المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: الجناية على ما دون النفس - صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة - جـ ٤

[كمال ابن السيد سالم]

فهرس الكتاب

- ‌13 - كتاب الحدود

- ‌الحدود

- ‌الجرائم الحَدِّيَّة:

- ‌(1) حَدُّ الزِّنا

- ‌اللِّواط

- ‌(2) حَدُّ القَذْفِ

- ‌شروط حدِّ القذف:

- ‌(3) حَدُّ شُربِ الخَمر

- ‌(4) حَدُّ السَّرِقَة

- ‌عقوبات السارق

- ‌(5) حَدُّ الحِرَابَةِ

- ‌6 - حَدُّ الردَّة

- ‌التَّعْزير

- ‌من صور التعزير

- ‌14 - كتاب الجنايات والديات

- ‌أولًا: الجنايات

- ‌أولًا: الجناية على النفس (القتل)

- ‌القسم الأول: القتل العمد:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌القسم الثاني: القتل شبه العمد

- ‌القسم الثالث: القتل الخطأ

- ‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

- ‌ثانيًا: الديات

- ‌15 - كتاب البيوع

- ‌أركان البيع أو كيفية انعقاده أو صفة العقود

- ‌انعقاد البيع بالمعاطاة

- ‌انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة

- ‌انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره

- ‌شروط البيع

- ‌أولًا: شروط الانعقاد

- ‌بيع الفضولي

- ‌القول في شراء الفضولي

- ‌مسائل تتعلق بما سبق

- ‌ثانيًا: شروط صحة البيع

- ‌ثالثًا: شروط النفاذ

- ‌رابعًا: شروط اللزوم

- ‌الثمن وأحكامه

- ‌أحكام الجوائح

- ‌البيوع المحرمة

- ‌البيوع المحرمة

- ‌أولًا: البيوع المحرمة بسبب الغرر والجهالة:

- ‌ثانيًا: البيوع المحرمة بسبب الربا:

- ‌باب في حكم البيع بالتقسيط وهل يلحق ببيعتين في بيعة

- ‌خلاصة البحث

- ‌ثالثًا: البيوع المحرمة بسبب الضرر والخداع

- ‌رابعًا: البيوع المحرمة لذاتها

- ‌خامسًا: البيوع المحرمة لغيرها

- ‌سادسًا: بيوع مختلف في حرمتها

الفصل: ‌ثانيا: الجناية على ما دون النفس

ولا قصاص عليه بالإجماع، وليس في الآية ذكر الدية في هذه الحالة فلا تجب؛ ولأنه أسقك حرمة نفسه بمقامه في دار الكفر التي هي دار الإباحة وهو

قول جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة وهو الرواية المشهورة في مذهب أحمد، والأظهر عند الشافعية، وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة، والأوزاعي، والثوري وأبو ثور.

وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في قول - وهو مقابل الأظهر عند الشافعية - إلى أنه تجب الدية في هذه الحالة مع الكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا خطأ فوجبت ديته، كما لو كان في دار الإسلام.

قلت: والأول أرجح، والله أعلم.

‌ثانيًا: الجناية على ما دون النفس

تعريفها (1):

الجناية على ما دون النفس: كل فعل محرم وقع على الأطراف أو الأعضاء سواء كان بالقطع أم بالجرح أم بإزالة المنافع.

الجناية على ما دون النفس قسمان: جناية موجبة للقصاص، وجناية موجبة للدية وغيرها.

أ - الجناية الموجبة للقصاص:

يشرع القصاص في الجناية على ما دون النفس - إذا توفرت شروط معينة يأتي ذكرها - والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

(أ) فأما الكتاب: فقال الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} (2).

وقال سبحانه: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (3).

(ب) وأما السنة: فعن أنس رضي الله عنه قال: كسرت الرَّبيّع - وهي عمة أنس بن مالك - ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر - عم أنس بن مالك -: لا، والله لا تكسر

(1)«الموسوعة الفقهية» (16/ 63).

(2)

سورة المائدة: 45.

(3)

سورة البقرة: 194.

