الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرتنا سِتّ الْأَهْل بنت علوان بن سعيد وَأَبُو الْحسن النوسي قَالَا أخبرنَا أَبُو الْبَهَاء عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْمَقْدِسِي أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّزَّاق بن نصر بن مُسلم النجار قِرَاءَة عَلَيْهِ غير مرّة أخبرنَا أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن الْحسن بن الحنيفر بن عَليّ السّلمِيّ أخبرنَا القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلامَة بن جَعْفَر الْقُضَاعِي إجَازَة أخبرنَا أَبُو مُسلم مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ الْبَغْدَادِيّ أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن ابْن دُرَيْد حَدثنِي الْحسن بن خضر أَخْبرنِي رجل من أهل بَغْدَاد عَن أبي هَاشم الْمُذكر قَالَ أردْت الْبَصْرَة فَجئْت إِلَى سفينة أكتريها وفيهَا رجل وَمَعَهُ جَارِيَة فَقَالَ الرجل لَيْسَ هَا هُنَا مَوضِع فَسَأَلته أَن يحملني
مناظرة جرت بِبَغْدَاد فِي جَامع الْمَنْصُور نفعنا الله بِهِ
بَين شَيْخي الْفَرِيقَيْنِ القَاضِي أبي الطّيب وَأبي الْحسن الطَّالقَانِي قَاضِي بَلخ من أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة
سُئِلَ القَاضِي أَبُو الْحسن عَن تَقْدِيم الْكَفَّارَة على الْحِنْث فَأجَاب بِأَن ذَلِك لَا يجزىء وَهُوَ مَذْهَبهم فَسئلَ الدَّلِيل فاستدل بِأَنَّهُ أدّى الْكَفَّارَة قبل وُجُوبهَا وَقبل وجود سَبَب وُجُوبهَا فَوَجَبَ أَلا تُجزئه كَمَا لَو أخرج كَفَّارَة الْجِمَاع بعد الصَّوْم وَقبل الْجِمَاع وَأخرج كَفَّارَة الطّيب واللباس بعد الْإِحْرَام وَقبل ارْتِكَاب أَسبَابهَا
فَكَلمهُ القَاضِي أَبُو الطّيب ناصرا جَوَاز ذَلِك كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأورد عَلَيْهِ فصلين أَحدهمَا مانعه الْوَصْف فَقَالَ لَا أسلم أَنه لم يُوجد سَبَب وجوده الْكَفَّارَة فَإِن الْيَمين عِنْدِي سَبَب فاليمينية مثبتة فِي الْحَالين على هَذَا الأَصْل
وَالثَّانِي أَنه يبطل بِمَا إِذا أخرج كَفَّارَة الْقَتْل بعد الْجرْح وَقبل الْمَوْت فَإِنَّهُ أخرجهَا قبل وُجُوبهَا وَقبل وجود سَبَب وُجُوبهَا ثمَّ يُجزئهُ
أجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن بِأَن قَالَ أَنا أدل على الْوَصْف وَيدل عَلَيْهِ أَن الْيَمين يمْنَع الْحِنْث وَمَا منع من السَّبَب الَّذِي تجب بِهِ الْكَفَّارَة لم يجز أَن يكون سَببا لوُجُوبهَا كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَام لما منعا السَّبَب الَّذِي تجب عِنْده الْكَفَّارَة من الْوَطْء وَغَيره لم يجز أَن يُقَال إنَّهُمَا سببان فِي إِيجَابهَا كَذَلِك هَاهُنَا مثله
