المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٤

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌13 - كتاب الحدود

- ‌الحدود

- ‌الجرائم الحَدِّيَّة:

- ‌(1) حَدُّ الزِّنا

- ‌اللِّواط

- ‌(2) حَدُّ القَذْفِ

- ‌شروط حدِّ القذف:

- ‌(3) حَدُّ شُربِ الخَمر

- ‌(4) حَدُّ السَّرِقَة

- ‌عقوبات السارق

- ‌(5) حَدُّ الحِرَابَةِ

- ‌6 - حَدُّ الردَّة

- ‌التَّعْزير

- ‌من صور التعزير

- ‌14 - كتاب الجنايات والديات

- ‌أولًا: الجنايات

- ‌أولًا: الجناية على النفس (القتل)

- ‌القسم الأول: القتل العمد:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌القسم الثاني: القتل شبه العمد

- ‌القسم الثالث: القتل الخطأ

- ‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

- ‌ثانيًا: الديات

- ‌15 - كتاب البيوع

- ‌أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

- ‌انعقاد البيع بالمعاطاة

- ‌انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

- ‌انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره

- ‌شروط البيع

- ‌أولًا: شروط الانعقاد

- ‌بيع الفضولي

- ‌القول في شراء الفضولي

- ‌مسائل تتعلق بما سبق

- ‌ثانيًا: شروط صحة البيع

- ‌ثالثًا: شروط النفاذ

- ‌رابعًا: شروط اللزوم

- ‌الثمن وأحكامه

- ‌أحكام الجوائح

- ‌البيوع المحرمة

- ‌البيوع المحرمة

- ‌أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:

- ‌ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:

- ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

- ‌خلاصة البحث

- ‌ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

- ‌رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها

- ‌خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها

- ‌سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها

الفصل: ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

(1)؟

وفيه مباحث:

المبحث الأول: معنى بيع التقسيط لغةً وشرعًا:

أولًا: في اللغة:

يطلق التقسيط في اللغة على معانٍ منها:

1 -

التفريق وحمل الشىء أجزاء، يقال: قسط الشىء أي فرّقه وجعله أجزاء، والدّين جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة (2).

2 -

الاقتسام بالسّويّة: يقول الليث: تقسطوا الشىء بينهم أي اقتسموه بالسوية. وفي العباب على القسط والعدل. وفي اللسان على العدل والسواء (3).

فهو بهذا المعنى تجزئة الشىء إلى أجزاء متماثلة، كتأجيل دين بخمسمائة دينار إلى خمسة أسابيع على أن يدفع منه مائة دينار كل أسبوع (4).

3 -

التقتير، يقال: قسط على عياله النفقة تقسيطًا إذا قترها عليهم. وقال الطرماح:

كفاه كف لا يرى سبيها

مقسطًا رهبة إعدامها (5)

(1) بحث في حكم البيع بالتقسيط للدكتور محمد عقلة الإبراهيم نشرته مجلة الشريعة العدد السابع (ص 135 - 219)(تصدر عن جامعة الكويت).

(2)

لسان العرب، المجلد السابع، فصل القاف، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، (1388 هـ -1968 م).

المعجم الوسيط، المكتبة العلمية، طهران، فعل قسط.

المصباح المنير، مطبعة مصطفى الحلبى، معجم متن اللغة، لأحمد رضا -باب القاف- فعل قسط.

المعجم العربى الحديث، خليل الحر، باب القاف، فعل قسط.

(3)

تاج العروس، المجلد الخامس، فصل القاف من باب الطاء، قسط: دار ليبيا للنشر، بنغازى، القاموس المحيط: الفيروزابادى، فصل القاف، باب الطاء.

(4)

درر الحكام شرح مجلة الأحكام: مكتبة النهضة، بيروت، بغداد.

(5)

تاج العروس، لسان العرب، المعجم الوسيط.

ص: 319

4 -

والقسط الحصة والنصيب: يقال: تقسطنا الشىء بيننا أي أخذ كل حصته ونصيبه. ويقال: وفاه قسطه أي نصيبه وحصته (1).

ومن خلال استعراضنا لهذه المعانى يظهر أن المعنيين الأول والثانى هما أقربها إلى المعنى الشرعى الاصطلاحى لبيع التقسيط. فهما يفيد أن تفريق الشىء إلى أجزاء على وجه من العدل والمساوة، وإذا كان الشىء المقسط هو الدّين فالمراد جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة.

ثانيًا: في الاصطلاح الشرعى:

من المعانى التي يمكن اعتبارها بيانًا للمراد ببيع التقسيط في المفهوم الشرعى: "أن يبيع التاجر السلعة مدفوعة الثمن فورًا بسعر، ومؤجلة أو مقسطة الثمن بسعر أعلى"(2).

"التقسيط: تأجيل أداء الدّين مفرقًا إلى أوقات معينة"(3).

"الثمن المقسط هو ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة"(4).

ويبدو للناظر في هذه المعانى أن بيع التقسيط من المنظور الشرعى هو بيع السلعة بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال، على أن يكون دفع ذلك الثمن مفوقًا إلى أجزاء معينة، وتؤدى في أزمنة محددة معلومة.

• بين التأجيل والتقسيط:

لما وضح لنا في ضوء المعنى الشرعى لبيع التقسيط أن عامل الأجل عنصر أساسى فيه ناسب المقام أن نبين العلاقة بين التأجيل والتقسيط.

فالتأجيل هو تأخير دفع ثمن السلعة إلى زمن مستقبل سواء كان ذلك الزمن شهرًا أم عامًا، وسواء أكان البائع يقبض الثمن جملة واحدة أم على دفعات. أما التقسيط فهو تأجيل دفع الثمن على أن يقبضه المشتري على دفعات.

(1)"الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، إسماعيل بن حماد الجوهرى -تحقيق: أحمد عطا عبد الغفور -المجلد الثالث- الطبعة الأولى: دار العلم للملايين، القاهرة، 1979.

(2)

"مقومات الاقتصاد الإسلامى"، د. عبد السميع المصري: مكتبة وهبة -الطبعة الأولى 1975، ص 107 نقلًا عن كتاب "التجارة في الإِسلام" للدكتور عبد الغنى الراجحى.

(3)

"درر الحكام شرح مجلة الأحكام"، المادة (157)، (3/ 110).

(4)

"شرح المجلة"، منير القاضى، الجزء الأول، ص 280، الطبعة الأولى، مطبعة العانى 1949، وزارة المعارف.

ص: 320

وعليه، يمكن القول بأنه يوجد بين التأجيل والتقسيط علاقة عموم وخصوص مطلق، ففى كل تقسيط تأجيل، فالتأجيل هو العموم المطلق، وقد يكون في التأجيل تقسيط وقد لا يكون. فالتقسيط أخص من التأجيل (1).

المبحث الثاني: صورة المسألة:

أن بيع التقسيط يحقق مصلحة تعود على كل من البائع والمشترى، إذ تتمثل مصلحة البائع في تيسير السبل وفتح الأبواب لنفاق (*) سلعته وواجبها، أما المشترى فتظهر مصلحته في حصوله على السلعة التي تمس حاجته إليها، ولا يملك ثمنها في الحال، بأن يدفع ذلك الثمن مؤجلًا على دفعات تتناسب وقدراته المالية، علاوة على ما يعطيه الأجل من فرصة لإنماء المال أو كسبه فيدفع الثمن دون عنت أو إرهاق.

وعلى هذا، فصورة بيع التقسيط -والذي أخذ طابعًا من الشيوع والانتشار في عصرنا -تتم بأن يقصد المستهلك- لاسيما صاحب الدخل المحدود، والذي يحتاج إلى سلعة تسد حاجة من حاجاته أو توفر له أسباب العيش الكريم، أو تجلب له الكسب والنماء أحيانًا من غسالة أو ثلاجة أو سيارة وغير ذلك من الأدوات والآلات الكهربائية والميكانيكية والأثاث -يقصد- التاجر الذي يبيع هذه المواد بالتقسيط فيخبره بثمنها إذا أراد أن يدفع حالًا وثمنها إذا أراد أن يدفع مقسطًا، وهو طبيعة الحال أعلى من الثمن الحال، فإذا ما اختار المشترى الثمن المؤجل المقسط وتم الاتفاق على ذلك كانت تلك صورة بيع التقسيط الذي نحن بصدد الحديث عنه.

المبحث الثالث: مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها:

لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفًا عند علماء الشريعة والفقه الإسلامى قبل القرن الحالى، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البديهى والأمر كذلك أن لا يكون للمصطلح وجود في كتب الحديث النبوى وهي إحدى المصادر الرئيسية التى يستقى منها الفقه أحكامه.

ولما كان الأمر كذلك، اقتضى أن نبين المواطن وأن نشير إلى المظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها في مصادر الحديث والفقه.

(1)"درر الحكام"(2/ 111).

(*)"المجلة: نَفَق البيع ينفق بالضم نفقًا، راج".

ص: 321

ففى كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في المواطن التالية:

أولًا: حديث نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

ثانيًا: حديث نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة بألفاظه المختلفة.

ثالثًا: الأحاديث التي تتضمن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلف.

فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث: أن يبيع الرجل السلعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا

وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط.

أما في كتب الفقه الإسلامى فنجد أصل مسألة بيع التقسيط يرد تحت عنوان "البيوع الفاسدة" أو "البيوع المنهي عنها" في كتب البيوع. أو في باب بيوع الآجال. فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهى عنها، البيوع التى ذكرت آنفًا في كتب الحديث وبيان الفقهاء لمعانى تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي أسلفت وهي أن يقول البائع للمشترى: هذه السلعة حالًا بكذا، ومؤجلًا بكذا، ومن ثم، فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستوجب الخطوات التالية:

1 -

ذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة.

2 -

إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح.

3 -

إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم على البيوع المنهى عنها.

4 -

استخلاص علة تحريم هذه البيوع كما وردت صريحة في عبارات علماء الفقه والحديث، مما يعني أن وجود العلة يقتضى المعلول وهو الحرمة، وانتفاءها يقتضى انتفاءه فتكون جائزة.

5 -

الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن بيع التقسيط جائز على ضوء تلك المقدمات أم غير جائز.

وبيان الأمور السالفة الذكر بصورة وافية يحتاج إلى بلورتها على النحو التالى:

ص: 322

المطلب الأول: نص الأحاديث النبوية وتخريجها:

الحديث الأول: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (1).

الحديث الثاني: ما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (2).

الحديث الثالث: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع" ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن "ولا بيع ما ليس عندك"(3).

المطلب الثاني: معنى الأحاديث النبوية:

لما كنت بصدد التماس أصول مسألة البيع بالتقسيط والوقوف على مظانها، ألفيت ذلك مسوغًا لبيان ما تحمله عبارات العلماء -سواء شراح الحديث النبوى، أم مبينو معانيه من الفقهاء- من معان، حتى أتمكن في ضوئها من التعرف على تلك الأصول والمظان.

ومما هو جدير بالتنبيه عليه في هذا المجال أن لتلك الأحاديث الشريفة معانٍ

(1) حسن: رواه مالك في "الموطأ" بلاغًا / 460، وأحمد في "مسنده"(2/ 432، 475)، والترمذي في "سننه"، وقال: حديث حسن صحيح (3/ 524)، والنسائي في "سننه"(2/ 226)، والبيهقي في "سننه"(5/ 343)، والبغوي في "شرح السنة"(8/ 142)، وابن حبان كما في موارد الظمآن رقم (1109)، وابن الجارود رقم (600)، والحديث أخرجه كذلك أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد صحيح (2/ 175).

كما أخرجه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ "مطل الغنى ظلم، وإذا أحلت على ملىء فاتبعه، ولا بيعتين في بيعة"(2/ 71)، وبهذا اللفظ أخرجه الترمذى (3/ 52)، وابن ماجة رقم (2404)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 8 - 9) دون الجملة الأخيرة، والبزار في كشف الأستار بلفظ نهى عن بيعتين في بيعة (2/ 91)، والحديث أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه بلفظ "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"(7/ 192/ 2)، وعنه أبو داود في "سننه"(2/ 246)، وابن حبان كما فى موارد الظمآن (1110).

والحاكم في المستدرك: وقال: صحيح على شرط مسلم (2/ 45)، والبيهقي في "سننه"(5/ 343)، وصححه ابن حزم في المحلى (9/ 16)، وراجع "إرواء الغليل"(5/ 149).

(2)

صحيح لغيره: أخرجه أحمد (1/ 398)، والطبرانى في "الأوسط" (1633) وغيرهما. راجع:"مجمع الزوائد"(4/ 84 - 85)، و"إرواء الغليل"(5/ 148 - 149).

(3)

حسن: أخرجه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (4615)، وابن ماجة (2188) وغيرهم. وانظر:"إرواء الغليل"(5/ 146 - 148).

ص: 323

عديدة، بسطتها كتب الحديث والفقه، ولما كان ميدان هذا البحث هو بيع التقسيط فسوف أقتصر على المعنى الوثيق الصلة به منها، تحاشيًا للإطالة والإطناب، ونظرًا لكون تلك المعانى بعيدة أو عديمة الارتباط بموضوع البحث، هذا، مع العلم بأن تلك المعانى قد أشارت إليها المصادر التى سأعتمد عليه في القضية موضع البحث في نفس المكان لمن رغب في الوقوف عليها.

أولًا: معنى هذه الأحاديث عند علماء الحديث:

1 -

حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

قال الترمذى في بيان معناه: وقد فسر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما. قال الشافعى: ومن معنى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك دارى هذه بكذا على أن تبعنى غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لك دارى، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدرى كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (1).

وبهذا المعنى فسره صاحب معالم السنن (2)، وصاحب بذل المجهود (3) وصاحب عون المعبود (4) وصاحب نصب الراية (5) وصاحب سبُل السلام (6)، وصاحب نيل الأوطار (7) وصاحب فتح العلام (8).

(1)"الجامع الصحيح وهو سنن الترمذى"، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (3/ 524).

(2)

"معالم السنن"، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابى ت 388 هـ، (3/ 123): المكتبة العلمية، ط 2، 1401 هـ، 1981 م.

(3)

"بذل المجهود في حل ألفاظ أبى داود"، للشيخ أحمد السهارنغورى، (15/ 135): دار الكتب العلمية، الطبعة والتاريخ: بدون.

(4)

"عون المعبود شرح سنن أبى داود"، للشيخ أبى الطيب محمد شمس الحق آبادى، (9/ 332): المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط 2، 1388 هـ، 1969 م.

(5)

"نصب الراية لأحاديث الهداية"، لجمال الدين أبى محمد بن عبد الله بن يوسف الزيلعى ت 762 هـ: من مطبوعات المجلس العلمى -الهند، وطبع بمصر 1357 هـ، 1938 م، الطبعة الأولى.

(6)

"سبل السلام شرح بلوغ المرام"، للإمام محمد بن إسماعيل الكحلانى ثم الصنعانى ت 1189 هـ (3/ 16) ط 4: مطبعة عيسى الحلبى.

(7)

"نيل الأوطار منتقى الأخبار" للشيخ محمد بن علي الشوكانى (5/ 172): مكتبة ومطبعة الحلبى بمصر، الطبعة الأخيرة.

(8)

"فتح العلام لشرح بلوغ المرام"(2/ 13): دار صادر -بيروت.

ص: 324

وجاء في الموطأ وشرح الزرقانى عليه: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقدًا أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه -أى لزمه- بأحد الثمنين: أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذا من بيعتين في بيعة فيمنع لذلك (1).

وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، هو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقدًا، وبمائتى دينار نسيئة (2) وبمثله فسره البيهقى (3) والمناوى (4).

ما تقدم يتبين لنا بجلاء أن أكثر المعانى شيوعًا لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشترى ثمنين أحدهما عاجل وآخر أكثر منه مقدارًا، وهذه الصورة هى الأساس لبيع التقسيط، وسيتضح ذلك ببيان علتاه.

2 -

حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة.

إن المتتبع لعبارات شراح الحديث لمعنى صفقتين في صفقة يجد أنها قد اقتصرت على تفسير سماك له، فقد روى أسود عن شريك عن سماك أنه قال: الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء (*) بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.

وهذا المعنى هو الذي أورده أحمد في مسنده مع الفتح الربانى (5) كما نقله صاحب عون المعبود (6)، وصاحب منتقى الأخبار (7)، وصاحب نصب الراية (8).

(1)"شرح موطأ مالك"، تأليف أبى عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقانى ت 1122 هـ، (4/ 271)، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض: مكتبة مصطفى الحلبى، ط1، 1382 هـ -1962 م.

(2)

"سنن النسائي" للحافظ أبى عبد الرحمن النسائي ت 303 هـ (7/ 60): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط1، 1283 هـ -1964 م.

(3)

"السنن الكبرى"، للإمام أبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى (5/ 343)، ط1، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

(4)

"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمحدث محمد المدعو عبد الرؤوف المناوى (6/ 308)، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، ط1، 1470 هـ.

(*) المجلة: النسيئة كالتفعيلة: التأخير، وكذا: النسا بفتح ومد.

(5)

"الفتح الربانى لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيبانى"، لأحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتى، (15/ 45) ط1، 1370 هـ.

(6)

"عون المعبود"(9/ 332).

(7)

"منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار"، لمجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحرانى المعروف بابن تيمية، ت 621 هـ وعليه "شرح نيل الأوطار" للشوكانى (5/ 172).

(8)

"نصب الراية" لأحاديث الهداية (4/ 20).

ص: 325

وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل إن كان نقدًا فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا (1).

3 -

حديث "شرطان في بيع"، "سلف وبيع"، "بيع وشرط":

أما "شرطان في بيع" فقد قال صاحب المنتقى شرح الموطأ في بيان معناه: أن يقول: بعت هذه السلعة نقدًا بكذا، وبكذا نسيئة (2)، وبمثله فسره النسائي (3)، كما نقل كل من صاحب عون المعبود (4) ونيل الأوطار (5) تفسير البغوي له بهذا المعنى، وبه فسره الإمام زيد (6) وصاحب فيض القدير (7).

أما صاحب سبل السلام (8) وصاحب فتح العلام (9) فقد أورد كل منهما تفسيرين أحدهما المتقدم، والثانى أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعنى السلعة الفلانية بكذا.

أما "سلف وبيع" فقد فسره صاحب فتح العلام: بأن يريد الشخص أن يشترى سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة (10). وبمثله فسره صاحب سبل السلام (11) وصاحب نيل الأوطار إلا أنه علق على هذا المعنى بقوله: والأولى تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير معروف في غيره (12).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(8/ 2/192).

(2)

"المنتقى شرح الموطأ"، للقاضى أبى الوليد سليمان بن سعد الباجى، (5/ 36)، الناشر: دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1403 هـ -1983 م.

(3)

"سنن النسائي"(7/ 258).

(4)

"عون المعبود"(9/ 403).

(5)

"نيل الأوطار"(5/ 203).

(6)

"مسند الإمام زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم"، ص 260: منشورات مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، طبعة 1966.

(7)

"فيض القدير"(6/ 332).

(8)

"سبل السلام"(3/ 17).

(9)

"فتح العلام"(2/ 13).

(10)

نفس الكان.

(11)

"سبل السلام"(3/ 17).

(12)

"نيل الأوطار"(5/ 202).

ص: 326

مما تقدم من معانٍ أوردتها كتب الحديث لمعنى "بيعتين في بيعة"، "صفقتين في صفقة"، "شرطين في بيع"، يظهر لنا أن نتفق في معنى واحد وهو أن يبيع التاجر سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر.

ثانيًا: معنى الأحاديث النبوية عند علماء الفقه:

وردت عن فقهاء مختلف المذاهب الإسلامية معانٍ للأحاديث الثلاثة المتقدمة، سأحاول فيما يأتى بيانها بالقدر الذي يسمح به المقام.

1 -

في الفقه الحنفى:

قال صاحب المبسوط: وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا (1). وبمثل هذا المعنى فسره صاحب تحفة الفقهاء (2)، وصاحب بدائع الصنائع (3)، وصاحب الفتاوى البزازية (4)، وصاحب حاشية الشلبى على الكنز (5) وصاحب فتح القدير (6) كما أن صاحب كتاب "اختلاف الفقهاء" قد أورد هذا المعنى عن أبي حنيفة وأصحابه (7).

2 -

في الفقه المالكى:

جاء في الموطأ: قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعته بدينار نقدًا أو

(1)"المبسوط" لشمس الدين السرخسى (7/ 8، 28): دار المعرفة، بيروت، ط 3 بالأوفست، 1398 هـ -1978 م.

