الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه» (1).
الجرائم الحَدِّيَّة:
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن الجرائم التي يجب الحد (العقوبة المقدَّرة) على مرتكبها هي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسَّرقة، والمحاربة، والرِّدة.
وإليك هذه الحدود وأهم ما يتعلق بها من أحكام:
(1) حَدُّ الزِّنا
تعريف الزنا (2):
الزنا لغةً: يطلق على عدة معان منها: الفجور، ومنها: الضيق، يقولون زنى زناء، أي: دخل وضاق، ويطلق كذلك على ما دون مباشرة الأجنبية، كما قال صلى الله عليه وسلم:«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (3).
ويطلق الزنا ويراد به: وطء المرأة من غير عقد شرعي، وهذا هو المراد في عامة النصوص المتعلقة بالزنا مما سيأتي بعضه.
فالزنا اصطلاحًا، قد تعددت تعريفات العلماء له، وكلها متقاربة، ولعل أمثلها أن يقال:«الزنا: هو الوطء في قُبُل خالٍ عن ملك أو شبهة» .
ذم الزنا والترهيب منه:
الزنا من أكبر الكبائر، وقد ثبتت حُرمته بالكتاب والسنة والإجماع.
(أ) فمن الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990).
(2)
«لسان العرب» ، و «معجم مقاييس اللغة» ، و «فتح القدير» (4/ 139)، و «جواهر الإكليل» (2/ 283)، و «نهاية المحتاج» (7/ 402)، و «المحرر» (2/ 53)، و «الحدود التعزيزات» (ص: 89 - 93)، و «التشريع الجنائي» (2/ 349).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657).
(4)
سورة الإسراء: 32.
2 -
3 -
وقوله سبحانه: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} (2).
4 -
وقوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (3).
5 -
قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (4).
(ب) ومن السنة:
1 -
حديث ابن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قلت: إن ذلك لعظيم، قال: ثم قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» (5).
2 -
وفي حديث سمرة بن جندب - الطويل في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
…
فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، قال: أحسب أنه يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا، قال: قلت لهما - أي الملكين - ما هؤلاء؟
…
قالا: وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني
…
» الحديث (6).
(1) سورة الفرقان: 68 - 70.
(2)
سورة الأنعام: 151.
(3)
سورة النور: 2، 3.
(4)
سورة المؤمنون: 5 - 7.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (6811)، ومسلم (86).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (7047).
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزنى الزاني حين
يزني وهو مؤمن» (1).
ومعناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
4 -
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظُّلَّة، فإذا انقلع رجع إليه الإيمان» (2).
5 -
وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم [ولا ينظر إليهم] ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر» (3).
(جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في أن الزنا محرم قطعًا، وتحريمه مما علم من الدين بالضرورة.
سدُّ الذرائع الموصَّلة إلى الزنا (4):
قاعدة التشريع التي لا تنخرم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئًا حرم الأسباب والدوافع الموصلة إليه سدًّا للذريعة وكفًّا عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشمم عن كافة الرذائل والطرائق الموصلة إليها حتى يلقى الله تعالى وهو على هدى من الله وصراط مستقيم.
ولهذا فإن علماء الشريعة استنبطوا بطريق التتبع والاستقراء لمواطن التنزيل
قاعدة شريفة هامة تعتبر من الكليات التشريعية التي تعايش المسلم في كلّ لحظة وآن، تلك هي: قاعدة (سد الذرائع الموصلة إلى المحرمات).
وابن القيم - رحمه الله تعالى - قرر هذه القاعدة، واستدل لها من وجوه الأدلة بما يقارب مائة وجه من الكتاب والسنة، وبيّن أن قاعدة سد الذرائع، أحد أرباع التكليف، فإنه وجه ذلك فقال:
(وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (57).
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (4690).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (107)، والنسائي (5/ 86)، وأحمد (2/ 433).
(4)
من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 106 - 114).
يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين).
وفي خضم هذا المبحث ذكر ضروبًا ووجهًا مما ورد في الكتاب والسنة من سد الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزنا، وعرضها بأسلوبه العلمي الأخاذ الخالي من التعقيد والجفاف وبيانها على ما يلي:
1 -
نهي النساء عن الضرب بالأرجل:
قال - رحمه الله تعالى -:
قال الله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} . فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن).
وهذا المنهي عنه - من وسائل الإغراء والإشارة - هو نهي تحريم كما فهمه ابن القيم وهو محال اتفاق عن علماء التفسير.
وابن القيم في مقام دلالة النص على قاعدة سد الذرائع، وإلا فإن الآية تفيد أيضًا النهي عن كلّ حركة من شأنها أن تثير الغريزة وتلهب داعي الشهوة، وفي ذلك المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى:{ولا يضربن بأرجلهن} (1) إلى آخره).
2 -
وهذا الأمر بغض البصر:
وهذا أمر مطلوب من الجنسين الرجال والنساء لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} (2) الآية.
وابن القيم - رحمه الله تعالى - قد أبدى في هذه الذريعة عجبًا فأبدى كلامًا يزغ الأبصار الخائنة، والأعين الفاجرة عن غوايتها إن كان لديها بقية من إيمان
(1) سورة النور: 31.
