الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إذا لم يحصل تعاون بأن استقل كل واحد بإخراج بعض المسروق، فلا يقام الحد إلا على من أخرج نصابًا كاملًا.
قلت: الأظهر أنهم إن اشتركوا في سرقة نصاب واحد قُطعوا سواء أخرجوه جملة، أو أخرج كل واحد جزءًا، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالحاجة إلى الزجر عن سرقة المال موجودة فوجب القطع، والله أعلم.
عقوبات السارق
(أ) العقوبة الحدِّيَّة:
اتفق أهل العلم على أن حدَّ السارق قطع يده، لقوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (1).
وهو الحدُّ الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على من سرق في عهده كما تواترت الأخبار بذلك، وجرى عليه عمل الخلفاء الراشدين دون اعتراض عليهم، وأجمعت عليه الأمة (2).
لكنهم اختلفوا في أمور تتعلق بمحل القطع ومقداره، وكيفيته، وتكرره مع تكرار السرقة، ونحو ذلك، وإليك بيان أهم هذه الأمور:
1 -
محل القطع (3):
إذا ثبتت السرقة الأولى، فقد اتفق الفقهاء - إلا ابن حزم - على وجوب قطع اليد اليمنى، قالوا: لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع اليد اليمنى (4) وكذلك فعل الأئمة من بعده، ولقراءة عبد الله بن مسعود:«فاقطعوا أيمانهما» وهي قراءة مشهورة عنه، ولم يجمع على أنها قرآن لمخالفتها للمصحف الإمام، فكانت خبرًا مشهورًا، فيقيد إطلاق النص .. ولو كان الإطلاق مرادًا
والامتثال للأمر في الآية
(1) سورة المائدة: 38.
(2)
«مراتب الإجماع» (135)، و «المغني» (10/ 239)، و «فتح الباري» (12/ 97)، و «فتح القدير» (5/ 153)، و «الإفصاح» (2/ 414)، و «طرح التثريب» (8/ 23).
(3)
«البدائع» (7/ 86) و «الدسوقي» (4/ 332)، و «مغني المحتاج» (4/ 177)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 264)، و «تفسير القرطبي» (6/ 160)، و «الطبري» (6/ 228)، و «المحلي» (11/ 358).
(4)
إسناده ضعيف: أخرجه البغوي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وسنده ضعيف كما في «التلخيص» (4/ 67)، وانظر «الإرواء» (8/ 81).
يحصل بقطع اليمين أو الشمال، لمَا قطع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اليسار على عادته من طلب الأيسر لهم ما أمكن، جريًا على عادته صلى الله عليه وسلم في أنه:«ما خُيِّر بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا» (1).
وذهب ابن حزم إلى أن قطع اليمين مستحب وليس بواجب، وردَّ دعوى الإجماع بفعل عليٍّ رضي الله عنه، فعن ابن عمر قال:«سرق سارق بالعراق في زمان علي بن أبي طالب، فقدم ليقطع يده، فقدَّم السارق يده اليسرى ولم يشعروا فقطعت فأخبر علي بن أبي طالب خبره، فتركه ولم يقطع يده الأخرى» (2).
فإذا كانت اليمنى غير صحيحة:
بأن كانت شلَّاء أو ذهب أكثر أصابعها، فاختلفوا في محل القطع:
1 -
فقال الحنفية: تقطع لأن القطع متعلق بها؛ ولأنه إذا تعلق الحكم بالسليمة فإنها تقطع، فلأن تقطع المعيبة من باب أولى.
2 -
وقال المالكية: لا يجزئ قطع المعيبة؛ لأن مقصود الحد إزالة المنفعة التي يستعان بها على السرقة، والشلاء وما في حكمها لا نفع فيها فلا يتحقق مقصود الشرع بقطعها، لأن منفعتها التي يراد إبطالها باطلة من غير قطع، ولذا ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى، وهذا قول للشافعية - في مقطوعة الأصابع كلها - ورواية عن الحنابلة.
