر «الإرواء» (2423).

ص: 102

وذهب المالكية - وهو المرجوح عند الشافعية - إلى أنه يقطع، لعموم نص

الآية، وضعف الشبهة؛ لأنه سرق مالًا من حرز لا شبهة له فيه بعينه ولا حق له فيه قبل حاجته، ووافقهم ابن حزم على قاعدته في أن من أخذ فوق نصيبه يقطع إذا كان نصابًا.

وأما الشافعية ففرَّقوا بين كون المال محرزًا لطائفة هو أو أحد أصوله أو فروعه منها، فلا قطع لوجود الشبهة، وبين أن يكون المال محرزًا لطائفة ليس منها فيقطع.

7 -

سرقة العبد من مال سيِّده:

ذهب عامة أهل العلم إلى أن العبد لا يقطع فيما سرق من مال سيده، لقضاء جماعة من السلف بذلك، فعن السائب بن يزيد: أن عبد الله بن عمرو الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: اقطع يد هذا، فإنه سرق، فقال له عمر:«ما سرق؟» فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهمًا، فقال عمر:«أرسله، فإنه ليس عليه قطع، خادمكم سرق متاعكم» (1).

وعن عمر بن شرحبيل قال: «جاء معقل المزني إلى عبد الله [بن مسعود] فقال: غلامي سرق قبائي، فأقطعه؟ قال عبد الله: لا، مالك بعضه في بعض» (2).

وقد ذكر ابن قدامة طرفًا من القضايا بنحو هذا عن السلف ثم قال: «وهذه قضايا تشتهر، ولم يخالفها أحد فتكون إجماعًا، وهذا يخص عموم الآية، ولأن هذا إجماع من أهل العلم؛ لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد

فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم، كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول أحد من التابعين» اهـ (3).

8 -

السرقة من مال المدين (4):

اختلف الفقهاء في وجوب الحدِّ على الدائن إذا سرق من مال مدينه، على النحو الآتي:

(1) إسناده صحيح: أخرجه مالك (1584)، وعنه الشافعي (267)، وعبد الرزاق (10/ 210)، والبيهقي (8/ 281)، والدارقطني (3/ 188).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي (8/ 281).

(3)

«المغني» لابن قدامة (10/ 285).

(4)

«البدائع» (7/ 72)، و «ابن عابدين» (4/ 94)، و «الدسوقي» (4/ 337)، و «منح الجليل» (4/ 526)، و «مغني المحتاج» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «المحلي» (11/ 328).

ص: 103

(أ) إن كان المدين غنيًّا غير جاحد للدَّيْن، أو كان الدين مؤجلًا لم يحل أجله، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام عليه الحد - إذا كان المسروق نصابًا - إذ لا شبهة له في الأخذ ما دام الوصول إليه ميسورًا.

وأما الحنفية فلا يقام عليه الحد عندهم على كل حال ما دام المسروق من جنس الدين!!

(ب) إذا كان المدين جاحدًا للدين أو مماطلًا فسرق مقدار حقه، فقالوا جميعًا: لا يقام عليه الحد.

(جـ) فإن أخذ أكثر من حقه (دينه) بما يبلغ نصابًا، فقال المالكية: يُقطع لتعدِّيه بأخذ ما ليس من حقه، وكذا قال ابن حزم إلا أنه استثنى ما إذا لم يصل إلى حقه إلا بما فعل ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع وعليه أن يردَّ الزائد.

وقال الشافعية والحنابلة: لا يقطع، لأن المال لم يبق محرزًا عنه ما دام قد أبيح له الدخول لاستيفاء حقِّه، لكن قيَّده ألحنابلة بأن يكون أخذ الزائد من نفس المكان الذي فيه المال، فإن أخذ الزائد من غير الحرز الذي فيه ماله وجب القطع لعدم الشبهة.

(ب) شبهة: اضطرار السارق أو حاجته (1):

فالاضطرار شبهة تدرأ الحدَّ، والضرورة تبيح للآدمي أن يتناول من مال الغير بقدر الحاجة ليدفع الهلاك عن نفسه، فمن سرق ليردَّ جوعًا أو عطشًا مهلكًا فلا عقاب عليه، لقوله تعالى:{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} (2). ولعموم قول سبحانه: {ولا تقتلوا أنفسكم} (3).

والحاجة أقل من الضرورة، فهي كل حالة يترتب عليها حرج شديد وضيق بيِّن، ولذا فإنها تصلح شبهة لدرء الحد، ولكنها لا تمنع الضمان والتعزير.

من أجل ذلك أجمع الفقهاء على أنه لا قطع بالسرقة عام المجاعة، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«لا تقطع في عذق، ولا في عام السنة» (4).

(1)«المبسوط» (9/ 140)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 162)، و «المغني» (10/ 288)، و «المحلي» (11/ 343)، و «الفتاوى الهندية» (2/ 176).

(2)

سورة البقرة: 173.

(3)

سورة النساء: 29.

(4)

ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (10/ 242)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 343)، وانظر «الإرواء» (2428).

ص: 104

وفي قصة غلمة حاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة رجل من مزينة وأتى

بهم إلى عمر معترفين: «ثم قال عمر: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونها وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنَّك غرامة توجعك (يعني: عبد الرحمن بن حاطب) ثم قال: يا مزني، بكم أريد منك ناقتك؟ قال: بأربع مائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة» (1).

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله (2):

«وإسقاط القطع عن السارق في عام المجاعة هو محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة، فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسدُّ به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانًا، على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجانًا، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج.

وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَه التي يذكرها كثير من الفقهاء

لاسيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميَّز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فَدُرئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغنٍ عن السرقة قطع» اهـ.

(جـ) شبهة: قول السارق: هذا ملكي (3):

هذه من الشبهة التي يقررها جماعة من العلماء منهم الشافعية والحنابلة، ويسميه الشافعي: السارق الظريف.

وابن القيم - رحمه الله تعالى - يندد بذلك ويبطل هذه الشبهة ويرى أنها من الحيل المحرمة لإبطال حد السرقة فيقول:

(1) إسناده منقطع: أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 123)، وعنه الشافعي (267).

(2)

«إعلام الموقعين» (3/ 23).

(3)

«نهاية المحتاج» (7/ 422)، و «كشاف القناع» (6/ 143)، و «إعلام الموقعين» (3/ 257)، و «الحدود والتعزيرات» (ص 376 - 377).