(2)
سورة النور: 32.
واستجابة لداعي الرحمن. وقد أكثر اللهج برعاية حرمات الله، وأنا في هذا المقام أسوق للقارئ شذرة من كلامه المنثور والمنظوم إذ يقول:
(أما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تتبع النظرة النظرة، إنما لك الأولى وليست لك الأخرى» .
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» هذا معنى الحديث. وقال: «غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم» وقال: «وإياكم والجلوس على الطرقات» قالوا يا رسول الله مجالسنا، ما لنا بدّ منها، قال:«غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام» .
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل «الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده» .
قال الشاعر:
كلّ الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه.
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا، أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه، فإن قوله:«لا كله أنت قادر عليه» نفي لقدرته على الكلّ الذي لا ينفى إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد.
وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلًا كما قيل:
يا ناظرًا، ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا
ولي من أبيات:
ملّ السلامة فاغتدت لحظاته وقفًا على طلل يظن جميلًا
ما زال يتبع أثره لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلًا
ومن العجب: أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر، ولي من قصيدة:
يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك، لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحًا، فيتبعها جرحًا على جرح، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها. ولي أيضًا في هذا المعنى:
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كلّ مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ تحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وقد قيل: أن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.
3 -
النهي عن الخلوة بالأجنبية:
وفي ذلك يقول - رحمه الله تعالى -:
(أنه صلى الله عليه وسلم حرّم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن).
وقال أيضًا:
(نهى صلى الله عليه وسلم الرجال عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة).
وهذا محل إجماع ولو في باب من أبواب الخير والرشاد كإقراء القرآن وتعليم العلم، وقد حكى الإجماع على ذلك الحافظان ابن حجر والشوكاني.
4 -
النهي عن سفر المرأة بلا محرم:
قال - رحمه الله تعالى -:
(ونهى صلى الله عليه وسلم عن السفر بلا محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها).
5 -
النهي عن خروج المرأة متطيبة:
وفي ذلك يقول:
(ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب
…
كلّ ذلك سدًّا للذريعة
وحماية عن المفسدة).
6 -
النهي عن أن تصف المرأة المرأة لزوجها:
وفي هذا يقول:
(نهى صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية).
7 -
الأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع:
وفي هذا يقول - رحمه الله تعالى -:
(أمر صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما: المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولاسيما مع الطول. والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سد الذرائع).
8 -
النهي عن الشياع:
قال - رحمه الله تعالى - في ذلك:
(إنه صلى الله عليه وسلم حرّم الشياع: وهو المفاخرة بالجماع؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشهي، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال فيتخطى إلى الحرام. ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك
من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله).
9 -
إبطال أنواع من الأنكحة التي يتراضاها الزوجان:
وفي بيانها وبيان وجه الإبطال يقول:
(إنه صلى الله عليه وسلم أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًّا للذريعة الزنا: فمنها: النكاح بلا ولي، فإنه أبطله سدًّا لذريعة الزنا، فإن الزاني لا يعجز أن يقول
للمرأة: انكحيني نفسك بعشرة دراهم) ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًّا لذريعة الزنا.
ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل وطر فيما يفضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة.
ومن ذلك تحريم نكاح المتعة، الذي يعقد فيه الممتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها.
فحرّم هذه الأنواع كلها سدًّا لذريعة السفاح، ولم يبح إلا عقدًا مؤيدًا يقصد فيه كلّ من الزوجين المقام مع صاحبه، ويكون بأذن الولي وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان.
فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها.
10 -
النهي عن اختلاط الجنسين:
وقد ورد بذلك جملة الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء» .
وفي بيان الذريعة يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
(لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة .. فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية - قبل الدين - فكانوا أشد شيء منعًا لذلك ..).
هذه جملة من المناهي التي وردت في الشريعة الإسلامية سدًّا لإثارة الغرائز وتهييج الشهوات حماية للمجتمع وصيانة له من الوقوع في جريمة الزنا وهذا باب في الشريعة مطرد: إذا حرّم الله شيئًا سد الأبواب الموصلة إليه والله أعلم.
الزنا المعتبر في وجوب الحدِّ:
تقدم أن حقيقة الزنا: «الوطء في قُبُل (فرج) خال عن ملك أو شبهة» ويتحقق
هذا بتغييب حشفة الذكر (رأس الذكر) في فرج محرَّم (أي بغير عقد شرعي) من غير شبهة نكاح، سواء أنزل أو لم ينزل.
فإذا باشر الرجل امرأة أجنبية فيما دون الفرج، فإن هذا محرَّم بلا شك، لكنه لا يعتبر «زنا» ولا يوجب حدَّ الزنا، وإن استحق فاعله التعزيز.
بم يثبت حد الزنا؟
يثبت حدُّ الزنا على الزاني بواحد من ثلاثة أشياء:
(1)
الإقرار (اعتراف الزاني):
إذا اعترف الزاني على نفسه أنه زنى بامرأة، ثبت الحد في حقِّه - إن اختاره وأبى إلا أن يقام عليه كما تقدم تحريره -:
ففي حديث أبي هريرة - في قصة ماعز -: «فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون؟» .