3 -
وقال الشافعية والحنابلة: يجزئ قطع اليمين إذا كانت شلَاّء إلا إذا خيف من قطعها ألا يكف الدم ولا يرقأ، فحينئذٍ ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى.
وإذا كانتا اليمين مقطوعة: سواء بآفة أو جناية أو قصاص، فذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى انتقال القطع إلى الرجل اليسرى، إذا ذهبت اليد اليمنى قبل السرقة، وإلى سقوط الحد إذا ذهبت بعد السرقة سواء كان ذهابها قبل الخصومة أو بعدها، وقبل القضاء أو بعده، لأنه بمجرد السرقة تعلق القطع باليد اليمنى، فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط.
وكذلك قال الحنفية إذا كان زوال اليمنى ولو بعد السرقة قبل المخاصمة، أما
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة.
(2)
أخرجه أبو حزم في «المحلي» (11/ 358 - هامش).
لو ذهبت اليد اليمنى بعد المخاصمة وقبل القضاء أو بعد المخاصمة والقضاء فيسقط الحد عندهم (1).
2 -
موضع القطع ومقداره (2):
ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن قطع اليد يكون من الكوع، وهو مفصل الكف، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع السارق من الكوع (3)، ولقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «إذا سرق
السارق، فاقطعوا يمينه من الكوع» (4).
وذهب بعض الفقهاء إلى أن موضع القطع من اليد: المنكب، لأن اليد اسم للعضو من أطراف الأصابع إلى المنكب، وذهب بعضهم إلى أن موضع القطع: مفاصل الأصابع التي تلي الكف (!!).
قال ابن حزم - مؤيدًا ما ذهب إليه الجمهور بعد تصحيح إيقاع اسم اليد على كل ما تقدم -: «فإذا كان ذلك كذلك، فإنما يلزمنا أقل ما يقع عليه اسم يد، لأن اليد محرمة قطعها قبل السرقة ثم جاء النص بقطع اليد، فوجب أن لا يخرج من التحريم المتيقن المتقدم شيء إلا ما تيقن خروجه، ولا يقين إلا في الكف فلا يجوز قطع أكثر منها، وهكذا وجدنا الله تعالى إذ أمرنا في التيمم بما أمر إذ يقول تعالى:{فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (5). ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله تعالى بذكر الأيدي ههنا وأنه الكفان فقد كان على ما قد أوردناه
…
» اهـ.
وموضع قطع الرِّجل هو: مفصل الكعب من الساق، فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن أحمد.
(1)«البدائع» (7/ 88)، و «الدسوقي» (4/ 374)، و «مغني المحتاج» (4/ 148)، و «المغني» (10/ 269).
(2)
«المبسوط» (9/ 133)، و «الدسوقي» (4/ 332)، و «بداية المجتهد» (2/ 443)، و «المهذب» (2/ 301)، و «كشاف القناع» (6/ 118)، و «المغني» (10/ 266)، و «المحلي» (11/ 357).
(3)
ضعيف: أخرجه البيهقي (8/ 271)، وابن عدي في «الكامل» ، وله شواهد انظرها في «الإرواء» (؟؟ - 82).
(4)
؟؟ في «التلخيص» (4/ 71): «ولم أجده عنهما، وفي كتاب الحدود لأبي الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون من المفصل» اهـ. وذكر له الألباني في «الإرواء» (8/ 81 - 82) شواهد.
(5)
سورة المائدة: 6.
والرواية الأخرى عنه - وبها قال بعض الفقهاء - أن موضع القطع: أصول
أصابع الرِّجل، لما روي عن عليِّ أنه:«كان يقطع من شطر القدم، ويترك للسارق عقبه يمشي عليها» (1).
3 -
كيفية القطع:
لا خلاف بين الفقهاء في أنه ينبغي مراعاة الإحسان في إقامة الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» .