ص: 105

(الحيلة على إسقاط حد السرقة بقول السارق: هذا ملكي وهذه داري وصاحبها عبدي - من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع. ونحن نقول: معاذ الله أن يجعل في فِطَر الناس وعقولهم قبول مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يشرع لهم قبوله.

وكيف يظن بالله وشرعه ظن السوء: أنه شرع رد الحق بالباطل الذي يقطع كل أحد ببطلانه. وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه. ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟. ومن له مسكة من عقل وإن بلى بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور. وبالله وياللعقول! أيعجز سارق قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلص من قطع اليد. فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان).

وقال أيضًا في معرض بيانه لبطلان الحيل:

(ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس، وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي. والدار التي دخلتها داري. والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك.

فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة. فضلًا عن شريعة نبي من الأنبياء؟ فضلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم).

ثانيًا: شروط تعتبر في المسروق منه:

1 -

أن يكون المسروق منه معلومًا ويطالب بماله (1): فيُدرأ الحدُّ عن السارق عند الجمهور - خلافًا للمالكية - إذا كان المسروق منه مجهولًا، بأن ثبتت السرقة ولم يُعرف مَن هو صاحب المال المسروق، لأن إقامة الحد تتوقف على دعوى المالك أو من في حكمه، ولا تتحقق الدعوى مع الجهالة، غير أن هذا لا يمنع من حبس السارق حتى يحضر من له حق الخصومة ويدعى ملكية المال.

فائدة:

ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين وهي المذهب) إلى أنه يشترط لإقامة الحد: مطالبة المسروق منه بماله، لحديث صفوان بن أمية أنه: قدم المدينة فنام في المسجد متوسِّدًا رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه من

(1)«البدائع» (7/ 81)، و «المدونة» (16/ 68)، و «الأم» (6/ 141)، و «كشاف القناع» (6/ 118).

ص: 106

تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع يده، فقال صفوان: إني لم أُرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلَّا قبل أن

تأتيني به؟» (1).

بينما ذهب مالك - وهو الرواية الأخرى عن أحمد - إلى أنه لا تشترط المطالبة لعموم الآية إذ ليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله، وهو متعقب بحديث صفوان، وهو مخصص لعموم الآية.

2 -

أن يكون له يد صحيحة على المسروق (2): أي يكون المسروق منه مالكًا للمسروق أو وكيلًا لمالكه أو مودعًا أو مستعيرًا أو دائنًا مرتهنًا أو مستأجرًا ونحو ذلك؛ لأن هؤلاء ينوبون عن المالك في حفظ المال وإحرازه.

فإذا لم يكن للمسروق منه يد صحيحة على المال كأن يكون غاصبًا له أو سارقًا، فذهب الحنابلة والشافعية - في الراجح عندهم - إلى أنه لا يقام عليه الحدُّ، لأن من يأخذ من يد أخرى فكأنه وجد مالًا ضائعًا فأخذه.

وقال المالكية: يقام عليه الحد، لأنه سرق مالًا محرزًا لا شبهة له فيه، لأن يد المالك لهذا المال لا تزال باقية عليه رغم سرقته أو غصبه، وهو قول مرجوح للشافعية.

وفرَّق الحنفية بين السارق من الغاصب - فيقطع لأن يده يد ضمان فهي يدٌ صحيحة - وبين السارق من السارق فلا يقطع لأن يده ليست يد مالك ولا يد أمانة ولا يد ضمان، فلا تكون صحيحة.

قلت: والأظهر أنه يقام عليه الحد ما دام في حرز غيره، ولا دليل على اعتبار صحة يده عليه من عدمها، والله أعلم.

3 -

أن يكون المسروق منه معصوم الدم (3): بأن يكون مسلمًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم

» الحديث (4). أو ذميًّا، فيحد السارق المسلم أو الذمي إذا سرق الذمي عند جمهور الفقهاء.

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 68، 69، 70)، وابن ماجة (2595)، وأحمد (6/ 465)، والبيهقي (8/ 265)، والحاكم (4/ 380)، وابن الجارود (828).

(2)

«البدائع» (7/ 71)، و «المدونة» (6/ 19)، و «المهذب» (2/ 299)، و «كشاف القناع» (6/ 1401).

(3)

«البدائع» (7/ 69)، و «المدونة» (6/ 270)، و «المهذب» (2/ 256)، و «المغني» (10/ 76).

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1218).

ص: 107

وأما إذا كان المسروق منه حربيًّا فلا يقام الحد على السارق المسلم أو الذمي باتفاق الفقهاء لأن مال الحربي هدر بالنسبة لهما.

وأما مال المستأمن، فقال الحنفية - عدا زفر - والشافعية: لا يقام الحد على المسلم إذا سرق من ماله، لأن في ماله شبهة الإباحة باعتبار أنه من دار الحرب.

وقال المالكية والحنابلة - وزفر من الحنفية -: مال المستأمن معصوم، فإذا سرق منه مسلم أو ذمي أقيم عليه الحد.

ثالثًا: شروط تعتبر في المال المسروق:

1 -

أن يكون مالًا متقوَّمًا (محترمًا شرعًا)(1):

فلو سرق ما لا قيمة له في نظر الشرع، كالخنزير والخمر والميتة وآلات اللهو،

والكتب المحرَّمة، والصليب والصنم - فلا قطع عليه عند عامة الفقهاء، ويحسن ههنا التنبيه على الفوائد التالية:

(أ) يرى المالكية وأبو يوسف من الحنفية أن من سرق آنية فيها خمر، وكانت قمة الآنية بدون الخمر تبلغ النصاب، أقيم عليه الحد، وكذلك لو سرق صليبًا يبلغ النصاب عند أبي يوسف وابن حزم.

(ب) يرى الشافعية أن من سرق آلات اللهو أو آنية الذهب والفضة أو الصنم أو الصليب أو الكتب غير المحترمة شرعًا، يقام عليه الحد إذا بلغت قيمة ما سرق نصابًا بعد كسره أو إفساده.

وكذلك قال المالكية وقيدوه بأن يكسره داخل الحرز.

وأما الحنابلة فلا يقطع وإن بلغت بعد إتلافها نصابًا؛ لأنها تعين على المعصية فكان له الحق في أخذها وكسرها، وفي ذلك شبهة تدرأ الحد، لكن لو كان على هذه الآلات حلية تبلغ نصابًا ففي إقامة الحد بسرقتها عندهم روايتان:

(أ) إذا سرق خمرًا من ذمي، فقال أبو حنيفة ومالك والثوري: لا قطع

(1)«البدائع» (7/ 67 - 69)، و «ابن عابدين» (3/ 273 - 275)، و «فتح القدير» (4/ 227 - 232)، و «المدونة» (16/ 77)، و «الدسوقي» (4/ 336)، و «الخرشي» (8/ 96)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 1095)، و «المغني» (10/ 24 - 284)، و «كشاف القناع» (6/ 78، 130)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 364)، و «المحلي» (11/ 334 - 338).