قال: لا، قال:«فهل أُحصنت؟» قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اذهبوا به فارجموه» (1).
وفي حديث بريدة رضي الله عنه في قصة ماعز والغامدية
…
ثم جاءت امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله، طهِّرني، فقال:«ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه» .
فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال:«وما ذاك؟» قالت: إنها حُبلى من الزنا، فقال:«أنت؟» قالت: نعم،
…
، فرجمها» (2).
وعن عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليَّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني
بها» ففعل، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت» (3).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1695).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1695).
وقد اتفق أهل العلم على أن الحد يثبت بإقرار الزاني على نفسه، لكنهم اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد على قولين (1):
الأول: لا يُحدُّ حتى يُقرَّ أربع مرات، وهو مذهب أحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه اشترط أن تكون الإقرارات في مجلس واحد (!!).
واستدلوا بحديث ماعز رضي الله عنه وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليه الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربعًا ولو كان الإقرار مرة موجبًا للحد لما أخَّره إلا الأربع، قالوا: فإذا أقرَّ دون الأربع، لم يلزم تكميل نصاب الإقرار، بل للإمام أن يُعْرِضَ عنه، ويُعرِّض له بعدم تكميل الإقرار.
الثاني: يُكتفى بإقراره مرة واحدة، وتكراره ليس بشرط، وهو مذهب مالك والشافعي، وبه قال الحسن وحماد وأبو ثور والطبري وابن المنذر وجماعة.
قالوا: لأن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وهذا المعنى عند التكرار والتوحيد سواء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (2) فعلَّق الرجم على مجرد الاعتراف.
فائدة: يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار، وقد مرَّ تحريره قريبًا.
من أقرَّ بأنه زنى بامرأة معينة: فلا يخلو من حالتين:
1 -
فإن اعترفت المرأة، أقيم الحدُّ عليهما، لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد:«أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر - وهو أفقههما -: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي أن أتكلم، قال: «تكلم» قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا [والعسيف الأجير] فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فأفتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلدُ مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردٌّ عليك» وجَلَد ابنه مائة وغرَّبه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت، فرجمها» (3).
(1)«البدائع» (7/ 49)، و «مواهب الجليل» (6/ 294)، و «روضة الطالبين» (10/ 95، 143)، و «المغني» (8/ 191)، و «زاد المعاد» (5/ 32).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6828)، ومسلم (1698).
2 -
فإن جحدت المرأة وأنكرت: سقط الحدُّ عنها، واختلف العلماء فيما على الزاني المقرِّ على ثلاثة أقوال (1):
الأول: يُحدُّ حدَّ الزنا: وهو مذهب مالك والشافعي، لحديث سهل بن سعد: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنى بامرأة سمَّاها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحدَّه وتركها» (2) يعني: حدَّه حدَّ الزنا الذي أقرَّ به على نفسه.
الثاني: يُحدُّ حدّ القذف - لا الزنا -: وهو مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة، لأن إنكارها شبهة (!!)، واعتُرض بأن إنكارها لا يُبطل إقراره.
الثالث: يُحدُّ للزنا وللقذف، وهو مذهب محمد بن الحسن، ويُروى عن الشافعي، وحجتهم حديث ابن عباس:«أن رجلًا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقرَّ أنه زنى بامرأة، أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرًا - ثم سأله البينة على المرأة، فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حدَّ الفرية ثمانين» (3) وهو حديث منكر.
قلت: أما القول الثاني فضعيف، والأظهر أنه يُحدُّ حدَّ الزنا فقط لصحة دليله، ولأنه ليس فيه أنه أقام عليه حدين، فإن قيل: الأصل أن يُحدَّ عن كلٍّ من المُوجبين وإن لم يصحَّ الحديث، قلت: نعم، لكنَّ إنكار المرأة شبهة تسقط حدَّ القذف، وأما حدُّ الزنا فهو ثابت بإقراره، والله أعلم.
(2)
ثبوت الحمل لمن لا زوج لها:
المرأة إذا كانت لا زوج لها ولا سيد، ثم وُجدت حاملًا، فاختلف أهل العلم في اعتبار الحمل قرينة تُحدُّ بها المرأة، على قولين (4):
الأول: تُحدُّ الحبلى التي لا زوج لها ولا سيد، ولم تَدَّعِ شبهة في الحمل: وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واحتجوا بما يلي:
1 -
حديث بصرة بن أكثم الأنصاري، قال: «تزوجتُ امرأة بكرًا في سترها،
(1)«زاد المعاد» (5/ 42)، و «نيل الأوطار» .
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (4466، 4437)، وأحمد (22368).
(3)
منكر: أخرجه أبو داود (4467).
(4)
«ابن عابدين» (4/ 7)، و «أسهل المدارك» (3/ 170)، و «الروضة» (10/ 95).
فدخلتُ عليها فإذا هي حُبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبدٌ لك، فإذا ولدت فأجلدها، أو قال: فحدوها» (1) وهو ضعيف.
قالوا: فأمر صلى الله عليه وسلم بجلدها بمجرد الحمل من غير اعتبار بينة ولا إقرار.
2 -
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف» (2) وهذا قاله عمر في خطبته فلم يُنكر عليه.