وقد ذكر الفقهاء أنه ينبغي على الحاكم أن يتخيَّر الوقت الملائم للقطع بحيث يجتنب الحر والبرد الشديدين، إن كان ذلك يؤدي إلى الإضرار بالسارق، ولا يقيم الحدَّ أثناء مرض يرجى زواله، ولا يقيم الحد على الحامل والنفساء.
كما ينبغي أن يساق السارق إلى مكان القطع سوقًا رفيقًا، فلا يعنف به، ولا يعيَّر، ولا يُسب، فإذا وصل إلى مكان القطع:
(يجلس، ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه، وتُشد يده بحبل، ويُجرُّ حتى يبين مفصل الذراع، ثم توضع بينهما سكين حادة، ويدق فوقها بقوة ليقطع في مرة واحدة، أو توضع على المفصل وتمد مدة واحدة، وإن عُلم قطع أوحى من ذلك - أي أسرع - قطع به) اهـ (2).
حَسْمُ موضع القطع (3):
رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن هذا قد سرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به
…
» الحديث (4).
وهو حديث ضعيف، ومع هذا فقد اتفق الفقهاء على حسم موضع القطع، وذلك باستعمال ما يسدُّ العروق، ويوقف الدم، لما فيه من مصلحة السارق وحفظه من الهلاك.
(1) حسنه الألباني: وانظر «الإرواء» (2435).
(2)
«المغني» (10/ 266) مع الشرح الكبير.
(3)
«ابن عابدين» (3/ 285)، و «الخرشي» (8/ 92)، و «مغني المحتاج» (4/ 178)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 266 - مع الشرح الكبير).
(4)
ضعيف: أخرجه الطحاوي (2/ 96)، والدارقطني، والحاكم (4/ 381)، والبيهقي (8/ 275)، وانظر «الإرواء» (2431).
لكنهم اختلفوا في حكم الحسم: فذهب الحنفية والحنابلة وهو القول مقابل الأصح عند الشافعية إلى أنه واجب عيني على من قام بالقطع للأمر بذلك في الحديث (!!) وذهب المالكية إلى أنه فرض على الكفاية، فلا يلزم واحدًا بعينه، فإذا قام به القاطع أو المقطوع أو غيرهما فقد حصل المقصود.
وقال الشافعية - في الأصح عندهم -: الأمر بالحسم يحمل على الندب؛ لأنه حق للمقطوع لإتمام الحد، فيجور للإمام تركه، وحينئذٍ يندب للإمام ولغيره أن يفعله، ولا يمنع ذلك من وجوبه على السارق إذا لم يقم به أحد، فإن تعذَّر عليه فعل الحسم وترتب على تركه تلف محقق فلا يجوز للإمام إهماله، بل يجب عليه فعله.
هل تعلَّق اليد المقطوعة في عنق السارق؟ (1)
يُسَنُّ - عند الشافعية والحنابلة - تعليق اليد المقطوعة في عنق السارق، ردعًا للناس، واستدلوا بما رُوي عن فضالة بن عبيد:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» (2) وهو حديث ضعيف.
وذهب الحنفية إلى أن تعليق اليد لا يُسنُّ، بل يترك الأمر للإمام، إن رأى فيه مصلحة فعله، وإلا فلا.
قلت: وهذا أقرب، لضعف الحديث المرفوع وإن كان مأثورًا عن السلف.
4 -
تكرُّر السرقة بعد القطع (3):
(أ) إذا قطعت يمين السارق، قم عاد للسرقة مرة ثانية فكيف تكون عقوبته؟
اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
(1)«ابن عابدين» (3/ 285)، و «أسنى الطالب» (4/ 153)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 267).
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود (4411)، والنسائي (2/ 263)، والترمذي (1447)، وابن ماجة (2587)، وأحمد (6/ 19)، وانظر «الإرواء» (2432).
