المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

واستدلوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٤

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌13 - كتاب الحدود

- ‌الحدود

- ‌الجرائم الحَدِّيَّة:

- ‌(1) حَدُّ الزِّنا

- ‌اللِّواط

- ‌(2) حَدُّ القَذْفِ

- ‌شروط حدِّ القذف:

- ‌(3) حَدُّ شُربِ الخَمر

- ‌(4) حَدُّ السَّرِقَة

- ‌عقوبات السارق

- ‌(5) حَدُّ الحِرَابَةِ

- ‌6 - حَدُّ الردَّة

- ‌التَّعْزير

- ‌من صور التعزير

- ‌14 - كتاب الجنايات والديات

- ‌أولًا: الجنايات

- ‌أولًا: الجناية على النفس (القتل)

- ‌القسم الأول: القتل العمد:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌القسم الثاني: القتل شبه العمد

- ‌القسم الثالث: القتل الخطأ

- ‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

- ‌ثانيًا: الديات

- ‌15 - كتاب البيوع

- ‌أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

- ‌انعقاد البيع بالمعاطاة

- ‌انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

- ‌انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره

- ‌شروط البيع

- ‌أولًا: شروط الانعقاد

- ‌بيع الفضولي

- ‌القول في شراء الفضولي

- ‌مسائل تتعلق بما سبق

- ‌ثانيًا: شروط صحة البيع

- ‌ثالثًا: شروط النفاذ

- ‌رابعًا: شروط اللزوم

- ‌الثمن وأحكامه

- ‌أحكام الجوائح

- ‌البيوع المحرمة

- ‌البيوع المحرمة

- ‌أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:

- ‌ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:

- ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

- ‌خلاصة البحث

- ‌ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

- ‌رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها

- ‌خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها

- ‌سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها

الفصل: واستدلوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم

واستدلوا بحديث سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلًا، وقالوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلناه ولا علمنا قائلًا، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، فقال «الكُبْرَ الكُبْرَ» فقال لهم:«تأتوني بالبينة على من قتله؟» قالوا: ما لنا بينة، قال:«فيحلفون» قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطلَّ دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة.

قالوا: فأول ما طلب في دعوى القسامة البينة من جهة المدعى كسائر الدعاوى، فإن لم يكن ثم بينة للمدعى، وجهت الأيمان الخمسون إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا برئوا وانتهت الخصومة وغرموا الدية (!!).

قلت: وقول الجمهور أرجح، إذ لا مانع أن يكون طلب من المدعين البينة قبل تحليفهم، جمعًا بين الروايات، على أن من أهل العلم من اعتبر ذكر البينة - دون التحليف - وهمًا، لا سيما إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين في خيبر، والله أعلم.

وأما قول الحنفية: «أن المدعى عليهم يحلفون ويغرمون الدية» !! فقال العلماء (1): ليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، وإنما جاءت اليمين في البراءة، أو الاستحقاق على مذهب من قال باليمين مع الشاهد.

‌ثانيًا: الديات

التعريف (2):

الديات: جمع دِيَة وهي لغةً: مصدر ودي القاتل القتيل، يَديِه دِيَةً: إذا أعطى وليه المال الذي هو بدَل عن النفس أو ما دونها.

وفي الاصطلاح هي: المال الواجب أداؤه إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية عليه في نفس أو فيما دونها.

وتسمى كذلك «العَقْل» لوجهين: أحدهما: أنها تعقل الدماء أن تراق، والثاني: أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل، ثم تساق إلى ولي الدم.

(1)«معالم السنن» للخطابي (6/ 314)، و «شرح السنة» للبغوي (10/ 217).

(2)

«المصباح المنير» مادة «ودى» ، و «فتح القدير» (9/ 204)، و «مغني المحتاج» (4/ 53)، و «كشاف القناع» (6/ 5).

ص: 232

ويطلق غالبًا على الدية في الجناية على ما دون النفس: «الأرش» فهو أخص من الدية بهذا المعنى، وربما يطلق «الأرش» على بدل النفس، فيكون بمعنى الدية.

مشروعيتها:

الأصل في مشروعية الدية الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} (1).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها» (2) وثمت أحاديث أخرى في هذا الباب تأتي في موضعها.

وقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة، والحكمة في وجوبها: هي صون بنيان الآدمي عن الهدم، ودمه عن الهدر (3).

لا تجب الدية إلا لمعصوم الدم: وعلى هذا اتفاق الفقهاء، فإذا كان المجني عليه مهدر الدم، كأن كان حربيًّا أو مستحق القتل حدًّا أو قصاصًا فلا تجب الدية بقتله لفقد العصمة.

وأما الإسلام فليس شرطًا لوجوب الدية لا في القاتل ولا المقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلمًا أو ذميًّا أو مستأمنًا.