ص: 217

سنها يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أنس، كتاب الله القصاص» فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره» (1).

(جـ) وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن (2).

(ر) وأما المعقول: فلأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه لأنه خُلق وقاية للنفس فشرع الجزاء صونًا له (3).

شروط وجوب القصاص:

1 -

أن يكون الفعل عمدًا: وهو شرط باتفاق الفقهاء:

وأما شبه العمد - فيما دون النفس - وهو أن يقصد الضرب بما لا يفضي إلى الجرح غالبًا فيجرحه، فلا قصاص فيه عند الجمهور.

وذهب الحنفية وبعض الحنابلة إلى أنه ليس فيما دون النفس شبه عمد أصلًا، فما كان شبه العمد في النفس، فهو عمد فيما دونها، لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة عادة، فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد، فكان الفعل عمدًا محضًا، ووجب القصاص (4).

2 -

أن يكون الفعل عدوانًا: فإن لم يكن الجاني متعديًا في فعله، فلا يقتص منه، كأن لا يكون مكلفًا (ليس أهلًا للعقوبة) أو ارتكب هذا الفعل بحق، كمن يقيم حدًّا أو تعزيرًا أو كان طبيبًا ونحو ذلك.

3 -

أن يكون الجاني مكافئًا للمجني عليه: وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله، كالحر المسلم مع الحر المسلم، فأما من لا يُقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه، فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن (5).

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1635) وغيرهما.

(2)

«المغني» لابن قدامة (7/ 702 - ط. الرياض)، وانظر:«مراتب الإجماع» (ص 138).

(3)

«المغني» (7/ 702).

(4)

«البدائع» (7/ 233)، و «الزرقاني» (8/ 14)، و «روضة الطالبين» (9/ 178)، و «كشاف القناع» (5/ 545)، و «المغني» (7/ 703).

(5)

«ابن عابدين» (5/ 356)، و «المراجع السابقة» .

ص: 218

وبهذا يقول الجمهور خلافًا للحنفية، على نحو ما تقدم في القصاص في القتل.

4 -

أن يتماثل محل الجناية ومحل القصاص: فلا يُؤخذ شيء من الأصل إلا بمثله، فلا تؤخذ اليد إلا باليد، ولا رجل إلا بالرجل، ولا إصبع ولا عين وأذن ولا غيرها إلا بمثلها من الجاني، فلا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء، وعلى هذا اتفاق الفقهاء (1). واختلفوا في قطع الشلاء بالصحيحة، فأجاز الجمهور قطعها، ونص الحنابلة والشافعية - في الصحيح - على أنها تقطع إذا قال أهل الخبرة بأنه ينقطع الدم، وإلا لم تقطع وتجب الدية وقال المالكية وهو وجه عند الشافعية: لا تقطع الشلاء بالصحيحة، لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها وعليه الدية.

واختلفوا في قطع الشلاء بالشلاء (2): فمنعه الحنفية والمالكية والشافعية في وجه، وأجازه الحنابلة والشافعية في الصحيح لديهم إن استويا في الشلل أو كان شلل يد الجاني أكثر من يد المجني عليه بشرط أن لا يخاف نزف الدم.

وإذا قلع الأعور عين صحيح العينين (3):

فقال أبو حنيفة والشافعي: يقتص منه، ويترك أعمى، وبه قال مسروق والشعبي وابن سيرين والثوري وابن المنذر، وحجتهم: عموم قوله تعالى: {والعين بالعين} (4).

وقال مالك: يخيَّر بين القصاص وبين أخذ دية كاملة.

ومذهب أحمد أنه لا قصاص عليه وعليه دية كاملة؛ لأنه روِّي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فصار إجماعًا، ولأنه لم يذهب بجمع بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين.

قلت: الظاهر أنه لا مانع من القصاص إذا أراد المجني عليه، والله أعلم.

وإذا قلع صحيحٌ العين السالمة من الأعور (5): فاتفقوا على أن للمجني عليه القصاص، ثم اختلفوا هل يجب على الصحيح شيء زائد عن القصاص؟ فذهب

(1)«البدائع» (7/ 297)، و «المغني» (7/ 723)، و «كشاف القناع» (5/ 557)، والمراجع السابقة.