(3)
«ابن عابدين» (3/ 285)، و «البدائع» (7/ 186)، و «المبسوط» (9/ 16)، و «القوانين الفقهية» (ص 362)، و «الخشري» (8/ 93)، و «جواهر الإكليل» (2/ 289)، و «قليوبي وعميرة» (4/ 198)، و «نهاية المحتاج» (7/ 444)، و «كشاف القناع» (6/ 119)، و «المغني» (10/ 271)، و «المحلي» (11/ 354)، و «فتح الباري» (12/ 102)، و «زاد المعاد» (5/ 56)، و «تهذيب السنن» (6/ 236)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 387) وما بعدها.
الأول: لا قطع عليه، وإنما يضرب ويُحبس، وهو مذهب عطاء بن أبي رباح رحمه الله فعن ابن جريج أنه قال لعطاء: إن سرق ثانية؟ قال: ما أرى أن تقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط، قال الله تعالى:{فاقطعوا أيديهما} (1). ولو شاء أمر
بالرِّجْل، ولم يكن الله تعالى نسيًّا (2).
الثاني: تُقطع يده اليسرى فإن عاد فلا قطع عليه وإنما يعزَّر بالضرب والحبس وهو مذهب ربيعة وداود وابن حزم الظاهريين؛ لأن الله تعالى أمر بقطع الأيدي وهي تشمل اليمنى واليسرى، وإدخال الأرجل في القطع زيادة على النص، ولأنها آلة السرقة والبطش، فكانت العقوبة بقطعها أولى.
الثالث: تُقطع رجلُه اليُسرى، وهو مذهب عامة الفقهاء وجماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
واستدلوا بجملة أحاديث مرفوعة تشتمل على هذا الحكم، إلا أنها جميعًا ضعيفة لا تقوم يها الحجة، وكذلك استندوا إلى آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وسيأتي ذكر طرف من هذه الأحاديث والآثار عما قريب، إن شاء الله.
قال ابن عبد البر: «ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (3).
قلت: وثبت عن عمرو بن دينار أن نجدة بن عامر كتب إلى ابن عباس: السارق يسرق فتُقطع يده، ثم يعود فتقطع يده الأخرى؟ قال الله تعالى:{فاقطعوا أيديهما} . قال: قال: «بلى، ولكن ورجله من خلاف» (4).
وثبت عن عائشة - في قصة الرجل الأسود الذي كان أبو بكر يُدنيه يقرئه
القرآن ثم قطعت يده في سرقة - قالت: «
…
ثم أدناه [أي: أبو بكر] ولم يحول منزلته التي كانت له منه، فلم يغب إلا قليلًا حتى فقد آلُ أبي بكر حليًّا لهم ومتاعًا، فقال أبو بكر: طرق الحي الليلة، فقام الأقطع فاستقبل القبلة، ورفع يده الصحيحة والأخرى التي قطعت، فقال: اللهم أظهره على من سرقهم - أو نحو
(1) سورة المائدة: 38.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه ابن حزم في «المحلي» (11/ 354).
(3)
سورة المائدة: 38.
(4)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 185)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 355).
هذا - فما انصرف النهار حتى ظهر المتاع عنده، فقال له أبو بكر: ويلك، إنك لقليل العلم بالله، فأمر به فقطعت رجله» (1).
وعن ابن عباس قال: «رأيت عمر بن الخطاب قطع يد رجلٍ، بعد يده ورجله» (2).
(ب) إذا عاد للسرقة ثالثة ورابعة وخامسة:
ثم اختلف هؤلاء - أعني الجمهور - فيما إذا عاد السارق للسرقة - بعد قطع رجله اليسرى - ثالثة ورابعة وخامسة، على ثلاثة أقوال كذلك:
الأول: لا قطع عليه في المرة الثالثة، وإنما يضرب ويحبس: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه - وهو المذهب - وبه قال الحسن والشعبي والثوري والزهري والنخعي والأوزاعي وحماد، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وحجة هذا القول ما يلي:
1 -
عن عمر رضي الله عنه أنه «أُتي برجل قد سرق يقال له سدوم، فقطعه ثم أتى به الثانية فقطعه، ثم أتى به الثالثة فأراد أن يقطعه، فقال له عليٌّ: «لا
تفعل، إنما عليه يد ورجل، ولكن أحبسه» وفي لفظ:«فحبسه عمر» (3).