(2)

"تحفة الفقهاء" لعلاء الدين السمرقندى ت 529 هـ، (2/ 46): دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405 هـ، 1984 م.

(3)

"بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" لعلاء الدين الكاسانى ت 587 هـ، (6/ 3041)، الناشر: زكريا على يوسف.

(4)

"الفتاوى البزازية، بهامش الفتاوى الهندية"، لحافظ الدين محمد بن شهاب المعروف بابن البزازات 827 هـ، (4/ 431)، الناشر: المكتبة الإسلامية، تركيا، ط 2: المطبعة الأميرية ببولاق، 1310 هـ.

(5)

حاشية الشيخ شهاب الدين الشلبى على كنز الدقائق: دار المعرفة، بيروت، ط1 المطبعة الأميرية ببولاق 1314 هـ.

(6)

"شرح فتح القدير على الهداية" للإمام كمال الدين بن الهمام، ت 681 هـ (6/ 446): مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبى، ط 1، 1398، 1979 م.

(7)

"اختلاف الفقهاء" لأبي جعفر محمد بن جرير الطبرى (33): دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2.

ص: 327

بشاة موصوفة إلى أجل، وقد وجبت عليه بأمر الثمنين أن ذلك مكروه لا ينبغى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتان في بيعة، وهذا بيعتين في بيعة (1).

وبمثل هذا المعنى ورد تفسير الحديث في بداية المجتهد (2) والقوانين الفقهية (3) والكافى (4).

وجاء في مختصر خليل في ذكر البيوع المنهى عنها: وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل.

وقد بينه صاحب "جواهر الإكليل" بقوله: (وكبيعتين فى بيعة) أي عقد واحد، في الموطأ نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، ومحمله عند مالك على صورتين أشار المصنف لإحداهما بقوله (يبيعها) أي مالك السلعة المعينة، (بشرط إلزام) للمشترى أو للبائع بالشراء، وأنه ليس له تركه على وجه يتردد فيه، ويحصل به الغرر كبيعها (بعشرة) من الدراهم مثلًا (نقدًا) أى حالة (أو) بـ (أكثر) منها كعشرين (لأجل) كشهر، ومفهوم بإلزام أنه لو كان بالخيار في الأخذ والترك جاز له ذلك (5).

وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الدردير في الشرح الكبير والدسوقى في حاشيته عليه (6) وصاحب التاج والإكليل (7)، وصاحب مواهب الجليل (8)، كما أورد صاحب كتاب اختلاف الفقهاء هذا المعنى عن الإمام مالك (9).

(1)"الموطأ"(460).

(2)

"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد القرطبى (2/ 133، 134): المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

(3)

"القوانين الفقهية" لابن جزى المالكي ت 1346 هـ، ص 629، ط1: دار الفكر.

(4)

"الكافي في فقه أهل المدينة المالكي" لأبى عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبى، (2/ 740) ط 2، (1400 هـ، 1980 م) مكتبة الرياض الحديثة.

(5)

"جواهر الإكليل" للشيخ صالح عبد السميع الأبى الأزهرى وشرح مختصر خليل عليه (2/ 22): مطبعة عيسى الحلبى.

(6)

"الشرح الكبير" لأبى البركات الشيخ أحمد الدردير بهامش حاشية الدسوقى عليه للشيخ شمس الدين محمد عرفة الدسوقى (2/ 58)، مطبعة عيسى الحلبى.

(7)

، (8)"التاج والإكليل لمختصر خليل" لأبى عبد الله العبدري المشهور بالمواق ت 897 هـ بهامش مواهب الجليل لأبى عبد الله محمد المغربى المعروف بالخطاب ت 954 هـ (4/ 364، 365)، ط 2، 1398 هـ -1978 م.

(9)

"اختلاف الفقهاء"(33).

ص: 328

3 -

في الفقه الشافعى:

قال الإمام الشافعى فيما رواه المزنى في المختصر عنه في معنى بيعتين في بيعة، وهما وجهان، أحدهما: أن يقول بعت هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، قد وجب لك بأيهما شئت أنا، أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعنى دارك بألف (1)، والحديث بهذا المعنى ذكره صاحب المهذب (2) والتنبيه (3)، والنووى في المجموع (4)، والروضة (5) وشارحو المنهاج، كصاحب مغنى المحتاج (6) وصاحب نهاية المحتاج (7) وصاحب تحفة المحتاج (8) وشارحو المنهج، كصاحب فتح الوهاب (9) وحاشية البجيرمى (10) وحاشية سليمان الجمل (11). وقال الغزالى: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقدًا فخذ بأيهما شئت (12).

(1)"مختصر المزنى" للإمام إبراهيم المزنى الشافعى بهامش كتاب الأم للشافعى (2/ 204): طبعة دار الشعب.

(2)

"المهذب في فقه الإمام الشافعى" لأبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازى الفيروزآبادى ت 476 هـ (1/ 267)، الناشر: مكتبة عيسى البابى الحلبى بمصر.

(3)

"التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعى" لأبى إسحاق الشيرازى (63)، الطبعة الأخيرة 1370 هـ: مطبعة مصطفى الحلبى.

(4)

"المجموع شرح المهذب" لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى ت 676 هـ (9/ 372، 377)، الناشر: زكريا على يوسف.

(5)

"روضة الطالبين" للإمام أبى زكريا محيى الدين النووى (3/ 397)، الناشر: المكتب الإسلامى للطباعة والنشر.

(6)

"مغنى المحتاج إلى معرفة معانى ألفاظ المنهاج" للشيخ محمد الخطيب الشربينى ت 997 هـ (2/ 30): المطبعة التجارية الكبرى بمصر.

(7)

"نهاية المحتاج شرح المنهاج" لمحمد أبى العباس أحمد بن حمزة الرملى ت 1004 هـ، (3/ 57)، مطبعة مصطفى الحلبى، الطبعة الأخيرة 1376 هـ -1967 م.

(8)

"تحفة المحتاج وبهامشها حاشية الشروانى" لأبى حجر الهيثمى (4/ 294): المطبعة الوهبية - القاهرة.

(9)

، (10)"فتح الوهاب بشرح الطلاب" للشيخ أبى زكريا الأنصارى بهامش حاشية البجيرمى على المنهج (2/ 209)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر.

(11)

"حاشية الشيخ سليمان الجمل على المنهج"(3/ 73)، المطبعة التجارية الكبرى بمصر.

(12)

"الوجيز في الفقه الشافعى" للإمام محمد بن محمد الغزالى ت 505 هـ (1/ 38): مطبعة الآداب والمؤيد بمصر، 1317 هـ.

ص: 329

4 -

في الفقه الحنبلى:

يقول صاحب "المغنى" وقد روى أبو هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة".

مثل أن يقول: بعتك دارى هذه على أن أبيعك دارى الأخرى بكذا، أو على أن تبيعنى دارك، أو على أن أؤجرك

فهذا كله لا يصح " .. وقد روى في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة .. وهو أيضًا باطل"(1).

وبمثل هذا المعنى فسره صاحب الفروع (2) وصاحب حب الإنصاف (3) وصاحب المقنع (4)، وصاحب التنقيح المشبع (5).

5 -

تفسير علماء السلف وأصحاب المذاهب الأخرى للأحاديث:

لقد ورد عن علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- ما يفيد أن هذه الأحاديث تعنى أن يقول: هو بنقدٍ كذا، وبنسيئةٍ كذا، فقد ورد هذا المعنى عن علي رضي الله عنه (6) وابن عباس رضي الله عنهما (7) وابن مسعود رضي الله عنه (8)، كما نقل مثله عن الأوزاعى وعطاء والثورى (9) والقاسم بن محمد (10) والشعبى وابن سيرين رضي الله عنهم أجمعين (11).

(1)"المغنى لابن قدامة" أبى محمد عبد الله بن أحمد المقدسى، المتوفى 620 هـ (4/ 259): مكتبة الجمهورية العربية بمصر.

(2)

"الفروع" لأبى عبد الله محمد بن مفلح المقدسى، ت 793 هـ (4/ 30): دار الطباعة بمصر، الطبعة الثانية، 1962 م.

(3)

"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى (4)، ط1، 1378 هـ: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.

(4)

"المقنع في فقه الإمام أحمد" لأبى محمد بن عبد الله بن قدامة المقدسى، (2/ 17)، الطبعة الثالثة، 1393 هـ.

(5)

"التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع"، لعلاء الدين أبى الحسن المرداوى، ت 885 هـ (125): الطبعة السلفية بمصر.

(6)

"الإسلام وثقافة الإنسان"، د. سميح عاطف الزين (378).

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 193).

(8)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 138).

(9)

"اختلاف الفقهاء"(31 - 33).

(10)

"الموطأ"(460)، الزرقانى على الموطأ (271)، تنوير الحوالك شرح الموطأ (2/ 75).

(11)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 138).

ص: 330

وبهذا المعنى أيضًا فسره الظاهرية (1) والأباضية (2) والشيعة الزيدية (3).

مما تقدم من أقوال العلماء في معنى الأحاديث النبوية الشريفة الثلاثة يظهر أن هذه الأحاديث تفيد معنيين:

الأول: وهو أرجحهما، وأكثرهما ورودًا عند العلماء هو أن يقول البائع للمشترى بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا، وبمؤجل كذا -وهو أصل مسألة بيع التقسيط.

الثاني: أن يقول للمشترى أبيعك كذا على أن تبيعنى أو تؤجرنى أو تقرضنى كذا.

المطلب الثالث: علة التحريم في البيوع المذكورة:

من خلال الحديث عن معنى "بيعتين في بيعة" و"صفقتين في صفقة" و"شرطين في بيع" و"بيع وسلف" تبين أن هذه الأنواع بمعانيها التي ذكرت منهى عنها بصريح وصحيح السنة النبوية، ولما كانت هذه البيوع تقع في إطار المعاملات المالية، فإن البحث عن علة التحريم يعتبر أمرًا مقبولًا شرعًا، ولما كانت القاعدة الشرعية تذهب إلى أن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإن وقوفنا على تلك العلة يوضح لنا في أي الأحوال تكون تلك البيوع في دائرة الحظر -حال وجود العلة- وفي أي الأحوال تكون في إطار الإباحة -حال انتفاء العلة- وهذا ما سنحاوله فيما يأتى:

أولًا: علة النهى عند علماء الحديث:

أن المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوى وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة وما إليها من البيوع موضوع البحث مرده إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع.

(1)"المحلى" لأبى محمد بن محمد بن حزم الظاهرى ت 456 هـ (9/ 627): مكتبة الجمهورية العربية بمصر.

(2)

"شرح النيل وشفاء الغليل"، لمحمد بن يوسف أطفيش، ت 1332 هـ، (4/ 74)، طبعة القاهرة، 1343 هـ. "الإيضاح" للشيخ عماد بن علي الشماخى، (3/ 70 - 72)، ط1: دار الفتح 1390 هـ - 1971 م.

(3)

"البحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار"، لأحمد بن يحيى المرتضى بن مفضل الحسنى، ت 840 هـ (4/ 294)، ط 1، 1948: مؤسسة الرسالة، بيروت، شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لأبى الحسن بن مفتاح (3/ 83، 84): دار إحياء التراث العربى، بيروت.

ص: 331

يقول الترمذى في سننه تعقيبًا على حديث النهى عن بيعتين في بيعة: وفسره بعضى أهل العلم، أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما (1).

فهذا القول يفيد أن علة النهى هى جهالة المتعاقدين بالثمن، إذ يقبض المشترى السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن المعجل أو المؤجل هو الذي تم به البيع، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشترى أي الثمنين يختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة.

وهذه العلة هى التي نص عليها الخطابى (2) والصنعانى (3) والشوكانى (4) وصاحب بذل المجهود (5) وفتح العلام (6).

ثانيًا: علة النهى عند الفقهاء:

قال السرخسى في شأن علة النهى "وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرق على ذلك لم تجز

وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز" (7) وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فهو فاسد لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم .. فإن كانا يتراضيان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم، وأتما العقد عليه فهو جائز، لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة"(8).

وهذا ظاهر في أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وفي معناها هى عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعلم الثمن يصح البيع.

وما ذهب إليه السرخسى هو ما ذهب إليه غيره من فقهاء الحنفية كعلاء الدين

(1)"سنن الترمذى"(3/ 533).

(2)

"معالم السنن"(3/ 123).

(3)

"سبل السلام"(3/ 16).

(4)

"نيل الأوطار"(5/ 172).

(5)

"بذل المجهود"(15/ 136).

(6)

"فتح العلام"(2/ 13).

(7)

، (8)"المبسوط"(13/ 28، 13/ 8).

ص: 332

السمرقندى (1) وعلاء الدين الكاسانى (2) والسلبى في حاشيته على الكنز (3) والكمال بن الهمام (4).

2 -

في الفقه المالكى:

ويبين علة النهى عندهم ما قاله الدسوقى في هذا الصدد: وهي أن يبيع السلعة بتًّا بعشرة أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشترى على السكوت، ولم يعين أحد الأمرين، ويختار بعد أخذها أحد الثمنين المعجل أو المؤجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع" (5).

وفي مواهب الجليل على مختصر خليل يقول في بيان العلة: (وكبيعها بالإلزام) أي بالإلزام للمتبايعين أو لأحدهما، فلا يجوز إلا إذا كان لهما الخيار معًا

ويقول تعقيبًا على قول الدردير: وإنما قال بالإلزام احترازًا مما إذا باع ذلك على خيار لهما أو إحداهما فإن ذلك يجوز ويقول: شرط الجواز أن ينتفى الأمران أعنى اللزوم لهما أو لأحدهما" (6).

ومن خلال هذه العبارات يظهر لنا أن علة النهى عند المالكية تتراوح بين الجهل بالثمن وبين سد ذريعة الربا، ولذا اشترطوا أن لا يكون هناك إلزام للبائع أو المشترى وذلك لاحتمال أن يكون من له الخيار قد وقع في نفسه أن يختار الشراء بالثمن المعجل وعندها يلزمه ما اختاره، ولما كان شأن الإنسان أن يقع في التردد إذا كان أمامه فرصته للتأمل والاختيار فربما يخطر له أن يختار المؤجل بعد ذلك، فكأنه قد باع ما هو معجل بالمؤجل وبينهما فارق في الثمن، وهو ما يمكن أن يكون ذريعة إلى الربا، وهو ما عناه الإمام مالك بتعليله منع هذا البيع حين قال: لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن قصد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر إلى أجل" (7).

(1)"تحفة الفقهاء"(2/ 46).

(2)

"بدائع الصنائع"(6/ 3083).

(3)

"حاشية الشلبى على الكنز"(4/ 54).

(4)

"فتح القدير"(6/ 262).

(5)

"حاشية الدسوقى على الشرح الكبير"(2/ 58).

(6)

"مواهب الجليل".

(7)

"الموطأ"(460).

ص: 333

وهذه العلل أوردها غير من ذكرنا من فقهاء المالكية كالزرقانى (1) وابن جزى (2) والموّاق (3).

3 -

في الفقه الشافعى:

المتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعى يجد أنها تكاد تطبق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هى علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع سواء بطريق الصراحة أو الدلالة.

فأبو إسحاق الشيرازى يقول بعد بيان معنى بيعتين في بيعة .. فالبيع باطل لأنه لم يعقد على ثمن بعينه (4).

ويقول النووى: .. وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة فيصح العقد (5) وإلى مثل هذا ذهب الشافعى (6) وابن الرفعة (7) والشيخ زكريا الأنصارى (8) والبجيرمى (9) وسليمان الجمل (10) والخطيب الشربينى (11) والرملى (12) وجلال الدين المحلى (13) وغيرهم.

4 -

في الفقه الحنبلى:

إن علة النهى عن بيعتين في بيعة وغيرها من البيوع التي اعتبرناها أصولًا لمسألة البيع بالتقسيط تتمثل عند علماء الحنابلة بالجهل في الثمن وما يصاحبه من غرر أو مقامرة وما إليها .. يقول العبدري في شأن تلك العلة " .. لم يصح ما لم

(1)"شرح الزرقانى على الموطأ"(4/ 270).

(2)

"القوانين الفقهية"(269).

(3)

"التاج والإكليل"(4/ 364).

(4)

"المهذب"(1/ 267).

(5)

"الروضة"(3/ 397).

(6)

"مختصر المزنى"(2/ 204).

(7)

"نيل الأوطار"(5/ 172).

(8)

"فتح الوهاب"(2/ 209).

(9)

"حاشية البجيرمى"(2/ 209).

(10)

"حاشية الجمل"(3/ 73).

(11)

"مغنى المحتاج"(2/ 30).

(12)

"نهاية المحتاج"(3/ 57).

(13)

"شرح الجلال المحلى على المنهاج"(2/ 177).

ص: 334

يتفرقا على أحدهما -الثمن المعجل والمؤجل- وهو المذهب نص عليه -يعني الإمام أحمد- وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم" (1).

ويقول ابن القيم "وليس هاهنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شىء من المفاسد .. "(2).

وإلى هذه العلة ذهب ابن قدامة في المغنى (3) والمقنع (4) وابن مفلح المقدسى (5) والبهوتى (6) وغيرهم.

5 -

العلة عند السلف من الصحابة والتابعين، والمذاهب الأخرى، وبعض المعاصرين:

لقد ذهب كثير من علماء السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- إلى أن علة النهى عن بيعتين في بيعة وما إليها من البيوع المنهى عنها هى الجهل بالثمن الذي تم عليه العقد -صراحة أو دلالة- يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لا بأس أن يقول للسلعة هى بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضى"(7)، أى بأحد الثمنين.

ويقول الأوزاعى: "لا بأس بذلك -بيعتين في بيعة- ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد الثمنين"(8) وإلى مثل هذا ذهب أبو عبيد والثورى (9) والزهرى وطاوس وقتادة وسعيد بن المسيب (10) والحكم وحماد (11).

(1)"الإنصاف"(4/ 350).

(2)

"إعلام الموقعين" لأبى عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية ت 751 هـ (3/ 150)، ط 8: مكتبة ومطبعة عبد السلام شقرون.

(3)

"المغنى"(4/ 295).

(4)

"المقنع"(2/ 17).

(5)

"الفروع"(4/ 30).

(6)

"كشاف القناع عن متن الإقناع" للشيخ منصور بن يونس البهوتى، (3/ 174): مكتبة الرياض الحديثة.

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 20).

(8)

"معالم السنن"(3/ 12)، "اختلاف الفقهاء"(32).

(9)

"نيل الأوطار"(5/ 172).

(10)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 136 - 138)، للحافظ أبى بكر عبد الرزاق الصنعانى ت 211 هـ ط1: منشورات المجلس العلمى.

(11)

"أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك" للشيخ محمد زكريا الكاندهلوى (11/ 291): المكتبة الإعدادية -مكة- دار الفكر، بيروت.

ص: 335

وبهذا المعنى علله فقهاء الشيعة (1) والأباضية (2) وصاحب الروضة الندية (3) وصاحب كتاب "المعاملات في الإسلام"(4)، و"منهاج المسلم"(5).

وفي ضوء ما ذكرنا من أقوال علماء المذاهب الفقهية المختلفة في تقصى علة عدم جواز البيعتين وما إليها، ظهر لنا بكل جلاء أن العلة عندهم -على تفاوت عباراتهم- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية.

وعليه، فإذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشترى ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشترى واحدًا منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد فإن هذا البيع يكون جائزًا شرعًا.

المطلب الرابع: حكم البيعتين فى بيعة:

لقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيعتين في بيعة باطل أو فاسد (6) ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كطاوس والحكم وحماد، وقد نقلنا عن غير واحد من العلماء قوله أن كلامهم

(1)"شرائع الإسلام فى مسائل الحلال والحرام"، لأبى بكر القاسم نجم الدين الشيعى الجعفرى ت 676 هـ/ 26، القسم الثاني، في العقود، الفصل الرابع، شرح الأزهار (3/ 83، 84).

(2)

"الإيضاح"(3/ 70 - 72)، "البيان الشافى في البرهان الكافي"(1/ 387).

(3)

"الروضة الندية شرح الدرر البهية" لأبى الطيب صديق بن حسن بن علي الحسينى التنوجى (2/ 105): دار المعرفة، بيروت.

(4)

"إن الدين عند الله الإسلام"، المعاملات في الإسلام، أحمد عبد الجواد (3/ 41)، مطبعة محمد هاشم الكتبى، دمشق.