ص: 108

عليه، ولكن يغرم لها مثلها (!!) وقال الشافعي وأحمد وأصحابهما: لا قطع عليه في ذلك ولا ضمان، وانتصر له ابن حزم، وهو الأقوى.

(ر) يرى ابن حزم أن من سرق ميتة فإنه يقطع، قال: لأن جلدها باق على ملك صاحبها يدبغه فينتفع به ويبيعه.

(هـ) هل يقطع من سرق إنسانًا حُرًّا؟ (1)

ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن من سرق إنسانًا حرًّا فلا يقام عليه الحدُّ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، لأنه سرق ما ليس بمال، حتى لو كان يرتدي ثيابًا غالية الثمن أو يحمل حلية تساوي نصابًا، لأن ذلك تابع للصبي.

وعند الحنابلة رواية: أنه إن قصد بسرقته المال قطع.

وذهب الحسن البصري والشعبي ومالك وإسحاق وابن حزم إلى أن من سرق الحر يقطع، لما يُروى عن عائشة «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أُتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يده» (2).

وأما العبد الصغير الذي لا يفهم فإن سارقه سارق مال فعليه القطع بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا كان مميزًا فإن بعضهم قد أسقط القطع عن سارقه، لأنه لولا أنه أطاعه ما أمكنه سرقته!! قال ابن حزم: وهذا لا ينبغي أن يُطلق إطلاقًا لأنه من الممكن أن يسرقه وهو نائم أو سكران أو مغمى عليه أو متغلبًا عليه متهددًا بالقتل. قلا يقدر على الامتناع، فإذا كان كذلك فهي سرقة صحيحة قد تمت منه فيقطع بنص القرآن (3).

(و) هل يشترط في المال المسروق ألا يتسارع إليه الفساد؟ (4)

أسقط الحنفية - خلافًا للجمهور - القطع في سرقة ما يتسارع إليه الفساد:

كاللبن واللحم أو الثمار والفواكه الرطبة، وأما إذا كانت الثمار يابسة وآواها الجرين ففيها القطع.

(1) المراجع السابقة، و «المحلي» (11/ 236 - 237).

(2)

باطل: أخرجه الدارقطني (2/ 202)، وضعَّفه، والبيهقي (8/ 268)، وقال الألباني في «الإرواء» (2407): موضوع.

(3)

«المحلي» لابن حزم (11/ 236).

(4)

«فتح القدير» (5/ 130)، و «المغني» (10/ 247)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 367) وما تقدم من المراجع.

ص: 109

ومدار هذا الخلاف هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلَّق، فقال:«ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجَنِّ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» (1).

فرأى الحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة لأنه يسرع إليه الفساد لرطوبته، وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد، فجعلوه أصلًا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه.

وأما الجمهور فمدار التعليل عندهم على الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة، وهو الصحيح ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها، ففي رواية النسائي لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت

في ثمن المجن» (2).

(ز) هل يقطع سارق المصحف؟ (3)

ذهب أبو حنيفة وأصحابه - وهو المذهب عند الحنابلة - إلى أن سارق المصحف لا يقطع، لأن له فيه حق التعليم؛ لأنه ليس له منعه عمن احتاج إليه.

وذهب مالك والشافعي وبعض الحنابلة وأبو يوسف من الحنفية، والظاهرية إلى أنه يقطع إذا بلغت قيمته نصابًا؛ لأن الناس يعدونه من نفائس الأموال، وردَّ ابن حزم على شبهة الحنفية بأن حق التعليم في التلقين فقط لا في المصحف إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة ولا إجماع وإنما فرض على الناس تعليم بعضهم بعضًا القرآن تدريسًا وتحفيظًا وهكذا كان جميع الصحابة رضي الله عنهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف من أحد أنه لم يكن هناك مصحف

، فبطل قولهم: إن للسارق حقًّا في المصحف، وصحَّ أن لصاحب المصحف منعه من كل أحد إذ لا ضرورة بأحد

(1) حسن: أخرجه أبو داود (4390)، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 85).

(2)

حسن: أخرجه النسائي (8/ 78).

(3)

«البدائع» (7/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 249)، و «المحلي» (11/ 337).

ص: 110

إليه، فصح أن القطع واجب في سرقة المصحف، كانت عليه حلية أو لم تكن لقوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (1). وكذلك القول في كتب العلم النافعة، والله أعلم.

2 -

أن يبلغ المسروق نصابًا:

المراد بالنصاب هنا: الحد الأدنى الذي لو سرق أقل منه لم يقطع، وإذا سرقه قطع.

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم إقامة الحد إلا إذا بلغ المال المسروق نصابًا، لكنهم اختلفوا في تحديد مقدار هذا النصاب اختلافًا كبيرًا على ما يقرب من عشرين مذهبًا (!!)، وأشهر هذه المذاهب أربعة:

الأول: لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم (2): وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول عطاء، واحتجوا بما يلي (3):

1 -

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» (4).

وفي لفظ: «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المِجَنِّ» .

وقد اختلفوا في تحديد ثمن المجن، فمنهم من قَدَّره بثلاثة دراهم، ومنهم من قدَّره بأربعة، ومنهم من قدرة بخمسة، ومنهم من قدَّره بعشرة، فرأى الحنفية أن الأخذ بالأكثر أولى، لأن في الأقل احتمالًا يورث شبهة تدرأ الحد.

2 -

حديث ابن عباس قال: «قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» (5) وأجيب: بأنه لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه.

الثاني: النصاب الذي يجب القطع بسرقته، ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما: بمعنى أن كل واحد من الذهب والفضة معتبر بنفسه، فإذا كان المسروق من غير الذهب أو الفضة قُوِّم

(1) سورة المائدة: 38.

(2)

الدينار: نقد من الذهب، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (4. 25) جرامًا، والدرهم: نقد من الفضة، كان وزنه في الدولة الإسلامية يعادل (2. 975) جرامًا.

(3)

«البدائع» (7/ 77)، و «فتح القدير» (4/ 220)، و «المبسوط» (9/ 137).

