الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه إِنَّمَا الْمُصِيبَة الْكُبْرَى والداهية الدهياء الإمرار على الظَّاهِر والاعتقاد أَنه المُرَاد وَأَنه لَا يَسْتَحِيل على الْبَارِي فَذَلِك قَول المجسمة عباد الوثن الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ يحملهم الزيغ على اتِّبَاع الْمُتَشَابه ابْتِغَاء الْفِتْنَة عَلَيْهِم لعائن الله تترى وَاحِدَة بعد أُخْرَى مَا أجرأهم على الْكَذِب وَأَقل فهمهم للحقائق
شرح حَال مَسْأَلَة الاسترسال الَّتِي وَقعت فِي كتاب الْبُرْهَان
اعْلَم أَن هَذَا الْكتاب وَضعه الإِمَام فِي أصُول الْفِقْه على أسلوب غَرِيب لم يقتد فِيهِ بِأحد وَأَنا أُسَمِّيهِ لغز الْأمة لما فِيهِ مصاعب الْأُمُور وَأَنه لَا يخلي مَسْأَلَة عَن إِشْكَال وَلَا يخرج إِلَّا عَن اخْتِيَار يخترعه لنَفسِهِ وتحقيقات يستبد بهَا
وَهَذَا الْكتاب من مفتخرات الشَّافِعِيَّة وَأَنا أعجب لَهُم فَلَيْسَ مِنْهُم من انتدب لشرحه وَلَا للْكَلَام عَلَيْهِ إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة تكلم عَلَيْهَا أَبُو المظفر بن السَّمْعَانِيّ فِي كتاب القواطع وردهَا على الإِمَام وَإِنَّمَا انتدب لَهُ الْمَالِكِيَّة فشرحه الإِمَام أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ شرحا لم يتمه وَعمل عَلَيْهِ أَيْضا مشكلات ثمَّ شَرحه أَيْضا أَبُو الْحسن الْأَنْبَارِي من الْمَالِكِيَّة ثمَّ جَاءَ شخص مغربي يُقَال لَهُ الشريف أَبُو يحيى جمع بَين الشرحين وَهَؤُلَاء كلهم عِنْدهم بعض تحامل على الإِمَام من جِهَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا أَنهم يستصعبون مُخَالفَة الإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ ويرونها هجنة عَظِيمَة وَالْإِمَام لَا يتَقَيَّد لَا بالأشعري وَلَا بالشافعي لَا سِيمَا فِي الْبُرْهَان وَإِنَّمَا يتَكَلَّم على حسب تأيدة نظره واجتهاده وَرُبمَا خَالف الْأَشْعَرِيّ وأتى بِعِبَارَة عالية على عَادَة فَصَاحَته فَلَا تحمل المغاربة أَن يُقَال مثلهَا فِي حق الْأَشْعَرِيّ
وَقد حكينا كثيرا من ذَلِك فِي شرحنا على مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب
وَالثَّانيَِة أَنه رُبمَا نَالَ من الإِمَام مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَمَا فعل فِي مَسْأَلَة الاستصلاح والمصالح الْمُرْسلَة وَغَيرهَا
وبهاتين الصفتين يحصل للمغاربة بعض التحامل عَلَيْهِ مَعَ اعترافهم بعلو قدره واقتصارهم لَا سِيمَا فِي علم الْكَلَام على كتبه ونهيهم عَن كتب غَيره
ثمَّ اعْلَم أَن لهَذَا الإِمَام من الْحُقُوق فِي الْإِسْلَام والمناضلة فِي علم الْكَلَام عَن الدّين الحنيفي مَا لَا يخفى على ذِي تَحْصِيل وَقد فهم عَنهُ الْمَازرِيّ إِنْكَار الْعلم بالجزئيات وَأنكر وأفرط فِي التَّغْلِيظ عَلَيْهِ وَأَشْبع القَوْل فِي تَقْرِير إحاطة الْعلم الْقَدِيم بالجزئيات وَلَا حَاجَة بِهِ إِلَيْهِ فَإِن أحدا لم ينازعه فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ تصور أَن الإِمَام ينازعه فِيهِ
ومعاذ الله أَن يكون ذَلِك
وَلَقَد سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رحمه الله غير مرّة يَقُول لم يفهم الْمَازرِيّ كَلَام الإِمَام وَلم أسمع مِنْهُ زِيَادَة على هَذَا وَقلت أَنا لَهُ رحمه الله إِذْ ذَاك لَو كَانَ الإِمَام على هَذِه العقيدة لم يحْتَج إِلَى أَن يدأب نَفسه فِي تصنيف النِّهَايَة فِي الْفِقْه وَفِيه جزئيات لَا تَنْحَصِر وَالْعلم غير مُتَعَلق على هَذَا التَّقْدِير عِنْده بهَا