3 -
ولأن دلالة الحمل أمارة ظاهرة على الزنا، أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر.
الثاني: لا يثبت الزنا بالحمل، بل بالإقرار أو البيِّنة فقط: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والشافعية والمعتمد عند الحنابلة، وحجتهم:
1 -
أن الحدَّ يُدرأ بالشبهة إجماعًا، والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة، فيحتمل أن الحمل من وطء إكراه، ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نومها وهي ثقيلة النوم، ويحتمل أنه من وطء شبهة، ويحتمل حصول الحمل بإدخال ماء الرجل في فرجها دون جماع.
3 -
أثر علي بن أبي طالب أنه أُتي بامرأة من همدان وهي حُبلى يُقال لها شراحة قد زنت، فقال لها عليٌّ:«لعل الرجل استكرهك؟» قالت: لا، قال:«فلعلَّ الرجل قد وقع عليك وأنت راقدة؟» قالت: لا، قال:«فلعل لك زوجًا من عدونا هؤلاء وأنت تكتمينه؟» قالت: لا، فحبسها حتى إذا وضعت، جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة (!!) فأمر فحفر لها حفرة بالسوق
…
» (3).
3 -
أثر أبي موسى أنه: «كتب إلى عمر رضي الله عنه في امرأة أتاها رجل وهي نائمة، فقالت: إن رجلًا أتاني وأنا نائمة، فوالله ما علمت حتى قذف فيَّ مثل
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (2131) وله علتان ذكرهما ابن القيم في «تهذيب السنن» (3/ 61) طـ. أنصار السنة.
(2)
صحيح عنه: أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691).
(3)
صحيح عنه: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326)، وأحمد (1214 - 1189)، والنسائي، وأصله في البخاري مختصرًا.
شهاب النار، فكتب عمر:«تهامية تنومت، قد يكون مثل هذا» وأمر أن يُدرأ عنها الحدُّ» (1).
بلغ عمر أن امرأة متعبِّدة حملتْ، فقال عمر:«أراها قامت من الليل تصلي فخشعت فسجدت، فأتاها غاوٍ من الغواة فتجشمها» فأتته فحدَّثْتهُ بذلك، فخلَّى سبيلها (2).
قلت: الذي تجتمع عليه أدلة الفريقين أن الزنا يثبت بحمل من لا زوج لها، إلا إن ادَّعتْ هي شبهة في هذا الحمل ولم تقرَّ بالزنا فحينئذ يدرأ عنها الحدُّ، والله أعلم.
(3)
إقامة البينة (الشهُّود)(3):
لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود تثبت بالبيِّنة عن استجماع شرائطها، ونظرًا لخطورة الاتهام بالزنا وعظم أثره، فقد اشتُرط في الشهادة على الزنا ما يلي:
(أ) أن يكون الشهود أربعة فأكثر: ولا خلاف في هذا الشرط.
قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا} (4).
وقال سبحانه: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (5).
وقال سبحانه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (6).
وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال:«نعم» (7).
(1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 410)، ونحوه البيهقي (8/ 235)، وانظر «الإرواء» (2362).
(2)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7/ 409).
(3)
«ابن عابدين» (3/ 142)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «نيل المآرب» (2/ 358).
(4)
سورة النساء: 15.
(5)
سورة النور: 4.
(6)
سورة النور: 13.
(7)
صحيح: أخرجه مسلم (1498)، وأبو داود (4533)، ومالك (1557)، وأحمد (27251).
إذا شهد أقلُّ من أربعة:
إذا شهد أقل من أربعة لم تثبت البيِّنة، وهل يُحدُّون حدَّ القذف؟ قولان للعلماء:
الأول: أنهم يُحدُّون حدَّ القذف: وهو قول الجمهور، لحديث أبي عثمان قال:
«لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة جاء زياد، فقال له عمر: رجل لن يشهد إن شاء الله إلا بحق، قال: رأيت انبهارًا، ومجلسًا سيئًا، فقال عمر: «هل رأيت المرود دخل المكحلة؟» قال: لا، قال: فأمر بهم فجلدوا» (1).
الثاني: لا حدَّ عليهم، وهو قول الظاهرية، وقول مرجوح عند الحنفية والشافعية؛ لأنهم إنما قصدوا أداء الشهادة، ولم يقصدوا قذف المشهود عليه.
(ب) أن يكونوا رجالًا: فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب عند جماهير العلماء (2)، قال الله تعالى:{فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (3) ولفظ: «أربعة» عدد مؤنث فلابد أن يكون المعدود مذكرًا، ثم إن الحدود تُدرأ بالشبهات، وقد قال الله تعالى في شأن النساء:{أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (4).
وذهب أبو محمد بن حزم إلى أنه يقبل في الشهادة على الزنا - كغيرها من الشهادات - شهادة امرأتين مسلمتين مكان رجل، فيجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجل وست نسوة، أو ثمان نسوة لا رجل
معهن.
(جـ) أن يكونوا عقلاء، فلا تقبل شهادة المجنون ونحوه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لماعز لما شهد على نفسه:«أبك جنون؟» (5) وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لقال لقومه: «أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟» (6).
(د) أن يكونوا أحرارًا، فلا تقبل شهادة العبيد (!!).