(2)

«البدائع» (7/ 298)، و «الزرقاني» (8/ 16)، و «الروضة» (9/ 193)، و «المغني» (7/ 735).

(3)

«ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 327)، و «المغني» (7/ 717).

(4)

سورة المائدة: 45.

(5)

«البدائع» (7/ 308)، و «الزرقاني» (8/ 41) والمراجع السابقة.

ص: 219

الحنابلة في المذهب إلى أن له القصاص بمثلها ويأخذ نصف الدية، لأنه ذهب جميع بصره، وأذهب الضوء الذي بدله دية كاملة، وقد تعذر استيفاء جميع الضوء، إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة، فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء.

وذهب المالكية - وهو وجه لدى الحنابلة - إلى أنه ليس له زيادة على القصاص.

قلت: وهذا الأخير أقرب إلى النصوص، والله أعلم.

5 -

إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة: وهو شرط لوجوب القصاص في الجراح والأطراف، وتحقق هذا بأن يكون القطع من مفصل، فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف (1).

وقد رُوي عن نمر بن جابر عن أبيه: أن رجلًا ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية، قال: إني أريد القصاص، قال:«خذ الدية بارك الله لك فيها» (2) ولم يقض له بالقصاص.

وهذا ما لم يرض المجني عليه بالقطع من مفصل أدنى من محل الجنابة.

أنواع الجناية:

الجناية على ما دون النفس إما أن تكون بالقطع والإبانة، أو بالجرح الذي يشق، أو بإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة.

(أ) الجناية بالقطع والإبانة:

يجب القصاص بالجناية على الأعضاء والأطراف إذا أدت إلى قطع العضو أو الطرف بشروط معينة، وقدت قدمت.

(ب) الجناية بالجرح:

والجراح إما أن تقع على الرأس والوجه، وتسمى «الشجاج» وإما أن تقع على سائر البدن.

أولًا: الشجاج: الشجاج أقسام، أشهرها عشرة:

1 -

«الحارصة» : وهي التي تشق الجلد قليلًا، نحو الخدش، ولا يخرج الدم، وتسمى «الحرصة» كذلك.

(1)«ابن عابدين» (5/ 354)، و «الزرقاني» (8/ 18)، و «نهاية المحتاج» (7/ 284)، و «الروضة» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 707).

(2)

ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2636)، والبيهقي (8/ 65) وهو في «الإرواء» (2235).

ص: 220

2 -

«الدامية» : وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، وتسمى عند بعض الفقهاء «البازلة» لأنها تبزل الجلد أي تشقه.

3 -

«الباضعة» : وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تقطعه، وقيل التي تقطع الجلد.

4 -

«المتلاحمة» : وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، وتسمى أيضًا «اللاحمة» .

5 -

«السمحاق» : وهي التي تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، وقد تسمى عند بعضهم «الملطاة أو اللاطئة» .

6 -

«الموضحة» : وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم.

7 -

«الهاشمة» : وهي التي تهشم العظم (أي: تكسره) سواء أوضحته أم لا عند الشافعية.

8 -

«المنقَّلة» : وهي التي تكسر العظم وتنقله من موضع إلى موضع سواء أوضحته وهشمته أم لا.

9 -

«المأمومة» : وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به ويقال لها:«الآمة» .

10 -

«الدامغة» : وهي التي تخرق الخريطة وتصل إلى الدماغ.

والتسميات السابق ذكرها تكاد تكون محل اتفاق بين المذاهب، وإن كان

هناك خلاف يسير في ترتيبها، فمردُّه الاختلاف في تحديد المعنى اللغوي (1).

حكم هذه الشِّجَاج (2):

الأصل وجوب القصاص في كل الجراح، لقوله تعالى:{والجروح قصاص} (3) لكن لما كان من هذه الأقسام ما لا يمكن اعتبار المساواة فيه، وضبط ذلك للاستيفاء بالمثل، فقد رأى بعض أهل العلم أنه لا قصاص فيه:

1 -

فاتفقوا على أنه لا قصاص فيما فوق الموضحة (الهاشمة والمنقلة والأمة)،

(1)«الموسوعة الفقهية» (16/ 79 - 80).