(5)

"منهاج المسلم" لأبى بكر الجزائرى (320)، الطبعة الثامنة، 1396 هـ، 1976 م: دار الفكر، بيروت.

(6)

البيع الباطل هو ما كان غير مشروع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه. ويكون البيع باطلًا إذا أورث خللًا في ركن البيع، ويكون فاسدًا إذا أورثه في غيره كالتسليم والتسلم الواجبين به، والانتفاع المقصود منه، وعدم الإطلاق عن شرط لا يقتضيه وغير ذلك، والباطل لا يفيد ملك الرقبة ولا ملك التصرف، ولا ينقلب صحيحًا بحال، أما الفاسد فلا يفيد ملك الرقبة ولكنه يفيد ملك التصوف قبل فسخ العقد، فهو وإن أفاد الملك وهو مقصود في الجملة، لكنه لا يفيد تمامه، إذ لم ينقطع به حق البائع من البيع، ولا المشتري من الثمن، فلكل منهما حق الفسخ، ولكنه ينقلب صحيحًا بالقبض وبتعيين المدة أو الثمن، فالفاسد إذن تلحقه الإجازة بحذف المفسد قبل اتصاله بالعقد.

انظر: فتح القدير، والعناية على الهداية (6/ 401، 402).

ص: 336

محمول على ما إذا جرى بين المتعاقدين بعد العقد ما يدل على الاتفاق على أحد الثمنين، فكأن المشترى قال للبائع بعد ذكر الثمنين: اخترت المعجل أو المؤجل، فقال البائع: أجزت أو رضيت، وحينئذ فلا خلاف بين الجمهور وبين هذه الطائفة من العلماء في القول بصحة العقد.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت عنوان: الاعتياض عن الأجل بالمال؛ الصورة الأولى: صدور إيجاب مشتمل على صفقتين إحداهما بالنقد والأخرى بالنسيئة مثل أن يقول: بعتك هذا نقدًا بعشرة، وبالنسيئة بخمسة عشر.

يرى جمهور الفقهاء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وجاء في الشرح الكبير (كذا فسره مالك والثورى وإسحاق وهذا قول أكثر أهل العلم، لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول فليس يصح كالبيع بالرقم المجهول) وقد روى عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل أنه جرى بينهما بعد ما يجرى في العقد فكأن المشترى قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قال: قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور "

فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح، لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا" (1).

ما تقدم هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة والصحة والبطلان، ولما كان هذا البيع حرامًا باطلًا كان واجب الفسخ، ولا يترتب عليه أثره، ولكن لو تفرق البائع والمشترى وقد قبض المشترى السلعة، فما هو الأثر المرتب على ذلك فيما لو هلكت العين البيعية أو استهلكت أو تغيرت؟

والجواب على هذا السؤال نجده في ثنايا حديث نبوى شريف أخرجه أبو داود في سننه -وقد مر بنا نصه وتخريجه عند التعرض للأحاديث النبوية التي تصلح مناطا لبيع التقسيط- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهما أو الرِّبا".

(1)"الموسوعة الفقهية"، وزارة الأوقاف، الكويت (2/ 38)، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م، مطبعة الموسوعة الفقهية.

ص: 337

فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثرًا:

فقد روى عن الأوزاعى أنه قال وقد سئل عن معنى بيعتين في بيعة -وهو أن يقول هو نقدًا بكذا ونسيئة بكذا-: لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد المعنيين. فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين فقال: هى بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (1).

وروى عن محمد بن سيرين أنه قال: شرطين في بيع، أبيعك إلى شهر بعشرة، فإن حبسته شهرًا فتأخذ بعشرة قال شريح: أقل الثمنين وأبعد الأجلين أو الربا (2).

وبه قال طاوس: فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا معمر وابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه: إذا قال بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين (3).

ومن جهة أخرى، فقد قال الإمام الذهبي إن محمد بن عمرو -راوى الحديث- شيخ مشهور، أخرج له الشيخان متابعة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس (4).

وقد أجاب جمهور العلماء عن الحديث الذي استدل به القائلون بأنه إذا تم البيع بصورة بيعتين في بيعة أن للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين بأجوبة منها:

1 -

أن في صحة الحديث مقالًا، قال المنذرى: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور من رواية الدراوردى ومحمد بن عبد الله الأنصارى "أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة"(5).

2 -

أن الحديث على فرض صحته فعنه أجوبة منها:

(أ) يجاب عما قاله الأوزاعى بما قاله الخطابى وغيره: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحيح البيع بأوكس الثمنين إلا شىء يحكى

(1)"معالم السنن"(3/ 123)، "بذل المجهود"(15/ 135)، "اختلاف الفقهاء"(32)، "سنن أبى داود"(3/ 533).

(2)

"المحلى"(9/ 628).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 137 - 138).

(4)

"معالم السنن"(3/ 123).

(5)

"نيل الأوطار"(5/ 174).

ص: 338

عن الأوزاعى. وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هذا العقد من الغرر والجهل" (1).

وأما قول شريح فيجاب عنه بأنه محمول على معنى آخر ذكره ابن حزم فقال: فإن حبسته شهرًا آخر فتأخذ عشرة أخرى (2).

(ب) ما ذكره الخطابى وغيره: أن ما رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود يشبه -يحتمل- أن يكون ذلك في حكومة في شىء بعينه: كأنه أسلفه دينارًا في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعنى القفيز الذي لك على بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما -أقلهما- وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا -قبل فسخ البيع الأول- كانا مربيين (3).

فهذا القول يفيد أن الربا هو من باب بيع الدين بالدين، لأن البائع باع المشترى الدَّين الذي له عليه بثمن أكثر وهو منهى عنه، لأنه من باب بيع "الكالئ بالكالئ" وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم لما فيه من الربا.

(جـ) أن الحديث من باب بيع الدين بالدين كما يفهم من قول ابن الأثير في النهاية حيث فسر الحديث بقوله: أن يستلف الرجل من الرجل مالًا فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعنى تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجرى بينهما تقابض، فصار بذلك بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا هو بيع الدَّين بالدَّين، كأنه أسلفه دينارًا في صاع بر مثلًا إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له بعنى الصاع بصاعين إلى شهرين فهذا بيع ثان ودخل في الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أقلهما وهو الصاع، وإلا كان الثاني ربا للتفاضل، أو كأنه باعه دينًا بدين وهو الكالئ بالكالئ المنهى عنه (4).

(د) أن الحديث محمول على ما إذا استهلك المشترى للبيع كله أو بعضه:

ففى بذل المجهود: وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه -

(1)"معالم السنن"(3/ 122)، "بذل المجهود"(15/ 134)، "عون المعبود"(9/ 322).

(2)

"المحلى"(9/ 629).

(3)

"معالم السنن"(3/ 122)، "بذل المجهود"(15/ 135)، "المجموع"(9/ 372).

(4)

"التاج الجامع للأصول"(2/ 206)، "المعاملات في الإسلام"(3/ 45)، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ت 606 هـ (5/ 219)، تحقيق: محمد محمد طناجى، الناشر: المكتبة الإسلامية.

ص: 339

الخطابى رضي الله عنه قوله: من باع بيعتين

ظاهره مخالف للمذاهب كلها إلا أن يقال فى معناه: أن من باع شيئًا على أنه بخمسة إن كان ناجزًا، أو بعشرة إن كان نسيئة ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما فهذا البيع فاسد لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وكان الحكم فيه الفسخ، إلا أن المشترى استهلك المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة؛ وهو أوكس عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معًا، فصار المعنى أنه من باع بيعتين كذلك ثم لم يبق المبيع حتى يفسخ البيع فله أن يأخذ القيمة أو المثل ويأخذ الثمن لأنه أخذ الثمن كان إبقاء للبيع وهو مأمور بفسخه، وأما إذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى لكونه عقد عقدًا فاسدًا، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا (1).

ويؤيد حمل الحديث على هذا المعنى ما نقله ابن جرير الطبرى عن الثورى أنه قال: إن بعت بيعًا فقلت: هذا بالنقد بكذا. وبالنسيئة بكذا فذهب المشترى فهو بالخيار في البيعتين، وإن لم يكن وقع بيعك على أحدهما فهو مكروه وهو بيعتان إلى بيعة، وهو مردود وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته وإن قد استهلك ذلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين (2).

وروى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر بعد أن ذكر قول طاوس الذي تقدم قبل قليل أنه قال: وهذا إذا كان المبتاه قد استهلكه (3).

(هـ) ما قاله صاحب نيل الأوطار في معرض رده على المبطلين للبيع مؤجلًا مع زيادة الثمن لأجل التأجيل: لأن ذلك التمسك هو الرواية الأولى من حديث أبى هريرة: "من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا" وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهى عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب. ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوى صالحة للاحتجاج لكن احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان -أبيعك كذا شريطة أن تبيعنى كذا- قادحًا في الاستدلال بها على التنازع فيه على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة -وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا- إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة

(1)"بذل المجهود"(15/ 135).

(2)

"اختلاف الفقهاء"(32).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 137، 138).

ص: 340

بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى (1).

(و) ما قاله ابن حزم الظاهرى: هذا الخبر صحيح إلا أنه موافق لمعهود الأصل، وقد كان الربا وبيعتان في بيعة والشروط في البيع كل ذلك مطلقًا غير حرام إلى أن حرم كل ذلك، فإذا حرم كل ما ذكرنا فقد نسخت الإباحة بلا شك، فهذا خبر منسوخ بلا شك بالنهى عن البيعتين في بيعة، فموجب إبطالهما معًا لأنهما عمل منهى عنه (2).

(ز) ما قاله ابن القيم أن الحديث لا يحمل على الصورة المعروفة وهي أن تكون السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا حيث يقول: "أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الربا. وذلك سدًا لذريعة الربا، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ الثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع عن الربا، وأبعد كل البعد عن حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة"(3).

ويبدو أن المالكية لهم رأى آخر في المسألة وهو أن المشترى إذا قبض المبيع في صورة البيعتين في بيعة، فإن البائع يعطى قيمة المبيع نقدًا، ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين.

فقد نقل عن مالك قوله: من باع سلعة بدينار نقدًا أو بدينارين إلى شهر فسخ ذلك، وردت إلى قيمتها نقدًا، ولا يعطى أقل الثمنين إلى أقصى الأجلين (4).

وقال صاحب الكافى: "وإن قبضت السلعة وفاتت، رد قابضها قيمتها يوم قبضها بالغة ما بلغت واتبع ذلك بقوله: وهذا كله قول مالك وأصحابه"(5).

ووجه ما قاله المالكية: أن السلعة لم يقع شراؤها على شىء بعينه بقطع أو بخيار، وإنما إذا وقع على مالًا يدرى أى السلعتين يختار، وقد وجبت إحداهما، فحيث قبضها وتعذر ردها وجبت قيمتها.

(1)"نيل الأوطار"(5/ 173).

(2)

"المحلى"(9/ 629).

(3)

"إعلام الموقعين"(3/ 150)، "الوجه"(62).

(4)

"اختلاف الفقهاء"(32).

(5)

"الكافى"، المجلد الثاني (740).

ص: 341

وخلاصة الأمر في حكم بيعتين أنها من البيوع المنهى عنها المحكوم ببطلانها واستحقاقها الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يعلم فيها الثمن، وهذا رأى عامة الفقهاء.

أما من حيث حكمها إذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثرًا، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبى داود، لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح إذ هو الذي ينتج آثارًا ويرتب حقوقًا، ولذلك وجهوا إلى الحديث المطاعن التي ذكرنا في صحته من جهة، وفي صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب، والتمسوا له التأويلات التي تقدمت على فرض صحته انسجامًا مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن ترتب على العقد الباطل آثارًا، وتمكينًا للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد العين التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهى عنه شرعًا.

وقد نازع بعض الفقهاء في هذه الحقيقة بناء على ثبوت الحديث عندهم، وعملهم بظاهر معناه.

وبعد النظر في أدلة الفريقين، وما صوّبه الجمهور إلى أدلة مخالفيهم من طعون عملت على إيهانها، وعجزها عن الانتهاض للاحتجاج بها على مدعاهم، أرى أن الحق فيما قال الجمهور، والله تعالى أعلم.

المبحث الرابع: حكم البيع بالتقسيط:

تمهيد: بعد أن تتبعنا أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الثلاثة وعلتها انتهينا إلى النتائج التالية:

1 -

أن تلك الأحاديث تصلح أن تكون موطنًا مناسبًا ومظان ملائمة للبحث في مشروعية البيع بالتقسيط. وذلك لأنها تشترك من حيث معناها في صورة هى أصل ذلك البيع والمتمثلة بقول البائع للمشترى أبيعك هذه السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا.

2 -

أن تحريم هذه البيوع يستند إلى علة تتمثل في جهل المتعاقدين بالثمن، وسد ذريعة أن يكون هذا البيع طريقًا إلى الربا المحرم.

فالقول بعدم صحة هذه البيوع مجردة إلى أن الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، وأن الثمن مجهول، هل هو

ص: 342

المعجل أم المؤجل؟ وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم العقد (1).

في ضوء ما تقدم كنا نتوقع أن يكون البت في الحكم الشرعى لبيع التقسيط أمرًا ميسورًا يكفى فيه التثبت من وجود العلة المذكورة، فيحكم بالجواز في الحالة الأولى وبالبطلان في الحالة الثانية.

ولكن حكمة الله ورحمته بعباده التي كان اختلاف عقول البشر عامة وعلماء الفقه خاصة مظهرًا من مظاهرها اقتضتا أن تعمل تلك العقول -التي تحررت من قيود الخوف والرهبة، فانطلقت تلتمس الحقيقة في هدى نور الله- فيما بين يديها من النصوص تأملًا وترديد فكر، فيكون نتاج ذلك ثمرات خيرة من الأفكار والآراء والأحكام المتباينة في خط سيرها المتفقة في هدفها ألا وهو نشدان مرضاة الله عز وجل، والتمكين لشريعته في الأرض .. وإذا بنا نتيجة لذلك أمام آراء لا رأى، وبصدد أحكام لا حكم واحد في هذه المسألة، وأبرز تلك الأحكام:

1 -

أن بيع التقسيط غير جائز شرعًا.

2 -

أن بيع التقسيط جائز شرعًا.

3 -

رأى وسط يذهب إلى عدم القول بجوازه أو عدم جوازه مطلقًا بل يرى أنه مكروه، وشبهة الأولى اتقاؤها.

وممن قال بعدم الجواز، وأنه لا يصح زيادة الثمن في مقابل تأجيل قبض الثمن: زين العابدين، علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى، وأبو بكر الرازى الجصاص الحنفى (2).

أما القول بجواز بيع التقسيط، وبأن أخذ زيادة في السعر مقابل التأجيل أمر

(1)"مجلة المسلم المعاصر"، ص 89 ع 308، ربيع الثاني 1404 هـ، الموسوعة الفقهية، الكويت (2/ 38).

(2)

"نيل الأوطار"(5/ 173)، "شرح الأزهار"(3/ 84)، "تفسير أحكام القرآن" لأبى بكر الجصاص (2/ 187)، تحقيق: محمد الصادق قمحاوى، الناشر: دار الصحف بالقاهرة، الإمام زيد للشيخ محمد أبو زهرة (293) وما بعدها: المكتبة الإسلامية، بيروت، الروضة الندية (106).

ص: 343

يقره الشارع فهو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وبه قال زيد بن علي والمؤيد بالله والمهدى والمفتى من شيعة آل البيت (1).

أما القول الثالث الذي اتخذ موقفًا وسطًا بين القولين السابقين فهو ما ذهب إليه د. رفيق المصري في كتابه "مصرف التنمية الإسلامى"(2).

وقد لخص الشيخ أبو زهرة سبب الخلاف بين المجيزين والمانعين بقوله "ويعود سبب الخلاف لأجل الزيادة، أتعد الزيادة في مقابل الأجل كالزيادة في الدين في نظير الأجل أم لا تعد؟ فالذين قاسوا الزيادة في مقابل الأجل على الزيادة في الدين في نظير الأجل وجعلوهما صورة واحدة قالوا بالحرمة، وأما الذين فرقوا بينهما فقالوا بالحل"(3).

المطلب الأول: أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط:

استدل القائلون بأن بيع التقسيط لا يصح شرعًا بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والمعقول، فمن القرآن الكريم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) فهي تفيد تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا (5).

كما استدلوا بقوله عز شأنه: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6).

(1)"الأم"(3/ 15)، "نيل الأوطار"(5/ 173)، "فقه السنة" السيد سابق (3/ 141)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، "الروضة الندية"(2/ 106)، "شرح الأزهار وهوامشه"(3/ 84)، "البهجة شرح التحفة"(2/ 7)، "الموسوعة الفقهية الكويتية"(2/ 39)، "التاج الجامع للأصول"(206)، "الإمام زيد"(293، 294)، "الحلال والحرام"، د. القرضاوى، (259) ط13: المكتب الإسلامى 1400 هـ -1980 م، "المبسوط"(3/ 8)، "حاشية الطحاوي على الدر المختار"(3/ 97)، "تبيين الحقائق"(4/ 79)، "المدونة"(4/ 151)، "مجموعة فتاوى ابن تيمية"(29/ 502)، "الدسوقى على الشرح الكبير"(3/ 65).

(2)

"مصرف التنمية الإسلامى"، د. رفيق المصري، (189، 190): مؤسسة الرسالة 1397 هـ، 1977 م.

(3)

"الإمام زيد" أبو زهرة، (293).

(4)

سورة البقرة: 275.

(5)

"الإمام زيد"(293)، بحوث في الربا، محمد أبو زهرة (48): دار الفكر العربى.

(6)

سورة النساء: 29.

ص: 344

فقد جعلت الآية الرضا شرطًا لحل الكسب والربح في المبادلات التجارية، وإلا كان ذلك الكسب حرامًا وأكلًا لأموال الناس بالباطل، وعامل الرضا غير متوفر في البيع بالتقسيط، لأن البائع مضطر للإقدام عليه ترويجًا للسلعة، والمشترى مضطر له رغبة في الحصول على السلعة التي تمس حاجته إليها ولا يملك ثمنها حالًا، فيرغم على دفع الزيادة مقابل الأجل (1).

أما من السنة النبوية فاستدلوا بأحاديث منها:

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن صفقتين في صفقة وقد مر معنا ما رواه أحمد عن سماك في تفسير الحديث بقوله: هو الرجل يبيع الرجل فيقول: هو بنساء كذا، وهو بنقد بكذا وكذا.

وقد علق الشوكانى على ذلك بقوله: وفي هذا التفسير متمسك لمن قال "يحرم بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء"(2).

كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا، وهذا يعني أن من باع يأخذ زيادة مقابل الأجل يكون قد دخل في الربا المحرم إذا لم يأخذ الثمن الأقل.

وهذا يفيد أنه لا يجوز للبائع أن يبيع سلعته بأكثر من سعر يومها تجنبًا للوقوع في ربا النسيئة (3).

قال صاحب الروضة الندية: فالحديثان -حديث ابن مسعود وحديث أبى هريرة- قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: فله أوكسهما أو الربا "والأعيان التي هى غير ربوية داخلة في عموم الحديثين"(4).

واستدلوا كذلك بما أخرجه أبو داود في سننه عن محمد بن عيسى بن هشيم عن صالح بن عامر -كذا قال محمد- قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا على أو قال: قال على: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك (5).

(1)"الإمام زيد" محمد أبو زهرة، (294)، دار الفكر العربى: أبرز صور البيوع الفاسدة، د. محمد وفاء (48): مطبعة السعادة، 1404 هـ، 1984 م.

(2)

"نيل الأوطار"(5/ 173).

(3)

أبرز صور البيوع الفاسدة (37).

(4)

"الروضة الندية"(2/ 106).

(5)

إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (3382).

ص: 345

قالوا: وبيع التقسيط من بيع المضطر، لأنه لا يقبل بالزيادة لأجل المدة إلا المضطر في الغالب. ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما البيع عن تراض"(1) وهو يفيد أن البيع الجائز شرعًا ما توفر فيه عنصر الرضا من التعاقدين بإجراء العقد، ولا رضا مع الاضطرار والإكراه فيكون البيع باطلًا. وعليه، فالبائع بأجل والمشترى إلى أجل كلاهما مضطر للبيع ولا يصدق عليهما قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما البيع عن تراض".