2 -
وعن أبي الضحى قال: «كان عليُّ بن أبي طالب لا يزيد في السرقة على قطع اليد والرجل» .
3 -
وعن عبد ألله بن مسلمة: أن علي بن أبي طالب أتى بسارق فقطع يده، ثم أتى به فقطع رجله، ثم أُتي به الثالثة، فقال:«إني استحيي أن أقطع يده، فبأي شيء يأكل؟! أو أقطع رجله، فعلى أي شيء يعتمد؟!» فضربه وحبسه (4).
4 -
ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس، فلم يُشرع في حدٍّ، كالقتل.
5 -
ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية؛ لأنها آلة البطش كاليمنى، وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها.
(1) إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 188).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي (8/ 273)، لكن وجدته عند عبد الرزاق (10/ 187) بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ «
…
قطع رِجْل رجل
…
»؟!
(3)
إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 274).
(4)
إسناده لين: أخرجه عبد الرزاق (10/ 186)، والبيهقي (8/ 275)، وابن حزم (11/ 355)، وعبد الله بن مسلمة تغير حفظه لكنه توبع، وانظر:«الإرواء» (8/ 90).
الثاني: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ثم رجله اليمنى في الرابعة، ثم إن عاد في الخامسة يعزر ويحبس: وهذا مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والرواية الأخرى في مذهب أحمد) وهو مروي عن أبي بكر وعمر (!!) رضي الله عنهما وبه قال إسحاق وقتادة وأبو ثور، واحتج هؤلاء بما يلي:
1 -
آية المحاربة (!!) قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من
خلاف أو ينفوا من الأرض} (1).
2 -
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» (2) وسنده تألف (!!).
3 -
حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه قال: سرق مملوك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعفى عنه .. (أربع مرات)
…
ثم رفع إليه الخامسة وقد سرق، فقطع يده، ثم رفع إليه السادسة فقطع رجله، ثم رفع إليه السابعة فقطع يده، ثم رفع إليه الثامنة فقطع رجله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أربع بأربع» (3) وسنده ساقط (!!).
4 -
أنه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (!!) فعن القاسم بن محمد «أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة» (4) وهو منقطع.
الثالث: كالقول السابق، إلا أنه إن عاد في الخامسة يُقتل، وهو مروي عن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، وأبي مصعب المالكي وذكره الحافظ قولًا عن مالك أولًا ثم إنه رجع عنه واستقر رأيه على تعزيره دون
قتله - وهو ما ذهب إليه الشافعي في القديم، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث جابر قال: جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا
(1) سورة المائدة: 33.
(2)
سنده تالف: أخر الدارقطني، وفيه الواقدي: متروك وقد صححه الألباني في «الإرواء» (2434) بما بعده وبغيره، وكلها شديدة الضعف وبينها اختلاف في المتن، فلا يسلَّم له، رحمة الله.
(3)
سنده تالف: أخرجه الدارقطني (3/ 173) والطبراني وفيه من يشبه أن يكون وضاعًا، وضعفه ابن حجر والزيلعي والهيثمي.
(4)
سنده منقطع: أخرجه مالك، وعنه الشافعي (281).
رسول الله إنما سرق، فقال:«اقطعوه» قال: فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال:«اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال:«اقطعوه» .. فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة (1) وهو ضعيف.
2 -
حديث الحارث بن حاطب بنحو حديث جابر مع شيء من المغايرة في لفظه، وهو منكر كما قال النسائي والذهبي (2).
3 -
حديث عبد الله بن زيد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرق متاعًا فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاقطعوا يده، فإن سرق فاقطعوا رجله، فإن سرق فاضربوا عنقه» (3) وسنده تالف.