(2)

«ابن عابدين» (5/ 373)، و «الزرقاني» (8/ 34)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 180)، و «كشاف القناع» (5/ 558)، و «المغني» (5/ 558).

(3)

سورة المائدة: 45.

ص: 221

لأنه لا يمكن المساواة في كسر العظم وتنقله، قلت: قد ورد عن العباس رضي الله عنه مرفوعًا: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» (1) وهو حديث ضعيف لا يثبت.

2 -

واتفقوا على وجوب القصاص في الموضحة؛ لأنه يتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، إذ يمكن أن ينهي السكين إلى العظم فتتحقق المساواة.

3 -

واختلفوا فيما دون الموضحة: فذهب الحنفية والمالكية - وهو رواية عند الشافعية - إلى أن فيها القصاص، وذهب الشافعية - في المذهب - والحنابلة إلى عدم القصاص فيما دون الموضحة.

قلت: والذي فهمته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن القصاص يكون في كل شيء حتى في اللطمة والضربة والسُّبة، استدلالًا بعموم قوله تعالى:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2).

وبعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقود في الطعنة والجبذة، وكذلك الصحابة. وردًّا على شبهة تعذُّر المماثلة في ذلك يقول: «

والعدل في القصاص بحسب الإمكان، ومن المعلوم أن الضارب إذا ضُرب مثل ضربته، أو قريبًا منها كان هذا أقرب إلى العدل من أن يُعزَّر بالضرب بالسوط، فالذي يمنع من القصاص خوفًا من الظلم يبيح ما هو أعظم ظلمًا مما فرَّ منه، فعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل

» اهـ.

ثانيًا: الجراح الواقعة على سائر البدن (3) وهي نوعان:

1 -

الجائفة: وهي التي تصل إلى الجوف، سواء نفذت إليه من الصدر أو الظهر أو البطن أو الجنبين أو الدبر.

وقد ورد حديث العباس مرفوعًا: «لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة» (4) ولا يصح، لكن اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص في الجائفة.

(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2637)، وأبو يعلى (6700) رضي الله عنه مرفوعًا:«لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» وهو حديث ضعيف لا يثبت.

(2)

سورة البقرة: 194.

(3)

«ابن عابدين» (5/ 374)، و «جواهر الإكليل» (2/ 259)، و «روضة الطالبين» (9/ 181)، و «المغني» (7/ 709).

(4)

ضعيف: تقدَّم قريبًا.

ص: 222

2 -

غير الجائفة: وهذه اختلف أهل العلم في القصاص فيها على ثلاثة أقوال:

الأول: فيها القصاص، وهو مذهب المالكية.

الثاني: ليس فيها قصاص، بل حكومة عدل إذا أوضحت العظم وكسرته، وإذا بقي أثر، وإلا فلا شيء فيها، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف.

الثالث: أن ما لا قصاص فيه إذا كان على الرأس والوجه، فلا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.

حكم القصاص قبل اندمال الجروح (1):

اختلف أهل العلم في جواز القصاص في الجرح أو الطرف قبل برئه واندماله على قولين:

الأول: لا يقتص حتى يبرأ المجني عليه: وهو قول أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد في مشهور مذهبه، والنخعي والثوري وإسحاق، وأبو ثور وعطاء والحسن وابن المنذر، واحتجوا بما يلي:

1 -

حديث جابر «أن رجلًا جُرح فأراد أن يستقيد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح» (2).

2 -

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني، فقال:«حتى تبرأ»

ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: أفدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله، عرجت، قال:«قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عَرَجُك» ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جُرح حتى يبرأ صاحبه (3).

قالوا: فقوله: «ثم نهى أن يقتص

» يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ «ثم» يقتضي الترتيب، فيكون النهي الواقع بعدها ناسخًا للإذن الواقع عليها.