(4)

ضعيف: أخرجه بهذا اللفظ الدارقطني (4/ 193) بسند ضعيف وله ألفاظ، انظر:«فتح الباري» (12/ 105).

(5)

إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (4387)، وله عند النسائي (4947) شاهد مرسل.

ص: 111

بالدراهم (أي الفضة)، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم ولم تبلغ ربع دينار أقيم الحد، وإن بلغت قيمته ربع دينار ولم تبلغ ثلاثة دراهم فلا حدَّ، أي أن الأصل - على هذا القول - الفضة.

وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، وبه قال إسحاق، ويحكى عن الليث وأبي ثور (1).

واحتجوا بما يلي:

1 -

حديث ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجّنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» (2).

2 -

حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا» (3).

فأخذوا بحديث عائشة فيما إذا كان المسروق من الذهب، وبحديث ابن عمر فيما إذا كان المسروق فضة أو شيئًا غير الذهب والفضة، وأيَّدوا هذا بما روي عن بعض الصحابة:

3 -

فعن أنس: «أن سارقًا سرق مجنًّا - ما يسرُّني أنه لي بثلاثة دراهم، أو: ما يساوي ثلاثة دراهم - فقطعه أبو بكر» (4).

4 -

وعن عمرة قالت: «أُتي عثمان برجل قد سرق أُترجَّة، فأمر بها عثمان فقُوِّمت بثلاثة دراهم من صرف: اثنى عشر درهمًا بدينار، فقطع يده» (5).

الثالث: النصاب ربع دينار من الذهب أو ما قيمته ذلك: بمعنى أن الأصل في التقويم الذهب، فلا يقام الحد على من يسرق ثلاثة دراهم أو ما قيمته ثلاثة دراهم، إذا قلَّت قيمتها عن ربع دينار.

(1)«الدسوقي» (3/ 333)، و «جواهر الإكليل» (2/ 290)، و «المغني» (10/ 242)، و «كشاف القناع» (4/ 78)، و «الإنصاف» (10/ 262).

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (6796)، ومسلم (1686).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري (6790)، ومسلم (1684) واللفظ له.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 236)، والشافعي (274 - شفاء العي)، والبيهقي (8/ 259).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 237)، ومالك (1574)، وعنه الشافعي (273).

ص: 112

وهذا مذهب الشافعي، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وابن المنذر (1)، وحجتهم:

1 -

حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» (2).

قالوا: وهو قولٌ أقوى في الاستدلال من الفعل المجرَّد، وهو صريح في

الحصر، وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها.

2 -

أن حديث عائشة قد رُوي بلفظ: «اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» قالت: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنى عشر درهمًا (3).

قلت: وهو ضعيف بهذا اللفظ.

3 -

أن المعوَّل عليه في القيمة الذهب، لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالًا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير، بأن الصكاك القديمة كان يُكتب فيها:(عشرة دراهم: وزن سبعة مثاقيل) فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها.

الرابع: يقطع في القليل والكثير، إلا الذهب فلا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا: وهو مذهب أبي محمد بن حزم، ووافقه على القطع في القليل والكثير: الحسن وبعض أصحاب الشافعي (4)، واحتجوا لهذا بما يلي:

1 -

عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (5).

قالوا: وهو يشمل القليل والكثير.

2 -

حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله

السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (6).

(1)«مغني المحتاج» (4/ 158)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «المغني» (10/ 242)، و «فتح الباري» (12/ 109).

(2)

صحيح: تقدم قريبًا.

(3)

ضعيف بهذا اللفظ: أخرجه أحمد (6/ 80)، والبيهقي (8/ 255)، وانظر:«الإرواء» (2409).

(4)

«المحلي» (11/ 351)، و «مغني المحتاج» (4/ 158)، و «المغني» (10/ 242).

(5)

سورة المائدة: 38.

(6)

صحيح: أخرجه البخاري (6799)، ومسلم (1687).

ص: 113

قالوا: وهو نصٌ جليٌّ على أنه لا حدَّ فيما يجب القطع فيه في السرقة فتقطع كل ما له قيمة قلَّت أو كثرت، وأما الشيء التافه الذي لا قيمة له أصلًا فلا قطع فيه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:«لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن: ترس أو حجفة، وكان كلُّ واحدٍ منهما ذا ثمن» (1).

ثم استثنى ابن حزم من هذا العموم: الذهب، فإذا كان المسروق ذهبًا -فقط- فإنه يقطع إذا كان ربع دينار فصاعدًا، لحديث عائشة في ذلك.

ويبقى ما دون الذهب من المسروقات - عنده - يُقطع في كثيرها وقليلها.

الراجح مما تقدم:

والذي يترجَّح لي أن أقرب هذه الأقوال: الثاني والثالث، لكن جعل النصاب مقدرًا بالذهب (ربع دينار = 1. 0625 جرام) أقوى؛ لما تقدم من أدلة الشافعية، ولأن الأشياء والعملات الورقية المتداولة في هذه الأزمان قيمتها مقدرة بالذهب، والله أعلم.

ويبقى الجواب عن حديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده

». فقيل: المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدًا وكذا الحبل (2)، وقيل:

المعتبر قيمة النصاب وقت السرقة (3):

اتفقت المذاهب الأربعة على أن المعتبر قيمة النصاب وقت إخراجه من الحرز، فإن كانت قيمة المسروق تقل عن النصاب حين السرقة، ثم زادت حتى بلغته بعد إخراجه من الحرز، فلا يقام الحدُّ.

أما إن كانت قيمة المسروق - وقت إخراجه من الحرز - نصابًا، ثم نقصت بعد ذلك، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقام الحدُّ سواء أكان النقص في عين المسروق بأن هلك بعضه في يد السارق بعد إخراجه، أم كان بسبب تغيُّر الأسعار.

وقال الحنفية: فيه تفصيل، فإن كان النقص في عين المسروق فإن هلك في يد

(1) صحيح: أخرجه البخاري (6794).

(2)

انظر: «فتح الباري» (12/ 110).

(3)

«البدائع» (7/ 79)، و «المدونة» (16/ 90)، و «نهاية المحتاج» (7/ 420)، و «المغني» (10/ 278).

ص: 114

السارق، فلا عبرة بهذا النقص فيُحدُّ، أما إن كان بسبب تغيُّر الأسعار ففي المذهب روايتان، الأولى: العبرة بالقيمة حين السرقة فيحدُّ كما قال الجمهور، والأخرى: إذا نقصت قيمة المسروق عن النصاب قبل الحكم فلا يقام الحدُّ، لأنه لا دخل للسارق في ذلك، ولأن النقص عند الحكم يورث شبهة تدرأ الحدَّ.