(هـ) أن يكونوا عدولًا، فلا تقبل شهادة الفاسق، قال الله تعالى: {وأشهدوا
(1) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 544)، والطحاوي (2/ 286)، والبيهقي (8/ 334)، وانظر «الإرواء» (2361).
(2)
صحيح: تقدم مرارًا.
(3)
سورة النساء: 15.
(4)
سورة البقرة: 282.
(5)
«فتح الباري» (12/ 181) طـ. المعرفة.
(6)
صحيح: أخرجه مسلم (1695).
ذوي عدل منكم} (1). وقال سبحانه: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (2).
(و) أن يكونوا مسلمين: فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم بالزنا اتفاقًا، وكذلك لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض بالزنا عند الجمهور، وذهب جماعة من السلف إلى قبول شهادة الكفارة بعضهم على بعض، واستدلوا بما رُوي عن جابر: «أن اليهود جاءوا برجل وامرأة زنيا،
…
، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة، فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما» (3) وهو ضعيف، ثم قد أجاب الحافظ بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رجم
اليهوديين بوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى:{وشهد شاهد من أهلها} (4). وقيل: رجمهما باعترافهما.
(ز) أن يعاينوا الزنا ويصرّحوا بحصوله: فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر، وقد تقدم أن عمر قال لزياد:«هل رأيت المرود في المكحلة؟» قال: لا، فأمر بجلد الثلاثة الذين شهدوا بالزنا (5).
وفي حديث ماعز، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟!» قال: لا يا رسول الله، قال: لا يا رسول الله، قال:«أنكتها» - لا يكنى - قال: نعم، فأمر برجمه (6).
وفي لفظ لأبي داود - بسند ضعيف - قال صلى الله عليه وسلم «أنكتها؟» قال: نعم، قال:«حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: نعم، قال:«كما يغيب الميل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟» قال: نعم
…
الحديث (7).
(ح) وهل يشترط اتحاد المجلس؟ (8)
ذهب الجمهور - خلافًا للشافعية - إلى أنه لابد أن يكون الشهود مجتمعين
في
(1) سورة الطلاق: 2.
(2)
سورة الحجرات: 6.
(3)
ضعيف: أخرجه أبو داود (4452)، والحميدي (1294)، والبيهقي (8/ 231).
(4)
سورة يوسف: 26.
(5)
صحيح: تقدم قريبًا.
(6)
صحيح: أخرجه بهذا اللفظ البخاري (6824)، وأحمد (2429).
(7)
ضعيف: أخرجه أبو داود (4428)، وعبد الرزاق (13340)، وابن حبان (1513)، والبيهقي (8/ 227).
(8)
«البدائع» (7/ 48)، و «الشرح الصغير» (4/ 265)، و «روضة الطالبين» (10/ 98)، و «المغني» (8/ 200)، و «المحلي» .
مجلس واحد عند أداء الشهادة، فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدًا بعد الآخر، لم تقبل شهادتهم، ويُحدُّون حدَّ القذف، وإن كثروا (!!).
وذهب الشافعية والظاهرية وابن المنذر إلى أنه لا يشترط، وتقبل شهادتهم مجتمعين ومتفرقين، لقوله تعالى:{لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} (1). ولم يذكر المجالس.
قلت: وهو الأظهر، فإن إبطال شهادة أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس، ففيه إبطال لشهادة - نصَّ الله على قبولها - بغير دليل.
(ط) وهل يشترط عدم التقادم؟ (2):
ذهب الحنفية إلى اشتراط عدم التقادم في البيِّنة، وهو رواية عن أحمد، فإذا شهدوا على زنى قديم لم يجب الحدُّ، قالوا: لأنهم لما لم يشهدوا فور المعاينة دلَّ ذلك على اختيارهم جهة الستر على المسلمين، فإذا شهدوا بعد ذلك دلَّ على أن الضغينة حملتهم على ذلك، فلا تُقبل شهادتهم، لما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:«أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم» ولم ينقل أن أحدًا أنكر عليه، قالوا: فكان إجماعًا (!!)، ولأن التأخير - والحالة هذه - يورث تهمة، ولا شهادة للمتهم.
وذهب الجمهور إلى أن الشهود لو شهدوا بزنا قديم، وجب الحدُّ، لعموم الآية، ولأن التأخير يجوز أن يكون لعذر أو غَيْبة، والحد لا يسقط بمطلق
الاحتمال، ولو سقط بكل احتمال لم يجب حدٌّ أصلًا.
عُقوبة الزاني:
الزاني على قسمين: إما أن يكون مُحصنًا، أو غير محصن (بِكْرًا)، ولكل منهما عقوبة خاصة به.
تعريف المُحْصِن:
المحصن هو: الثِّيب الذي تتوفر فيه الشروط الآتية (3):
(1) سورة النور: 13.
(2)
«البدائع» (7/ 46)، و «الشرح الصغير» (4/ 249)، و «الروضة (1/ 98)، و «المغني» (8/ 207).
(3)
«التشريع الجنائي» (2/ 390) وغيره.
1 -
التكليف: وهو البلوغ والعقل.