(1)«الهداية» (4/ 188)، و «جواهر الإكليل» (2/ 263)، و «الأم» (9/ 47)، و «كشاف القناع» (5/ 561)، و «المغني» (8/ 340 - القاهرة)، و «نيل الأوطار» (7/ 36).

(2)

حسن ما بعده: أخرجه ابن أبي عاصم في «الديات» (31)، والدارقطني (326)، والبيهقي (8/ 66)، وانظر «الإرواء» (7/ 298).

(3)

حسن لطرقه: أخرجه أحمد (2/ 217)، والدارقطني (325)، وعنه البيهقي (8/ 67)، وأُعلَّ بالإرسال، وهو حسن بما قبله، وانظر «الإرواء» (2237).

ص: 223

3 -

ولأن الجرح لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل؟ فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه.

القول الثاني: يجوز أن يقتص قبل البرء، وهذا مذهب الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، وحجتهما:

1 -

إذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بالقصاص قبل البرء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وأجيب بأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه:«نهيتك فعصيتني» يدل على أن القصاص قبل البرء معصية، ثم إن قوله في آخره «ثم نهى

» يدل على نسخ الإذن كما تقدم.

2 -

قالوا: ولأن القصاص لا يسقط بالسراية، فوجب أن يملكه في الحال

كما برئ، وأجيب بأن هذا ممنوع وهو مبني على الخلاف في مسألة السراية (1).

ثالثًا: إزالة المنفعة من غير شق ولا إبانة:

إذا ترتَّب على الاعتداء بالضرب أو الجرح زوال منفعة العضو مع بقائه سليمًا، كمن يلطم شخصًا في وجهه أو يجرحه في رأسه، فيؤدي إلى ذهاب السمع أو البصر، فهل يجب فيه القصاص؟ ذهب الجمهور إلى وجوب القصاص في ذلك، لأن لهذه المنافع محال مضبوطة، ولأهل الخبرة طرق في إبطالها.

وذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز القصاص إلا في زوال البصر دون سواه (2).

إذا وقعت الجناية على المجني عليه بسبب مناد:

كمن عضَّ يد رجل فانتزعها فسقطت ثنيته، فذهب الجمهور - خلافًا لمالك - إلى أنه لا قصاص فيه ولا دية بشرط أن لا يتمكن المعضوض من إطلاق يده بما هو أيسر من ذلك، وأن يكون ذلك العض بما يتألم به، واحتجوا:

1 -

بحديث عمران بن حصين: أن رجلًا عضَّ يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك» (3).

2 -

حديث يعلى بن أمية قال: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعضَّ أحدهما

(1) السراية: تعدَّى أثر الجرح من العضو المقطوع إلى غيره، وربما يموت منه.

(2)

«البدائع» (7/ 307)، و «الزرقاني» (8/ 17)، و «روضة الطالبين» (9/ 186)، و «كشاف القناع» (5/ 552).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1672).

ص: 224

صاحبه، فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال:«أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل» (1).

3 -

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن إنسانًا جاءه - وعضَّه إنسان فانتزع يده فذهبت ثنيته - فقال أبو بكر: «تَعَدَّت ثنيتُه» (2).

4 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اطلَّع عليك رجل في بيتك فرميته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» (3).

وفي رواية: «فلا دية ولا قصاص» (4).

2 -

الجناية على ما دون النفس الموجبة للدية:

إذا كانت الجنابة على ما دون النفس خطأ، أو لم يتوفر فيها شرط من شروط وجوب القصاص المتقدمة، أو تصالح الخصمان وعفا المجني عليه عن الجاني، فإنه يسقط القصاص، وتجب الدية أو حكومة عدل، على حسب الأحوال.

وقد اتفق الفقهاء على أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في بدن الإنسان منه إلا واحدًا كاللسان، والأنف، والصلب، والذكر، وغيرها، ففيه دية كاملة؛ لأن إتلاف كل عضو من هذه الأعضاء كإذهاب منفعة الجنس، وهو كإتلاف النفس.

وما خُلق في الإنسان منه شيئان كاليدين والرجلين، والعينين والأذنين، والشفتين، والأنثيين، والثديين والأليتين، وغيرها، ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصف الدية، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم في كتابه:«وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية» (5).