وكذلك لا يشترط العقل والبلوغ، فتجب الدية بقتل الصبي والمجنون اتفاقًا، كما تجب في مالهما.

الأصل في تقدير الدية شرعًا:

أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل بنفسها في الدية، فلو دُفعت الدية منها قبلت، ولم يكن للمجني عليه أو وليه المطالبة بغيرها.

ثم اختلفوا في غير الإبل، هل يكون أصلًا في الدية بنفسه، أو مقوَّمًا بالإبل، على أقوال:

الأول: الأصل في الدية: الإبل، لا غير.

وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد - وظاهر كلام الخرقى من الحنابلة - وابن المنذر وابن حزم (4)، وحجتهم:

(1) سورة النساء: 92.

(2)

حسن: تقدم في «القتل شبه العمد» .

(3)

«البدائع» (7/ 253)، و «كشاف القناع» (6/ 5).

(4)

«مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 759)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المحلي» (11).

ص: 233

1 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن دية قتيل الخطأ ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (1).

2 -

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور

» (2) الحديث.

3 -

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن - وبعث به مع

عمرو بن حزم - وفيه: «

وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعِب جدعه الدية

» (3).

4 -

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل.

5 -

ولأنه بدل متلف وجب حقًّا لآدمي، فكان متعينًا كعوض الأموال.

قلت: وعلى هذا المذهب: فمن وجبت عليه الدية - وله إبل - فليس له ولا للولي العدول عنها إلا بالتراضي، ولو عُدمت - حسًّا - فيعدل إلى الذهب أو الفضة إما مقدرًا (ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم) وهو قول الشافعي الجديد، وأما ما يعادل قيمة الإبل وقت وجوب تسليمها. وهو قول الشافعي القديم.

القول الثاني: يعتبر الذهب والفضة أصلًا:

وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد (4)، قالوا: الدراهم والدنانير مقدرة في الديات (ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم - عند الجمهور - أو عشرة آلاف درهم عند الحنابلة) يجوز أخذها مع وجود الإبل، وحجتهم ما يلي:

1 -

رواية لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به عمرو بن

حزم: إلى أهل اليمن، وفيه:«أن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار» (5).

(1) حسن: تقدم مرارًا.

(2)

حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).

(3)

ضعيف: أخرجه النسائي (2/ 252)، والدارمي (2/ 193)، والبيهقي (8/ 95) بسند ضعيف، إلا أن لقوله «في النفس مائة من الإبل» شواهد كما ترى، وانظر «الإرواء» (2212) على أنه قال ابن عبد البر: «هو كتاب مشهور عند أهل السير، ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه من أحاديث كثيرة تأتي

» اهـ. (فتح البر - 11/ 521).

(4)

«البدائع» (7/ 253)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «الإنصاف» (10/ 58)، و «تحفة الفقهاء» (3/ 155).

(5)

ضعيف: تقدم، وهذا لفظ النسائي (8/ 58).

ص: 234

2 -

ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته: اثنى عشر ألفًا» (1).

3 -

أن عمر قام خطيبًا فقال: «ألا أن الإبل قد غلت، فتقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مائتي حُلَّة» (2).

القول الثالث: أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم:

وهو مذهب أحمد والصاحبين من الحنفية (وفي رواية عن أحمد - وهو قول الصاحبين -: والحُلل (الثياب) فتكون الأصول ستة) وهذا قول عمر وعطاء وطاووس وفقهاء المدينة السبعة وابن أبي ليلى (3)، وحجتهم أثر عمر المتقدم.

وعلى قولهم، يجزئ في الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم (وعند الحنفية: عشرة آلاف!! ولا أصل لقولهم هذا) أو مائتان من البقر، أو ألفا شاة، فأي شيء أحضره من عليه الدية من ذلك لزم المستحق أن يأخذه وليس له المطالبة بغيره.

الترجيح: الذي يترجَّح لديَّ أن الأصل في تقدير الدية: الإبل، وما ورد في

تقديرها بغير ذلك إنما هو على سبيل التقويم بالإبل، والخلاف إنما هو في كونها أصلًا أو لا، ويدلُّ على ذلك أثر عمر فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل، ولو كانت أصولًا بنفسها لم يكن إيجابها تقويمًا للإبل، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك، ولا لذكره معنى، ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور» قال: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوِّمها على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقوِّمها على أهل الإبل: إذا غلت رفع قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق، قال: وقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4546)، والنسائي (2)، والترمذي، وابن ماجة (2629).

(2)

حسن: أخرجه أبو داود (4512)، وعنه البيهقي (8/ 77)، وانظر «الإرواء» (2247).

(3)

«الإنصاف» (10/ 58)، و «كشاف القناع» (6/ 18)، و «المغني» (8/ 367 - القاهرة).

ص: 235

الشاة ألفي شاة، وقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم، فما فضل فاللعصبة، وقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثون منه شيئًا إلا ما فضل من ورثتها، وإن قُتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها» (1).