فَأجَاب القَاضِي أَبُو الطّيب عَن هَذَا الْفَصْل أَيْضا وَقَالَ لَا أسلم أَن الْيَمين يمْنَع الْحِنْث فَقَالَ أَنا أدل عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عز وجل {واحفظوا أَيْمَانكُم} وَهَذَا أَمر بِحِفْظ الْيَمين وَترك الْحِنْث وعَلى أَن الْيَمين إِنَّمَا وضعت للْمَنْع لِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يقْصد بِالْيَمِينِ منع نَفسه من الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا ذكرت من الصَّوْم وَالْإِحْرَام فِي منع الْجِمَاع وَغَيره وَيدل على ذَلِك أَن الْكَفَّارَة وضعت لتغطية المآثم وتكفير الذُّنُوب وَاسْمهَا يدل على ذَلِك وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (الْحُدُود كَفَّارَات لأَهْلهَا) وَإِنَّمَا سَمَّاهَا كَفَّارَة لِأَنَّهَا تكفر الذُّنُوب وتغطيها وَمَعْلُوم أَنه لَا يَأْثَم فِي نفس الْأَمر أَي فِي الْيَمين فَيحْتَاج إِلَى تَغْطِيَة لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه كَانُوا يحلفُونَ وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَالله لأغزون قُريْشًا) وأعادها ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) وَنحن نعلم أَنه لَا يجوز فِي صفته صلى الله عليه وسلم وَصفَة أَصْحَابه أَن يقصدوا إِلَى مَا يتَعَلَّق الْإِثْم بِهِ إِلَى الْكَفَّارَة فَثَبت أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي الْيَمين وَإِذا لم يكن فِي الْيَمين إِثْم وَجب أَن يكون مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتكفير الْإِثْم الْمُتَعَلّق
بِالْحِنْثِ وَهَذَا يدل على أَنه مَمْنُوع من الْحِنْث غير أَن من جملَة الْأَيْمَان مَا نقضهَا أولى من الْوَفَاء بهَا وَذَلِكَ إِذا حلف لَا يُصَلِّي فقد ابتلى ببلاءين بَين أَن يَفِي بِيَمِينِهِ فيأثم بترك الصَّلَاة وَبَين أَن ينْقض يَمِينه فَيحنث فيأثم بالمخالفة وللمخالفة بدل يرجع إِلَيْهِ وَلَيْسَ لترك الصَّلَاة بدل يرجع إِلَيْهِ وعَلى هَذَا يدل قَوْله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه) فَشرط فِي الْحِنْث أَن يكون فعله خيرا من تَركه
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ النَّقْض فَلَا يلْزَمنِي لِأَنِّي قلت لم يُوجد سَببهَا وَهُنَاكَ قد وجد سَببهَا وَذَلِكَ أَن الْجرْح سَبَب فِي إِتْلَاف النَّفس وَهَذَا سَبَب الْإِثْم وَالْكَفَّارَة وَجَبت لتكفير الذَّنب وتغطية الْإِثْم وَالْجرْح سَبَب الْإِثْم فَإِذا وجد جَازَ إِخْرَاج الْكَفَّارَة
وَتكلم القَاضِي أَبُو الطّيب على الْفَصْل الأول فَقَالَ أما الْيَمين فَلَا يجوز أَن تكون مَانِعَة من الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَلَا يجوز أَن تكون مُغيرَة لحكمه بل إِذا كَانَ الشَّيْء مُبَاحا فَهُوَ بعد الْيَمين بَاقٍ على حكمه وَإِن كَانَ مَحْظُورًا فَهُوَ بعد الْيَمين بَاقٍ على حظره يبين صِحَة هَذَا أَنه لَو حلف أَنه لَا يشرب المَاء لم يحرم عَلَيْهِ شرب المَاء وَلم يتَغَيَّر عَن صفته فِي الْإِبَاحَة وَكَذَلِكَ لَو حلف ليقْتلن مُسلما لم يحل لَهُ قَتله وَلم يتَغَيَّر الْقَتْل عَن صفة التَّحْرِيم وَهَذَا لَا أجد فِيهِ خلافًا بَين الْمُسلمين وعَلى هَذَا يدل قَول الله عز وجل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك} ثمَّ قَالَ {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} فَعَاتَبَهُ الله على كل تَحْرِيم
وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه) وَهَذَا يدل على مَا ذَكرْنَاهُ من أَن الْيَمين
لَا تغير الشَّيْء عَن صفته فِي الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم وَيبين صِحَة هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما نزل قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} كفر عَن يَمِينه وَرُوِيَ أَنه آلى من نسائة شهرا وَلم يَحْنَث فَدلَّ على أَن الْإِبَاحَة كَانَت بَاقِيَة على صفتهَا
وَأما قَوْله تَعَالَى {واحفظوا أَيْمَانكُم} فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَمر بتقليل الْيَمين حفظا كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه
…
وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت)
وَمَعْلُوم أَنه لم يرد حفظ الْيَمين من الْحِنْث والمخالفة لِأَن ذَلِك قد ذكره فِي المصراع الثَّانِي فَثَبت أَنه أَرَادَ بذلك التقليل
وَأما قَوْله إِن الْيَمين مَوْضُوعَة للْمَنْع فَلَا يجوز أَن تكون سَببا لما يتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة فَبَاطِل بِمَا لَو قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ قصد الْمَنْع بِهَذِهِ الْيَمين من الدُّخُول ثمَّ هِيَ سَبَب فِيمَا يتَعَلَّق بهَا من الطَّلَاق وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا فَأَنت طَالِق وَشهد آخرَانِ أَنَّهَا دخلت الدَّار ثمَّ رجعُوا عَن الشَّهَادَة إِن الضَّمَان يجب على شُهُود الْيَمين وَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن الْيَمين هُوَ السَّبَب لِأَنَّهَا لَو لم تكن سَببا فِي إِيقَاع الطَّلَاق لما تعلق الضَّمَان عَلَيْهِم فَلَمَّا أوجب الضَّمَان على شُهُود الْيَمين علم أَن الْيَمين كَانَت سَببا فِي إِتْلَاف الْبضْع وإيقاع الطَّلَاق فَانْتقضَ مَا ذكرت من الدَّلِيل
وَأما قَوْلك إِن الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتغطية المآثم وَرفع الْجنَاح فَلَا يَصح وَكَيف يُقَال إِنَّهَا تجب لهَذَا الْمَعْنى وَنحن نوجبها على قَاتل الْخَطَأ مَعَ علمنَا أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ تجب على الْيَمين وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَأما النَّقْض فلازم وَذَلِكَ أَن الْجرْح لَا يجوز أَن يكون سَببا لإِيجَاب الْكَفَّارَة وَإِنَّمَا السَّبَب فِي إِيجَابهَا فَوَات الرّوح وَالَّذِي يبين صِحَة
هَذَا هُوَ أَنه لَو جرحه ألف جِرَاحَة فاندملت لم تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فَثَبت أَن الْكَفَّارَة تتَعَلَّق بِالْقَتْلِ وَأَن الْجرْح لَيْسَ بِسَبَب وَلَا جُزْء من السَّبَب ثمَّ جَوَّزنَا إِخْرَاج الْكَفَّارَة فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ
فَأجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن الطَّالقَانِي عَن الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ أما قَول القَاضِي الإِمَام أدام الله تأييده إِن الْيَمين لَا يُغير الشَّيْء عَن صفته فِي الْإِبَاحَة بل يبْقى الشَّيْء بعد الْيَمين على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل الْيَمين فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالْيَمِين لَا تثبت تَحْرِيمًا فِيمَا لَا يحرم وَلكنهَا لَا توجب منعا وَالشَّيْء تَارَة يكون الْمَنْع مِنْهُ لتَحْرِيم عينه كَمَا نقُول فِي الْخمر وَالْخِنْزِير إِنَّه يمْتَنع بيعهمَا لتَحْرِيم أعيانهما وَتارَة يمْتَنع مِنْهُ لِمَعْنى فِي غَيره كَمَا يمْنَع من أكل مَال الْغَيْر بِحَق مَاله لِأَن الشَّيْء فِي نَفسه غير محرم فَكَذَلِك هَاهُنَا
فداخله القَاضِي أَبُو الطّيب فِي هَذَا الْفَصْل فَقَالَ فَيجب أَن نقُول إِنَّه يَأْثَم بِشرب المَاء كَمَا يَأْثَم بتناول مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
فَقَالَ هَكَذَا أَقُول إِنَّه يَأْثَم بشربه كَمَا يَأْثَم بتناول الْغَيْر
وَأما قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم} فَهُوَ الْحجَّة عَلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَنه حرمهَا على نَفسه وَهَذَا يدل على إِثْبَات التَّحْرِيم وَمَا ذَكرْنَاهُ من تَأْوِيل الْآيَة وَحملهَا على تقليل الْيَمين وَتركهَا فَهُوَ خلاف الظَّاهِر وَذَلِكَ أَن الْآيَة تَقْتَضِي حفظ يَمِين مَوْجُودَة وَإِذا حملناها على مَا ذكر من ترك الْيَمين كَانَ ذَلِك حفظا لِمَعْنى غير مَوْجُود فَلَا يكون ذَلِك حملا للفظ على غير ظَاهره وَحَقِيقَته ومراعاة الظَّاهِر والحقيقة أولى
وَأما الشّعْر فَلَا حجَّة فِيهِ لِأَن الْحِفْظ هُنَاكَ أَرَادَ بِهِ الْحِفْظ من الْحِنْث والمخالفة
وَقَوله إِن الْحِفْظ من الْمُخَالفَة والحنث قد علم من آخر الْبَيْت لَا يَصح لِأَنَّهُ إِذا حمله على تقليل الْيَمين حمل أَيْضا على مَا علم من أول الْبَيْت لِأَنَّهُ قَالَ قَلِيل الألايا فقد تساوينا فِي الِاحْتِجَاج بِالْبَيْتِ واشتركنا فِي الاستشهاد بِهِ على مَا يَدعِيهِ كل وَاحِد منا من المُرَاد بِهِ
وَأما الدَّلِيل الثَّانِي الَّذِي ذكرته فَهُوَ صَحِيح وَقَوله إِن هَذَا يبطل بِمَسْأَلَة الْيَمين فِي الطَّلَاق فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن السَّبَب هُنَاكَ هُوَ الْيَمين لِأَن الطَّلَاق بِهِ يَقع أَلا ترى أَنه يفصح فِي الْيَمين بإيقاع الطَّلَاق فَيَقُول إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَإِنَّمَا دخل الشَّرْط لتأخير الْإِيقَاع لَا لتغييره وَلذَلِك قَالُوا الشَّرْط يُؤَخر وَلَا يُغير فحين كَانَ الطَّلَاق وَاقعا بِالْيَمِينِ كَانَت هِيَ السَّبَب فَكَانَ الضَّمَان على شهودها لِأَن الْإِيقَاع حصل بِشَهَادَتِهِم وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فاليمين لَيْسَ فِي لَفظهَا مَا يُوجب الْكَفَّارَة فَلم يجز أَن تكون سَببا فِي إِيجَابهَا
وَأما الدَّلِيل الثَّالِث الذى ذكرته من كَون الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتكفير الذَّنب فَصَحِيح