أما من المعقول فاستدلوا بأمور منها:

أن الزيادة في الثمن المؤجل هى من باب الربا واستدلوا لقولهم هذا بما يأتى:

1 -

أن الزيادة في الثمن هى في نظير الأجل والتأخير، إذ لم يقابلها إلا المدة والتنفيس بالأجل فقط، ومتى كانت الزيادة كذلك فهي زيادة من غير عوض، فتنطبق عليها كلمة (الربا)، وتتناولها أدلة تحريم الربا وتندرج تحتها (2).

2 -

أن القول ببطلان البيع بأكثر من الثمن إلى أجله خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهرين بعشرين دينار إلى شهرين (3).

3 -

أن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع: وصفة الشرطين في بيع كما تقدمت: أن يقول المبيع بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وذلك غير جائز. والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئًا ليقرضه أو يؤجله أو الثمن ليعطيه على ذلك ربحًا.

يقول د. عبد السميع المصرى بعد أن نقل التفسيرين المتقدمين عن المبسوط "وظاهر مما تقدم عن صاحب المبسوط أن العلة في عدم الجواز في الصورتين عند الأحناف -الحنفية- هى الربا، لأنه في الصورة الأولى جعل الأجل في الثمن مقابلًا بالزيادة فيه صراحة فهي زيادة في الدَّين بغير عوض، وهي معنى الربا. وفي الصورة الثانية يحتال على الربا في القرض ببيع شيئًا مع المحاباة في ثمنه بمقابل القرض"(4).

(1) صحيح: أخرجه ابن ماجة في سننه (2185)، وسنن البيهقى (6/ 17).

(2)

"شرح الأزهار"(3/ 74)، "بحوث في الربا"(48)، "الإمام زيد"(293، 294).

(3)

الحجة.

(4)

"مقدمات الاقتصاد الإسلامى"(108)، عن كتاب "نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية"، لإبراهيم زكى الدين بدوى (214).

ص: 346

ويتابع قائلًا: "ولا شك عندي في أن هذا هو روح الشريعة الإسلامية، وهو الغاية من تحريم الربا في الإسلام، لأن الزيادة في الثمن هى مقابل الأجل في التقسيط أى مقابل استغلال حاجة المشترى الضعيف بينما الإسلام دين الرحمة والإخاء والتعاون، يقول سبحانه:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1).

وإذا لم يتعادل سعر النقد والتقسيط فقد ذهبت عدالة التوزيع

ولم يستطع ذو الدخل الصغير أن ينال حظه من الرفاهية

" (2).

4 -

القياس على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، إذ لا فرق بين إنقاص الثمن مقابل إنقاص المدة، وبين زيادة الثمن مقابل زيادة المدة، أولًا فرق بين أن نقول سدد الدين أو نزد في نظير الأجل، وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما أن الأجل له عوض وهو بمعنى الربا (3).

وبيان ذلك كما قاله أبو بكر الجصاص "أنه لو كان لرجل على آخر ألف درهم دين مؤجلة فصالحه منها على خمسمائة حالة فلا يجوز، لما روى عن ابن عمر أنه سئل عن الرجل يكون له على الرجل الدَّين إلى أجل فيقول له: عجل لي وأضع عنك فقال: هو ربا. وروى عن زيد بن ثابت أيضًا النهى عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبى والحكم، وقول أصحابنا وعامة الفقهاء. ومما يدل على بطلانه تسمية ابن عمر إياه ربا، وأسماء الشرع توقيف. ولأنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلًا من الأجل فأبطله الله وحرمه وقال:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4).

وقال: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (5)، حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله، فإنما جعل الحط مقابل الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله على تحريمه.

ولا خلاف أنه لو كان له عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلنى وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل، كذلك الحط في معنى الزيادة،

(1) سورة البقرة: 280.

(2)

"مقدمات الاقتصاد"(108، 109).

(3)

"بحوث في الربا"(48)، "الإمام زيد"(293).

(4)

سورة البقرة: 279.

(5)

سورة البقرة: 278.

ص: 347

إذ جعله عوضًا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الإبدال عن الآجال" (1).

وجاء في حاشية ابن عابدين "أنه إذا بيع الشىء بثمن مؤجل ثم وجب الأداء معجلًا فإنه ينقص من الثمن بمقدار التعجيل" وبذلك يتبين أن الفقهاء أباحوا الزيادة في نظير الأجل، وأى فرق بينها وبين الربا" (2).

5 -

أن أبا حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبًا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدًا فلك نصف درهم، إن الشرط الثاني باطل، فإن خاطه غدًا فله أجر مثله، لأنه جعل الحط مقابل الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم لأنه بمنزلة بيع الأجل" (3).

مما تقدم يتبين لنا أن عمدة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط هو أن ذلك ضرب من الربا المحرم، ومستندهم الرئيسى في ذلك أن الزيادة في الثمن هى في مقابل الأجل، والأجل ليس بالشىء الذي يستحق عوضا فتكون زيادة بلا عوض وهو عين الربا الذي نهى الشرع عنه وحرمه.

المطلب الثانى: أدلة القائلين بجواز بيع التقسيط:

استدل القائلون بجواز بيع التقسيط بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والعرف والمعقول.

فمن القرآن الكريم استدلوا بما يأتى:

عموم الأدلة القاضية بالجواز كقوله سبحانه وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4).

وهو نص عام يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال، إلا الأنواع التي ورد نص بتحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم، ولم يرد نص يقضى بتحريم جعل ثمنين للسلعة ثمن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالًا أخذًا من عموم الآية (5).

(1)"تفسير آيات الحكام"، لأبى بكر الرازى الجصاص (2/ 1985).

(2)

"بحوث في الربا"، أبو زهرة (48)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 160، 6/ 757).

(3)

"تفسير الجصاص"(2/ 187).

(4)

سورة البقرة: 275.

(5)

"نيل الأوطار"(5/ 173)، "شرح الأزهار"(3/ 84)، مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد النجدى الحنبلى وولده محمد، المجلد 29 ص 499، تصوير ط1، 1398 هـ.

ص: 348

وقوله عز وجل {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فالزيادة في الثمن مقابل الأجل داخله في عموم النص، إذ إن أعمال التجارة تنبنى على البيع نسيئة، ولابد أن تكون لهم ثمرة، وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة وليست داخلة في باب الربا. فالثمن في البيع الآجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل، وهو من التجارة المشروعة المعرضة للربح والخسارة (1).

ومن جهة أخرى، فالرضا ثابت في هذا البيع، لأن من يفعل ذلك من التجار إنما يجعله طريقًا إلى ترويج تجارته. فهو إجابة لرغبته.

كما أن الذي تسلم العين دون دفع ثمن حاله قد تسلم العين منتفعًا بها مغلة، موضع إتجار، وهذا لا ينافى رضاه (2).

واستدلوا كذلك بقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3).

وبيع السلعة بثمن مؤجل مع الزيادة مما تنتظمه هذه الآية، لأنها من المداينات الجائزة فتكون مشروعة بنص الآية (4).

أما من السنة النبوية والآثار:

فقد ورد فيها ما يدل على أن الشارع قد سوغ جعل المدة عوضًا عن المال، وأنه يجوز أن يختلف الثمن المؤجل عن الثمن المعجل بزيادة في المؤجل، وأن هذه الزيادة مباحة ومن ذلك:

ما روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشًا، فكان يشترى البعير بالبعيرين إلى أجل"(5)، وهو دليل واضح على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل.

(1)، (2)"الإمام زيد"(294)، "أبرز صور البيوع الفاسدة"(50، 51)، النشرة الإعلامية للبنك الإسلامى الأردنى رقم (3/ 26).

(3)

سورة البقرة: 282.

(4)

"فتوى في مجلة البحوث الإسلامية"(ص 270 ع 6) 1403 هـ وفي مجلة الاقتصاد الإسلامى للشيخ عبد العزيز بن باز ص 42، العدد 11، شوال 1402 هـ، وفي كلمات مختارة (عقائد، أحكام، مواعظ) للشيخ عبد العزيز بن باز، جمعها عبد الله بن جار الله ص 137 رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

(5)

حسن: أخرجه أبو داود (3357)، وأحمد (2/ 171 و 216)، والدارقطنى (3/ 69، 70)، وقال الحافظ في "الفتح"(4/ 489) إسناده قوى. وحسنه الشيخ شعيب الأرناؤوط في المسند، طبعة الرسالة.

ص: 349

وما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"ضعوا وتعجلوا"(1).

والحديث دليل على أنه لو بيع شىء ما بالنسيئة، واضطر المشترى للسداد قبل الاستحقاق يجوز تخفيض الثمن بمقدار يتكافأ مع المدة التي تفصل تاريخ السداد الفعلى عن تاريخ الاستحقاق، فإذا جاز التخفيض لقاء التعجيل فلابد عقلًا من جواز الزيادة لقاء التأجيل وهو ما قال به ابن عابدين (2).

ومن الآثار الدالة على جواز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من المعجل، وجواز زيادة الثمن في الشراء بالأجل. ما نقله الشيخ أبو زهرة عن كتاب المجموع والروض النضير في الفقه الزيدى الشيعي عن أبي خالد قال: سألت زيد بن علي عن رجل اشترى سلعة إلى أجل ثم باعها مرابحة والمشترى لا يعلم أنه اشتراها إلى أجل ثم علم بعد ذلك؟ فقال: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء رد. وقد عقب على هذا القول بأنه يفيد حكمًا بالنص وآخر بالالتزام: أما الحكم الذي استفيد بالنص فهو أن عدم ذكر الأجل في المرابحة إذا كان البائع قد اشترى إلى أجل يعد خيانة في المرابحة، وهي خيانة لا يمكن تقديرها كالخيانة في الزيادة بالثمن، وأن الحكم في هذه الحالة هو أن المشترى بالخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه. والحكم الالتزامي هو أنه يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن المعجل، ويتبين ذلك من خلال أن ترك ذكر البائع للأجل في المرابحة خيانة، لأن شأن التجارة أن يكون الثمن العاجل أقل من الثمن الآجل، وترك ذكر الأجل والبيع بثمن عاجل غش، لأنَّه لم يتبين ما استفاده بالتأجيل، والربح مع هذا التأجيل يكون على غير أساس سليم .. " (3).

قال صاحب الروض النضير: "واعلم أنه يؤخذ من كلام الإِمام -زيد بن علي- أن بيع الشىء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء جائز، ولهذا ثبت للمشترى الآخر الخيار، إذ لولا زيادة الثمن في شراء الأجل لم يظهر لإثبات الخيار وجه"(4).

(1) إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 52)، والدارقطني في "سننه"(3/ 46) وغيرهما.

(2)

"مصرف التنمية الإِسلامى"(186)، "حاشية ابن عابدين"(5/ 160)، (6/ 757).

(3)

"الإِمام زيد" نقلًا عن المجموع والروض النضير (292).

(4)

"الروض النضير"(3/ 168)، نقلًا عن "الإِمام زيد"(293).

ص: 350

والإجماع يدل على أن البيع بالتقسيط لا بأس به، فالمسلمون لا يزالون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها (1).

كما أن العرف قد جرى على أن النقد الحال أعلى قيمة من النقد المؤجل، وطالما أن العقد ابتداء لم ينص على سعرين فهو حلال (2).

أما عن القياس والمعقول فاستدلوا بما يأتي:

• أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن هو بيع بثمن معلوم من المتبايعين بتراضيهما فوجب الحكم بصحة البيع كالبيع بثمن حال (3).

• القياس على السلم: فالبيع إلى أجل من جنس بيع السلم، وذلك أن البائع في السلم يبيع في ذمته حبوبًا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به في وقت السلم فيكون المسلم فيه مؤجلًا والثمن معجلًا، فهو عكس مسألة البيع بالتقسيط، وهو جائز بالإجماع، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في البيع إلى أجل (4).

• القياس على بيع المرابحة: فإذا كان الأجل معلومًا في البيع بأجل صح البيع ولا شىء فيه لأنه من قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعا التي يجوز فيها إشتراط الزيادة في السعر في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة احتراز عن شبهة الخيانة، بشرط أن لا تكون الزيادة فاحشة، وإلا كانت أكلًا لأموال الناس بالباطل (5).

• لأن للأجل حصة من الثمن: ولهذا تزاد قيمة ما يباع بثمن مؤجل على ما يباع بثمن حال. فما دام البائع قد حدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن حال، وحدد الثمن وعينه لمن يشترى بثمن مؤجل، وقد اختار المشترى الشراء بأحد الثمنين، فالبيع صحيح شرعًا، ولا شبهة للربا فيه.

(1)"مجموع الفتاوى" ابن تيمية (29/ 499)، "مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ع 11، شوال 1402 هـ، بحوث في الربا، 48.

(2)

علي الخفيف نقلًا عن مقومات الاقتصاد الإِسلامى (107).

(3)

"هوامش شرح الأزهار"(4/ 83).

(4)

"مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43).

(5)

"يسألونك في الدين والحياة" أحمد الشرباصى، المجلد الخامس ص 147، الطبعة 11، دار الجيل، بيروت.

ص: 351

فالزيادة التي تضاف على الأقساط هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين ثمن السلعة إذا بيعت بثمن حال وقيمتها إذا بيعت بثمن مؤجل، والشريعة الإِسلامية شريعة معان وحقائق لا شريعة ألفاظ وأسماء، تحرم الشر إذا سمى باسم، وتبيحه إذا سمى بآخر (1).

• أن الأصل في الأشياء والعقود والشروط عند الفقهاء الإباحة متى كانت برضا المتعاقدين الجائزى الأمر فيما تبايعا، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه أو نسخه أو تقييده أو تخصيصه بنص أو قياس. ولما لم يرد دليل قطعي الثبوت والدلالة على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، بل قد ورد في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهى عن الغرر ونقض العهود والخيانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة (2).

المطلب الثالث: في دليل الرأى الوسط

خلاصة هذا الرأي -الذي ذهب إليه د. رفيق المصري- أن البيع إلى أجل مع زيادة الثمن مقابل ذلك ليس حرامًا على الإطلاق ولا حلالًا على الإطلاق بل هو مكروه، وما كان كذلك فيخضع لحكم الشبهة التي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على موقف الشرع منها في حديثه المشهور "أن الحلال بين، وأن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه .. "(3).

ويرى أن تأمين قروض مجانية للمستهلكين يخفف من ظاهرة اللجوء إلى البيع بثمن أجل مقسط، كما يؤدى إلى الحد من زيادة الثمن (4).

(1)"مجلة لواء الإِسلام"(ص 822) عدد 11 من السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951، ص 903 من عدد 12 من نفس السنة شعبان 1370 هـ، مايو 1951 م.

(2)

"مجموع فتاوى ابن تيمية"(29/ 126)، نشرة البنك الإِسلامي الأردني رقم (3) ص 27 - 30 ونقلًا عن "الأم" للشافعى و"شرح أصول البزروى".

(3)

صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599).

(4)

"مصرف التنمية الإِسلامي"(188/ 190).

ص: 352

المطلب الرابع: مناقشة الأدلة والترجيح

أولًا: مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط:

ناقش جمهور الفقهاء أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط على النحو التالى: أجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، بأن الآية نص عام، يشمل جميع أنواع البيع، ويدل على أنها حلال إلا ما خصه الدليل، ولم يقم نص يدل على حرمة جعل ثمنين للسلعة مؤجل ومعجل فيبقى حلالًا عملًا بعموم الآية (1).

ومن جهة أخرى، فإن آية الربا لا تتناول محل النزاع، لأن الحديث في البيع بثمن مؤجل إنما يقع على السعر (الثمن)، وليس للسعر استقرار لما فيه من التفاوت بحسب الغلاء والرخص، والرغبة في البيع وعدمها، فلم يكن أصلًا يرجع إليه في تعليق الحكم به، وحيث خرجت آية الربا عن أن تكون داخلة في محل النزاع، انتفت الحاجة إلى النظر فيما يعارضها، وما يترتب عليه (2).

وأما استدلالهم بقوله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وأن عنصر الرضا مفقود في البيع بالتقسيط فيكون باطلًا فيجاب عنه:

بأن الرضا ثابت، لأن من يبيع بثمن مؤجل له سلطة تامة، ويتمتع بكامل الحق في تحديد السعر الذي يريد بحسب حالة البيع من تعجيل أو تأجيل، وهو إذ يطلب ثمنًا مؤجلًا فإنما يفعل ذلك وسيلة من وسائل ترويج بضاعته، فهو يلبي لديه رغبة في الحصول على الثمن الأعلى نظير تأخير الدفع، وما كان كذلك فلا اضطرار فيه. وأما المشترى فإنه كذلك بالخيار في الامتناع عن الشراء أو البحث عن تاجر آخر أو سلعة بديلة، أو أن يقترض قرضًا حسنًا ليدفع بالثمن المعجل، ومع ذلك فقد حصل على السلعة التي يريد دون أن يدفع ثمنًا في الحال وهي للسلعة محل انتفاع وله فيها مصلحة (3).

(1)"نيل الأوطار"(5/ 172)، "الإِسلام وثقافة الإنسان"(378).

(2)

"الإِمام زيد"(294).

(3)

"الإِمام زيد"(294)، "مصرف التنمية الإسلامى"(187)، "الإِسلام وثقافة الإنسان"(378)، المجلة العلمية لتجارة الأزهر، ص 90، 92، العدد السادس، 1983.

ص: 353

وأما استدلالهم بحديث النهى عن صفقتين في صفقة وتفسير سماك له بما يفيد منعه فيجاب عنه:

أن هذا الحديث يحتمل أكثر من تفسير، فكما يحتمل أن يكون المراد به أبيعك هذه السلعة بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، يحتمل أن يراد به بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا. أو أن يسلف دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علىّ إلى شهرين بقفيزين فصار بيعتين في بيعة واحتمال الحديث لتفسير خارج عن محل النزاع يقدح في الاستدلال به على المتنازع فيه.

على أن غاية ما في الحديث من دلالة هو المنع من البيع إذا رفع على صورة أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى.

ومن جهة أخرى، فالنهى في الحديث محله فيما إذا قبل المشترى على الإبهام ولم يعين أي الثمنين، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو بألفين نسيئة صح ذلك (1).

أما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". وأنه يفيد أن من باع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال فعليه أن يأخذ بالأقل منهما وإلا دخل في الربا المحرّم فجوابه:

أن في إسناده محمَّد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور عنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (2).

وعلى فرض صحته، فهو لا يقيد تحريم البيع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحال، بل يفيد أن المتبايعين إذا تفرقا دون تحديد وتعيين أحد الثمنين، فما يستحقه البائع هو أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين كى لا يقعا في الربا المحرم بصورة قطعية (3).

كما يجاب عنه بما قاله الشوكاني في حديث الصفقتين في صفقة المتقدم.

(1)"نيل الأوطار"(5/ 172).

(2)

"نيل الأوطار"(5/ 171).

(3)

"فقه الإِمام الأوزاعى"، د. عبد الله محمَّد الجبورى (2/ 189)، وزارة الأوقاف العراقية، إحياء التراث الإِسلامى: مطبعة الإرشاد، بغداد 1397، 1977 م.

ص: 354

ومن جهة أخرى، فإن ابن القيم قد فسر الحديث بأن يبيع الرجل السلعة بمائة مؤجلة ثم يشتريها منه بمائتين حالة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع إلى الربا.

وأنه لا يعني النهى عن البيع بخمسين حالة أو بمائة مؤجلة فهي ليست قمارًا ولا جهالة ولا غررًا ولا شيئًا من المفاسد، فإن البائع خير المشترى بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والأمضاء ثلاثة أيام (1).

أما حديث النهى عن بيع المضطر وقولهم بأنه لا يقدم على دفع ثمن أعلى مع تأخير الدفع إلا المضطر فيجاب عنه بالآتي:

أنه جاء في سند الحديث: رواه أبو داود عن محمَّد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر كذا قال محمَّد قال: حدثنا شيخ من تميم .. قال في عون المعبود: قال الشيخ في إسناد الحديث رجل مجهول لا ندرى من هو وقال ابن مفلح: صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضًا، ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول، قد بلغني عن حذيفة أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم .. فذكر الحديث وفيه: "ألا إن بيع المضطرين حرام"، الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشىء (2).

أما قولهم بأن الزيادة في الثمن المؤجل من باب الربا، واستدلالهم على ذلك بأنها زيادة في نظير الأجل، ولا يقابلها عِوض فتكون محرمة فالجواب عنه:

بأن القول بتحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط، فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل والمسألة محتملة للبحث والمناقشة (3).