فالحاصل: أن الأصل في تقدير الديات شرعًا الإبل، ولا يعني هذا أنها تتعين فلا تؤخذ قيمتها من غير الإبل، بل تؤخذ - في كل بلد - مما يناسبها مقدَّرة بقيمة الإبل، والله أعلم.

أسباب وجوب الدية ومقاديرها:

أولًا: القتل: وقد تقدم في «الجنايات» تعريفه، وأنه على ثلاثة أقسام: خطأ، وعمد، وشبه عمد.

1 -

الدية في القتل الخطأ: تقدم في «الجنايات» أنه لا قصاص في القتل الخطأ - باتفاق الفقهاء - وإنما تجب الدية والكفارة، لقوله تعالى:{ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (2) وقوله سبحانه: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} (3).

مقدار دية المسلم: ولا خلاف بين أهل العلم أن دية المسلم الذكر الحر هي: مائة من الإبل أو ما يقوم مقامها على ما سبق بيانه، وقد تقدمت أدلة هذا في ثنايا الكلام على أصول الدية.

وأما الأنثى: فديتها نصف دية الذكر الحر المسلم بإجماع أهل العلم، وقد ورد من حديث معاذ مرفوعًا:«دية المرأة على النصف من دية الرجل» (4) وهو ضعيف، لكن صحَّ معناه عن جماعة من الصحابة، فعن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر: «أن جراحات الرجال والنساء تستوي في السن والموضحة، وما فوق ذلك: فدية المرأة على النصف من دية الرجل» (5).

وفي الباب عن عليٍّ وابن مسعود بإسناد صحيح (6).

(1) حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).

(2)

سورة النساء: 92.

(3)

سورة النساء: 92.

(4)

ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 95) وانظر «الإرواء» .

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة.

(6)

«مصنف ابن أبي شيبة» و «سنن البيهقي» (8/ 95 - 96).

ص: 236

وأما الخنثى: فإن كان المقتول خنثى مشكلًا، فقال المالكية والحنابلة: فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى، وقال الحنفية: فيه دية أنثى ويوقف الباقي إلى التبيُّن).

وقال الشافعية: فيه دية أنثى، لأن زيادته عليها مشكوك فيها (1).

وأما الذمي والمستأمن: فاختلف العلماء في مقدارها على ثلاثة أقوال:

الأول: دية الذمي على النصف من دية المسلم: وهو مذهب مالك وأحمد، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة وعمرو بن شعيب (2)، وحجتهم:

1 -

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» (3).

2 -

وعن ابن عمر مرفوعًا: «أن دية المعاهد نصف دية المسلم» (4).

الثاني: دية الذمي ودية المسلم سواء: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال النخعي والشعبي، وهو مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية -

رضي الله عنهم (5)، وحجتهم:

1 -

قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} (6) قالوا: فأطلق سبحانه القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدلَّ على أن الواجب في الكل واحد.

2 -

ما رُوي من «أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين، فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حُرين من المسلمين» (7).

الثالث: دية الذمي على الثلث من دية المسلم: وهو مذهب الشافعي ورواية

(1)«ابن عابدين» (5/ 368)، و «مواهب الجليل» (6/ 433)، و «مغني المحتاج» (4/ 56)، و «المغني» (7/ 797).

(2)

«جواهر الإكليل» (2/ 266)، و «المغني» (7/ 793)، و «الإنصاف» (3/ 64).

(3)

حسن: أخرجه أبو داود (4542)، والنسائي، والترمذي، وأحمد (2/ 180)، وانظر «الإرواء» (2251).

(4)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7582) بسند ضعيف، ويشهد له ما قبله.

(5)

«البدائع» (7/ 254)، و «ابن عابدين» (5/ 369).

(6)

سورة النساء: 92.

(7)

ضعيف: أخرجه الترمذي، والبيهقي (8/ 120) وضعَّفه.

ص: 237

أخرى في مذهب أحمد، وهو مروي عن عمر وعثمان (!!) وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وإسحاق وأبو ثور (1)، وحجتهم:

1 -

ما رُوي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم» (2) وهو ضعيف.

2 -

ما رُوي عن عمرو بن شعيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (3) وهو

منقطع (معلَّق).

والراجح: الأول، دية الكتابي نصف دية المسلم، لصحة الحديث المرفوع فيه، والله أعلم.

فائدة: دية نساء أهل الذمة على النصف من دياتهم، وهذا لا خلاف فيه.

على من تكون الدية في قتل الخطأ؟

لا خلاف بين أهل العلم في أن الدية في قتل الخطأ تتحملها «عاقلة» الجاني، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقضي بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم» (4).