وَمَا ذكرته من أَن الْكَفَّارَة تجب مَعَ عدم المأثم وَهُوَ فِي قتل الْخَطَأ وَيجب فِي الْيَمين على الناسى وَالْمكْره وَعِنْدنَا لَا إِثْم على وَاحِد مِنْهُم فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَن فِي هَذِه الْمَوَاضِع مَا وَجَبت إِلَّا لضرب من التَّفْرِيط وَذَلِكَ أَن الخاطىء هُوَ الَّذِي يَرْمِي إِلَى غَرَض فَيُصِيب رجلا فيقتله أَو يَرْمِي رجلا مُشْركًا ثمَّ يتَبَيَّن أَنه كَانَ مُسلما فَتجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة
لِأَنَّهُ قد اجترأ عَلَيْهِ بظنه فِي هَذِه الْمَوَاضِع وَترك التَّحَرُّز فِي الرَّمْي وَإِذا أصَاب مُسلما فَقتله علمنَا أَنه فرط وَترك الِاسْتِظْهَار فِي الرَّمْي فَكَانَ إِيجَاب الْكَفَّارَة لما حصل من جِهَته من التَّفْرِيط وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَة قتل الْخَطَأ {فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله} وَهَذَا يدل على أَن كَفَّارَة قتل الْخَطَأ على وَجه التَّطْهِير وَالتَّوْبَة
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ النَّقْض فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن الْجرْح هُوَ السَّبَب فِي فَوَات الرّوح وَإِذا وجد الْجرْح وسرى إِلَى النَّفس اسْتندَ فَوَات الرّوح إِلَى ذَلِك الْجرْح فَصَارَ قَاتلا بِهِ فَيكون الْجرْح سَبَب إِيجَاب الْكَفَّارَة
وَتكلم القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ قد ثَبت أَن الْيَمين لَا يجوز أَن يُغير صفة الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
ودللت عَلَيْهِ بِمَا ذكرت
وَلنَا قَوْلك إِنَّمَا يُوجب الْمَنْع من فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَإِذا فعل فَكَأَنَّهُ أَثم فَكَأَنِّي أدلك فِي هَذَا الْإِجْمَاع وَذَلِكَ أَنِّي لَا أعلم خلافًا للأئمة أَنه إِذا حلف لَا يشرب المَاء أَو لَا يَأْكُل الْخبز أَنه يجوز الْإِقْدَام وَأَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَهَذَا الْقدر مِنْهُ فِيهِ كِفَايَة وَالَّذِي يبين فَسَاد هَذَا وَأَنه لَا يجوز أَن يكون فِيهِ إِثْم هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم آلى من نِسَائِهِ وَكفر عَن يَمِينه وَلَا يجوز أَن ينْسب للنَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه فعل مَا أَثم عَلَيْهِ
وَأما الْآيَة الَّتِي اسْتدلَّ بهَا فقد ثَبت تَأْوِيلهَا وَأَن المُرَاد بهَا ترك الْيَمين
وَقَوله إِن هَذَا يَقْتَضِي حفظ يَمِين مَوْجُودَة فَلَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يسْتَعْمل ذَلِك فِيمَا لَيْسَ بموجود أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ احفظ لسَانك وَالْمرَاد بِهِ احفظ كلامك
وَالْكَلَام لَيْسَ مَوْجُودا وَالدَّلِيل على أَنهم يُرِيدُونَ بِهِ احفظ كلامك قَول الشَّاعِر
(احفظ لسَانك لَا تَقول فتبتلى
…
إِن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق)