وأما القول بأن الزيادة لا يقابلها عوض فمردود، وذلك لأن البائع حين رضى بتسليم السلعة إلى المشترى بثمن مؤجل إنما فعل ذلك من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشترى إنما رضي بدفع الزيادة من أجل المهلة، وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا. فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، فلا يصدق القول بأن الزيادة بغير مقابل (4).

(1)"إعلام الموقعين"(2/ 149، 150).

(2)

"عون المعبود"(9/ 235).

(3)

"الروضة الندية"(2/ 106).

(4)

"مجلة الاقتصاد الإِسلامي"، فتوى الشيخ ابن باز (43).

ص: 355

وأما قولهم ببطلان البيع بثمن مؤجل يزيد على الحال خشية أن يكون ذريعة إلى الربا، فيكون بمنزلة جارية نقدًا وعشرة دنانير إلى شهر، بعشرين دينارًا إلى شهرين فيجاب عنه: بأنه لو رأى رجل جارية ثيِّبًا عند رجل فأعجبته، فسأله أن يزوجها إياه، فاشتراها منه بمائة دينار إلى سنة، فقبضها فوطئها فلم ينتقصها ذلك شيئًا ثم باعها منه بخمسين دينارًا إلى ذلك الأجل، فتكون قد رجعت له جاريته وبقى له خمسون دينارًا إلى ذلك الأجل، إنما ينبغي أن تبطل هذه الصورة ويجعل كأنه استأجرها بخمسين الدينار الزيادة ليطأها، وقد قال المخالفون بجوازها، فأجازوا ما ينبغي أن يبطل، وأبطلوا ما هو جائز من الزيادة مقابل الأجل (1).

وأما قولهم بأن الزيادة مقابل الأجل هى من باب الشرطين في بيع وسلف وبيع وقد نص صاحب المبسوط على عدم جوازهما لأنهما من باب الربا، لأن الزيادة مقابل الأجل فالجواب عنه:

أن قول صاحب المبسوط محمول على ما إذا ذكر ثمنين عاجلًا وآجلًا ولم يجدد أحدهما، والقول بالبطلان في هذه الحالة قول عامة الفقهاء بسبب الجهالة، وسدًا لذريعة الربا. ولقد جاء في كتاب المبسوط ما يدل صراحة على جواز زيادة الثمن مقابل الأجل إذا كان ذلك معلومًا للمتعاقدين حيث يقول:"وإذا اشترى شيئًا إلى أجلين وتفرقا عن ذلك لم يجز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرطين في بيع، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما، وأمض البيع عليه جاز .. "(2).

وأما القول بأن زيادة الثمن المؤجل من الحال في البيع بالتقسيط هى مقابل استغلال حاجة المشترى فتنتفي الرحمة والعدالة، فيرد عليه بأن العلماء حين قالوا بجواز بيع التقسيط قد قيدوا ذلك بشروط سنأتي على ذكرها، ومنها أن لا تتضمن الزيادة غبنًا فاحشًا للمشترى، علمًا بأن هذا الغبن ليس مقصورًا على البيع بالتقسيط بل قد يكون بالنقد، ولكن عند ضعف الوازع الديني، وغياب الحس الإيماني.

وبالإضافة إلى ما تقدم فهناك فروق جوهرية بين الربا والبيع بالنسيئة أبرزها ما يأتي:

1 -

أن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوى بين الشىء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح تحريم الزيادة في البيع بثمن مؤجل لكونها ربا (3).

(1) كتاب الحجة.

(2)

"المبسوط"(13/ 28).

(3)

"الروضة"(2/ 106).

ص: 356

2 -

أن البيع في حالة البيع سلعة لها منافع ولها غلات، وإن كانت مما ينتفع به باستهلاكه فإن أسعارها تختلف باختلاف الأزمان، وإن كانت مما ينتفع به بسعر، فإذا احتاط البائع لنفسه فباعها بثمن مؤجل مرتفع ومعجل غير مرتفع فلأن موضوع المعاملة يقبل الارتفاع والانخفاض في الأزمان، وله غلات بنفسه، أما النقود في حالة الربا فهي وحدة التقدير، فالمفروض أن لا يؤثر فيها الزمان، وينبغي أن تكون كذلك دائمًا، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (1).

وعليه، فما يأخذه البائع بثمن مؤجل فرقًا بين العاجل والآجل إنما يأخذه ثمن غلة، بخلاف الديون التي تجرى في النقدين، فإن من يتسلمها يتسلم عينًا لا تختلف فيها الأسعار باختلاف الأزمنة، لأنها مقوِّمة الأسعار، وهي لا تغل بنفسها، بل تغل بالاتجار وتنقلها من الأيدى ببضائع تعلو وتنخفض، فالبضائع هى التي تغل وليست هى موضع الدين (2).

3 -

أن هناك فرقًا بين أن يكون الأجل مراعى عند تقدير ثمن السلعة في البيع بثمن مؤجل، وبين أن يكون الأجل قد خصص له جزء معين من المال بالإضافة إلى المقدار الذي جعل بدلًا في المعاوضة.

إن فرقًا بين أن يبيع شخص سلعة تساوى في السوق الحاضرة مائة بمائة وخمسة مؤجلة، وبين أن يقترض شخص من آخر إلى أجل معين على أن يردها إليه عند حلول الأجل مائة وخمسة، فإن الأول جائز ولا شىء فيه من الربا، فإن المقدار كله المائة والخمسة قد جعل ثمنًا للسلعة، والسلعة التي كان سعرها في السوق الحاضرة مائة يمكن أن تباع مع تأجيل الثمن وعدم تأجيله بمائة وبمائة وخمسة وبمائة إلا خمسة، على حسب الظروف والأحوال واختلاف الرغبات. وأما الثاني فغير جائز لأنه من ربا النساء الذي جعل فيه الزمن مقصودًا قصدًا أصليًا في العقد مفروضًا له قدر معين من الثمن يتزايد هذا المقدار عادة إذا حل الأجل ولم يوف المدين بأداء الدين.

والخلاصة أن المائة والخمسة في صورة البيع بها إلى أجل وقعت كلها ثمنًا للسلع التي كان يمكن أن تباع بذلك الثمن حالًا، وأما المائة والخمسة في صورة

(1)"بحوث في الربا"(48).

(2)

"الإِمام زيد"(294).

ص: 357

اقتراض المائة بمائة وخمسة فإنها وقعت بدلا لشيئين: المائة بدل المائة، والخمسة بدل الزمن وثمن له خاصة، وهذا لا شك أنه الربا الممنوع (1).

4 -

أن البيع بالتقسيط فيه تخيير للمشترى بين الشراء نقدًا بثمن أقل أو بثمن أكثر مؤجلًا، بخلاف الربا فإنه لا تخيير فيه.

كما أن الربا استغلال للناس ومص للدماء، وخيانة للمجتمع، وظلم للطبقة الكادحة من قبل أخذ الطمع والجشع. أما البيع بالتقسيط فهو تيسير لمعاملات الناس وتخفيف عنهم (2).

5 -

أن البيع بثمن مؤجل لا تحدث فيه زيادة في الثمن حتى ولو ماطل المشترى في الدفع عند حلول أجل الوفاء، فليس للبائع إلا ما اتفق عليه، وذلك بخلاف عقد الربا حيث يستمر المقترض في دفع الفوائد في حالة عدم تسديد القرض حتى يتضاعف بشكل كبير إذ في الغالب قد تكون الفائدة بسعر أعلى من السعر العادى عند التأخير في الدفع (3).

6 -

أن البيع بالتقسيط يترتب على من يتعامل به مختلف آثار ومقتضيات البيع بالطرق الشرعية ولاسيما ما يتعلق بالخيارات، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالقرض بفائدةٍ ربويةٍ (4).

7 -

أن الثمن في البيع بالأجل هو للسلعة مراعى فيه الأجل وهو من التجارة المشروعة المعرض للربح والخسارة. وأما الزيادة في الربا فهي بلا مقابل وهو الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأخطاره وأضراره (5).

8 -

أنه في حالة البيع بثمن مؤجل يفترض أن تكون العلاقة بين البائع والمشترى علاقة تكافؤ -في الأعم الأغلب، ولا عِبرة للحالات الشاذة- لأن القدرة على المساومة والتفاوض مفتوحة لكلا الطرفين على قدم المساواة. أما في حالة القرض الربوى فيفترض عدم التكافؤ إذ إن طرفًا فيها يعاني من حالة صعبة بالنسبة للطرف الآخر (6).

(1)"مجلة الاقتصاد الإِسلامى"، فتوى الشيخ عبد الرحمن تاج ص 43، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ.

(2)

، (3)"المجلة العلمية لتجارة الأزهر" ص 90 - 92، العدد السادس، أبريل، 1983 م.

(4)

من محاضرة عامة ألقاها د. أنس مصطفى الزرقا حول "مفهوم الاقتصاد الإِسلامى" بالجامعة الأردنية الساعة 12 ظهرًا 4/ 11/ 85.

(5)

"النشرة الإعلامية رقم (3) " للبنك الإِسلامى الأردني (26).

(6)

"مصرف التنمية الإسلامى"(187).

ص: 358

9 -

أن التبادل في حالة الربا يتم على أشياء مثلية، في حين أن التبادل في حالة البيع يتم على أشياء مختلفة؛ سلعة مقابل نقد، وهذا الاختلاف في الأشياء المتبادلة هو الذي ينشىء النشاط التجارى المفيد المنتج في البيع بالمقارنة مع النشاط الربوى (1).

أما القول المانعين من بيع التقسيط بأن الزيادة في البيع بالنسيئة هى مقابل الزمان فقد ناقشه جمهور الفقهاء على النحو التالي:

1 -

أن الزيادة في الثمن المؤجل لا تتعين عِوضًا عن الزمان، بدليل أن بعض الناس يبيع آجلًا بأقل مما اشترى لحاجته إلى البيع وتصريف السلع أو لتوقعه انخفاض الأسعار في المستقبل، ومن التجار من يبيع بأقل من القيمة الحقيقية بثمن حال أو مؤجل، فلا تتعين الزيادة للزمان، بل الزيادة في أكثر الأحيان غير متعينة (2).

2 -

أننا لو سلّمنا بجعل الزيادة مقابل التأخير والزمن كما دلت على ذلك بعض الأحاديث والآثار، فإنما منع الشارع منها إذا كانت ابتداءً كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم:"أما أن تقضي وأما أن تُربي"(3).

وأما استدلالهم يكون الزيادة في مقابل الأجل بالقياس على إنقاص الدَّين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، وهو غير جائز بدليل تسمية ابن عمر رضي الله عنهما له ربا ونهى زيد بن ثابت وغيره عنه، وبدليل إبطال أبي حنيفة لشرط التعجيل في خياطة الثوب مقابل زيادة الأجرة، وبدليل عدم جواز زيادة الدين الحال مقابل تأجيل صاحبه مدة. فالجواب عنه:

1 -

أن ابن أبي شيبة قد أخرج من مصنفه أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل فيقول له: عجِّل لي وأضع عنك كذا فقال: "لا بأس في ذلك، إنما الربا أن يقول المدين أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجّل وأنا أضع عنك" وفي رواة أخرجها البزار عن عبد الله بن عمرو، وأخرجها الطبراني بنحوها:"إنما الذي فيه نهى أن يقول المدين أعجّل لك كذا، وتضع عنه البقية"(4).

(1) نفس المرجع، (189).

(2)

"الإِمام زيد"(295)، أبرز صور البيوع الفاسدة (50).

(3)

"الإِمام زيد"(294).

(4)

"تفسير الجصاص"(2/ 186).

ص: 359

وليس قول ابن عمر وغيره بأولى من قول ابن عباس، لاسيما أن لقوله سندًا من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ضعوا وتعجلوا".

2 -

وأما قول أبي حنيفة فيقع في إطار اشتراط منفعة محددة في المعقود عليه لمصلحة العاقد، وهذا النوع من الشروط مما أبطله الحنفية والشافعية في المعتمد من مذهبهم والظاهرية بعدم جوازه وقال المالكية والحنابلة في الراجح من مذهبهم والزيدية والأباضية والإمامية بجوازه.

وقد استدل القائلون بعدم الجواز بحديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وهو حديث ضعيف، أنكره أحمد، وقال لا نعرفه مرويًا في مسنده وقال النووى عنه، أما الحديث فغريب، وضعفه ابن تيمية، وقال ابن حجر في إسناده مقال. وقال ابن القيم لا يعلم له إسناد يصح (1).

3 -

وأما القياس على زيادة الدين الحال مقابل زيادة الأجل فمع الفارق وهو أن المقيس عليه منصوص على عدم جوازه فهو بيع الدين بالدين، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ.

ومن جهة أخرى، فإن إنقاص الثمن مقابل تقصير المدة غرضه التيسير على المدين وتسهيل الدفع وقضاء الدين عليه، أما الزيادة مقابل زيادة الأجل فغرضها التضييق على المدين فلا وجه للقياس.

4 -

أن القول بإنقاص الثمن إذا أدى المدين الثمن المؤجل معجلًا بمقدار ما يعادل الأجل يرتكز على مبدأ سبق بيانه وهو أن الأساس هو السلعة لا النقد المجرد. لأن السلعة هى التي يتغير سعرها تبعًا للظروف والأحوال والرغبة فيها، أما النقد فهو مقوِّم السلع وهو ثابت لا يتغير، لأنها ليست سلعًا ترتفع وتنخفض (2).

5 -

أن العقود في الشريعة الإِسلامية ينظر إليها غير موازنة ببعضها، فالعقد مع تأجيل الثمن عقد قائم بذاته ينظر إليه من حيث سلامة العقد، وكونه غير شامل للربا بأنواعه من نظر إلى غيره. وهذه النظرة تجعل العقد صحيحًا في ذاته، وكون المبيع معجلًا بعقد آخر بثمن أقل لا يؤثر في العقد الأول، لأنهما عقدان متغايران يتميز كل واحد منهما عن صاحبه (3).

(1)"الملكية في الشريعة الإِسلامية" العبادى (2/ 209).

(2)

"بحوث في الربا"(48، 49).

(3)

"الإِمام زيد"(294).

ص: 360

ثانيًا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز:

لقد تناول القائلون بعدم جواز البيع بثمن مؤجل يفوق الثمن الحال بعض أدلة القائلين بالجواز بالمناقشة، وذلك على خلاف ما قام به الجمهور من تفنيد جميع أدلة المانعين بصورة شاملة وافية، مما يعد مؤشرًا على قوة حجّتهم (1).

فقد ناقش المانعون قول الجمهور في استدلالهم بالآية الكريمة {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} على حل البيع عملًا بعموم النص حيث لم يرد صحيح يخصصه بقولهم:

إن الآية تفيد تحريم البيع بزيادة الثمن مقابل الأجل، لأنها داخلة في عمومِ كلمة الربا التي تعنى الزيادة، كما أنها تفيد الإباحة في قوله سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإن العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة. وإذا قيل بأن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إذ هى بيع، يقال إنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع أو الربا، وعند الاحتمال من غير ترجيح يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة وخصوصًا أن إحلال البيع ليس على عمومه بل خرجت منه البيوع وهذا منها (2).

ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وليس مجملًا بدليل أن الله عز وجل وضحه بأنه كل زيادة على رأس المال مقابل الأجل {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} وقد أجمع العلماء على تفسير الربا في هذه الآية بأنه الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية وهو ما كان يحصل عليه الدائن من زيادة لرأس ماله عندما يعجز بدينه عند حلول الأجل فيقول له:"إما أن تقضي ديني وأما أن تربي" أي تزيدني في الدين نظير الأجل فدل على أن كل زيادة في مقابل الأجل ربا، والأجل لا يعد مالًا لعدم إمكان حيازته والاستئثار به وادخاره لوقت الحاجة، فلم يكن جائزًا أن يأخذ مالا عوضًا عنه، ومن ثم كانت زيادة ثمن السلعة المؤجل عن الثمن المال زيادة خالية عن العوض، وهذا هو الربا (3).

أما استدلال الجمهور بحديث: "ضعوا وتعجلوا" فالجواب عنه:

(1) أبرز صور البيوع الفاسدة (51).

(2)

"الإِمام زيد"(294).

(3)

"نظرية الأجل في الالتزام في الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية"، د. عبد الناصر العطار (221): مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1978.

ص: 361

أن في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعف، وهو كما قال الدارقطني؛ ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث (1).

ومن جهة أخرى، فإن الزمن في الحديث كان للحط من الدَّين لا للزيادة، بخلاف البيع المؤجل فإنه للزيادة في الثمن لا للنقص منه، وفرق ما بين الزيادة والنقص كفرق من يداين ويزيد لأجل الزمن، ومن يعفو عن بعض الدين ليسهل على المدين الدفع، ولذلك لا يصلح الحديث دليلًا في الموضوع (2).

ويضاف إلى ذلك أن القول بجواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل دفع الثمن المؤجل لم يرد إلا في الدر المختار حيث نسبه ابن عابدين لبعض المتأخرين، وقال: أن أبا السعود ارتضاه، ولعل أبا السعود العمادى ارتضاه لأنه كان يسهل على سليمان القانوني ما يريد من إدخال الأفكار الأوروبية في بلاده، ولذلك لم يعتبر علماء الأتراك فتاويه، بل قد نص بعضهم كأبي بكر الرازى على أن ذلك من الربا الذي نص عليه تحريمه (3).

وأخيرًا قالوا: أن من يقول بجواز السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك من الجائز أنهم أجازوه إذا لم يجعل ذلك شرطًا في العقد، وذلك بأن يقوم البائع بحط بعض الثمن عن المشترى بغير شرط، فيقوم المشترى بحط بتعجيل الدين المتبقي بغير شرط (4).

أما عن استدلال الجمهور بأن المشترى قد رضي بالزيادة مقابل الأجل، والرضا هو شرط صحة التجارة وتوفر كان العقد صحيحًا أجابوا:

بأن رضا المشترى بزيادة السعر المؤجل عن السعر الحال، لا عبرة به إذا اعتبرنا هذه الزيادة ربا، لأن تراضي البائع والمشترى على الربا لا يجعله حلالًا (5).

أما عن القول بأن الأسعار تتفاوت ارتفاعًا وانخفاضًا لأن السلعة لها سعر نقدى معين بخلاف النقود فالجواب عنه:

أنه إذا كان للبائع أن يبيع ابتداء بثمن مؤجل أكثر من سعر السوق، فذلك

(1) سنن الدارقطني (2/ 46).

(2)

"الإِمام زيد"(294)، مصرف التنمية، (186)، "نظرية الأجل"(222).

(3)

"بحوث في الربا"(49).

(4)

"تفسير أبى بكر الرازى الجصاص"(2/ 187).

(5)

"نظرية الأجل"(222، 223).

ص: 362

يختلف عن تخيير المشترى بين الشراء بثمن حال أو ثمن مؤجل أكثر من ذلك الثمن الحال. فالبيع الأول يمكن أن يقال فيه بأن الأسعار تتفاوت كما أن للمشترى مطلق الحرية في قبوله، وإذا كانت الشريعة الإِسلامية تنهى عن الربح غير المعقول في التجارة. أما البيع الثاني وهو موضوع البحث فإنه يتميز بأن للسلعة ثمن حال معروف، وزاد هذا الثمن بسبب التأجيل. وهنا لا يمكن القول بأن الأسعار تتفاوت وتزيد وتنخفض لأن السلعة تحدد لها سعر نقدى معين ولم يقصد البائع إلى زيادة الثمن المؤجل إلا بسبب الأجل (1).

وأخيرًا يقترح د. عبد الناصر العطار -وهو من القائلين بأن الثمن المؤجل عن السعر الحال أمر لا يتفق مع قواعد الشرع، ويعتبره ربا أو شبهة ربا- يقترح علاجًا بديلا لبيع التقسيط يتمثل فيما عرفته بعض النظم الاقتصادية من وسائل مشروعة يتم فيها تأجيل ثمن المبيع دون زيادة بعض السلع بسعرها اليومي وتأجيل ثمنها مع دفعه أقساطًا تخصم من الراتب. وفي إمكان غير الموظفين تطبيق هذا النظام عن طريق النقابات والجمعيات التعاونية، ولا شك أن هذا النظام لا غبار عليه في الإِسلام، كما أن بعض التجار يعلن عن بيع سلعة بالتقسيط وبدون فوائد أي بذات السعر الفوري (2).

ثالثًا: مناقشة الرأى الثالث:

لقد رأينا أن خلاصة هذا الرأى تتمثل في القول بأن البيع بالتقسيط ليس مباحًا على الإطلاق ولا محرَّمًا على الإطلاق وذلك اتقاء للشبهات واستبراء للدّين والعرض والجواب على ذلك:

1 -

أن صاحب هذا الرأى قد قال صراحة "ومع ذلك فإننا نعتقد أن البيع بالنسيئة بزيادة الثمن لقاء التأجيل إنما هو مشروع .. " وفي هذا تناقض مع القول بأنه ليس مباحًا ولا حرامًا، فأبسط درجات المشروعية هى الإباحة.