المراد بالعاقلة:

اختلف أهل العلم في تعيين العاقلة الذين تلزمهم في قتل الخطأ على قولين:

الأول: هم عصبة الجاني، وهم أقرباؤه من جهة الأب وهم: الإخوة وبنوهم، ثم الأعمام وبنوهم، ثم أعمام الأب وبنوهم، ثم أعمام الجد وبنوهم، وهذا مذهب الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة، وابن حزم (5) وحجتهم:

1 -

حديث المغيرة بن شعبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضي

بالدية على العصبة» (6).

(1)«مغني المحتاج» (4/ 57)، و «الأم» (6/ 96)، و «الإنصاف» (10/ 64).

(2)

ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 100).

(3)

ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 145).

(4)

صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681).

(5)

«الدسوقي» (4/ 282)، «القوانين الفقهية» (298)، و «روضة الطالبين» (9/ 349)، و «مغني المحتاج» (4/ 96)، و «المغني» (9/ 515)، و «المحرر» (2/ 148)، و «المحلي» (11/ 44 - 48).

(6)

صحيح: أخرجه مسلم (1682)، وأبو داود (4568)، والنسائي (8/ 50)، والترمذي (1411).

ص: 238

2 -

حديث أبي هريرة - في قصة المرأتين المقتتلتين - وفيه: «

ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت، فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (1).

3 -

حديث جابر قال: «كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله، ثم كتب أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه» (2).

قال ابن حزم: فعُلم أنَّ أولياء الجاني الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم. اهـ.

4 -

ما يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قضي على عليٍّ رضي الله عنه بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها» (3) لأنه ابن أخيها دون ابنها الزبير، قالوا: واشتهر ذلك بينهم.

5 -

ولأن أقاربه أخص، إذ لهم غُنم الإرث فيلزمهم الغُرم.

القول الثاني: العاقلة هم أهل الديون إن كان القاتل منهم: وإلا فعاقلته: قبيلته، وهو مذهب أبي حنيفة والليث والثوري، وقريب منه مذهب ابن تيمية رحمه الله إذ قرر أن العاقلة هم الذين ينصرون الرجل ويعينونه ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، وأنهم غير محددين بالشرع، فقد يكونون من الأقارب أو

من غيرهم ممن تحصل بهم النصرة (4)، وحجتهم:

1 -

حديث أبي هريرة: «فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها» (5) قال شيخ الإسلام: فالوارث غير العاقلة.

2 -

«أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دوَّن الدواوين جعل الدية على أهل الديوان» (6) قالوا: وقد قضي عمر بذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه منكِر فكان إجماعًا (!!).

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1681).

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1507)، وأبو عوانة (4810)، والبيهقي (3/ 299).

(3)

ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 107)، وفي سنده انقطاع، انظر «التلخيص» (4/ 37).

(4)

«المبسوط» (23/ 125، 126)، و «الهداية» (4/ 225)، و «مجموع الفتاوى» (19/ 256).

(5)

صحيح: مرَّ قريبًا.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 396) وبنحوه عبد الرزاق (9/ 420)، وأبو يوسف في كتاب «الآثار» (980) وفي أسانيدها انقطاع.

ص: 239

فإن قيل: كيف يُظن بهم الإجماع على خلاف ما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

أجيب: بأن هذا اجتماع على وفاق ما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضي به على العشيرة باعتبار النصرة، وكان قوة المرء ونصرته يومئذٍ بعشيرته، ثم لما دوَّن عمر رضي الله عنه الدواوين، صارت القوة والنصرة بالديوان. اهـ.

قال شيخ الإسلام: وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه، كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنهم، والميراث يمكن حفظه

للغائب

فالوارث غير العاقلة. اهـ.

قلت: لو ثبت فعل عمر رضي الله عنه لكان للقول الثاني وجاهته، لأنه قد يقال في أدلة الأولين أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدية على العصبة باعتبار النصرة لا النسب، لكن الظاهر عدم ثبوته، بل قد ورد عنه خلاف، فقد روُي أن عمر أمر عليًّا - في جناية جناها عمر - «أن يقسم عقله على قريش» يعني: يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ (1)، وسنده ضعيف كذلك، فيترجح قول الجمهور، والله أعلم.

وهل يدخل الأب والابن مع العاقلة؟

ذهب المالكية والحنابلة في مشهور المذهب - وهو قول عند الحنفية - إلى أن الأب والابن يدخلان مع العاقلة؛ لأنهم من العصبة، ولأن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله.

وذهب الشافعية وهو الرواية الثانية عند الحنابلة وقول عند الحنفية إلى أنهما لا يدخلان مع العاقلة؛ لأنهما أصله وفرعه، فكما لا يتحمل الجاني لا يتحملان.

قلت: لعل هذا الأخير يؤيده حديث جابر في قصة اقتتال المرأتين وفيه: «

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها، وبرَّأ زوجها وولدها، قال: فقالت عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال صلى الله عليه وسلم:«ميراثها لزوجها وولدها» (2) ففيه التصريح بتبرئة الابن من الدية، ويقاس الأب

عليه والله أعلم.