وَالَّذِي يدل على صِحَّته مَا ذكرت من الشّعْر وَهُوَ قَوْله
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه
…
)
وقولك فِي ذَلِك أَرَادَ بِهِ حفظ الْيَمين من الْحِنْث والمخالفة فقد ثَبت أَن ذَلِك قد بَينه فِي آخر الْبَيْت بقوله
(وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت
…
)
فَلَا يجوز حمل اللَّفْظ على التّكْرَار إِذا أمكن حمله على غير التّكْرَار
وقولك إِن مثل هَذَا يلزمك فِي تأويلك فَلَا يَصح لِأَن قَوْله
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه
…
)
جملَة وَاحِدَة وَالْمرَاد بِهِ معنى وَاحِد وَالثَّانِي مِنْهُمَا يُفَسر الأول وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه لم يعْطف أَحدهمَا على الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك مَا ذكرت من الدَّلِيل فِي المصراع الثَّانِي لِأَن هُنَاكَ اسْتَأْنف الْكَلَام وَعطف على مَا قبله بِالْوَاو فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهِ معنى غير الأول وَهُوَ الْحِفْظ من الْحِنْث والمخالفة فَلَا يتساوى فِي الِاحْتِجَاج بِالْبَيْتِ
وَمَا ذكرت من الدَّلِيل الثَّانِي أَن الْيَمين قد يمْنَع الْحِنْث فقد نقضته بِالْيَمِينِ بِالطَّلَاق الْمُعَلق على دُخُول الدَّار وَهُوَ نقض لَازم وَذَلِكَ أَن وُقُوع الطَّلَاق يُوجب الْحِنْث
كالكفارة من جِهَة الْحِنْث فَإِذا كَانَ الطَّلَاق الْوَاقِع بِالْحِنْثِ يسْتَند إِلَى الْيَمين فَيجب مَا يتَعَلَّق بِهِ من الضَّمَان على شُهُود الْيَمين بِحَيْثُ دلك أَن تكون الْكَفَّارَة الْوَاجِبَة بِالْحِنْثِ تستند إِلَى الْيَمين فَيتَعَلَّق وُجُوبهَا بهَا فَيكون الْيَمين والحنث بِمَنْزِلَة الْحول والنصاب حَيْثُ كَانَا سببين فِي إِيجَاب الزَّكَاة إِذا وجد أَحدهمَا حَال إِخْرَاج الزَّكَاة قبل وجود السَّبَب الآخر
وَأما انفصالك عَنهُ بِأَن الطَّلَاق مفصح بِهِ فِي لفظ الْيَمين فَكَانَ وَاقعا وَإِنَّمَا دخل الشَّرْط لتأخير مَا أوقعه بِالْيَمِينِ فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ الطَّلَاق مفصحا بِهِ فِي لفظ الْحَالِف فالكفارة فِي مَسْأَلَتنَا مضمنة فِي الْيَمين بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ أَن الشَّرْع علق الْكَفَّارَة على مَا علق الْحَالِف بِالطَّلَاق الطَّلَاق عَلَيْهِ فِيمَا علق بِهِ الطَّلَاق بالتزامه وعقده فَوَجَبَ أَن تتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة فِي الشَّرْع فِي الْيَمين بِاللَّه عز وجل
فداخله القَاضِي أَبُو الْحسن بِأَن قَالَ من أَصْحَابنَا من قَالَ إِن الزَّكَاة تجب بالنصاب والحول تَأْجِيل والحقوق المؤجلة يجوز تَعْجِيلهَا كالديون المؤجلة
فَقَالَ لَهُ القَاضِي أَبُو الطّيب هَذَا لَا يَصح وَذَلِكَ أَن الزَّكَاة لَو كَانَت وَاجِبَة بالنصاب وَكَانَ الْحول تأجيلا لَهَا لوَجَبَ إِذا ملك أَرْبَعِينَ شَاة فَعجل مِنْهَا شَاة قبل الْحول وَبَقِي المَال نَاقِصا إِلَى آخر الْحول أَن يُجزئهُ لِأَن النّصاب كَانَ مَوْجُودا حَال الْوُجُوب وَلما قُلْتُمْ إِذا حَال الْحول وَالْمَال بَاقٍ على نقصانه عَن النّصاب أَنه لَا يُجزئهُ وجعلتم الْعلَّة فِيهِ أَنه إِذا جَاءَ وَقت الْوُجُوب وَلَيْسَ عِنْده نِصَاب دلّ على أَن الْوُجُوب عِنْد حُلُول الْحول لَا ملك النّصاب