2 -

أن الشبهة هى ما اجتمع فيها جانب يؤيد الحل وآخر يؤيد الحرمة، ولقد ورد في حديث صاحب هذا الرأى ما يقطع بمشروعية البيع بالتأجيل مع زيادة الثمن، وصال وجال في بيان فروق أساسية بينه وبين الربا المحرم، فأى وجه للاشتباه بعدئذ؟

وهذا كانت هذه الشبهة والحرص على الاستبراء للدِّين تغيب عمن كانوا

(1)، (2)"نظرية الأجل"(222، 223).

ص: 363

يدعون سبعين بابًا من الحلال مخافة أن يقعوا في باب الحرام، ومع ذلك لم نجد في عباراتهم أدنى تحفظ عند صدور عباراتهم بجواز هذا البيع، مراعيًا للشروط الشرعية.

3 -

أما دعوة صاحب هذا الرأى من يتعاملون ببيع التقسيط إلى الاقتراض الحسن تقليلًا لتداول هذا البيع، واتهامه لهم بالهجوم على هذا النوع من البيع مع عدم مسيس حاجتهم إليه، دون محاولة الحصول على القرض الحسن، فأظنه كلامًا مبالغًا فيه، وهل أبواب القروض الحسنة مشرعة لمن يلجها ونحن في عصر أصبح الفرد فيه يضن بالدرهم والدينار على أمه وأبيه وصديقه وأخيه؟ ثم إذا توفر هذا القرض الحسن ليغطى شراء سلعة يسيرة الثمن، فأنى له أن يتوفر لشراء عربة يكتسب منها صاحبها قوته وقوت من يعول؟ أو شراء شقة يسكنها؟ فما أرتأه من تبنى هذه الفكرة ليس إلا حلمًا جميلًا صدر عن حسن ظن ونية -إن شاء الله-.

وعليه ففى ظني، أن هذا الرأى يعوزه الدليل المقنع، ويفتقر إلى الموضوية، وينقصه عامل الانسجام، بين ما طرحه صاحبه من أفكار، وبالتالي لا يقوى على النهوض مذهبا ثالثًا إلى جانب المذهبين الرئيسيين المتقدمين من الناحية الحقيقية -اللهم إلا من باب عرضه باعتباره وجهة نظر تمثل رأى صاحبها فحسب- فاقتضى التنويه إليها.

• الترجيح:

بعد أن عرضنا لأقوال من أجاز بيع التقسيط من الفقهاء، ومن قالوا بعدم جوازه ووقفنا على المناقشات والردود التي وجهها جمهور الفقهاء إلى كافة أدلة القائلين بمنع البيع بثمن مؤجل مع الزيادة على الثمن الحال، ورأينا أنه لم يسلم دليل منها من الطعن الذي يضعف من حجيته وصلاحيته للاستدلال به، وفي حين أن أدلة الجمهور قد سلمت لهم في غالبيتها وما وجه إلى بعضها من نقاش لا يقلل من أهميتها، ولا يلغي فاعليتها فقولهم مثلًا بأن آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} تتضمن النهى عن كل زيادة وتعتبرها ربا، ففيها إباحة البيع وتحريم الربا، وعند اجتماع الحظر والإباحة يقدم الحظر، فهذا القول يصدق لو لم يوجد ما يرجِّح كفة الحكم بالإباحة وقد اتضح ذلك الرجحان من خلال الفروق الهامة التي تقدمت بين البيع والربا.

ونقول للمعترضين -كما قال الشيخ أبو زهرة- مقالة الله لمن اعترض مثل اعتراضهم، إذ قالوا بأن البيع مثل الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .

ص: 364

وأما الأحاديث والآثار في جواز إنقاص الثمن مقابل تعجيل الوفاء بالدين. فعل ما فيها من مقال في سندها، إلا أن مفهومها، وما يسندها من أدلة تقدمت في موضعها يجعل من معانيها ودلالتها أمرًا مستساغًا شرعًا.

مما يجعلنا نخلص إلى القول بأن صحة بيع التقسيط وجواز التعامل به هو الأولى بالأخذ به والمصير إليه، والله تعالى أعلم.

رابعًا: فتاوى العلماء القائلين بجواز البيع بالتقسيط:

بعد أن وصلنا إلى نتيجة مفادها أن القول بجواز بيع التقسيط هو الأولى بالأخذ به نظرًا لقوة أدلته، ولأنه يتفق مع روح الشريعة في تحقيق مصلحة المتعاقدين، وتيسير معاملات الناس وحل مشكلاتهم.

وزيادة في التأكيد، والتماسًا لترسيخ هذه الحقيقة نسوق طائفة من فتاوى علماء المسلمين القدامى والمعاصرين والتي جاءت مصرحة بجواز البيع بالتقسيط:

1 -

فتوى شيخ الإِسلام ابن تيمية:

سئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهمًا، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟

فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل الضرورة.

وأما إذا كان محتاجًا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء (1).

2 -

فتوى في كتاب "جواهر الفتاوى"

السؤال: هل يجوز لأصحاب الأموال بيعها حالًا بثمن، ومؤجلًا بأجل معلوم بثمن أعلى منه أو لا يجوز كما يقول البعض بحجة أي قرض جر نفعًا فهو ربا، ولما في المنهاج من نهى عن بيعتين في بيعة، كأن يقول البائع بعتك نقدًا بكذا أو مؤجلًا بكذا فخذ بأيهما شئت؟ .. أجيبونا مأجورين:

الجواب: أن كل الكتب المعتمدة متفقة على جواز البيع المذكور بالوجهين، وأن المال الذي قيمته مائة فلس نقدًا يجوز بيعه مؤجلًا إلى شهر بمائة وعشرة أفلس.

(1)"مجموعة فتاوى ابن تيمية"(29/ 501).

ص: 365

ولا ربا في ذلك، فإنما هو -الربا- بيع النقود بالنقود، والمطعوم بالمطعوم إذا اتفق النوعان. ففى التحفة دلالة واضحة على أن الأجل يقابله قسط من الثمن وعبارتها في البيع بشرط الأجل وشرطه أن يحدَّد بمعلوم. وأن لا يبتعد بقاء الدين إليه، وإلا بطل البيع للعلم حال البيع بسقوط بعضه، وهو يؤدى إلى الجهالة المستلزم للجهل بالثمن لأن الأجل يقابله قسط منه.

وأن استدلال المانع للبيع المذكور بالأجل "كل قرض جر نفعًا فهو حرام" بالأصل المقرر، لا تقريب له، لأن ذلك إنما هو في القرض وهو عقد مستقل غير البيع، وعبارة عن إعطاء شىء شخصًا على اعتبار رد مثله إليه كأن يعطيه عشرة دراهم قرضًا أو قفيزًا من الحنطة مثلًا على الاعتبار المار. فإنه لا يجوز للمقرض أخذ عشرة دراهم وفلس واحد، ولا قفيز حنطة ومُدٍّ بدل ما أقرضه لكون ذلك ربا، وكلامنا في البيع بغير الجنس نقدًا أو عرضًا حالًا أو مؤجلًا وأين هذا من ذلك؟

وأما ما جاء في المنهاج من النهى عن بيعتين في بيعة، فمنشؤه اشتمال الصيغة على كلمة أو للترديد والتشقيق المستلزمة للجهالة والإبهام، وإلا فلو أن البائع بصفقتين كأن باع كيلو من السكر بدرهم حالًا، وكيلو آخر بستين فلسًا إلى شهر وقَبِل المشترى مع ذلك بلا شبهة (1).

3 -

فتوى الشيخ محمَّد رشيد رضا:

حول شراء السلعة بأكثر من ثمن المثل إلى أجل فيجيب: أن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم -والله أعلم- (2).

4 -

فتوى الشيخ عبد الوهاب خلّاف وفيها:

سألني تاجر هل يحل شرعًا بيع الشيء بسعر أعلى لمن يدفع الثمن مؤجلًا؟

فأجبته: نعم، يحل هذا شرعًا، وليس فيه شىء من الربا المحرم. فيحل شرعًا بيع الإردب من القمح بأربعة جنيهات لمن يدفع الثمن حالًا، وبيعه بخمسة جنيهات لمن يدفع الثمن مؤجلًا (3).

(1)"جواهر الفتاوي أو خير الزاد في الإرشاد"، جمعها ورتبها الشيخ عبد الكريم (2/ 23 - 25)، طبعة سنة 1390 هـ، 1970 م.

(2)

"فتاوى الإمام محمَّد رشيد رضا"، جمع وتحقيق: صلاح الدين المنجد، الجزء الخامس ص 1882 فتوى رقم 690: دار الكتب الجديد بيروت ط 1، 1971.

(3)

"مجلة لواء الإِسلام" ص 822 العدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، أبريل 1951 م.

ص: 366

5 -

فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز:

يقول

فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه إلى أجل بثمن أكبر من الثمن النقدي: والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن البيع النقد غير بيع التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، فكان كالإجماع منهم على جوازها (1).

6 -

فتوى الشيخ بدر متولي عبد الباسط:

سئل عن جواز قيام بيت التمويل الكويتي بشراء السلع والبضائع وبيعها لهم بالأجل وبأسعار أعلى من أسعارها النقدية .. فأجاب بقوله:

إن ما صدر عن طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة اختلفوا هل الوعد ملزم -يعني قضاءً- أو لا، فإني أميل إلى الأخذ برأى ابن شبرمة رضي الله عنه الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، يكون وعدًا ملزمًا قضاء وديانةً وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس والعمل به يضبط المعاملات لهذا ليس هناك من تنفيذ هذا الشرط مانع (2).

7 -

فتوى "مؤتمر المصرف الإِسلامى الأول بدبي": والذي اجتمع فيه تسعة وخمسون عالمًا من شتى أنحاء العالم الإِسلامي، وقد عرضت على المؤتمر الصورة التالية:

يتطلب المتعامل من الصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به الصرف، وكذلك الثمن الذي سيشتريها به المتعامل من البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما.

فجاءت توصية المؤتمر:

يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط.

(1)"مجلة الاقتصاد الإِسلامى" ص 42، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، كلمات مختارة ص 137، 138.

(2)

"مجلة الاقتصاد الإِسلامي" ص 34 المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، والفتوى صدرت في جمادى الآخرة 1399 هـ.

ص: 367

إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه (1).

8 -

فتوى د. أحمد الشرباصى:

السؤال: هل يعتبر البيع بالتقسيط حرامًا، إذا كان مجموع الثمن المقسط يزيد عن ثمن السلعة إذا بيعت فورًا؟

الجواب: البيع يكون إما بثمن معجل، وإما بثمن مؤجل إلى أجل معين، وقد نص الفقهاء على جواز النوعين، ومن الواضح أن البيع بالتقسيط من قبيل البيع بثمن مؤجل

وبهذا يعلم أنه يجوز شرعًا بيع السلعة بثمن مؤجل زائد على ثمنها الحالي إذا كان الأجل معلومًا .. فإذا كان الإنسان مثلًا يشترى جوال السماد بمائتين وخمسين قرشًا بثمن معجّل فإنه يصح أن يشتريه بأربعمائة قرش بثمن مؤجل يدفعه بعد أربعة أشهر من تاريخ الشراء ويكون هذا البيع صحيحًا ولا شىء فيه (2).

9 -

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السعودية:

السؤال: أراد رجل الزواج مثلًا، وليس عنده ما يكفى من مبلغ الصداق، فذهب إلى صاحب دكان فقال له أبيعك سيارة بسبعة آلاف ريال سعودى ديْنًا، تدفعها كاملة عند نهاية السنة فهل هذا ربا، مع أن العلم قيمة السيارة نقدًا عشرة آلاف وخمسمائة ريال سعودى فقط، وهذه السيارة هى التي اشترط عليها وهي محور الاشتراط ما بين البائع ومن يريد الزواج.

الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجلٍ بثمن أكثر مما تباع به نقدًا عاجلًا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومن في الحكمة فليس ربا بل هو عقد بين صحيح وجائز .. (3).

(1)"فتاوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي" المنعقد في المدة من 23 - 25 جمادى الثاني 1399، مجلة الاقتصاد الإسلامي، المجلد الأول، العدد الثالث، صفر 1402 هـ، ص 35.

(2)

"يسألونك في الدين والحياة"، أحمد الشرباصي، المجلد الخامس (147)، الطبعة الأولى: دار الجيل، بيروت.

(3)

"فتوى رقم (1638، 7/ 8/ 1397 هـ).

ص: 368

10 -

فتوى صادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء: ردًّا على السؤال التالي:

لدى السائل من يبيع السيارات بأقساط وعلى المبلغ المؤجل فوائد محددة لكنها تزيد بتأخير دفع القسط عن موعد تسديده فهل هذا التعامل جائز أم لا؟

وأجابت بما يلي: إذا كان من يبيع السيارة ونحوها إلى أجل يبيعها بثمن معلوم إلى أجل أو آجال معلومة زمنًا وقسطًا لا يزيد المؤجل من ثمنها حدًّا يتجاوزه فلا شىء، وإن كان المؤجل كما هو مفهوم من السؤال يزيد بتأخر دفع القسط عن موعده المحدد بنسبة معينة فذلك لا يجوز بإجماع المسلمين لأنه ينطبق عليه ربا الجاهلية (1).

11 -

فتوى صادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية بالكويت:

السؤال: ما هو رأى الشرع في البيع بالأجل، هل يسمح الشرع بأن يكون هناك سعر للسلعة في حالة بيعها بالنقد، وسعر آخر لنفس السلعة في حالة بيعها بالأقساط؟

الجواب: أنه لا مانع من أن يكون سعر البيع بالتقسيط أعلى من سعر البيع بالنقد الفورى، وللبائع أن يحتسب الأرباح التي يريدها بأي أسلوب حسابي .. (2).

12 -

فتوى الدكتور عبد الحليم محمود وقد جاء فيها:

لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن المدفوع فورًا، وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى. أما الثمن المؤجل فإنه لا يتأتى فيه ذلك. وهذا النوع من المعاملات ليس داخلًا في نطاق الربا

(3).

13 -

فتوى مجلة "منار الإسلام":

أجاب الشيخ موسى صالح شرف على سؤال ورد إلى زاوية "منكم وإليكم"

(1)"مجلة البحوث الإِسلامية"، العدد السادس، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ص 270، ربيع ثاني، جمادى 1، 2 - 1403 هـ.

(2)

"مجلة الشريعة والدراسات الإِسلامية" ص 264، السنة الأولى، العدد الأول، رجب 1404 هـ، تصدر عن جامعة الكويت.

(3)

"فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود"(2/ 300، 301): دار المعارف.

ص: 369

بالمجلة بتوقيع -مسلم، المغرب- يقول فيه: أعمل بإحدى الشركات، وتقوم بتوزيع المنازل على من يرغب في شرائها بطريقتين: الأولى أن يدفع الثمن فورًا، والثاني على أقساط تخصم من الراتب، والثمن بهذه الطريقة يفوق الثمن المؤدى فورًا، فهل الزيادة مشروعة أم لا؟

الجواب: يجوز للمسلم أن يشترى ويدفع الثمن فورًا، كما يجوز أن يؤخر دفع الثمن كله أو جزء منه إلى أجل بالتراضي مع الشركة أو صاحب الشىء المباع. وللبائع أن يزيد في الثمن الحالي. بشرط أن لا يستغل المشترى أو يظلمه، والأصل في ذلك الإباحة. لم يرد نص في تحريمه على أن يحدد المشترى إن كان يريد نقدًا أو بالتقسيط منذ البداية وأن لا تكون الشركة تحسب الأقساط على أساس الربا. وأن لا يكون الثمن قابلًا للزيادة فيما لو عجز المشترى عن دفع الأقساط في حينه (1).

خامسًا: مزايا البيع بالتقسيط وسلبياته:

بعد أن استعرضنا أدلة الفقهاء القائلين بجواز بيع التقسيط، والقائلين بعدم جوازه وترجح لدينا أن القول بجوازه هو القول الأقوى دليلًا، والأولى بالترجيح، والأجدر بالعمل به -بعد هذا- أرى إتمامًا للفائدة أن نذكر فوائد هذه المعاملة وإيجابيتها، ومضارها وسلبياتها، فذلك يزيد إلى قناعتنا دليلًا، وإلى يقيننا يقينًا، بصحة القول المختار.

أولًا: مزايا بيع التقسيط:

1 -

تقديم الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات التجارية التسهيلات لذوى الدخل المحدود، ممن لا تسمح لهم مكاناتهم المادية بدفع أثمان السلع التي يحتاجون بثمن حال، وهذا من شأنه أن يرغبهم في الإقبال على التعامل معها، كما يعمل على ترويج السلع والبضائع كيلا تبقى مكدسة في مخازنهم (2).

(1) مجلة "منار الإِسلام"، تصدرها وزارة الأوقاف بدولة الإمارات، العدد الرابع، السنة الحادية عشرة، ربيع الآخر، 1406 هـ، يناير 1986 م، ص 47.

(2)

"العقود المسمّاة"، د. أنور سلطان، 28، شرح عقد البيع في القانون المدني الكويتي، د. عباس الضراف: 76 دار البحوث العلمية بالكويت 1395 هـ، 1975 م، شرح القانون التجارى د. على العريف: 208 مطبعة أحمد مخيمر ط2، 1959.

العقود التجارية: على حسن يونس (55) دار الفكر العربي، البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية (6)، العقود الشائعة أو المسماة وعقد البيع (214)، د. جاك حكيم، مطبعة محمَّد نهاد الكتبى، دمشق.

ص: 370

2 -

التغلب على المشكلة التي تواجه كثيرًا من الناس -لاسيما الفئات ذات المرتبات المتدنية- والمتمثلة في القدرة على التوفير والادخار، لأن ضيق ذات اليد وكثرة المطالب من جهة، وعدم توافر الإرادة التي لا غنى للإنسان عنها للادخار قد تحول دون هذه الغاية (1).

3 -

إرضاء رغبة لدى الإنسان في الحصول على الشىء الذي يريد دون انتظار، فالتعامل بالتقسيط يشجع المشترى على الإقدام على الشراء (2).

ثانيًا: سلبيات البيع فأبرزها:

1 -

ما يقع من مشكلات بين البائع والمشترى تنشأ في حالة عجز المشترى عن سداد الأقساط كليًا أو جزئيًا، وذلك بسبب تعذر استرداد البائع للسلعة، أو حصوله على حقه فالبائع يحوِّل معظم أمواله إلى ديون على الغير لا تتوفر فيها ضمانة جدية فإذا عجز معظم المشترين عن الوفاء بسبب أزمة اقتصادية ضيع أمواله وعجز عن الوفاء لدائنه وانعكس ذلك على الوضع الاقتصادى برمته.

ويجاب عن هذه السلبية: بأن الأحكام التي شرعت بقصد ضبط علاقة البائع بالمشترى في حالة البيع بالأجل، والتي تبين بدورها كل منهما والتزاماته إزاء الآخر من شأنها أن تتغلب على هذه المشكلات. على أن هذه المشكلات ليست قاصرة على البيع بالتقسيط بل قد توجد في البيع المطلق والإجارة وغيرها من العقود.

2 -

أن سهولة الحصول على السلعة والدفع قد تغري المشتري بالشراء لاسيما لسلع قد لا تكون ضرورية مما يثقل كاهله بالدين ويربك ميزانية أصحاب الدخول المحدودة إذا تنوعت الأقساط التي يلتزمون بها، ويكرس روح الاستهلاك في المجتمع، وهذا يتنافى مع توجيهات الإِسلام إلى عدم التوسع في الاستهلاك، والمبالغة في الإنفاق لاسيما في الأمور التحسينية (3).

ويجاب عن ذلك بأن المسلم في تصرفاته عمومًا ومعاملاته المالية على وجه الخصوص لا يطلق لنفسه العنان كى يسترسل على هواها، بل هو محكوم فيما يأتي ويدع بتوجيهات الشرع وأحكامه التي تدعوه إلى أن يكون معتدلًا في إنفاقه حتى في حالة اليسار {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}

(1)، (2)"شرح القانون التجارى"(1/ 208).

(3)

"هامش الوسيط" للدكتور السنهورى (4/ 173)، العقود التجارية (55)، العقود الشائعة (15/ 2).