3 -

أن يكون المسروق محرزًا:

الْحرِزُ - عند الفقهاء -: الموضع الحصين الذي يحتفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعدُّ صاحبه مضيِّعًا له بوضعه فيه.

وقد ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن حدَّ السرقة لا يقام إلا إذا أخذ السارق النصاب من حرزه، لأن المال غير المحرز ضائع

بتقصير من صاحبه (1).

واحتج الجمهور بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة (2) التي توجد في مراتعها؟ فقال: «فيها ثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من عطنه (3) ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» قال: يا رسول الله، فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال:«من أخذ بفمه ولم يتخذ خُبْنة (4) فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرائه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» (5).

وفيه اعتبار الحرز، فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين، وكذلك في الشاة، وهذا الحديث مخصص لعموم قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما} (6).

(1)«البدائع» (7/ 66)، و «الدسوقي» (4/ 338)، و «مغني المحتاج» (4/ 164)، و «كشاف القناع» (6/ 110).

(2)

يريد: الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل.

(3)

العطن: الموضع الذي يترك فيه الإبل على الماء.

(4)

ما يحمله الإنسان في حضنه أو ثوبه.

(5)

حسن: تقدم تخريجه.

(6)

سورة المائدة: 38.

ص: 115

والحِرْزُ نوعان (1):

1 -

حرز بنفسه (حرز المكان): وهو كل مكان مُعدٍّ للإحراز، يُمنع الدخول

فيه إلا بإذن، كالدار والبيت.

2 -

حرز بغيره (حرز الحافظ): وهو كل مكان غير مُعدٍّ للإحراز، لا يُمنع أحدٌ من دخوله، كالمسجد والسوق، ولا يكون حرزًا إلا إذا كان عليه حافظ، أي: شخص يحرسه.

وضابط الحرز وتحديد مفهومه يرجع إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، ونوع المال المراد حفظه، وباختلاف حال السلطان من العدل والجور، ومن القوة والضعف.

ولذا اختلف الفقهاء في الشروط الواجب توافرها ليكون الحرز تامًّا، وبالتالي يقام الحد على من يسرق عنه، وهذا مبسوط في كتب الفروع.

وإليك بعضًا من الأحراز مما دلت عليه الوقائع في عهد النبوة:

(أ) حرز الثمار:

دلَّ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - المتقدم - فيمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمار المعلقة، أن الجرين (وهو موضع تخرين الثمار) هو حرز الثمار، فلو سرقت من الجرين ففيها القطع، أما سرقة الثمار المعلقة في أشجارها فلا قطع فيها، وإنما يعزَّر السارق بأن يدفع ثمنها مضاعفًا، مع ضربه أو حبسه ويشهد لذلك حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا قطع في ثَمَر ولا كَثَر» (2).

وبهذا قال جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة (3) إلا أن الحنفية يشترطون

(1)«البدائع» (7/ 73)، و «الخرشي» (8/ 117)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 190)، و «المغني» (10/ 251).

(2)

صححه الألباني: أخرجه أبو داود (4388 - 4389)، والنسائي (8/ 87)، وابن ماجة (2593)، وأحمد (3/ 63 - ومواضع)، وابن الجارود (826)، والبيهقي (8/ 263)، وابن حبان (4466) وغيرهم، وقد ورد على أوجه مختلفة، والظاهر أن أرجحها الطريق المنقطعة، لكن صححه الألباني في «الإرواء» (8/ 73) وهو محتاج إلى مزيد بحث، وانظر:«شفاء العي» لشيخنا أبي عمير الأثري - حفظه الله - (2/ 166 - 168).

(3)

«البدائع» (7/ 69)، و «الدسوقي» (4/ 144)، و «مغني المحتاج» (4/ 173)، و «المغني» (10/ 262).

ص: 116

أن تكون الثمار جافة غير رطبة ليقطع، وقد تقدمت الإشارة إلى مأخذهم في هذا ونقده.

(ب) الإنسان حرز نفسه وفراشه:

عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهمًا فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به ليقطع، فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، فقال:«هلا كان قبل أن تأتيني به» (1).

وفيه أن الإنسان حرر لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان، سواء كان في المسجد أو غيره (2).

وهذا متفق عليه - في الجملة - في المذاهب الأربعة، والحرز عندهم - هنا - بالحافظ لا بالمكان (3).

هل يُقطع الطرَّار (النشال)؟ (4)

ولهذا ذهب جمهور العلماء منهم مالك والشافعي وأحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، إلى أن الطرَّار (وهو البطَّاط: الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام، وهو ما يسمى في بلادنا: النشال) يُقطع، سواء شقَّ الجيب وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم أو الجيب فأخذه من غير شقٍّ، لأن المال محرز بصاحبه، والكم تبع له.

وذهب أبو حنيفة إلى أن الطرَّار لا قطع عليه إلا إذا شق الجيب أو الكم، لأن الحرز لا يتحقق - عنده - بغير الشق إذا كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم أو الجيب، وعليه فلا قطع عندهم فيما إذا حلَّ الرباط ولم يشقَّه!!

قلت: وقول الجمهور أقوى ويتأيد بحديث صفوان المتقدم، وهو قول أبي يوسف من الحنفية.

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، وابن ماجة (2/ 865)، وأحمد (6/ 466)، والبيهقي (8/ 265).

(2)

«زاد المعاد» لابن القيم (5/ 54) ط. الرسالة.

(3)

«فتح القدير» (1495)، و «نهاية المحتاج» (7/ 428)، و «جوهر الإكليل» (2/ 292)، و «المغني» (10/ 251).

(4)

«المبسوط» (9/ 160)، و «روضة الطالبين» (10/ 123)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 333)، و «القرطبي» (6/ 70) والمراجع المتقدمة.

ص: 117

(جـ) هل يعتبر المسجد حرزًا لما فيه؟

لا يخلو ما يمكن سرقته من المسجد من أن يكون أحد ثلاثة أنواع:

1 -

ما يعتاد وضعه في المسجد من أدواته المعدة للاستعمال فيه: كالحصر والبُسُط والقناديل ونحوها، فهذه اختلف أهل العلم في قطع سارقها (1):

فذهب الحنفية والشافعية وهو المعتمد عند الحنابلة إلى أنه لا يقطع، لأن له

فيها حقًّا وهو الجلوس على الفراش والشرب عن السِّقاء ونحو ذلك من آلات المسجد وهي شبهة تدرأ الحدَّ، فإن لم يكن له فيها حق - كأن كان ذميًّا غير مسلم - قطع.