وقد أجاب العلماء عن حديث جابر بأنه ضعيف، وعلى فرض صحته، فقيل: منسوخ، وهو محكي عن الشافعي، وناسخه هو عين الناسخ لقتل شارب الخمر في الرابعة - على ما تقدم - وقيل: هذه حكومة مختصة بهذا الرجل وقد علم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المصلحة في قتله، ولذلك أمر بقتله من أول مرة، وقيل: يخرج على أن هذا الرجل كان من المفسدين في الأرض، وهذا يعزي للإمام مالك، رحمه الله.
الترجيح:
الذي يظهر لي بعد هذا العرض لمذاهب العلماء ودراسة أدلتهم أن أقوى هذه الأقوال الأول، القائل، بأن السارق إذا كرَّر السرقة ثانية - بعد قطع يده اليمنى - فإنه تقطع رجله اليسرى، ثم لا قطع عليه إن عاد، وإنما يضرب ويحبس - ولو مدى الحياة - حتى يظهر الصلاح، لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
ولو ذهب ذاهب إلى قول ربيعة وابن حزم من أنه تقطع يده اليسرى في الثانية - بعد اليمنى - ثم لا قطع عليه وإنما يُعزَّر، فلا يكون بعيدًا ولا شاذًّا كما قيل، والله أعلم.
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (4410)، والنسائي (8/ 83)، والبيهقي (8/ 272) وقال النسائي: حديث منكر، وقال ابن عبد البر: منكر لا أصل له، وقد قوَّاه الألباني في «الإرواء» (8/ 86 - 88) بطريق أخرى، وبشواهد أرى أنها تعلُّه بالاضطراب.
(2)
منكر: أخرجه النسائي (8/ 83)، والحاكم (4/ 382)، (8/ 272) وحكم بنكارته النسائي والذهبي.
(3)
منكر: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 6) ثم قال: تفرَّد حزام (صوابه: حزم) بن عثمان وهو من الضعف بالمحل العظيم. اهـ. وقال الذهبي: متروك مبتدع. اهـ.
ما يسقط به الحدُّ:
1، 2 - الشفاعة، وعفو المسروق منه (1):
أجمع الفقهاء على جواز الشفاعة بعد السرقة وقبل أن يصل الأمر إلى الحاكم، إذا كان السارق لا يُعرف بشرٍّ، سترًا له وإعانة على التوبة.
وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فالشفاعة فيه حرام، كما تقدم بيانه في بداية «كتاب الحدود» .
وكذلك الشأن في العفو، لقوله صلى الله عليه وسلم:«تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب» (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم لصفوان لما تصدق بردائه على سارقه بعد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «فهلا قبل أن تأتيني به؟!» (3).
فإذا عفا المسروق منه عن السارق - قبل رفعه - سقط عنه الحد.
3 -
الرجوع عن الإقرار (4):
اتفق جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة على أن السارق إذا رجع عن إقراره (اعترافه) قبل القطع، سقط عنه الحد، لأن الرجوع عن الإقرار يورث شبهة.
وذهب بعض الفقهاء إلى أن رجوع السارق في إقراره لا يقبل منه، ولا يسقط عنه الحد، لأنه لو أقر لآدمي بقصاص أو بحق لم يُقبل رجوعه عنه، فكذلك الحكم إذا أقر بالسرقة.
4 -
هل يسقط الحدُّ بتوبة السارق؟
اتفق الفقهاء على أن التوبة النصوح، أي: الندم الذي يورث عزمًا على إرادة الترك تسقط عذاب الآخرة عن السارق، واتفقوا على أنه إذا تاب بعد القدرة عليه وقيام البينة عليه ورفعه للحاكم، لم يسقط عنه الحد.
(1)«المبسوط» (7/ 111)، و «تفسير القرطبي» (5/ 295)، و «تكملة المجموع» (18/ 333)، و «المغني» (10/ 294 - مع الشرح الكبير)، و «نيل الأوطار» (7).