ص: 371

فأنى للمسلم وهو الذي يتمتع بالأفق الواسع، والعقل الراجح، فلا تستخفه شهوة، ولا يمد عينيه إلى متاع الدنيا وزهرتها إلى حدود المباح المعقول أن يغرق نفسه في الديون التي يعلم أنه سيؤديها ولو بعد حين، وأن يقع تحت وهم سهولة الحصول على السلعة عاجلًا.

3 -

أن هذا النوع من البيع يدفع التاجر إلى رفع سعر السلع حتى يواجه احتمال إعسار المشترى وبخاصة في أوقات الانكماش الاقتصادى (1).

ويجاب عن هذا، بأن التاجر الذي يرتضي لنفسه هذا النوع من التعامل لابد أن يكون على علم بطبيعته ومقتضاه، ويدرك أن سيقتضي إثمان السلع التي يبيع مؤجلة، ولأجل هذه الاعتبارات رخَّص له الشرع بأن يزيد من ثمن السلعة عن الثمن المعجل تعويضًا له عن حرمانه من استثمار ثمنها بسبب التأجيل، ولكن على أن تكون الزيادة في الحدود المقبولة شرعًا وإلا انقلب إلى الربح الفاحش الذي يحرمه الشرع.

علاوة على أن إغلاء السعر لا يختص بالبيع بالتقسيط، فقد يربح التاجر ربحًا فاحشًا وإن كان يبيع بثمن حال، متى غابت من ضميره رقابة الله سبحانه وتعالى، وفقدت من قلبه الرحمة بعباده.

4 -

أن البيع بالتقسيط يتضمن خطرًا بالنسبة للبائع، لأن المبيع تنقل ملكيته إلى المشترى ويصبح البائع دائنًا بالثمن في حين يكون للمشترى التصرف في المبيع.

ولذلك أجاز القانون المدني للبائع أن يتطلب فسخ البيع واسترداد المبيع في حالة امتناع المشترى عن الوفاء بباقي الأقساط (2) ويقال جوابًا عن هذه السلبية: إن الضمانات التي منحها الشرع للبائع في حالة حدوث مثل هذا الخطر المتوقع تكفل التغلب على المشكلة وعلاجها.

5 -

أنه في حالة إفلاس المشترى لا يحق للبائع وفق القانون التجارى طلب الفسخ والاسترداد لسلعته ويقتصر أمره على أن يكون دائنًا عاديًا يدخل بالباقي من الثمن في التفليسة، ويخضع لقسمة الغرماء تحقيقًا للمساواة بينهم (3).

ويجاب عن ذلك: بأن ما للبائع بالتقسيط من مال في ذمة المشترى لا يختلف

(1)"هامش الوسيط"(43/ 173).

(2)

"بيع التقسيط والبيوع الائتمانية"(24).

(3)

"العقود التجارية"(57)، العقود المسماة (215).

ص: 372

عن سائر الديون التي يتحملها لغيره من الغرماء، فلا معنى لتمييزه، لاسيما وأنه أقدم على هذا الضرب من التعامل بمحض اختياره فهو بالتالى مهيئًا لتحمل نتائجه والتعامل معها بصورة إيجابية.

من هنا نرى أن سلبيات البيع بالتقسيط -إن وجدت أو وجد شىء منها- فهي طفيفة ضئيلة إزاء المزايا والإيجابيات التي ذكرناها له، كما أنها في أكثرها مبالغ فيها، مما يعزز ما ذهبنا إليه من القول بمشروعية البيع بالتقسيط وحِلِّ التعامل به -إن شاء الله تعالى-.

سادسًا: رأى القانون في جواز البيع بالتقسيط:

علمنا مما تقدم أن القول بجواز البيع بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحال مقسطًا كان أو غير مقسط هو ما ذهبت الجمهرة العظمى من الفقهاء إليه (1).

والقانون الوضعي يتفق مع الحكم الشرعى في هذا الاتجاه:

جاء في الوسيط "يقع كثيرًا أن يبيع شخص عينًا بثمن مقسط

وأكثر ما يقع ذلك في بيع السيارات والآلات الميكانيكية .. وفي بيع المحلات التجارية والأراضي والدور .. فيجمع إلى أصل الثمن فوائده، ويقسم المجموع أقساطًا على عدد المشهور أو السنين، إذا وفاها المشترى جميعها خلصت له ملكية المبيع" (2).

فقد ذكر أنه مضاف إلى الثمن الحال فوائده

وإذا كانت الفوائد هى ما تستعمله القوانين الوضعية من اصطلاح للتعبير عن الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل لأنها تقر مبدأ الفائدة الربوية

فإن ما يقابل ذلك في اصطلاح الشرع هو زيادة الثمن بالنسيئة عنه في النقد مقابل الأجل.

فإذا كان الشرع لا يوافق القانون في التسمية والحكم، فلا ريب أن القانون يوافق الشرع على أصل الفكرة وهي زيادة الثمن نظير الأجل.

على أننا ينبغي أن نلاحظ أنه إن كان المراد بالفائدة -الزيادة- مع اختلاف الجنسين، كأن يبيع شخص لآخر شقة مثلًا بعشرين ألف دينار يدفع عشرة آلاف حالًا ويدفع العشرة المتبقية مع زيادة مقدار (كذا) على كل قسط لقاء الأجل فإن من العلماء من يرى جواز ذلك:

(1) انظر ص 52 هامش2.

(2)

"الوسيط" للسنهوري (4/ 172).

ص: 373

يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف جواب عن سؤال نصّه: إذا اشترى إنسان ألف متر من الأرض للبناء مثلًا بألفي جنيه على أن يدفع في الحال ربع ثمنها والباقي يدفعه أقساطًا سنوية لمدة خمس عشرة سنة كل قسط مائة جنيه على أن يدفع المائة مائة وخمسة أو ستة فأجاب:

بعض المسلمين قالوا هذا حرام لأن هذه الخمسة فائدة وهي ربا محرم، وأنا أخالف في هذا وأقرر أن هذه الخمسة أو الستة ليست ربا الفضل الوارد بالسُّنة وإنما هى حصة الأجل من الثمن وهي الفرق بين سعر المبيع إذا بيع بثمن حال وسعره إذا بيع بثمن مؤجل.

ويقول "وزارة الأوقاف تبيع الأرض في مدينة الأوقاف على هذه الصورة: يدفع المشترى في الحال خُمس الثمن ويدفع الباقي على خمسة عشر قسطًا، منها عشرة أقساط يدفع المشترى فوق كل قسط ثلاثة أو أربعة في المائة منه، وسمتها فائدة ولهذا اعترض عليها بعض المسلمين فسمتها بدل بيع، وأخيرًا صرحت بالحقيقة وجعلت في وقت للمزايدة سعرين: سعرًا للمتر لمن يدفع الثمن كله في الحال، وسعرًا أعلى للمتر لمن يدفع بعض الثمن في الحال وباقيه على آجال. والفرق يساوى مجموع ما كان يضاف على الأقساط"(1).

ويبدو لي أن ما ذهب إليه الشيخ خلاف رحمه الله من جواز إفراد الزيادة على القسط الشهرى بالذكر أو غير مستساغ شرعًا، بخلاف ما لو أُدمجت الزيادة التي تقابل الأجل مع المبلغ الإجمالي للسلعة ولم تتميز، كما لو قال البائع للمشترى: أبيعك هذه الشقة بعشرين ألفًا، تدفع نصفها فورًا ويقسط الباقي على أشهر معلومة، وكان قد أضاف الزيادة التي تقابل التأجيل إلى العشرين ألفًا فإن البيع يجوز. في حين لو قال له: رأس مالها خمسة عشر ألفًا وتدفع كذا فورًا والباقي على أقساط، ويضاف إلى كل قسط زيادة مقدارها كذا -وهي الصورة التي أفردها الشيخ- فإن ذلك لا يجوز، لأن هذه الزيادة لا معنى لها حينئذ إلا الربا المحرم. والله تعالى أعلم.

المبحث الرابع: أحكام بيع التقسيط:

المطلب الأول: شروط البيع بالتقسيط: من المعلوم أن لعقد البيع المطلق شروطًا

(1) مجلة "لواء الإِسلام"(ص 903)، عدد مايو 1951، فتوى الشيخ عبد الوهاب خلاف.

ص: 374

فصلتها كتب الفقه الإسلامي، غير أن البيع بالتقسيط يختص ببعض الشروط المرتبطة بطبيعته أهمها ما يأتي:

أولًا: أن يكون الأجل أو الآجال فيه معلومة: فلما كان الأجل عنصرًا أساسيًا في بيع التقسط لأنه قسيم البيع المطلق أو الحال الذي يدفع الثمن فيه فورًا، فسنتكلم عن العلم بالأجل من حيث الاعتبارات التالية:

1 -

معناه: من اللازم أن يكون أجل دفع كل قسط في هذا البيع معلوم الوقت عند كلا العاقدين، لأن جهالته تفضى إلى النزاع فيفسد البيع. والظاهر من عبارة جمهور الفقهاء أن أجل الدفع إذا كان مجهولًا فإن البيع يفسد سواء أكان الجهالة يسيرة أم فاحشة، فإذا حدد دفع كل حصة بآخر الشهر مثلًا صح فاتفاق نظرًا للعلم النافي للجهالة، أما إن كان وقت الدفع مجهولًا جهالة فاحشة كما لو حدده بنزول المطر مثلًا فهذا باطل باتفاق. أما إن كانت الجهالة يسيرة كالتحديد بالحصاد فالبيع باطل عند الجمهور أيضًا، لأن الفاحشة فيها غرر الوجود والعدم، واليسيرة مما يتقدم الأجل قيس ويتأخر؛ فيؤدى إلى المنازعة فيوجب فساد البيع. وقال بعض الحنفية بالجواز إن كانت الجهالة ليست فاحشة نظرًا وإن الحصاد لا يكون في كل وقت بل في مدة من الزمن محدودة يتردد وقوعها بين أولها وآخرها (1).

وقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح في المذهب إلى أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد (2) وذهب الحنفية إلى أن البيع لا يبطل بالجهالة اليسيرة كقدوم الحاج والحصاد (3).

وذهب أحمد في رواية عنه، وهو قول ابن شبرمة إلى أن العقد صحيح ويبطل التأجيل (4).

(1)"بدائع الصنائع"(7/ 3093)، "المبسوط"(13/ 26، 27)، "الفتاوى البزازية"(4/ 404)، "المجموع"(9/ 373)، "كشاف القناع"(3/ 194، 203)، "الفروع"(4/ 85)، "حاشية قليوبي وعميرة"(2/ 177)، "شرح النيل"(4/ 4)، "حاشية الدسوقي"(2/ 67).

(2)

"الدسوقى على الشرح الكبير"(2/ 123)، "حاشية قليوبي وعميرة"(2/ 178)، "المغني"(3/ 589).

(3)

"الهداية"(2/ 33)، "فتح القدير"(6/ 455).

(4)

"المغني"(3/ 589).

ص: 375

دليل الجمهور: إن هذا شرط فاسد، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة، وأنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة (1).

دليل الحنفية: أن الجهالة مانعة من لزوم العقد، وليست في صُلبه، بل في أمر خارج هو الأجل، فإذا زال المانع قبل وجود ما يقتضي الفساد وهو المنازعة عند المطالبة الحاصلة عند مجىء الوقت ظهر محل المقتضى وهو انقلابه صحيحًا (2).

دليلُ رواية الحنابلة الثانية قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"، ولأن الأجل مجرد وصف للعقد لا ركن فيه فيلغى ويصح العقد، ولأن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره (3) والراجح ما ذهب إليه الجمهور من القول ببطلان هذا العقد، لأن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد لا يخلو عن أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، فإذا كان صحيحًا مع وجود الأجل لم يفسد باشتراطه، وإن كان فاسدًا لم ينقلب صحيحًا كما لو باع درهمًا بدرهمين ثم حذف أحدهما.

جاء في المادة (246) من مجلة الأحكام العدلية: يلزم أن تكون المدة معلومة في البيع بالتقسيط والتأجيل، وفي المادة (247): إذا عقد البيع على تأجيل الثمن إلى كذا يومًا أو شهرًا أو سنة أو إلى وقت معلوم عند العاقدين كيوم قاسم ويوم النيروز صح البيع إذا كان قاسم أو النيروز معلومًا عند المتبايعين، أما لو كان مجهولًا عندهما أو عند أحدهما فقط فلا يصح.

وفي المادة (248): تأجيل الثمن إلى مدة غير معينة كأمطار السماء يفسد البيع (4) أما القانون الوضعى ففى المادة (483) من القانون الأردني: الثمن في البيع المطلق يستحق معجلًا ما لم يتفق على أو يتعارف على أن يكون مؤجلًا أو مقسطًا لأجل معلوم وفي المادة (574) مدنى عراقى "يصح البيع بثمن حال إلى أجل معلوم".

وهاتان المادتان وإن ذكرتا الأجل في ظاهر النص، وأوجبنا أن يكون أجل ثمن

(1) المراجع في هامش (2).

(2)

"فتح القدير"(6/ 455).

(3)

"كشاف القناع"(3/ 190)"المغني"(3/ 590).

(4)

"شرح مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 280 - 282)، درر الحكّام شرح مجلة الأحكام، حيد مجلد 1ج (2/ 473)، "النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية"، صبحى محمصانى، (473): دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1972 م.

ص: 376

المبيع معلومًا، إلا أنه ليس فيهما ما يدل على أن عدم ذكره يبطل العقد. فلم يقصد بهما مخالفة القواعد القانونية العامة، ومن ثم يفسر النص على أنه ذكر حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل معلوم، وسكت عن حكم البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، فيرجع إلى القواعد القانونية العامة وهي تجيز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول.

ومن هنا نرى أن الاتجاه القانوني يخالف الاتجاه الفقهي الإسلامي من حيث تحديد أجل معلوم للثمن، ففى حين يشترط الفقه ذلك، ويتشدد فيه، ويبطل العقد عند انعدامه، فإن القوانين المدنية تسمح بقدر من الغرر لا تسمح به الشريعة الإِسلامية. ولا ريب أن نظرة الفقه الأكثر سدادًا وهي الأحق بالعمل بها (1).

وهذا هو قول أبى حنيفة. وقال الصاحبان: الحالان سواء، ولا يعطى المشترى أجلًا في الحالة الثانية لأن السنة المطلقة تنصرف إلى سنة تعقب العقد بلا فصل، فإذا مضت انتهى الأجل، كما لو عين الأجل نصًّا (2).

وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة حيث اعتبروا ابتداء الأجل من وقت العقد (3).

وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية برأى أبي حنيفة. ففى المادة (250) يعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط المذكورين من وقت تسليم المبيع (4).

كما نصت المادة (484) من القانون الأردني على أنه إذا كان الثمن مؤجلًا أو مقسطًا فإن الأجل يبدأ من تاريخ تسليم المبيع، وفي المادة (574) من القانون العراقي يعتبر ابتداء الأجل والقسط المذكورين فيعقد البيع وقت تسليم المبيع ما لم يتفق على غير ذلك" (5).

وما قلناه من ابتداء الأجل من وقت التسليم عند أبي حنيفة مشروط بما إذا لم يكن للمشترى خيار فإن كان في البيع خيار الشرط لهما أو لأحدهما فابتداء الأجل من حين وجوب العقد وهو وقت سقوط الخيار لا حين وجوده لأن تأجيل الثمن

(1)"نظرية الأجل"(187)، "أحكام عقد البيع"(287).

(2)

"بدائع الصنائع"(7/ 3093، 3261)، "الفتاوى البزازية"(4/ 511).

(3)

"المجموع"(9/ 214)، "كشاف القناع"(3/ 203).

(4)

"مجلة الأحكام العدلية"، منير القاضى (1/ 284).

(5)

"أحكام عند البيع"(286).

ص: 377

هو تأخيره عن وقت وجوبه ووقت وجوبه هو وقت العقد وانبرامه لا قبله. وهذا قول أبي حنيفة. وبه قال إمام الحرمين من الشافعية، لأن الخيار يمنع من المطالبة بالثمن كالأجل فكان قريبًا والخيار تأجيل لإلزام الملك أو نقله والأجل تأخير المطالبة، فكان في معناه ولا سبيل إلى جمع المثلين (1).

وقال الشافعية والحنابلة ابتداء الأجل ومن وقت العقد -على الراجح من مذهبهم (2).

وإلى هذا المعنى ذهبت المادة (250) من المجلة.

3 -

انتهاء الأجل؛ إذا باع رجل لآخر سلعة بثمن مؤجل أو مقسط، فإن الأجل يحل في الحالات التالية:

(أ) حلول الأجل: فإذا باع السلعة على أن يدفع المشترى مقدارًا معينًا من الثمن في نهاية كل شهر مثلًا، فإن الأجل ينتهى لكل قسط بانقضاء الشهر. وقبل ذلك لا يحق للبائع أن يطلب المشترى بالثمن لأن رضاه بالتأجيل رضي بتأخير حقه إلى الموعد المضروب.

(ب) موت المشتري وإفلاسه: فإذا توفي المشترى حل الثمن المؤجل، ولا يحل بموت البائع، لأن الأجل يبطل بموت المدين دون الدائن، ووجه ذلك: أن فائدة التأجيل تظهر في أن يتجر المشترى فيؤدى الثمن من نماء المال، فإذا مات تعين المال الذي تركه لقضاء الدين فلا يجدى التأجيل (3).

وإذا أفلس المشتري في البيع المؤجل وعجز عن أداء الثمن فلا يفسخ العقد، لأنه يجوز للشخص أن يشترى سلعة بقرض حالًا وإن لم يكن في ملكه، نعرف أن وجوب تسليم الثمن ليس من حكم العقد، والعجز عن تسليم الثمن إذا طرأ بالإفلاس لا يكون أقوى من العجز عن تسليم الثمن إذا اقترن بالعقد (4).

3 -

شروط التأجيل: يشترط لصحة التأجيل والتقسيط ما يأتي:

(أ) أن يكون الثمن من نوع الديون، فإذا أجل تسليم المبيع المثلى إلى الثمن

(1)"بدائع الصنائع"(7/ 3662).

(2)

"المجموع"(9/ 215)، "كشاف القناع"(3/ 204).

(3)

"الفتاوى البزازية"(4/ 511، 512)، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (2/ 212)، "الأم"(3/ 88)، "المغنى"(4/ 485).

(4)

"المبسوط"(13/ 198).

ص: 378

المعين بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا فالبيع باطل. لأن التأجيل إنما جاز لضرورة عدم وجود الثمن لدى المشترى وتمكينًا له من اكتسابه في مدة الأجل، ولا ضرورة في الأعيان، فكان التأجيل فيها تغييرًا لمقتضى العقد فأوجب فساده (1).

(ب) أن لا يكون الثمن بدل صرف، ولا ثمن مسلم فيه في بيع السلم، لأنه يشترط فيهما قبض الثمن في المجلس، فلا يمكن التأجيل سدًّا لذريعة الربا (2).

(جـ) أن لا يكون في السعر غبن فاحش: فعلى البائع أن يقتصر على الربح الذي جرت به العادة وأن لا يستغل ظروف المشترى الحرجة ليبيعه بأضعاف مضاعفة، لأن هذا من الجشع والطمع والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل (3).

(د) العلم بالثمن الأول إذا كان البيع بالتقسيط يقع في نطاق بيوع الأمانة كبيع المرابحة والتولية أو المواضعة، فإذا لم يكن معلومًا فالبيع فاسد لجهالة الثمن (4).

(هـ) أن لا يشترط في عقد البيع بالتقسيط أنه إذا عجل المشتري الثمن فإن البائع يسقط من المطلوب قدرًا معينًا. ويحق للبائع إسقاط بعض الثمن دون اتفاق مسبق ويكون ذلك من قبيل تمليك الدين ممن هو عليه، ومن باب حسن الاقتضاء (5).

(و) لا يجوز في عقد البيع بالتقسيط أن يشترى البائع على المشترى -سواء عند العقد أم بعده- أن يزيد في الثمن أو الربح عندما يتأخر المدين عن الوفاء بالدين (6).

(1)"بدائع الصنائع"(7/ 4083 - 84)، "المجموع"(9/ 373).

(2)

"الفتاوى البزازية"(4/ 398).

(3)

"مجموعة فتاوى ابن تيمية"(29/ 496)، "الإِسلام وثقافة الإنسان"(397)، "الحلال والحرام"، القرضاوى (147)، "مجلة لواء الإِسلام"(822) عدد 11 السنة الرابعة، رجب 1370 هـ، 1951 م، "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، المجلد الأول، العدد 11 شوال 1402 هـ، "مجلة البحوث الإِسلامية" العدد السابع 1403 هـ، فتوى رقم 71.