وعدم القطع عند الحنفية مقيَّد بما إذا لم يكن به حارس، لأن السجد يعتبر - عندهم- حرزًا بالحافظ، أما إذا كان للمسجد حارس فإنه يكون محرزًا به فيقطع.

وذهب المالكية - وهو وجه عند الحنابلة والشافعية - إلى أن سارق الحصر والقناديل يُقطع.

2 -

ما جعل لعمارة المسجد كالبناء والسقف أو لتحصينه كالأبواب والشبابيك أو لزينته كالستائر والقناديل المعلقة (2): فنصَّ المالكية والشافعية والحنابلة - في رأيٍ - على أن المسجد يعتبر حرزًا بنفسه في هذه الأشياء، فيقام الحد على سارقها، وعند الحنابلة رأى آخر: أنه لا يقام الحد على من يسرق من المسجد سواء كان المسروق لعمارته وزينته أو كان معدًّا للانتفاع به، لأن المسجد لا مالك له من المخلوقين ولأنه معدٌّ لانتفاع المسلمين به، فكان ذلك شبهة تدرأ الحد سوا اعتبرت السرقة من حرز بنفسه أو من حرز بالحافظ.

3 -

ما يضعه صاحبه في المسجد مما هو ملك له لا للمسجد (3):

فلا يقام الحدُّ على من سرق متاعًا تركه صاحبه في المسجد، لأن المسجد لا يعتبر من الأماكن المعدة لحفظ الأموال، ويُدخل إليه بلا إذن، فأما إذا سرق المتاع

حالة وجود الحافظ (الحارس) فإنه يقام الحد على السارق، وعلى هذا يحمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسًا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم» (4).

(1)«البدائع» (7/ 74)، و «مواهب الجليل» (6/ 309، 313)، و «نهاية المحتاج» (7/ 425)، و «القليوبي» (4/ 192)، و «المغني» (10/ 254)، و «كشاف القناع» (4/ 83)، و «الإنصاف» (10/ 275).

(2)

، (2) المراجع الفقهية السابقة.

(3)

(4)

صحيح: أخرجه أبو داود (4386)، والنسائي (8/ 77)، وأحمد (2/ 145).

ص: 118

فائدة: مذهب الظاهرية وجوب قطع السارق من المسجد مطلقًا بناءً على أصلهم في عدم اعتبار الحرز شرطًا (1).

مسائل متعلقة باعتبار الحرز:

الأول: هل يقطع جاحد العاريَّة أو خائن الأمانة؟ (2)

من استعار من غيره شيئًا - مما يبلغ النصاب - ثم جحده وأنكره حينما طولب به، فقد اختلف أهل العلم في قطعه بذلك على قولين:

الأول: يقطع جاحد العارية، وهو قول الإمام أحمد في أشهر الروايتين - وهو المعتمد في مذهبه - وهو مذهب الظاهرية، وانتصر له ابن حزم وابن القيم.

وعمدة هذا القول:

1 -

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة

بن زيد رضي الله عنهما فكلَّموا النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (3).

2 -

حديث ابن عمر: أن امرأة كانت تستعير الحلي من الناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ من القوم» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا بلال، فخذ بيدها فاقطعها» (4).

الثاني: لا قطع على جاحد العارية: وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، وقد أجابوا عن حديث المخزومية بما يلي:

(1) انظر: «المحلي» لابن حزم (11/ 329).

(2)

«فتح القدير» (5/ 136)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «نهاية المحتاج» (7/ 436)، و «المغني» (10/ 240)، و «الإنصاف» (10/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 104)، و «فتح الباري» (12/ 91)، و «المحلي» (11/ 358)، و «تفسير القرطبي» ، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 404)، و «إعلام الموقعين» (2/ 62)، و «تهذيب السنن» (6/ 209).

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والنسائي (8/ 63 - 68).

(4)

صحيح: أخرجه النسائي (8/ 63 - 64) بسند صحيح، وأخرجه أبو داود (4395)، والنسائي (8/ 70)، وأحمد (2/ 151) وغيرهم عن ابن عمر مختصرًا بلفظ:«أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها» وسنده صحيح على شرط الشيخين.

ص: 119

1 -

أنه قد ثبت من وجه آخر عن عائشة - نفسها - بلفظ (سرقت) بدلًا من (تستعير المتاع وتجحده)، فعنها: أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - فقال: «أتشفع في حد من حدود الله

» الحديث بنحوه (1).

(أ) قالوا: ورواية (سرقت) أرجح، لأن الأخرى تفرَّد بها معمر عن الزهري، وخالفه الليث ويونس وأيوب بن موسى عن الزهري فقالوا (سرقت) ومعمر لا يقاومهم فروايته شاذة!!

وأجيب: بأن معمرًا لم يتفرد بهذا اللفظ، بل تابعه شعيب ويونس وابن أخي الزهري وأيوب بن موسى - أيضًا - عن الزهري به، ثم قد صح من حديث ابن عمر بنحوه كما تقدم فصحَّ الحديث، ولذا قال الحافظ: وعلى هذا فيتعادل الطريقان، ويتعيَّن الجمع فهو أولى من اطّراح أحد الطريقين. اهـ.

(ب) قالوا: لا شك أن القصة - في الحديثين - لامرأة واحدة استعارت وجحدت، أو سرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، وإنما ذكر العارية والجحد في هذه القصة تعريفًا لها بخاص صفتها، قالوا: ويترجَّح أنها قُطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه:

أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية: «لو أن فاطمة سرقت» وفيه دلالة قاطعة (!!) على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيًّا، ولقال:(لو أن فاطمة جحدت العارية)، ثانيهما: أنها لو كانت قطعت في جحد العارية، لوجب قطع كل من جحد شيئًا، إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية.

ثالثها: أن ذلك يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب قطع» (2) والمستعير الجاحد خائن، فلا يقطع.

قال الحافظ: وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ

وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب، إلا إن كان قاطع طريق. اهـ.

(1) صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373)، والترمذي (1430)، والنسائي (8/ 65).