وسيأتي في «الديات» مقادير هذه الديات وما يتعلق بها من مسائل، إن شاء الله.

3 -

الجناية على الجنين:

وتكون بأن تُضرب حاملٌ فتلقي جنينًا ميتًا، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1674).

(2)

صحيح: أخرجه الشافعي (332)، وأبو داود (4584)، والبيهقي (8/ 336).

(3)

صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه النسائي (8/ 61)، وابن حبان (5972)، والدارقطني (3/ 99).

(5)

مرسل: سيأتي الكلام عليه.

ص: 225

تجب فيه الغُرَّة، وهي نصف عشر الدية، وسيأتي دليل ذلك وتفصيل المسألة في «الديات» إن شاء الله.

ما تثبت به الجناية:

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنايات تثبت على مرتكبيها بطريق من الطرق الثلاثة الآتية:

1 -

الإقرار: وهو في الاصطلاح: الإخبار عن حق، أو الاعتراف به.

وقد دلَّ على ثبوت الجناية بالإقرار الكتاب والسنة والإجماع:

(أ) قال الله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على

ذلكم إصري قالوا أقررنا} (1).

(ب) وقال سبحانه: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} (2).

(جـ) وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بِنِسْعَة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله:«أقتلته؟» فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم، قتلتهُ، قال:«كيف قتلته؟» قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبَّني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟» قال: ما لي مالٌ إلا كسائي وفأسي، قال:«فترى قومك يشترونك؟» قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته وقال:«دونك صاحبك»

الحديث (3).

واستدل بالحديث على أنه يثبت القصاص على الجاني بإقراره، قال الشوكاني:«وهو مما لا أحفظ فيه خلافًا، إذا كان الإقرار صحيحًا متجردًا عن الموانع» اهـ (4).

2 -

الشهادة: وهي الطريق المعتاد لإثبات الجرائم، وأغلب الجرائم تثبت عن طريقها، وقد دلَّ على ثبوت الجناية على الجاني بالشهادة ما يلي:

(1) سورة آل عمران: 81.

(2)

سورة الأعراف: 172.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم، والنسائي (8/ 15).

(4)

«نيل الأوطار» (7/ 42) ط. دار الحديث.

ص: 226

1 -

حديث رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولًا، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال:«لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» فقالوا: يا رسول الله، لم يكن ثَمَّ أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، قد يجترئون على أعظم من هذا، قال:«فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم» فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (1).

2 -

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن مُحيِّصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته»

الحديث (2).

واستدل بهما على أن القتل يثبت بشهادة شاهدين.

وهل تقبل فيه شهادة المرأتين مع الرجل؟ الأكثرون على أنه لا يُقبل في القصاص شهادة النساء، لأنه إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود (3).

3 -

القَسامة: وهي الطريقة الثالثة لإثبات الجناية (القتل خاصة) على الجاني.

تعريفها (4)؟

والقسامة لغة: مصدر أقسم قسمًا وقسامة، ومعناه: حلف حلفًا.

وفي اصطلاح الفقهاء: الأيمان المكررة في دعوى القتل، يقسم بها أولياء القتيل لإثبات القتل على المتهم، أو يقسم بها المتهم على نفي القتل عنه.

مشروعيتها:

وقد كانت القسامة من طريق الإثبات في الجاهلية، فأقرها الإسلام، فعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (5).

وعن سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله بن سهل ومُحيِّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، ثم

(1) أخرجه أبو داود (4524).

(2)

حسن: أخرجه النسائي (8/ 12).

(3)

«المغني» (12/ 228 - الفكر).

(4)

«مختار الصحاح» ، وانظر «المغني» (12/ 188 - الفكر)، و «التشريع الجنائي» (2/ 321).

(5)

صحيح: أخرجه مسلم (1670)، والنسائي (8/ 4)، وأحمد (4/ 62 - 5/ 375).

ص: 227

أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حُويِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيِّصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيِّصة: كبِّر كبِّر (يريد: السن) فتكلم حُويِّصة ثم تكلم محيِّصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب» فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن:«أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا، قال:«فتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت

عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء (1).