وَأما دليلك الثَّالِث على هَذَا الْفَصْل فقد بَينا بُطْلَانه بِمَا ذَكرْنَاهُ من أَن الخاطىء وَالنَّاسِي
وقولك إِن الخاطىء أَيْضا مَا وَجب عَلَيْهِ إِلَّا لضرب من التَّفْرِيط حصل من جِهَته فَلَا يَصح لِأَنِّي ألزمك مَا لَا تَفْرِيط فِيهِ وَهُوَ الرجل إِذا رمى وسدد الرَّمْي وَرمى وَعرضت لَهُ ريح فعدلت بِالسَّهْمِ إِلَى رجل فَقتلته أَو رمى إِلَى دَار الْحَرْب فَأصَاب مُسلما فَإِن الرَّمْي مُبَاح مُطلق وَالدَّار دَار مُبَاحَة وَلِهَذَا يجوز مباغتتهم لَيْلًا وَنصب المنجنيق عَلَيْهِم وَلَا يلْزم التحفظ مَعَ إِبَاحَة الرَّمْي على الْإِطْلَاق ثمَّ أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فَدلَّ على أَنه لَيْسَ طَرِيق إيجابنا الْكَفَّارَة مَا ذَكرُوهُ من الْإِثْم
ويدلك على ذَلِك أَن النَّاسِي لَيْسَ من جِهَته تَفْرِيط وَلَا إِثْم وَكَذَلِكَ من استكره عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (عَفا الله لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) ثمَّ أوجب عَلَيْهِم الْكَفَّارَة
فَدلَّ هَذَا كُله على مَا ذكرت
على أَنه لَا اعْتِبَار فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة بالإثم والتفريط وَيبين صِحَة هَذَا لَو حلف لَا يُطِيع الله تَعَالَى أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْحِنْث والمخالفة وألزمناه الْكَفَّارَة وَمن الْمحَال أَن تكون الْكَفَّارَة وَاجِبَة للإثم وتغطية الذَّنب ثمَّ نوجبها فِي الْموضع الَّذِي نوجب عَلَيْهِ أَن يَحْنَث وَأما النَّقْض فَلم يجز فِيهِ أَكثر مِمَّا تقدم
فَأجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن الطَّالقَانِي عَن الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ أما ادِّعَاء الْإِجْمَاع فَلَا يَصح لِأَن أَصْحَابنَا كلهم مخالفون وَلَا نَعْرِف إِجْمَاعًا دونهم
وَأما تَأْوِيل الْآيَة على ترك الْيَمين فَهُوَ مجَاز لِأَن حفظ الْيَمين يَقْتَضِي وجود الْيَمين وَقَوْلهمْ احفظ لسَانك إِنَّمَا قَالُوهُ لأَنهم أَمرُوهُ بِحِفْظ اللِّسَان وَاللِّسَان مَوْجُود وَهَاهُنَا الْيَمين الَّتِي تأولت الْآيَة عَلَيْهَا غير مَوْجُودَة
وَمَا ذَكرُوهُ من الشّعْر فقد ذكرت أَنه مُشْتَرك الِاحْتِجَاج
وَمَا ذَكرُوهُ من الْعَطف فَلَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز الْجمع بِالْوَاو كَمَا يجوز بغَيْرهَا
وَأما الدَّلِيل الثَّانِي فَلَا يلْزم عَلَيْهِ مَا ذكرت من الْيَمين بِالطَّلَاق وَذَلِكَ أَن الْإِيقَاع هُنَاكَ بِالْيَمِينِ وَلِهَذَا أفْصح بِهِ فِي لفظ الْيَمين وأفصح بِهِ شُهُود الْيَمين وَأما الدُّخُول فَهُوَ شَرط يُوجب التَّأْخِير فَإِذا وجد الشَّرْط وَقع الطَّلَاق بِالْيَمِينِ وَيكون كالموجود حكما فِي حَال الْوُقُوع وَهُوَ عِنْد الشَّرْط وَلِهَذَا علقنا الضَّمَان عَلَيْهِ وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن لفظ الْيَمين لَا يُوجب الْكَفَّارَة أَلا ترى أَنه لَو قَالَ ألف سنة وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