2 -
الحُرَّية: فلو زنى العبد أو الأمة، لم يكونا محصنين، لقوله تعالى - في الإماء -:{فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (1). والرجم الذي هو حدُّ المحصنة لا ينتصف.
ولذا صح عن عليٍّ رضي الله عنه أنه خطب فقال: «يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس
…
الحديث» (2) وقد تقدم، وهو مشعر بأنها كانت محصنة فأمر بجلدها.
3 -
أن يكون وجد الوطء (الجماع) في نكاح صحيح ولو مرة واحدة: وهل يشترط في المحصن الإسلام؟ بمعنى إذا تزوَّج المسلم ذمية فوطئها، هل يصيران
محصنين؟ وهل يحصن الذميُّ الذمية؟ للعلماء في هذا قولان: أصحهما ما ذهب إليه الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (3) أنهما يكونان محصنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل وامرأة من اليهود زنيا، فرجمهما (4).
تنبيه: المرأة الحرَّة (الزوجة) هي التي تحصن الرجل، ولا تحصنه الأمَةُ المملوكة (5).
(ا) عقوبة الزاني غير المحصن (البكر):
اتفق أهل العلم على أن البكر إذا زنى وجب عليه الحد، وهو: أن يُجلد مائة جلدة، لقوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (6).
ثم اختلفوا هل يُزاد على هذه العقوبة غير الجلد؟ على ثلاثة أقوال (7):
(1) سورة النساء: 25.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1705).
(3)
«المغني» (10/ 129 - مع الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 170)، و «زاد المعاد» (5/ 35).
(4)
صحيح: يأتي قريبًا بتمامه.
(5)
للإمام ابن القيم رحمه الله كلام نفيس في حكمة تحصين الرجل بالحرة - وإن كانت قبيحة - دون الأمة - وإن كانت بارعة الجمال - فانظره غير مأمور في «إعلام الموقعين» (2/ 53 - 82).
(6)
سورة النور: 2.
(7)
«المحلي» (11/ 232)، و «المغني» (9/ 45 - الفكر)، و «نيل الأوطار» (7/ 104).
الأول: أنه يجب مع الجلد تغريب (نفي عن البلد) لمدة سنة: وهو مأثور عن الخلفاء الراشدين الأربعة، وبه قال عطاء وطاوس والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب الشافعي وأحمد وابن حزم، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث عادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنِّي، خذوا عنِّي، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر
بالبكر جلد مائة، ونفيُ سنة
…
» (1).
2 -
وفي حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي زنى ولدُه: «أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله
…
» وجَلَد ابنه وغرَّبه عامًا (2).
قالوا: وهذا عام في كل بكرٍ سواء كان رجلًا أو امرأة.
الثاني: يُغرَّب الرجل دون المرأة، وهو مذهب مالك والأوزاعي، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرةً يوم وليلة إلا مع ذي محرم» (3) قالوا: وتغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها، وإن غُرِّبت بِمَحْرمَ أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي لمن لا ذنب له.
الثالث: لا يجب التغريب مع الجلد أصلًا إلا تعزيرًا إذا رأى الحاكم، وهو قول الحسن وغيره، ورأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها
…
» (4) ناسخًا للتغريب!!
وردَّ ابن حزم هذا الاستدلال فقال رحمه الله: «هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مجمل أحال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأخبار، فلم يذكر نفيًا ولا عددًا لجلد، فإن كان دليلًا على إسقاط
التغريب، فهو دليل أيضًا على إسقاط عدد الجلدات، وإن لم يكن دليلًا على إسقاط عدد الجلدات لأنه لم يذكر فيه، فليس أيضًا دليلًا على نسخ النفي، وإن لم يذكر فيه، والواجب ضمُّ الأخبار بعضها إلى بعض، واستعمالها جميعًا» اهـ.
قلت: الراجح أن حدَّ الزاني البكر (غير المحصن): جلد مائة جلدة ونفي سنة، سواء في ذلك الرجل والمرأة ويؤيده ما ثبت في بعض روايات حديث عبادة:
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1690)، والترمذي (1434)، وأبو داود (4415).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697 - 1698).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1339) واللفظ له.
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
«
…
والبكر بالبكر جلد مائة، وينفيان عامًا» فقوله (ينفيان) صريح في نفي المرأة كالرجل فإن قيل: في نفي المرأة تضييع لها، قلنا: إن إمام المسلمين يوفِّر لها مكانًا آمنًا تنفى إليه، ولا تحتاج إلى أن ينفي محرمها معها!! والله أعلم.
فائدة: صفة الجلد: قال القرطبي رحمه الله: «أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب، والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطًا بين سوطين، لا شديدًا ولا لينًا» ونقل عن الجمهور قولهم: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلمًا لا يجرح ولا يَبْضَع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه.
(2)
عقوبة الزاني المحصن (الثيِّب):
لا خلاف بين أهل العلم من الصحابة والسلف والأئمة المشهورين - إلا شرذمة من الخوارج وبعض المعتزلة - أن المحصن إذا زنى، فإنه يُرجم بالحجارة حتى الموت:
1 -
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر
جلد مائة ونفي سنة، والثيِّب بالثيِّب جلد مائة والرجم» (1).
2 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد بعث محمدًا بالحق وأنزل الكتاب، فكان مما أُنزل عليه آية الرجم قرآنًا ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما تجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف» (2).