(2)
حسن: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70) وغيرهما وله شواهد.
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
«ابن عابدين» (3/ 290)، و «الدسوقي» (4/ 345)، و «نهاية المحتاج» (7/ 441)، و «كشاف القناع» (6/ 117)، و «المغني» (10/ 293).
ثم اختلفوا فيما إذا تاب قبل القدرة عليه ورفعه إلى الحاكم على قولين، تقدم بسطهما في مقدمة «كتاب الحدود» ورجحنا هناك أن التوبة تسقط الحدَّ عمومًا، ومما يدل على ذلك في حدِّ السرقة قوله تعالى - عقب ذكر عقوبة السارق:{فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} (1). وهو يدل على أن التائب لا يقام عليه الحد، إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة.
وهذا مهب الشافعية - في أصح القولين - والحنابلة في رواية (2).
لكن تبقى مسألة وهي:
هل من شرط التوبة ضمان المسروق وردُّه لصاحبه؟ (3)
1 -
إن كانت العين المسروقة موجودة: فأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: أداؤها إلى صاحبها، سواء كان السارق موسرًا أو معسرًا، وسواء أقيم عليه الحد أو لم يقم، وسواء وُجد المسروق عنده أو عند غيره.
2 -
إن كانت العين المسروقة قد تلفت: فإن لم يُقم الحد على السارق لسبب يمنع القطع فيجب عليه رد قيمة المسروق بلا خلاف.
وإن كان أقيم عليه الحدُّ، اختلف العلماء في وجوب ضمان المسروق على
ثلاثة أقوال:
الأول: يلزمه الضمان لتمام توبته سواء كان موسرًا أو معسرًا: وهو مذهب الجمهور، منهم: الشافعي وأحمد وإسحاق والليث والنخعي والحسن والزهري وغيرهم، قالوا: لأن هذه العين تعلَّق بها حقان: حق لله، وحق لمالكها، وهما حقان لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر، بل يستوفيان معًا، أن القطع حق لله، والضمان حق لمالكها.
وقد رُوي من طريق الحسن عن سمرة مرفوعًا: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (4).
(1) سورة المائدة: 39.
(2)
«فتح القدير» (5/ 429)، و «الخرشي» (8/ 103)، و «قليوبي» (4/ 201)، و «المحلي» (11/ 129)، و «المغني» (8/ 281 - مكتبة القاهرة)، وانظر مبحث «أثر التوبة في الحدود» .
(3)
«المبسوط» (9/ 156)، «والبدائع» (7/ 84)، و «فتح القدير» (5/ 413)، و «بداية المجتهد» (2/ 442)، و «القوانين» (ص 361)، و «أسنى المطالب» (4/ 152)، و «قليوبي» (4/ 198)، و «المغني» (10/ 279)، و «كشاف القناع» (6/ 149).
(4)
ضعيف: أخرجه أبو داود (3561)، والترمذي (1266)، وابن ماجة (2400).
الثاني: لا يجب الضمان مطلقًا، ولا تتوقف صحة توبته عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول وغيرهم، وحجتهم:
1 -
قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (1). قالوا: فسمى القطع جزاء، والجزاء يبنى على الكفاية، فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيًا فلم يكن جزاءً، فعلم أن التضمين عقوبة زائدة على الجزاء فلا تُشرع.
وأجاب الجمهور بأن مجموع الجزاء - إن أريد به: مجموع العقوبة - فصحيح هو القطع، والقول بالتضمين لا دخل له في العقوبة، ولهذا يجب الضمان في حق غير الجاني: كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراهًا، ولهذا فإن سقوط الحد لا يسقط
الضمان لتفاوت الحقين - حق الله وحق العبد - بتفاوت جهتهما.
2 -
حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قضي في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه لا غرم غليه» (2) ولذا قالوا: لا يجتمع حد وضمان، لأن الحكم بالضمان يجعل المسروق مملوكًا للسارق، مستندًا إلى وقت الأخذ فلا يجوز إقامة الحد عليه، لأنه لا يقطع أحد في ملك نفسه.