وَقلت لَهُ أَيْضا هَذَا كتاب الشَّامِل للْإِمَام فِي مجلدات عدَّة فِي علم الْكَلَام وَالْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة حَقّهَا أَن تقرر فِيهِ لَا فِي الْبُرْهَان فَلم لَا يكْشف عَن عقيدته فِيهِ فأعجبه ذَلِك
وَأَقُول الْآن قبل الْخَوْض فِي كَلَام الإِمَام والمازري لقد فحصت عَن كَلِمَات هَذَا الإِمَام فِي كتبه الكلامية فَوجدت إحاطة علم الله تَعَالَى عِنْده بالجزئيات أمرا مفروغا مِنْهُ وأصلا مقررا يكفر من خَالفه فِيهِ
وَهَذِه مَوَاضِع من كَلَامه
قَالَ فِي الشَّامِل فِي القَوْل فِي إِقَامَة الدَّلَائِل على الْحَيَاة وَالْعلم بعد أَن قرر إِجْمَاع الْأمة على بطلَان قَول من يثبت علمين قديمين مَا نَصه فَلم يبْق إِلَّا مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق من إِثْبَات علم وَاحِد قديم مُتَعَلق بِجَمِيعِ المعلومات
انْتهى
ثمَّ قَالَ فَإِن قَالَ قَائِل إِذا جوزتم أَن يُخَالف علم الْقَدِيم الْعلم الْحَادِث وَلم تمنعوا أَن يتَعَلَّق الْعلم الْوَاحِد بِمَا لَا يتناهى ومنعتم ذَلِك فِي الْعلم الْحَادِث واندفع فِي سُؤال أوردهُ ثمَّ قَالَ قُلْنَا الدّلَالَة دلّت على وجوب كَون الْقَدِيم عَالما بِجَمِيعِ المعلومات
ثمَّ قَالَ فَإِن قيل مَا دليلكم على وجوب كَونه عَالما بِكُل المعلومات وَبِمَ تنكرون على من يَأْبَى ذَلِك قلت قد تدبرت كَلَام الْمَشَايِخ فِي كتبهمْ ومصنفاتهم وأحطت فِي غَالب ظَنِّي بِكُل مَا قَالُوهُ
وَذكر طَريقَة ارتضاها فِي الدّلَالَة على ذَلِك وختمها بِمَا نَصه فَهَذِهِ هِيَ الدّلَالَة القاطعة على وجوب كَون الْإِلَه سُبْحَانَهُ عَالما بِكُل مَعْلُوم
انْتهى
وَقَالَ فِي بَاب القَوْل فِي أَن الْعلم الْحَادِث هَل يتَعَلَّق بمعلومين مَا نَصه إِذا علم الْعَالم منا أَن مَعْلُومَات الْبَارِي لَا تتناهى انبهر
وَكرر فِي هَذَا الْفَصْل أَنه تَعَالَى يعلم مَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل غير مَا مرّة وَلَا معنى للتطويل فِي ذَلِك وَكتبه مشحونه بِهِ
وَقَالَ فِي الْإِرْشَاد فِي مَسْأَلَة تَقْرِير الْعلم الْقَدِيم مَا نَصه وَمِمَّا يتمسكون بِهِ أَن
قَالُوا علم الْبَارِي سبحانه وتعالى على زعمك يتَعَلَّق بِمَا لَا يتناهى من المعلومات على التَّفْصِيل
انْتهى
ثمَّ لما أجَاب عَن شُبْهَة الْقَوْم قرر هَذَا التَّقْرِير وَهُوَ عِنْده مفروغ مِنْهُ
وَكَذَلِكَ فِي الْبُرْهَان فِي بَاب النّسخ صرح بِأَن الله تَعَالَى يعلم على سَبِيل التَّفْصِيل كل شَيْء
إِذا عرفت ذَلِك فَأَنا على قطع بِأَنَّهُ معترف بإحاطة الْعلم بالجزئيات
فَإِن قلت وَمَا بَيَان هَذَا الْكَلَام الْوَاقِع فِي الْبُرْهَان قلت الْعَالم من يَدْعُو الْوَاضِح وَاضحا والمشكل مُشكلا