وفي رواية: فقال: «تبرئكم يهود بخمسين، يحلفون أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتلًا؟» فقال: كيف نرضى بأيمان قوم مشركين؟ قال: «فقسم منكم خمسون أنهم قتلوه؟» قالوا: كيف نحلف ولم نر؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فركضتني بكرة منها (2).

وقد ذهب جمهور الفقهاء - منهم الصحابة والتابعون وأهل المذاهب الأربعة والظاهرية - إلى مشروعية القسامة لهذه النصوص وغيرها، وأنه يثبت بها القصاص أو الدية إذا لم تقترن الدعوى ببينة، إذا توفرت شروطها.

بينما ذهب جماعة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز - في رواية عنه - إلى عدم الأخذ بالقسامة وعدم العمل بها، لأنها - عندهم - مخالفة لأصول الشرع المجمع عليها، ومنها: أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعًا أو شاهد حسًّا، وهنا أولياء الدم يقسمون وهم لم يشاهدوا، واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (3).

قالوا: وليس في الأحاديث حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف بطلانها (!!).

(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له.

(2)

صحيح: أخرجه البخاري (3173)، ومسلم، والنسائي (8/ 11)، وأبو داود.

(3)

صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم وغيره.

ص: 228

وأجاب الشوكاني:

«بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل، لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقًا، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عرض على المتخاصمين اليمين، وقال: «إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب» كما في رواية متفق عليها، وهو لا يعرض إلا ما كان شرعًا، وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم وإنزالهم من حكم الجاهلية فباطلة، وكيف وفي حديث أبي سلمة المذكور في الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية؟!» اهـ (1).

شروط القسامة:

1 -

دعوى القتل، فلا قسامة في غير القتل اتفاقًا، وأن يوجد قتيل فعلًا بلا شك.

2 -

أن يكون المدعي عليه معينًا: فلو كانت الدعوى على أهل بلد - مثلًا - أو على واحد غير معين لم تجب القسامة عند الجمهور (2).

3 -

أن يكون هنا لوث: واللوث قرينة تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعى، كعداوة ظاهرة بين القاتل ومن مات في أرضهم وكأن يجتمع جماعة في بيت

ثم يتفرقوا عن قتيل، أو أن يشهد عدل واحد على أن فلانًا قتله، أو أن يشهد جماعة من العبيد والنساء - متفرقين بحيث يؤمَن تواطؤهم - أن فلانًا قتله، ونحو ذلك، وهو شرط للقسامة عند الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وبه قال ابن المنذر (3)، واحتج لهم بما يلي:

(أ) في حديث سهل بن أبي حثمة ما يدل على وجود عداوة بين الأنصار ويهود خيبر فقد قالوا: «ما لنا عدو بخيبر إلا يهود» (4).

(1)«نيل الأوطار» (7/ 46)، ط. دار الحديث، وانظر «المحلي» لابن حزم (11/ 76) وما بعدها ففيه بحث لا نظير له.

(2)

«ابن عابدين» (5/ 403)، و «نهاية المحتاج» (7/ 368)، و «الخرشي» (8/ 55)، و «المغني» (10/ 4 - مع الشرح الكبير).

(3)

«البدائع» (7/ 286)، و «روضة الطالبين» (10/ 10)، و «الخرشي» (8/ 51)، و «المغني» (10/ 7).

(4)

أخرج هذا اللفظ البيهقي (8/ 119).

ص: 229

(ب) حديث ابن عباس مرفوعًا: «لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (1).

(جـ) وبأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته، ولم يظهر كذبه، فكان القول قوله كسائر الدعاوى، ولا تكون قسامة.

(ر) ولأنه مدعى عليه فلم تلزمهُ اليمين (أي: القسامة).

وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يشترطوا اللوث في القسامة، وحجتهم أن رجلًا وجد قتيلًا بين حيين، فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يمينًا، وقضى بالدية على أقربهما - يعني أقرب الحيين - فقالوا: والله ما وَفَتْ أيماننا أموالنا، ولا أموالنا أيماننا، فقال عمر:«حقنتم بأموالكم دماءكم» (2).