وهو يدل على أن آية الرجم كانت في القرآن ثم نسخت قراءتها وبقي حكمها، ويؤيده.
3 -
حديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: «كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنا فارجموهما البتة» (3).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1690).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) واللفظ له.
(3)
حسن: أخرجه ابن حبان (4428)، والحاكم (2/ 415)، وعبد الرزاق (13363)، والبيهقي (8/ 211).
4 -
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي زنى ابنه بزوجة الآخر: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردٌّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغُدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت
فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها (1).
5 -
وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية والجهنية واليهوديين:
(أ) فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضل ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلعلَّك» ؟ قال: لا، والله إنه قد زنى الآخر (2)، قال: فرجمه
…
الحديث» (3).
وقد ثبت رجم ماعز كذلك من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وبريدة وغيرهم.
(ب) وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حُبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبتُ حدًّا عليَّ، فدعا نبي الله وليها، فقال:«أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها (4)، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلَّى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة
أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟!» (5).
(ر) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، فقال:«ما تجدون في التوراة على من زنى؟» قالوا: نُسوِّد ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال:«فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين» فجاءوا بها فقرءوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6827 - 6828)، ومسلم (1697، 1698).
(2)
يعني بالآخر نفسه، يريد تحقيرها لارتكابه هذا الفعل.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1692).
(4)
أي شدَّت - كما في الروايات الأخرى - فيستحب جمع أثوابها عليها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها ونحوه.
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (1696).
عبد الله بن سلام، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (1).
هل يُجلدُ قبل الرَّجمُ؟
بعد الاتفاق على وجوب الرجم للزاني المحصن، اختلف العلماء في حكم الجمع بين الجلد والرجم على ثلاثة أقوال (2):
الأول: يُجلد قبل الرجم، وهو رواية عن أحمد وبه قال الظاهرية لما يأتي:
1 -
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: «
…
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (3).
2 -
قضاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شراحة الهمدانية فإنه: «جلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة
…
» وقال: «جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
قالوا: فتوارد على الجمع بين الجلد والرجم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم وقضاءُ عليٍّ فوجب العمل بذلك.
الثاني: يُرجم فقط، ولا جلد عليه: وهو مذهب الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، واستدلوا بما يلي:
1 -
أن الذين رجمهم النبي صلى الله عليه وسلم كماعز والغامدية واليهوديين، لم يأت في رواية أنه جلد واحدًا منهم، وإقامة الحد أمر يشتهر بين الناس، فلو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل الرجم ولو في رواية واحد منهم، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم يكن شيء من ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع لأحد بين الجلد والرجم، فلا يجمع بينهما إذًا.
واعتبروا حديث عبادة منسوخًا، قال الشافعي رحمه الله: «فدلَّت السنة على أن الجلد ثابت على البكر، وساقط على الثيب، والدليل على أن قصة ماعز
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699).
(2)
«فتح القدير» (5/ 25)، و «بداية المجتهد» (2/ 426)، و «المغني» (10/ 124 - الشرح)، و «فتح الباري» (12/ 119 - 157)، و «الحدود والتعزيزات» (ص129 وما بعدها).
(3)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7/ 326) وغيره وقد تقدم في «اعتبار قرينة الحمل في البينة» .
متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولًا من حبس الزاني في البيوت، فنسخ الحبس بالجلد، وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة،
ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم، وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين، لم يذكر الجلد مع الرجم
…
» اهـ.
2 -
حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قوله صلى الله عليه وسلم: «
…
واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها، وقد قال قبل ذلك:«والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» (1).
فدلَّ الربط بين الشرط وجزائه على أن الجزاء اعترافها هو الرجم وحده، وأن ذلك قضاء بكتاب الله، وهو متأخر عن حديث عبادة بلا شك، فكان ناسخًا له.
3 -
أن هذا مؤيَّد بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد:«رجم رجلًا في الزنى ولم يجلده» (2). وهو رضي الله عنه قد شهد التنزيل وأدرك قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الذين رُجموا.
4 -
أن الحدَّ الأصغر ينطوي في الحدِّ الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.
الثالث: يُجمع بين الجلد والرَّجم في رجم الشيخ والشيخة دون الشباب: وبه قال أُبيُّ بن كعب ومسروق، واستدلَاّ بالآية المنسوخ تلاوتها «والشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة» فقد ورد بلفظ الشيخ، ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة.
قلت: الأظهر قول الجمهور بأن الزاني المحصن يُرجم حتى الموت، ولا يُجلد، لما تقدم من أدلة هذا المذهب، ويتأيد هذا - كذلك - بأمرين (3).
1 -
أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرَّجم، على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات، فيُدرأ حدُّ الجلد هنا لذلك.
(1) صحيح: تقدم مرارًا.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة ونحوه في البيهقي (8/ 215) مطولًا وفيه أنه رجم امرأة.
(3)
«أفادهما مع غيرهما العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان» (6/ 47 - 48).
2 -
أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة، أهون من الخطأ في إيقاع عقوبة غير لازمة، وقد تقدم نحو هذا عن عمر وعائشة رضي الله عنها عند الكلام على إسقاط الحد بالشبهة، والله تعالى أعلم.