(4)

الفتوى الصادرة عن الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية رقم (61/ 81)، نشرتها مجلة الشريعة (ص 264) العدد الأول، السنة الأولى.

(5)

"فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية"، نظرية الأجل، د. عبد الناصر العطار (271).

(6)

"فتوى الهيئة العامة بوزارة الأوقاف الكويتية" رقم (61/ 81).

ص: 379

(ز) أن يكون غرض المشتري من شراء السلعة بثمن مؤجل أعلى من المعجل سد حاجته إليها، أو الاتجار بها، أما إذا كان يقصد من ذلك بيعها لحاجته الماسة إلى مبلغ من المال لقضاء بعض مصالحه، وهي ما تعرف بمسألة عدم الجواز، لما روى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سئل عن التورق فقال: هو أخية الربا (1).

وهناك بعض الشروط التي انفرد القانون الوضعى بذكرها لبيع التقسيط:

1 -

أن يكون البائع تاجرًا، ومعتادًا على بيع السلعة بالتقسيط، أو يشكل البيع بالتقسيط أحد أعماله الأساسية (2).

2 -

أن لا يقل رأس ماله عن خمسة آلاف جنيه مصرى أو ما يعادلها لغرض إكسابه مركزًا ماليًا يمنعه من التعسف (3).

3 -

أن يتوفر لديه سجل خاص لقيد العمليات المتعلقة بهذا البيع، وفق النموذج الذي تقره وزارة التجارة (4).

4 -

أن يكون عقد البيع محررًا على نسختين، وذلك حسمًا لمادة النزاع الذي ربما ثار بين المتعاقدين (5).

5 -

أن يستوفى البائع ما لا يقل عن 25% من ثمن السلعة نقدًا عند التسليم بقصد حماية المشترى (6).

6 -

أن لا يقل القسط عن جنيه شهريًا، وأن لا تزيد مدة التقسيط المتبقى من ثمن البيع عن سنتين من تاريخ العقد (7).

7 -

أن تكون أقساط الثمن متساوية في المقدار، وأن تكون منتظمة وتؤدى خلال فترة معقولة (8).

وهذه الشروط لا تأباها نصوص الشريعة وقواعدها العامة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على

(1)"مجموعة فتاوى ابن تيمية"(29/ 486).

(2)

"العقود التجارية"(60 - 63)، القانون التجارى، رضا عبيد (68 - 70)، "شرح القانون التجاري"، د. على الصريف (1/ 212، 213)، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإِسلامية (2/ 473).

(3 - 7) المراجع السابقة.

(8)

بيع التقسيط (16).

ص: 380

شروطهم .. " وقاعدة: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار: الضرر يزال، كما أشار ابن عابدين في حاشيته إلى بعض هذه الشروط (1).

المطلب الثاني: مقتضى البيع بالتقسيط وتبعاته: مقتصى عقد البيع انتقال ملكية المبيع للمشترى، وملكية الثمن للبائع. ولما كان الثمن في البيع بالتقسيط مؤجلًا، فعليه لا يتم قبضه عند التعاقد، غير أن ذلك لا يعطى البائع حق الامتناع من تسليم البيع.

جاء في المجموع شرح المهذب (قال أصحابنا: للمشترى الاستقلال بقبض المبيع بغير إذن البائع إذا كان دفع الثمن، أو كان مؤجلًا. ..)(2).

وقال في موضع آخر "ولو باع بشرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفى الثمن، فإن كان الثمن مؤجلًا بطل العقد، لأنه يجب تسليم المبيع في الحال، فهو شرط مناف لمقتضاه"(3).

ومعلوم أن مقتضى العقد هو تملك المبيع بمجرد تمامه.

وقال الكاساني في عداد حديثه عن الشروط الفاسدة في عقد البيع .. ومنها شرط الأجل في المبيع العين والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجل، لأن القياس يأبى التأجيل أصلًا، لأنه تغيير مقتضى العقد، لأنه عقد معاوضة تمليك وتسليم بتسليم. والتأجيل ينفى وجوب التسليم المال فكان مغيرًا لمقتضى العقد. وإنما جاز التأجيل لصاحب الأجل لضرورة العدة ترفيهًا وتمكينًا له عن اكتساب الثمن في المدة المضروبة، ولا ضرورة في الأعيان فيبقى الأجل فيها تغييرًا محضًا لمقتضى العقد فيوجب فساد العقد (4).

وقال في موضع آخر ومن آثار عقد البيع: ثبوت حق الحبس للمبيع لاستيفاء الثمن في الثمن الحال، فإن كان مؤجلًا لا يثبت حق الحبس، لأن ولاية الحبس تثبت حقًّا للبائع لطلبه المساواة عادة، ولما باع بثمن مؤجل نقدًا سقط حق نفسه فبطلت الولاية، وكذا الحكم لو كان الثمن حالًا فأجله البائع بعد العقد (5). ويقول

(1)"حاشية ابن عابدين"(4/ 533).

(2)

"المجموع"(9/ 295).

(3)

"المجموع"(9/ 412).

(4)

"بدائع الصنائع"(7/ 3083، 3084).

(5)

"بدائع الصنائع"(7/ 3261).

ص: 381

"إذا أخر -البائع- الثمن بعد العقد بطل حق الحبس، لأنه أخر حق نفسه في قبض الثمن فلا يتأخر حق المشترى في قبض المبيع وكذا لو قبض المشترى المبيع بإذن البائع بطل حق الحبس حتى لا يملك الاسترداد لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض"(1).

وجاء في المبسوط "إذا لم يصل إلى البائع جميع الثمن يبقى له الحق في حبس المبيع إلا أن يكون الثمن مؤجلًا، فحينئذ ليس له أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل، ولا بعد حلول الأجل، لأنه قبل حلول الأجل ليس له أن يطالب بالثمن، وإنما بحبس المبيع بما له أن يطالبه من الثمن، وأما بعد حلول الأجل فلأن حق الحبس لم يثبت له بأصل العقد فلا يثبت بعد ذلك تبعًا بهذا الحق ما كان له من استحقاق إليه قبل البيع، فإذا لم يبق ذلك بعد العقد، لا يثبت ابتداء بحلول الأجل (2).

وجاء في المدونة: (قلت) أرأيت لو أني اشتريت من رجل ثوبًا بعينه بعشرة دراهم إلى أجل، فافترقنا قبل أن أقبض الثوب منه، أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال): نعم والبيع جائز، وللمشترى أن يأخذ ثوبه، ولا يفسد البيع افتراقهما، لأنه لم يمنع من أخذه منه، لأن الثمن إلى أجل، وليس للبائع أن يحبس الثوب ويقول لا أدفعه حتى آخذ الثمن (3).

وفيها أيضًا: (قلت) أرأيت لو اشتريت منه سلعة بعينها بدين إلى أجل فافترقنا قبل أن أقبض، أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ (قال) لا بأس بذلك في قوله وليقبض سلعته، لأن مالكًا كره أن يشترى الرجل الطعام كيلًا بدين إلى أجل والطعام بعينه، ثم يؤخر كيل الطعام إلى الأجل البعيد (4).

وفي المغني: ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع وبغير اختياره، لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن .. (5) وهذا في حال كون الثمن معجلًا، ففى المؤجل أولى.

وفيه أيضًا: "وإن اختلفا في التسليم فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض

(1)"بدائع الصنائع"(7/ 3265).

(2)

"المبسوط"(13/ 192، 193).

(3)

"المدونة الكبرى" للإمام مالك بن أنس (4/ 153)، دار صادر، بيروت.

(4)

"المدونة الكبرى"(4/ 154).

(5)

"المغني"(4/ 126).

ص: 382

الثمن. وقال المشترى: لا أسلم حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع .. " ويقول: وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الإطلاق (1) يعني سواء اكان في الذمة أم عينًا، مؤجلًا أم معجلًا.

وفي الدر المختار: وفي بيع سلعة بمثلها أو ثمن بمثله سلما معًا ما لم يكن أحدهما دينًا كسلم وعن مؤجل، وقال صاحب رد المختار: للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن

ويسقط بتأجيل ثمن (2).

ويقول ابن أمين الحجاج "المبيع المؤجل فيه الثمن سبب في الحال، لأن الأجل دخوله على الثمن ليقيد تأخير المطالبة قبل الأجل لا على البيع، فلا معنى لمنعه من الانعقاد ولا لحكمه الذي هو ثبوت الملك في البيع وثبوت الثمن في الذمة إذ لا وجه لتأثير الشىء فيما لا يدخل عليه. ومعنى هذا أن البيع المؤجل فيه الثمن ينعقد صحيحًا نافذًا لازمًا إلا فيما دخل عليه الأجل (3).

ومن هذه العبارات يظهر بجلاء أن الملكية تنتقل بمجرد العقد وأنه ليس لأجل الإضافة في الفقه الإسلامي أثر على وجود الالتزام وأن البائع لا يجوز أن يمتنع من تسليم السلعة إذا قبضها المشترى بإذنه، أو كان الثمن مؤجلًا قبض شيئًا من الثمن أو لم يقبضه كله، لأنه أسقط حق نفسه باختياره، فلا يثبت له ما ينافى مقصود الشرع من العقد.

وكما أن المبيع ينتقل إلى المشترى كمقتضى للعقد، فإن ينتقل إلى البائع بمقتضاه أيضًا، ويكون هذا الانتقال فوريًا إن كان الثمن حالًا، وعند حلول الأجل إن كان الثمن مؤجلًا.

وفي القانور الوضعي من المقرر كذلك أنه لا ارتباط من انتقال الملكية وبين أداء الثمن، فالملكية تنتقل إذا كان المبيع منقولًا معينًا بالذات فعقد البيع ينشىء التزامًا بنقل الملكية وإذا جرى الاتفاق على تأجيل الثمن أو على أقساط تستحق بعد فترة من إبرام العقد فيتوجب على البائع أن يسلم المبيع فور الانتهاء من إبرام البيع، ولكن انتقال الملكية كما نصت على ذلك المادة (286) و (269) و (374) من مجلة

(1)"المغني"(4/ 218).

(2)

"حاشية رد المحتار على الدرر المختار"(4/ 561).

(3)

"التقرير والتجبير شرح التحرير" لابن أمين الحاج (132)، ط 1316 بمصر.

ص: 383

الأحكام وإلى هذا أشارت المادة (346) من القانون المدني المصري و (356) مدني عراقي و (397) مدني كويتي (1).

ولكن انتقال الملكية يتم تلقائيًا في المبيع المعين بالذات الذي يملكه البائع، والإفراز في المبيع المنقول المعين بالنوع، وبالتسجيل في العقار ويتم انتقال الملكية مقابل التزام المشترى بالثمن سواء دفعه المشترى حين العقد، أم بقى دينًا في ذمته مستحق الأداء أم كان مؤجلًا أم مقسطًا.

وهذا ما نصت عليه المواد (204، 205) مدني مصرى، (393، 394) مدني لبناني، (231) مدني عراقي، (205، 206) مدني سوري و (494) مدني أردني (2).

ومما تقدم يظهر أنه فيما يتعلق بالمنقول المعين بالذات أن ملكيته تنتقل إلى المشترى فور إبرام العقد، ويستوى في ذلك حكم الشرع ومجلة الأحكام والقوانين الوضعية (3).

ونظرًا لطبيعة بيع التقسيط التي تيسر للمشترى الحصول على السلعة بشروط سهلة تغريه بالشراء فيثقل بذلك كاهلة ويعجزه عن الوفاء بدينه، مما ينعكس أثره على البائع إضاعة لحقوقه، وإضعافًا لمركزه المالي مع من يحصل على بضائعه منهم، لذا اقتضى الأمر أن يقوم المشرع القانوني ببعض الترتيبات بغرض الحفاظ على حقوق كل من البائع والمشترى في هذه المعاملة وكان أبرز هذه الإجراءات ما يأتي:

أولًا: فيما يتعلق بالمحافظة على حقوق البائع: وتحقيقًا لهذا الغرض منح الضمانات التالية:

1 -

حق حبس المبيع والامتناع من تسليمه للمشترى في حالة إفلاس المشترى أو إعساره أو ضعف التأمينات التي قدمها لكفالة الثمن.

2 -

حق استرداد المبيع فيما إذا أحل المشترى بتنفيذ التزامه بسداد ثمن المبيع بعد مضى الأجل المحدد في بيع التقسيط.

(1)"شرح عقد البيع" د. الصراف (353، 526 - 529).

(2)

"نظرية الأجل"(112)، "بيع التقسيط" في هامشه (101، 102)، "شرح أحكام عقد البيع" د. الونداوى، (108)، "شرح أحكام عقد البيع في القانون المدني الليبي"(165)، "العقود المسماة"، أنور سلطان، 22 - 24.

(3)

"شرح عقد البيع" د. الصراف (357).

ص: 384

3 -

الاحتفاظ بالملكية: فيجوز للبائع أن يشترط في العقد تعليق انتقال الملكية على شرط واقف يتمثل بدفع الثمن المقسط كله.

4 -

الرهن والكفالة.

5 -

إيقاع بعض الجزاءات على المشتري إذا امتنع عن تسلم المبيع كالغرامة التهديدية، أو إيداع المبيع عند ثالث، أو المطالبة بالفسخ.

وتطبق على هذه الضمانات أحكامها العامة كما أوردتها كتب الفقه والقانون في مظانها.

ولقد رتب قانون التجارة على المشترى عقوبات شديدة في هذه الحالة منها بيع السلعة بالمزاد العلني بعد مضى مدة معقولة يحددها البائع ويخطر بها المشترى بسرعة، أو أن يبيعها في السوق إن كان لها سعر معلوم على يد سمسار، ومن ثم يودع حصيلة البيع خزانة المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في خصم الثمن ومصروفات البيع (1).

ثانيًا: في جانب المشتري:

قلنا أن البيع إذا تم صحيحًا مستوفيًا لأركانه وشروطه لزم البائع أن يقوم بتسليم المبيع للمشترى سواء كان الثمن حالًا أم مؤجلًا برضا البائع، ويلتزم البائع في مقابل ذلك بتسليم الثمن للبائع إذا كان حالًا، أو عند حلول أجل الأقساط إذا كان مقسطًا.

وتحدثنا فيما تقدم عن الضمانات الشرعية والقانونية التي تحفظ من البائع في مواجهة المشترى سواء من حيث الامتناع من تسليم المبيع، أو فسخ العقد واسترداد السلعة، أو الاحتفاظ بملكية المبيع، أو الإيجاز السائر للبيع، أو أخذ رهن أو كفيل.

وسنتكلم الآن عن الضمانات التي منحها الشرع والقانون للمشترى من أجل المحافظة على حقوقه وأهمها:

1 -

تسليم العين المبيعة: وينطبق على التسليم من حيث كيفيته وطرقه، والحالة التي يسلم عليها المبيع، وجزاء الإخلال به من التنفيذ العيني جدًّا، وفسخ العقد، وضمان عدم التعرض والاستحقاق والعيوب الخفية أحكام تسليم المبيع والثمن -بوجه عام- على البيع بالتقسيط.

(1)"شرح عقد البيع في القانون الكويتي"(673).

ص: 385

2 -

حق حبس الثمن: فإذا كان تنفيذ البائع لالتزامه بتسليم المبيع مؤجلًا إلى وقت لاحق محدد ومتفق عليه بين الطرفين، وكما دفع الثمن مقسطًا كذلك، فلم يقم البائع بتسليم المبيع في الزمن المحدد، فإن للمشترى الحق في التوقف عن دفع الأقساط اللاحقة، لأنه لا يمكنه المطالبة بإبطال البيع في هذه الحالة، ولا ممارسة دعوى الضمان فيكون له الامتناع عن الوفاء بالثمن (1).

ويملك المشترى هذا الحق سواء كان لم يتسلم المبيع بعد، أم تسلمه لكنه عاد إلى البائع لسبب فاحتفظ به (2)، ومن جهة أخرى يملك المشترى حبس الثمن عن البائع إذا تهدد حق المشترى في ملكية المبيع الذي تسلمه فعلًا كما لو تعرض أحد للمشترى مطالبًا بالمبيع إلى حق سابق على البيع، أو إذا حكم على المبيع أن ينزع من المشترى لظهوره مستحقًا بدين أو رهن، أو كان به عيب خفي يبرر رده، وقد جاء في المادة (392) من المجلة أنه لا يجوز بأى وجه كان للمشترى أن يحبس الثمن الحال بعد قبض في المبيع إلا إذا استحق المبيع -وقد نص القانون على جواز المبيع كما في المواد (457) مصرى، (446) ليبي، (425) سوري، (430) لبناني، (576) عراقي. ويثبت حق المشترى في التعرض ولو لم ينص عليه في البيع كما في (445) مصري، (434) ليبي، (413) سوري، (576) عراقي (3).

وكذلك يملك نزع المبيع من يد المشتري لأسباب جدية كما لو طالب الشفيع بالمبيع بحق الشفعة، ودفع الثمن للبائع، أو كما لو كان البائع قد اشترى المبيع ولم يدفع ثمنه، الأمر الذي يهدد بفسخ عقد البيع واسترداد المالك الأصلي للمبيع.

ولو ظهر في المبيع عيب خفي يستوجب ضمان البائع كان للمشترى أن يحبس الثمن (4).

وفي الحالات السابقة يتوقف حق حبس الثمن على ما إذا كان لم يدفع الثمن. أما إذا كان قد دفعه فليس أمامه إلا دعوى الفسخ أو دعوى الضمان (5).

(1)"بيع التقسيط والعقود الائتمانية"(328).

(2)

المرجع نفسه (329).

(3)

"شرح عقد البيع في القانون الكويتي"(664)، "بيع التقسيط"(330 - 338).

(4)

"العقود المسماة"(285 - 288)، "أحكام عقد البيع" الوانداوى (170، 214)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي"(296) وما بعدها، "شرح عقد البيع في القانون الكويتي"(418، 419).

(5)

"بيع التقسيط"(340)، "عقد البيع" الوانداوي، (287)، "شرح عقد البيع في القانون الليبي"(266)، "العقود المسماة"(178).

ص: 386

ويسقط حقه في الحبس في تلك الحالات إذا زال سبب الحبس أو تنازل المشتري له عن حق الحبس أو قدم البائع للمشتري كفيلًا بالثمن (1).

3 -

حماية المشتري بالتطبيق للقواعد العامة: فيستطيع المشتري بموجب القواعد العامة المنظمة لإبرام العقود اللجوء إلى القواعد المتعلقة بعيوب الإرادة بصفة خاصة، كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، كما يستطيع اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة التي تسمح للقاضي إذا ظهرت حوادث استثنائية لم يكن بالإمكان توقعها على حدوثها إرهاق المدين وتهديده، بخسارة فادحة بأن يتدخل لتعديل آثار العقد لصالح المشتري وخفض الجزء المؤجل دفعه من الثمن (2).

4 -

حماية المشتري بنصوص تشريعية خاصة:

فنظرًا لعدم كفاية القواعد العامة على توفير الحماية اللازمة للمشتري، فقد وضع الشرع عددًا من الأنظمة التشريعية الخاصة بهدف الوقوف إلى جانب المشتري ومنها:

حماية سابقة على التعاقد: وذلك بإلزام كل من يقوم بالنشر أو الإعلان عن سلعة لإغراء المستهلك بشرائها بالتقسيط ببعض البيانات سواء الشخصية المتعلقة بشخصية البائع وطبيعة المبيع ومدة الدفع، أو المتعلقة ببيان ثمن السلعة الحقيقي، وبذا يكون المشتري على بينة من الأمر، فلا يتعرض للغش أو الخداع من قبل البائع (3).

حماية في مرحلة التعاقد: وذلك عن طريق إصدار الأنظمة التي تلزم بأن يتم عقد البيع الآجل كتابة، وإعلام المشتري بشروط التعاقد، وتحديد شروط التعاقد من حيث بيان الحد الأدنى الذي يدفع مقدمًا، ومدة الأجل والحد الأقصى للزيادة في الثمن مقابل الأجل، وعدم إعطاء البائع الحق في استحقاق الأقساط المتبينة إذا عجز المشتري عن أداء بعض الأقساط (4).

(1)"عقد البيع"(292 - 294)، "شرح أحكام عقد البيع الليبي"(354)، "الوسيط"(4/ 794)، "العقود المسماة"(288)"بيع التقسيط"(341) وما بعدها.

(2)

"أحكام عقد البيع"، الوانداوي (167)، "بيع التقسيط"(352 - 358).

(3)

، (4)"بيع التقسيط"(358 - 363).

ص: 387