وأجيب: بأن الأثر لا يثبت، ثم هو محتمل أن يكونوا اعترفوا بالقتل خطأ

وأنكروا العمد مثلًا، أو أن عمر رضي الله عنه وجد من القرينة ما يقوى شبهة المدعي.

4 -

اتفاق الأولياء في الدعوى: فإن ادعى بعضهم وأنكر بعضهم لم تثبت القسامة وهل للنساء أن يدخلن في القسامة إذا كن من أولياء المقتول؟ فيه ثلاثة أقوال (3):

(أ) لا يستحلف النساء فإن كانوا أقل من خمسين كررت الأيمان حتى تبلغ خمسين يمينًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي، قالوا: لأنها حجة تثبت قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته.

قلت: وقد يحتج لهم بظاهر ما صحَّ عن سعيد بن المسيب قال: «القسامة في الدم لم تنزل عن خمسين رجلًا، فإن نقصت قسامتهم أو نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم

» (4).

(ب) يحلف النساء في قسامة الخطأ دون العمد، وهو مذهب مالك.

(جـ) تدخل النساء في القسامة إذا كن وارثات، وهو مذهب الشافعي، فلو كان للقتيل ورثة وزعت الأيمان بحسب الإرث وجبر المنكسر، ولا فرق في ذلك بين الذكور والإناث، ودليله القياس على سائر ما يستخلف فيه.

(1) صحيح: تقدم قريبًا.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 123، 124).

(3)

«مختصر الطحاوي» (ص 248)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 115)، و «المغني» (10/ 24 - مع الشرح الكبير).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 32)، والبيهقي (8/ 122).

ص: 230

5 -

ألا تتناقض دعوى المدعين: فإن قال القتيل قبل موته: قتلني فلان عمدًا، وقالوا: بل قتله خطأ أو العكس، فإنه لا قسامة لهم وبطل حقهم، وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت بعد ذلك، وكذلك لو ادعوا على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعوا على آخر أنه شريك لم تسمع الدعوى الثانية لمناقضتها الأولى وتكذيبها.

وتمت شروط أخرى اشترطها بعض أهل العلم وهي مختلف فيها، كأن تكون الدعوى مفصلة، وأن يكون بالقتيل أثر قتل، وأن يوجد القتيل في محل مملوك لأحد، وكإسلام المقتول وغير ذلك، وقد ذكرنا أهم ما اشتُرط.

كيفية القسامة (1)؟

1 -

ذهب جمهور أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد وربيعة والليث وغيرهم: إلى أن الأيمان في القسامة توجه إلى المُدَّعين، فيُكَلَّفون حلفها ليثبت مدعاهم ويحكم لهم به، فإن نكلوا عنها، وُجهت إلى المدعى عليهم، فيحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا، فإن حلفوا ثبت مدعاهم، وحكم لهم إما بالقصاص أو الدية - على الخلاف في موجب القسامة - فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ، فيقول: والله، ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا تسببت في قتله.

فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه برئ المتهمون، وكانت دية القتيل من بيت المال، عند الحنابلة خلافًا للمالكية والشافعية.

قلت: وهذا موافق لحديث سهل.

وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين: فقال الشافعية: ترد الأيمان على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليهم، وإن لم يحلفوا فلا شيء لهم.

وقال المالكية: يحبسون حتى يحلفوا أو يموتوا، وقيل: يجلدون ويحبسون عامًا.

وقد استدل للجمهور في البدء في القسامة بتحليف المدعين، بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم.

2 -

بينما ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والثوري والنخعي إلى أنه يُبدأ بتوجيه الأيمان إلى المدعى عليهم، فإن حلفوا لزم أهل المحلة الدية، وهذا مروي من قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(1)«ابن عابدين» (5/ 403)، و «الدسوقي» (4/ 293)، و «مغني المحتاج» (4/ 116)، و «المغني» (10/ 30 - مع الشرح الكبير)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 388).

ص: 231