فائدة: يقام حدُّ الزنى على الكافر كالمسلم سواء، لحديث ابن عمر المتقدم في رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين، وهذا أصح قولي العلماء، وفي المسألة خلاف راجع إلى الخلاف في:«هل من شرط الإحصان الإسلام؟» وقد تقدم الإشارة إليه.
عقوبة من زنى بإحدى محارمه:
اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد، وإنما اختلفوا صفة الحدِّ على قولين (1):
الأول: حدُّه حدُّ الزنى بغير محرمه ولا فرق: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
الثاني: حدُّه القتل بكل حال: وهو مذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، واستدلوا: بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وقع على ذات محرمه فاقتلوه» (2).
قالوا: وهو أخصُّ مما ورد في الزنى، وهو حكم عام من غير استفصال - والمقام يقتضي التفصيل - فدلَّ على عدم التفريق بين المحصن وغيره، وأنه يقتل على كل حال.
قلت: الحديث ضعيف، لكن ربما يتأيَّد القول الثاني، بحديث البراء رضي الله عنه قال «مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء عقده له النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أي عم، أين بعثك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بعثني إلى رجل تزوَّج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه» (3). زاد في بعض الروايات: «
…
وآخذ ماله».
(1)«فتح القدير» (5/ 40)، و «الداء والدواء» (ص: 206)، و «المغني» (10/ 154)، و «نيل الأوطار» (7)، و «المحلي» (11/ 252).
(2)
ضعيف: أخرجه الترمذي (1462)، وابن ماجة (2564)، وانظر «الإرواء» (2352).
(3)
صحيح لطرقه: أخرجه النسائي (2/ 85)، والترمذي (1362)، وأبو داود (4456)، وابن ماجة (2607)، وأحمد (4/ 292) وغيرهم، وانظر «الإرواء» (2351).
قال ابن القيم رحمه الله (1) -: «وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها [يعني: محرمه] باسم النكاح عالمًا بالتحريم أنه يُحدُّ، إلا أبا حنيفة وحده، فإنه رأى في ذلك شبهة مسقطة للحدِّ» اهـ.
اعتراضُ على عقوبة الزنا، وردُّه (2):
تختلف عقوبة الزنا باختلاف حال الزاني، فالجلد والتغريب عقوبة الزاني البكر، والرجم عقوبة الزاني المحصن.
وعلى أي من الحالين فقد أورده نفاة المعاني والقياس اعتراضًا على عقوبة الزنا، فقالوا: هذا تفريق في الشرع بين المتماثلات، فكيف يعاقب الشارع السارق بقطع يده، ويترك معاقبة الزاني بقطع فرجه والفرج هو العضو الذي باشر فيه معصية الزنا كما أن اليد هي الآلة التي باشر فيها معصية السرقة.
وقد ناقش ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذا الاعتراض، وأتى عليه بالنقض والرد له من وجوه متعددة مبينًا أن هذا من أفسد القياس وأبطله، وأن عين الحكمة والكمال: هي فيما رتبه الشارع على كلّ جريمة بما يناسبها من عقاب.
ونستطيع أن نستخلص وجوه الرد والتعقب لهذا الاعتراض فيما يلي:
1 -
أن الفرج عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل بقطعه مقصود الشارع بالحد من الزجر والردع للغير، وهذا بخلاف السارق بقطع يده.
2 -
أن في قطع العضو التناسلي قطع النسل وتعريض للهلاك وقضاء على النوع الإنساني وهذا بخلاف قطع يد السارق.
3 -
أن لذة الزنا سرت في جميع البدن كلذة العضو المخصوص فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن الذي نالته اللذة المحرمة.
4 -
أن السارق إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج فإنه إذا قطع لم يبق له ما يقوم مقامه لتتميم مصالحه بتنمية النوع الإنساني.
5 -
أن قطع العضو التناسلي مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمة الهلاك، والمحصن يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه. فافترقا.
(1)«الداء والدواء» (ص: 207) ط. التوفيقية بتحقيق أخي الحبيب هاني الحاج - نفع الله به -.
(2)
من «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - رفع الله قدره - (ص: 97 - 98)، وانظر:«إعلام الموقعين» (1/ 126 - 2/ 52، 106، 108).
لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع - التي أبدى ابن القيم - رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنا، وأن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبدًا، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم - رحمه الله تعالى - مختصرة ومبسوطة، فيحسن بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول:
(وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها.
وأسماء الرّب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى
كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة.
إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
خصائص حَدِّ الزنا (1):
خصَّ الله سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص، وهي:
الأولى: تغليظ العقوبة:
فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم، لكن كونه رجمًا بالحجارة حتى تزهق النفس فليس هذا إلا في عقوبة الزنا للمحصنين، وهذا أشنع القتلات.
والجلد عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود، لكن عقوبة الزاني البكر - وإن كانت بالجلد - إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين: أولاهما: أن الجلد مائة جلدة، وليس في الحدود ما يبلغ هذا حدًّا، والثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير حد الزاني البكر، والله أعلم.
(1)«الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» (ص: 114 - 117) بتصرف واختصار.