والحكمة في وجوب دية الخطأ على العاقلة - مع أن الأصل أن يتحملها الجاني نفسه - أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كبيرة، فإيجابها في مال الجاني

(1) إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (9/ 459) ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 24).

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (4575).

ص: 240

يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفًا (1).

وهل يدخل القاتل في تحمل الدية مع العاقلة؟

ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الجاني يتحمل الدية مع العاقلة فيكون كأحدهم لأن الوجوب عليهم باعتبار النصرة، ولا شك أنه ينصر نفسه كما ينصر غيره، ولأنهم تحملوا جنايته فكان هو أحق بالتحمل.

وقال الشافعية والحنابلة: لا يتحمل الجاني مع العاقلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بالدية على العاقلة ولم يكن الجاني من ضمنها. قلت: ولعل هذا أرجح لأن الأصل حرمة مال المسلم إلا بنص، وهذا مذهب ابن حزم.

أداء الدِّية مؤجلة: قال الترمذي رحمه الله: وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية. اهـ.

وقد قضي عمر وعليٌّ وابن عباس رضي الله عنهما بجعل دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، فاتبعهم على ذلك أهل العلم، إلا أن أصحاب المذاهب الفقهية فهموا من هذا وجوب هذا التأجيل

(!!)(2) وكل ما يمكن فهمه من قضاء الصحابة ومن نقل الإجماع أنه يشرع للعاقلة تأدية الدية مؤجلة في ثلاث سنين تخفيفًا عليهم، وهذا حيث تكون المشقة، فإن كانوا مياسر ولا ضرر عليهم في التعجيل فإنها تؤخذ حالًا، فالتأجيل إذن ليس بواجب بل تعجل وتؤجل بحسب الحال والمصلحة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3).

صفة الدية إذا كانت من الإبل (4):

«إذا كانت الدية من الإبل فإنها تؤدي في القتل الخطأ أخماسًا عند الأئمة

(1)«كشاف القناع» للبيهقي (6/ 6).

(2)

«البدائع» (7/ 255)، و «المنتقي» للباجي (7/ 69)، و «روضة الطالبين» (9/ 359)، و «المغني» (7/ 769).

(3)

«مجموع الفتاوى» (19/ 256)، وهذا قول عند الحنابلة، وإن كان جماهيرهم على خلافه، انظر «الإنصاف» (10/ 129).

(4)

«البدائع» (7/ 254)، و «جواهر الإكليل» (2/ 265)، و «مغني المحتاج» (4/ 54)، و «المغني» (7/ 77)، و «الإنصاف» (10/ 61).

ص: 241

الأربعة وهي: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة (اتفاقًا) واختلفوا في العشرين الباقية: فقال الحنفية والحنابلة: هي من بني المخاض لما ورد عن ابن مسعود مرفوعًا: «في دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر» (1).

وأما المالكية والشافعية فقالوا في العشرين الباقية، هي من بني اللبون، وهو قول عمر بن عبد العزيز والزهري والليث وربيعة، «لأن النبي - صلى الله عليه

وسلم - ودي الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة» (2) وليس فيها ابن مخاض.

بينما ذهب طاوس إلى أن الدية تكون أرباعًا على نحو ما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور

» (3).

2 -

الدية في القتل شبه العمد:

اتفق القائلون بالقتل شبه العمد على أنه موجب لدية مغلظة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها» (4).

وتجب على العاقلة: عند جمهور القائلين بشبه العمد، لحديث أبي هريرة قال:«اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها» (5).

ولشبهة عدم القصد، لوقوع القتل بما لا يُقصد به القتل عادة، أو لا يقتل غالبًا، فكانت كالخطأ.

ويشترك الجاني في تحملها عند الحنفية خلافًا للشافعية والحنابلة.

(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (5/ 45)، والترمذي (1386)، والنسائي (4806)، وابن ماجة (2631).

(2)

صحيح: ومرَّ الحديث بطوله في «القسامة» .

(3)

حسن: أخرجه أبو داود (4541)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجة (2630).

(4)

حسن: نقدم مرارًا.

(5)

صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

ص: 242

وتؤدَّى مؤجلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها، على نحو ما تقدم في قتل الخطأ.

ولا تغلظ الدية في غير الإبل: عند الفقهاء؛ لأنها مقدرة، ولم يرد النص في غير الإبل، فيقتصر على التوقيف (1).

3 -

الدية في القتل العمد (2):

الأصل أن القتل العمد موجب للقصاص كما تقدم في «الجنايات» لكن إذا سقط القصاص عن الجاني، إما لعفو أولياء القتيل أو غير ذلك مما تقدم، فإنه تجب الدية إما بالصلح (برضا الجاني) كما يقول الحنفية والمالكية، وإما بدلًا عن القصاص (ولو بغير رضا الجاني) كما هو المعتمد عند الشافعية فليست الدية عقوبة أصلية للقتل العمد.