(2)

صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 120

وناقش أصحاب هذا القول هذه الأوجه:

(أ) فقال ابن القيم: «وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر، فكلام في غاية الفساد لو صح مثله - وحاشا وكلا - لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف، وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض المقلدين من الاتباع» ثم بيَّن أن لفظ ابن عمر يبطل هذا القول، فقال: ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة، وفي الأخرى على الجحد - على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعَلَمية، فكل من الروايتين دلَّ على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك. اهـ (1).

ثم أجاب هو وغيره (2) عن استدلال الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم في آخره «لو أن فاطمة سرقت» بأنه لا ينافي ذم جحد العارية، بل هو دليل على إدخال النبي صلى الله عليه وسلم جاحد العارية في اسم السارق - كإدخال

سائر المسكرات في اسم الخمر - وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه، فيكون جاحد العارية - إن لم يسمَّ سارقًا لغةً - فهو سارق شرعًا، والشرع مقدَّم على اللغة.

(ب) وأما قياسهم جاحد العارية على جاحد الوديعة بجامع الخيانة في كل منهما، فينتج أنه لا قطع عليه، فاعترض ابن القيم بأنه قياس مع الفارق، إذ إن جاحد العارية لا يمكن الاحتراز منه، بخلاق جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرَّط حيث ائتمنه، فهو إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المال، وتعقَّبه الحافظ بقوله: وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر رضي الله عنه «ليس على خائن

قطع» اهـ.

(جـ) وناقش ابن حزم كلام الجمهور من وجه آخر فقال: «هَبْكَ أنها امرأة واحدة وقصة واحدة، فلا حجة فيها لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة لا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكر الاستعارة. إنما لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها» فهذا يخرج على وجهين - يعني ذكر السرقة (3) -:

(1)«تهذيب السنن» (6/ 211)، و «فتح الباري» (12/ 94).

(2)

انظر ما سبق، مع «زاد المعاد» (5/ 50)، و «الروضة الندية» (2/ 281).

(3)

يعني في قول الراوي: «في المخزومية التي سرقت» .

ص: 121

أحدهما: أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة فيخبر عنها بلفظ السرقة.

والوجه الآخر: هو أن الاستعارة ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازًا؛ لأن المستعير إذا أتي على لسان غيره، فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره، يورِّى

بالاستعارة لنفسه أو لغيره ثم يملكه مستترًا مختفيًا، فهذه هي السرقة نفسها دون تكلُّف فكان هذا اللفظ خارجًا عما ذكرنا أحسن خروج، وكان لفظ العارية لا يحتمل وجهًا آخر أصلًا». اهـ.

2 -

ومما استدل به الجمهور على عدم القطع لجاحد العارية: أن الحرز غير متوفِّر في العارية، إذ المعير قد سلَّط المستعير على ماله وجعله تحت يده، وهذا بخلاف السرقة من حرز فافترقا.

قلت: نعم، لولا أن النص ثابت في قطع المخزومية بجحد العارية على ما بيَّنه مناقشو الجمهور. وعليه فالذي يظهر لي أن جاحد العاريَّة يقطع، وأما حديث «ليس على خائن قطع» (1) فلو ثبت - وفيه كلام - فيخرج من عمومه جاحد العارية إما بالنصِّ، وإما باعتبار الفارق الذي ذكره ابن القيم، والله أعلم.

وأما خائن الأمانة: فالذي يظهر أنه قد أطبق الفقهاء - ومعهم ابن القيم - خلافًا لابن حزم على أنه لا يُقطع؛ لحديث جابر «ليس على خائن قطع» (2) ولعدم توفر الحرز.

وأما ابن حزم فإنه يضعِّف حديث جابر، ولا يعتبر الحرز شرطًا لإقامة الحدِّ أصلًا، والله تعالى أعلم بالصواب.

المسألة الثانية: هل يُقطع النبَّاش؟ (3)

النبَّاش: هو الذي يسرق أكفان الموتى بعد دفنهم في قبورهم.

وقد اختلف أهل العلم في حكمه وفي اعتباره سارقًا، فذهب الجمهور منهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف - من الحنفية - وابن حزم إلى أن النباش سارق، لانطباق حدِّ السرقة عليه، فيقطع.

وذهب أبو حنيفة ومحمد والأوزاعي والثوري، إلى أنه لا يعتبر سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا مالك له، وليس مرغوبًا فيه، وأخذه من غير حرز، فيعزَّر ولا يقطع.

(1)، (2) صححه الألباني: وسيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

«المبسوط» (9/ 156)، و «فتح القدير» (5/ 374)، و «الدسوقي» (4/ 340)، و «تكملة المجموع» (18/ 321)، و «كشاف القناع» (6/ 138)، و «المحلي» (11/ 329).

(3)

ص: 122

قلت: والصواب قول الجمهور من اعتبار النباش سارقًا؛ لأنه يأخذ ما لا حق له في أخذه خفية من حرزه - وهو القبر - لكن يلزم الجمهور - إلا ابن حزم (1) - أن لا يقطعوه إلا إذا كانت قيمة الكفن نصابًا، ولا أظنه يبلغه، والله أعلم.

رابعًا: شروط تعتبر في طريقة أخذ المسروق:

1 -

أن يأخذ السارق المال بعد هتك الحرز (2):

لا يعتبر مجرد الأخذ سرقة عند جمهور الفقهاء، إلا إذا نتج عن هتك الحرز، كأن يفتح السارق أغلاله ويدخل، أو يكسر بابه أو شباكه، أو ينقب في سطحه أو جداره، أو يدخل يده في الجيب لأخذ ما به، أو يأخذ ثوبًا توسَّده شخص نائم، أو نحو ذلك؛ ولا يشترط عند الجمهور - خلافًا للحنفية - دخول السارق الحرز

لتحقيق الأخذ وهتك الحرز، فدخول الحرز ليس مقصودًا لذاته، بل لأخذ المال، فإذا تحقق المقصود بمد اليد داخل الحرز وإخراج المال، كان ذلك كافيًا في هتك الحرز وأخذ المال.

ويؤيده ما في حديث جابر مرفوعًا: «

حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرُّ قصبه في النار، وكان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فُطن له قال: إنما تعلَّق بمحجني؛ وإن غفل عنه ذهب به» (3).

2 -

أن يأخذ المال خُفية:

يشترط الفقهاء لإقامة حد السرقة أن يؤخذ الشيء خفية واستتارًا، بأن يكون ذلك دون علم المأخوذ منه ودون رضاه، وقد نقل ابن حزم إجماع الأمة على أن السرقة هي الاختفاء بأخذ الشيء ليس له، وأن السارق هو المختفي. اهـ.