لم يجب عَلَيْهِ كَفَّارَة وَإِذا لم يكن فِي لَفظه مَا يُوجب الْكَفَّارَة وَجب أَن نقف إيحابها على مَا تعلق الْمَنْع مِنْهُ وَهُوَ الْحِنْث والمخالفة
وَأما مَسْأَلَة الزَّكَاة فَلَا تصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الْوُجُوب بِملك النّصاب ثمَّ يسْقط هَذَا الْوُجُوب بِنُقْصَان النّصاب فِي آخر الْحول وَمثل هَذَا لَا يمْتَنع على أصولنا أَلا ترى أَن من صلى الظّهْر فِي بَيته صحت صلَاته فَإِذا سعى إِلَى الْجُمُعَة ارْتَفَعت
وَورد عَلَيْهِ بعد الحكم بِصِحَّتِهَا مَا نقضهَا كَذَلِك فِي مَسْأَلَة الزَّكَاة لَا يمْتَنع أَن يكون مثله
وَأما الدَّلِيل الثَّالِث فَهُوَ صَحِيح وَمَا ذَكرُوهُ من تسديد الرَّمْي والرامي إِلَى دَار الْحَرْب فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن القَاضِي أعزه الله إِن فرض الْكَلَام فِي هَذَا الْموضع فرضت الْكَلَام فِي الْغَالِب مِنْهَا وَالْعَام وَالْغَالِب أَن الْقَتْل الَّذِي يُوجب الْكَفَّارَة لَا يكون إِلَّا بِضَرْب من التَّفْرِيط فَإِن اتّفق فِي النَّادِر من يسدد الرَّمْي وَتحفظ ثمَّ يقتل من تجب الْكَفَّارَة بقتْله فَإِن ذَلِك نَادِر والنادر من الْجُمْلَة يلْحق بِالْجُمْلَةِ اعْتِبَارا بالغالب
وَأما النَّاسِي فَفِي حَقه ضرب من التَّفْرِيط وَهُوَ ترك الْحِفْظ لِأَنَّهُ كَانَ من سَبيله أَن يتحفظ فَلَا ينسى فَحَيْثُ لم يفعل ذَلِك حَتَّى نسي فَقتل أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَة تَطْهِيرا لَهُ على أَنه قد قيل إِنَّه كَانَ فِي شرع من قبلنَا حكم النَّاسِي والعامد والنائم سَوَاء فرحم الله هَذِه الْأمة ببركة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَرفع المأثم عَن النَّاسِي وَأوجب الْكَفَّارَة عَلَيْهِ بَدَلا عَن الْإِثْم فَلَا يجوز أَن تكون الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لرفع المأثم
وَأما قَوْله إِنَّه لَو حلف أَن لَا يُطِيع الله فَإنَّا نأمره بِالْحِنْثِ فَلَا يجوز أَن نأمره ثمَّ نوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة على وَجه تَكْفِير الذَّنب فَلَا يَصح لِأَنِّي قد قدمت فِي صدر الْمَسْأَلَة من الْكَلَام مَا فِيهِ جَوَاب عَن هَذَا وَذَلِكَ أَن الْكَفَّارَة تجب لتكفير المأثم غير أَنه قد يكون من الْأَيْمَان مَا نقضهَا أولى من الْوَفَاء بهَا وَذَلِكَ أَن يحلف على مَا لَا يجوز من الْكفْر وَقتل الْوَالِدين وَغير ذَلِك من الْمعاصِي فَيكون الْأَفْضَل ارْتِكَاب أدنى الْأَمريْنِ وَهُوَ الْحِنْث والمخالفة لِأَنَّهُ يرجع من هَذَا الْإِثْم إِلَى مَا يكفره وَلَا يرجع فِي الآخر إِلَى مَا يكفره فَيجْعَل ارْتِكَاب الْحِنْث أولى لما فِي الارتكاب من الْإِثْم