وذهب الحنابلة - وهو قول عند الشافعي - إلى أن الدية عقوبة أصلية بجانب القصاص في القتل العمد، فالواجب عندهم أحد شيئين: القود أو الدية، ويخيَّر الولي بينهما، ولو لم يرض الجاني.

والدية في قتل العمد مغلظة، سواء أوجب فيه القصاص وسقط بالعفو، أو لشبهة أو نحوهما، أم لم يجب أصلًا كقتل الوالد ولده، واختلفوا في كيفية تغليظها.

قلت: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي: ثلاثون

حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفَة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد العقل (3).

فينبغي العمل به، لهم أن يصالحوا على أكثر من ذلك للحديث، والله أعلم.

دية العمد تجب من مال القاتل: ولا خلاف في هذا بين أهل العلم فلا تحمله العاقلة، ويؤيد هذا:

1 -

حديث أبي رمثة التيمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابن لي، فقال: ابنك؟ قلت: اشْهَد به، قال:«لا يجني عليك ولا تجني عليه» (4).

2 -

ولأن العامد لا عذر له، فلم يخفف بحمل العاقلة.

(1)«كشاف القناع» (6/ 19).

(2)

«البدائع» (7/ 241)، و «الدسوقي» (4/ 239)، و «مغني المحتاج» (4/ 55)، و «المغني» (7/ 765).

(3)

حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626).

(4)

صحيح: أخرجه أبو داود (4207)، والنسائي (8/ 53)، وأحمد (2/ 226).

ص: 243

ولا تؤجل الدية في القتل العمد: وهذا مذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - لأن الأصل وجوب الدية حالًا، والتأجيل في الخطأ ثبت معدولًا به عن الأصل، لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، أو معلولًا بالتخفيف على القاتل حتى تحمل عنه العاقلة، وأما العامد فيستحق التغليظ، ولهذا وجب في ماله لا على العاقلة.

ثانيًا: الجناية على ما دون النفس:

وتجب الدية في الاعتداء على ما دون النفس إذا سقط القصاص أو لم يمكن استيفاؤه، وموجبات الدية ثلاثة أقسام:

1 -

دية الأعضاء:

اتفق الفقهاء - في الجملة على أن في قطع ما لا نظير له في بدن الإنسان كالأنف واللسان والذكر والحشفة والصلب إذا انقطع المني، ونحو ذلك، دية كاملة.

ومن أتلف ما في البدن منه شيئان كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والشفتين والثديين والخصيتين ونحو ذلك ففيهما معًا دية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية.

ومن أتلف ما في الإنسان منه أربعة أشياء كأشفار العينين والأجفان ففيهما الدية، وفي كل واحد منها ربع الدية.

وما في الإنسان عشرة أشياء كأصابع اليدين والقدمين ففي جميعها الدية كاملة، وفي كل أصبع عُشر الدية، وما في الأصابع من المفاصل ففي أحدها ثلث دية الأصبع، ونصف دية الأصبع فيما فيها مفصلان (وهي الإبهام خاصة).

وفي جميع الأسنان دية كاملة، وفي كل سن خَمْس من الإبل، وهذا في الجملة وهناك تفريعات مبثوثة في كتب الفروع (1).

والأصل فيما تقدم، ومستند هذا الاتفاق ما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن الذي بعث به عمرو بن حزم، وفيه: «

وأن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي

الجائفة ثلث الدية،

(1) انظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 65 - 79).

ص: 244

وفي المنقلة خمس عشر من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وأن الرجل يُقتل بالمرأة

» (1).

قلت: وإسناده ضعيف إلا أن العمل عليه، وقد صحَّ في بعض ذلك أحاديث:

- فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دية الأصابع اليدين والرجلين سواء، في كل أصبع عشر من الإبل» (2).

- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الأصابع عشرٌ، عشرٌ» (3).

- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه وهذه سواء، وهذه وهذه سواء، الخنصر والإبهام، [والضِّرس والثنية]» (4).

2 -

دية الجروح:

(أ) الشجاج (جراح الرأس والوجه):

ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو وجه عند الشافعية) إلى عدم وجوب دية (أرش) مقدرة فيما يكون أقل من الموضَّحة، وهي الحارصة

والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق (5)، وإنما يجب في كل من هذه الشجاج حكومة عدل، لأنه ليس فيها أرش مقدر، ولا يمكن إهدارها فتجب الحكومة (6)، وهي: ما يدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة.

قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ قوله أن معنى قولهم: «حكومة» أن يقال إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم: كم قيمة هذا لو كان عبدًا قبل أن يُجرح هذا الجرح؟ أو يضرب هذا الضرب؟ فإن قيل: مائة دينار، قيل: كم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ فإن قيل: خمسة وتسعون دينارًا، فالذي

(1) مرسل: أخرجه مالك، والنسائي (8/ 60) وغيرهما وقد تقدم.