فإن أخذه على سبيل المجاهرة سُمِّي: مغالبة أو نهبًا أو خلسة أو اغتصابًا أو انتهابًا، لا سرقة.

وإن حدث الأخذ دون علم المالك أو من يقوم مقامه ثم رضي فلا سرقة (4).

(1) لأن ابن حزم لا يشترط للحد - في المسروق من غير الذهب - أن يبلغ نصابًا، كما تقدم.

(2)

«البدائع» (7/ 66)، و «فتح القدير» (4/ 245)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المهذب» (2/ 297)، و «المغني» (10/ 259).

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (904)، وأحمد (6447).

(4)

«البدائع» (7/ 64)، و «بداية المجتهد» (2/ 436)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 186)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 362)، و «المحلي» (11/ 327).

ص: 123

ولهذا لا يعتبر الفقهاء الخائن (1) ولا المختلس (2) ولا المنتهب (3) سارقًا،

فلا يوجبون عليه القطع، وإن وجب التعزير، ويحتجون بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع» (4).

وقد تقدم - في الشبهات حول قطع السارق - وجه الحكمة في قطع السارق دون الغاصب والمنتهب والمختلس.

3 -

إخراج المسروق من الحرز (5):

اتفق جمهور الفقهاء على وجوب إخراج المسروق من الحرز لكي يقام حدُّ السرقة، فإن كانت السرقة من حرز بالحافظ، فيكفي مجرد الأخذ، حيث لا اعتبار للمكان في الحرز بالحافظ.

وإن كانت السرقة من حرز بنفسه فلابد من إخراج المسروق من المكان المعد لحفظه، فإذا ضبط السارق داخل الحرز قبل أن يخرج بما سرقه، فلا يقطع، بل

يعزَّر، وفي هذا آثار عن عمر بن الخطاب وعثمان وعليٌّ وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز، ذكرها ابن حزم في «المحلي» (11/ 320) وفي أسانيدها مقال، وذكر خلافه عن عائشة وابن الزبير وغيرهما.

ويشترط الحنفية لإقامة الحد أن يخرج السارق بالمال من الحرز، فلو رمي بالمال

(1) الخائن: هو الذي يؤتمن على المال بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعى ضياعه أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية، والفرق بينه وبين السارق يرجع إلى قصور في الحرز.

(2)

المختلس: هو الذي يأخذ المال جهرة معتمدًا على السرعة في الهرب، فالفرق بين السرقة والاختلاس أن السرقة تعتمد على الخفية، والاختلاس على المجاهرة.

(3)

المنتهب: هو الذي يأخذ المال قهرًا، ولا يكون نهبًا حتى تنتهبه جماعة، فيأخذ كل واحد شيئًا وهي النهبة، فيظهر أن الفرق بين النهب والسرقة يعود إلى شبه الخفية، وهو لا يتوافر في النهب.

(4)

صحيح: أخرجه الترمذي (1448)، وأبو داود (4393)، والنسائي (8/ 88)، وابن ماجة (2591)، وأحمد (3/ 380)، وعبد الرزاق (18845، 18859)، والطحاوي (3/ 171)، والبيهقي (3/ 279) من طريق عن أبي الزبير عن جابر، وأبو الزبير مدلس لكنه صرَّح بسماعه من جابر في رواية عبد الرزاق، فزالت الشبهة، ثم له شواهد. انظر «الإرواء» (2403).

(5)

«البدائع» (7/ 65)، و «الخرشي» (8/ 97)، و «القليوبي» (4/ 190)، و «شرح منتهى الإرادات» (3/ 367)، و «مواهب الجليل» (6/ 308)، و «نهاية المحتاج» (7/ 437)، و «المغني» (10/ 259).

ص: 124

خارج الحرز، ثم لم يتمكن هو من الحرز، أو خرج فلم يجد المال الذي رماه، فلا يقام عليه الحد عندهم، بل يعزَّر.

وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فقد اتفقوا على أن إخراج المسروق من حرزه ومن حيازة المسروق منه يستتبع حتمًا إدخاله في حيازة السارق إدخالًا فعليًّا أو حكميَّا - كما في المثال السابق - وبالتالي يجب عليه القطع.

قلت: وهو الأرجح والله أعلم.

فائدة: إذا لم تتم السرقة، فلا يقام الحد عند جمهور الفقهاء، لكنهم يوجبون التعزير على من يبدأ في الأفعال التي تكوِّن بمجموعها جريمة السرقة، ليس باعتباره شارعًا في السرقة، ولكن باعتباره مرتكبًا لمعصية تستوجب التعزير (1).

الاشتراك في السرقة:

إذا اشترك جماعة في سرقة مال من حرز (2):

1 -

فإن كانت قيمة المسروق لو قسمت عليهم بلغ نصيب كلٍّ منهم النصاب: فإنه يقام الحدُّ علميهم جميعًا بلا خلاف بين الفقهاء، واشترط الشافعية أن يشتركوا جميعًا في إخراجه من الحرز، وإلا فإنه لا يُحدُّ عندهم إلا من اشترك في إخراج المسروق.

2 -

وإذا بلغت قيمة المسروق نصابًا لكن لا تكفي ليصيب كل واحد نصابًا فاختلف العلماء في قطعهم:

فقال الحنفية والشافعية: لا قطع على أحد منهم، وإنما يعزَّرون.

وقال المالكية والحنابلة: يُقطع الجميع، سواء كان الاشتراك في الإخراج أو كان بإخراج البعض وإعانة البعض الآخر، وسواء حدثت الإعانة بفعل مادي (كالإعانة على حمل المسروق) أو بفعل معنوي (كالإرشاد إلى مكان المسروق) أو لم يأت بعمل ما (كمن دخل الحرز مع السارق لتنبيهه إذا انكشف أمره) لأن فعل السرقة يضاف إلى كل واحد منهم.

(1)«المبسوط» (9/ 147)، و «الدسوقي» (4/ 306)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 237).

(2)

«البدائع» (7/ 65 - 66)، و «فتح القدير» (4/ 225)، و «مواهب الجليل» (6/ 310)، و «المدونة» (16/ 68)، و «مغني المحتاج» (4/ 160)، و «نهاية المحتاج» (7/ 421)، و «كشاف القناع» (4/ 79)، و «المغني» (3/ 295)، و «روضة الطالبين» (5/ 134)، و «مجموع الفتاوى» (14/ 84).

ص: 125