وأجاب الجمهور بأنه حديث ضعيف لا يحتج به.
الثالث: يلزمه الضمان إن كان موسرًا، وإلا لم يلزمه، وهو مذهب مالك وغيره من فقها المدينة واستحسنه ابن القيم.
قالوا: لئلا تجتمع على السارق - المعسر - عقوبتان: قطع يده، واتباع ذمته.
قال ابن القيم: وهذا استحسان حسن جدًّا، وما أقربه من محاسن الشرع، وأولاه بالقبول، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.
الراجح (3):
والذي يترجح لي هو ما ذهب إليه الجمهور من إيجاب الضمان على السارق مطلقًا وأنه من تمام توبته من غير فرق بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرًا تعيَّن
(1) سورة المائدة: 38.
(2)
ضعيف: أخرجه النسائي (8/ 58)، والدارقطني، وقال النسائي عقبه: هذا مرسل، وليس بثابت. اهـ. وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي. اهـ. قلت: وعلته الانقطاع.
(3)
مستفاد من ترجيح العلامة بكر أبي زيد، حفظه الله. انظر:«الحدود والتعزيرات» (ص: 427 - 428).
دفعه، وإن كان غير قادر فقد قال الله تعالى في حق غير القادرين: {وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة} (1).
وأما رأي المالكية - الذي استحسنه ابن القيم - فهو مجرد استحسان.
والاستحسان هو «الحكم على مسألة بحكم يخالف نظائرها لدليل شرعي» ولم يذكروا دليلًا شرعيًّا يقضي بهذا الاستحسان، والله أعلم.
5 -
هل يسقط الحدُّ بتملُّك السارق المسروق قبل الحكم؟ (2)
إذا تملَّك السارق المسروق قبل القضاء، بأن اشتراه أو وُهب له أو نحو ذلك، فإن القطع يسقط عنه عند الجمهور، لأن المطالبة شرط للحكم بالقطع، فإذا تملكه السارق قبل القضاء امتنعت المطالبة، وخالف المالكية - لعدم اشتراطهم المطالبة - فقالوا: لا يسقط الحد.
أما إذا حدث الملك بعد القضاء - وقبل القطع - فلا يسقط الحدُّ عند الجمهور - خلاف للحنفية - لأن ما حديث بعد وجوب الحدِّ لم يوجد شبهة في الوجوب، فلم يؤثر في الحد، ولو كان حدوث الملك - بعد القضاء - يسقط الحد، لما قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان بعدما تصدق به عليه، بل قال له صلى الله عليه وسلم:«فلا قبل أن تأتيني به» (3).
لا يسقط الحدُّ بالتقادُم (4):
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وزفر - من الحنفية - إلى أن الحد لا يسقط بالتقادم، لأن الحكم لم يصدر إلا بعد أن ثبتت السرقة، فوجب تنفيذه مهما طال الزمن، ولا ينبغي أن يكون هروب الجاني أو تراخي التنفيذ من أسباب سقوط الحد، وإلا كان ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله.
بينما ذهب الحنفية - عدا زفر - إلى أن تقادم التنفيذ بعد القضاء يسقط القطع؛ لأن القضاء في باب الحدود - عندهم - إمضاؤها، فما لم تمض فكأنه لم يقض، ولأن التقادم في التنفيذ كالتقادم في الإثبات بالبينة (!!).
(1) سورة البقرة: 280.
(2)
«المبسوط» (9/ 187)، و «البدائع» (7/ 88)، و «شرح الزرقاني» (8/ 89)، و «المهذب» (2/ 264)، و «المغني» (10/ 277)، و «معالم السنن» (3/ 300).
(3)
صحيح: تقدم مرارًا.
(4)
«المبسوط» (9/ 176)، و «مغني المحتاج» (4/ 151)، و «المغني» (10/ 205).