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (4561)، والترمذي (1391)، وأحمد (1/ 289).

(3)

حسن: أخرجه أبو داود (4562)، والنسائي (8/ 57)، وأحمد (2/ 207).

(4)

صحيح: أخرجه البخاري، وأبو داود (4558)، والنسائي (8/ 56)، والترمذي (1392)، وابن ماجة (2650)، وابن الجارود (783).

(5)

سبق تعريف هذه الشجاج في باب الجنايات، فراجعها هناك إن شئت.

(6)

«روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 42).

ص: 245

يجب للمجني عليه على الجاني نصف عُشر الدية، وإن قالوا: تسعون دينارًا، ففيه عُشر الدية، وما زاد ونقص ففي هذا المثال. اهـ (1).

وأما الموضحة والهاشمة والمنقلة والآمة ففي كلٍّ منها أرش مقدر:

الموضحة:

اتفق الفقهاء على أن في الموضحة نصف عشر الدية (أي: خمس من الإبل) في الحر الذكر المسلم (2).

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي - صلى الله عليه

وسلم -: «في الأصابع عشر، وفي المواضح خمسٌ خمسٌ» (3).

وتقدم في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الموضحة خمس من الإبل» .

ويستوي الرجل والمرأة في موضحتهما، فعن ابن مسعود في جراحات المرأة والرجل قال:«يستويان في الموضحة، وفيما سوى ذلك على النصف» (4). وقد نصَّ على ذلك الحنابلة.

الهاشمة (5):

لم يرد في تحديد أرش الهاشمة سنة ولا إجماع، ولذا اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب جمهورهم إلى أن فيها عُشر الدية، وهو عشرة من الإبل، وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو قول الشافعية (إذا كانت مع الإيضاح) وقول عند المالكية، وهو مروي عن زيد بن ثابت وقتادة والثوري.

وأما الهاشمة دون الإيضاح ففيها عند الشافعية خمسة أبعرة، وقيل حكومة.

وقال ابن المنذر: تجب في الهاشمة الحكومة إذ لا سنة فيها ولا إجماع، فتجب فيها الحكومة كما تجب فيما دون الموضحة، وهو قول آخر للمالكية، وعندهم قول ثالث أن فيها عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر من الإبل)!!

(1)«الإجماع» لابن المنذر (ص 151).

(2)

«ابن عابدين» (5/ 372)، و «جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «الروضة» (9/ 263)، و «المغني» (8/ 42).

(3)

حسن: أخرجه أبو داود (4566)، والنسائي (8/ 57)، والترمذي (1390)، وابن ماجة (2655).

(4)

إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 398).

(5)

«جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «نهاية المحتاج» (7/ 305)، و «المغني» (8/ 45).

ص: 246

المنقلة (1):

ولا خلاف في أنه يجب في المنقلة عُشر الدية ونصفه (خمسة عشر بعيرًا) وقد حكي ابن المنذر الإجماع على ذلك، ومستند الإجماع ما في حديث عمرو بن حزم:«.. وفي المنقلة: خمس عشرة من الإبل» (2).

المأمومة (3): أو الآمة، ويجب فيها ثلث الدية عند الجمهور:(الحنفية والمالكية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية) لما في حديث عمرو بن حزم: «في المأمومة: ثلث الدية» (4).

وفي قول عند الشافعية نقله النووي عن الماوردي: أن فيها ثلث الدية وحكومة (!!).

الدامغة (5): وهي الشجة التي تتجاوز عن الآمة فتخرق الجلدة وتصل إلى الدماغ وتخسفه، وغالبًا ما يموت المجني عليه بها، ولذا لم يذكرها بعض الفقهاء في بحث الشجاج، وعلى كلٍّ فلو لم يمت المجني عليه بعد الدامغة فذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية - في المعتمد - والحنابلة - في المذهب - والشافعية في الأصح) إلى أن فيها ما في المأمومة (ثلث الدية).

وفي قول عند الشافعية والحنابلة: تجب ثلث الدية وحكومة، وفي قول عند المالكية: تجب في الدامغة حكومة عدل.

(ب) الجراح في غير الوجه والرأس (6):

اتفق الفقهاء على أنه لا يجب أرش مقدَّر في سائر جراح البدن، باستثناء الجائفة، وإنما تجب فيها حكومة، وذلك أنه لم يرد فيها نص من الشرع، ويصعب ضبطها وتقديرها.

وأما الجائفة: وهي ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو غير

(1)«ابن عابدين» (5/ 372)، و «روضة الطالبين» (9/ 264)، و «المغني» (8/ 46).

(2)

مرسل: تقدم الكلام عليه.

(3)

مرسل: تقدم الكلام عليه.

(4)

«جواهر الإكليل» (2/ 260)، و «الروضة» (9/ 262)، و «المغني» (8/ 47).

(5)

«الجواهر» (2/ 60)، و «مغني المحتاج» (4/ 58)، و «المغني» (8/ 47).

(6)

«جواهر الإكليل» (2/ 267)، و «ابن عابدين» (5/ 356)، و «روضة الطالبين» (9/ 265)، و «المغني» (8/ 44، 49).

ص: 247

ذلك، فاتفقوا على أن فيها ثلث الدية، سواء أكانت عمدًا أم خطأ لما في حديث عمرو بن حزم: «

وفي الجائفة ثلث الدية» (1).

كما اتفقوا على أن الجائفة إذا نفذت من جانب لآخر تعتبر جائفتين، فيهما ثلثا الدية.

3 -

دية المنافع والمعاني (2):

الأصل في دية المعاني - فضلًا عما ورد في بعضها من نصوص - أنه إذا فوَّت جنس منفعة على الكمال، أو أزال جمالًا مقصودًا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية؛ لأنه فيه إتلاف النفس من وجه، إذ النفس لا تبقى منتفعًا بها من هذا الوجه، وإتلاف النفس من وجه ملحق بالإتلاف من كل وجه في الآدمي تعظيمًا له.

وهذا الأصل كما هو معتبر في الأعضاء، مطبَّق كذلك في إذهاب المعاني والمنافع من الأعضاء، وإن كانت باقية في الظاهر، ومما تجب فيه الدية من المعاني:

العقل والنطق، وقوة الجماع، والإمناء في الذكر، والحَبَل في المرأة، والسمع، والبصر، والشم والذوق واللمس.

وهذا إذا أتلفت المعاني دون إتلاف الأعضاء المشتملة عليها، فإن تلف العضو والمنفعة معًا ففي ذلك دية واحدة، وإن أتلفهما بجنايتين منفردتين تخللهما البرء، فدية كل عضو أو منفعة بحسب الحالة.

وتفريعات هذه المسألة وتفاصيلها مبثوثة في كتب الفروع (3).

ثالثًا: دية الجنين:

إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه المسلمة، فديته (غرة) سواء انفصل من أمه وخرج ميتًا، أم مات في بطنها، وسواء كانت الجناية عمدًا أم خطأ، ولو من الحامل نفسها أو من زوجها، وسواء كان ذكرًا أو أنثى (4).

والغُرَّة: نصف عُشر الدية، وهي: خمس من الإبل، ولا تختلف بذكورة الجنين وأنوثته، فهي في كليهما سواء (5).

(1) مرسل: تقدم الكلام عليه مرارًا.

(2)

«الموسوعة الفقهية» (21/ 79، 80).

(3)

وانظر «الموسوعة الفقهية» (21/ 80 - 82).

(4)

«ابن عابدين» (5/ 377)، و «الدسوقي» (4/ 269)، و «أسنى المطالب» (4/ 89)، و «المغني» (7/ 799).

(5)

الغرة في الحديث: عبد أو أمة، وقد قدَّرها الفقهاء بنصف عُشر الدية كما ورد في بعض الأحاديث.

ص: 248

- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقضي أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضي بدية المرأة على عاقلتها،

وورثها ولدها ومن معه» (1).

- وعن المغيرة بن شعبة أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، وهي حُبلى فأتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقضي فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غُرَّة، فقال عصبتها: أنَدى ما لا طَعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل؟! مثل ذلك يُطَلُّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سجع مثل سجع الأعراب» (2).

وإن كانت الحامل مُعَاهَدة: كتابية أو ذمية أو مجوسية ممن لهن أمان، ففي جنينها عُشر دية أمه؛ لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعُشر دية أمه، فكذلك جنين الكافرة بالنسبة لأمِّه (3).

إذا ألقت جنينها حيًّا ثم مات:

أما إذا ألقته في حياتها حيًّا حياة مستقرة ثم مات نتيجة للجناية، ففيه دية كاملة اتفاقًا، لأنه قتل إنسان حي (4).

وإذا ألقته نتيجة للجناية عليها ميتًا بعد موتها: فاختلفوا فيه (5):

(أ) فقال الحنفية والمالكية: في الأم الدية، ولا شيء في الجنين؛ لأن موتها سبب في موته لأنه يختنق بموتها، واحتمل موته بالضربة، فلا تجب الغرة بالشك!!.

(ب) وقال الشافعية والحنابلة: في الأم الدية، وفي الجنين غُرَّة؛ لأنه جنين تلف بجناية وعلم بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها، ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حيًّا.

قلت: وهذا أرجح لظاهر حديث أبي هريرة، والله أعلم.

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1681).

(2)

صحيح: أخرجه مسلم، وأحمد (4/ 246).

(3)

«المغني» (7/ 800).

(4)

«الدسوقي» (4/ 269)، و «مغني المحتاج» (4/ 102)، و «المغني» (7/ 899).

(5)

المراجع السابقة.

ص: 249