وَهُوَ كَلَام مُشكل بِحَيْثُ أبهم أمره على الْمَازرِيّ مَعَ فرط ذكائه وتضلعه بعلوم الشَّرِيعَة وَأَنا أحكيه ثمَّ أقرره وَأبين لَك أَن الْقَوْم لم يفهموا إِيرَاد الإِمَام وَأَن كَلَامه الْمشَار إِلَيْهِ مَبْنِيّ على إحاطة الْعلم الْقَدِيم بالجزئيات فَكيف يُؤْخَذ مِنْهُ خِلَافه فَأَقُول قَالَ الإِمَام وَأما الْمُمَيز بَين الْجَوَاز الْمَحْكُوم بِهِ وَالْجَوَاز بِمَعْنى التَّرَدُّد وَالشَّكّ فلائح ومثاله أَن الْعقل يقْضِي بِجَوَاز تحرّك جسم وَهَذَا الْجَوَاز ثَبت بِحكم الْعقل وَهُوَ نقيض الاستحالة وَأما الْجَوَاز المتردد فكثير وَنحن نكتفي فِيهِ بمثال وَاحِد ونقول تردد المتكلمون فِي انحصار الْأَجْنَاس كالألوان فَقطع القاطعون بِأَنَّهَا غير متناهية فِي الْإِمْكَان كآحاد كل جنس وَزعم آخَرُونَ أَنَّهَا منحصرة
وَقَالَ المقتصدون لَا نَدْرِي أَنَّهَا منحصرة لم يبنوا مَذْهَبهم على بَصِيرَة وَتَحْقِيق
وَالَّذِي أرَاهُ قطعا أَنَّهَا منحصرة فَإِنَّهَا لَو كَانَت غير منحصرة لتَعلق الْعلم مِنْهَا بآحاد على التَّفْصِيل وَذَلِكَ مُسْتَحِيل
فَإِن استنكر الجهلة ذَلِك وشمخوا بآنافهم وَقَالُوا الْبَارِي تَعَالَى عَالم بِمَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل سفهنا عُقُولهمْ وأحلنا تَقْرِير هَذَا الْفَنّ على أَحْكَام الصِّفَات وَبِالْجُمْلَةِ علم الله تَعَالَى إِذا تعلق بجواهر لَا نِهَايَة لَهَا فَمَعْنَى تعلقه بهَا استرساله عَلَيْهَا من غير تعرض لتفصيل الْآحَاد مَعَ نفي النِّهَايَة فَإِن مَا يحِيل دُخُول مَا لَا يتناهى فِي الْوُجُود يحِيل وُقُوع تقريرات غير متناهية فِي الْعلم والأجناس الْمُخْتَلفَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام يَسْتَحِيل استرسال الْكَلَام عَلَيْهَا فَإِنَّهَا متباينة الْجَوَاهِر وَتعلق الْعلم بهَا على التَّفْصِيل مَعَ نفي النِّهَايَة محَال وَإِذا لاحت الْحَقَائِق فَلْيقل الأخرق بعْدهَا مَا شَاءَ
انْتهى كَلَامه فِي الْبُرْهَان
وَالَّذِي أرَاهُ لنَفْسي وَلمن أحبه الِاقْتِصَار على اعْتِقَاد أَن علم الله تَعَالَى مُحِيط بالكليات والجزئيات جليلها وحقيرها وتكفير من يُخَالف فِي وَاحِد من الْفَصْلَيْنِ واعتقاد أَن هَذَا الإِمَام بَرِيء من الْمُخَالفَة فِي وَاحِد مِنْهُمَا بِدَلِيل تصريحه فِي كتبه الكلامية بذلك وَأَن أحدا من الأشاعرة لم ينْقل هَذَا عَنهُ مَعَ تتبعهم لكَلَامه وَمَعَ أَن تلامذته وتصانيفه مَلَأت الدُّنْيَا وَلم يعرف أَن أحدا عزا ذَلِك إِلَيْهِ وَهَذَا برهَان قَاطع على كذب من تفرد بِنَقْل ذَلِك عَنهُ فَإِنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لتوفرت الدَّوَاعِي على نَقله ثمَّ إِذا عرض هَذَا الْكَلَام نقُول هَذَا مُشكل نضرب عَنهُ صفحا مَعَ اعْتِقَاد أَن مَا فهم مِنْهُ من أَن الْعلم الْقَدِيم لَا يُحِيط بالجزئيات لَيْسَ بِصَحِيح وَلَكِن هُنَاكَ معنى غير ذَلِك لسنا مكلفين بالبحث عَنهُ وَإِذا دفعنَا إِلَى هَذَا الزَّمَان الَّذِي شمخت الْجُهَّال فِيهِ بأنوفها وَأَرَادُوا الضعة من قدر هَذَا الإِمَام وأشاعوا أَن هَذَا الْكَلَام مِنْهُ دَال على أَن الْعلم الْقَدِيم لَا يُحِيط بالجزئيات أحوجنا ذَلِك إِلَى الدفاع عَنهُ وَبَيَان سوء فهمهم واندفعنا فِي تَقْرِير كَلَامه وإيضاح مَعْنَاهُ
فَنَقُول مَقْصُود الإِمَام بِهَذَا الْكَلَام الْفرق بَين إِمْكَان الشَّيْء فِي نَفسه وَهُوَ كَونه لَيْسَ بمستحيل وَعبر عَنهُ بِالْجَوَازِ الْمَحْكُوم بِهِ وَمثل لَهُ بِجَوَاز تحرّك جسم سَاكن وَبَين الْإِمْكَان الذهْنِي وَهُوَ الشَّك والتوقف وَعدم الْعلم بالشَّيْء وَإِن كَانَ الشَّيْء فِي نَفسه مستحيلا وَعبر عَنهُ بِالْجَوَازِ بِمَعْنى التَّرَدُّد وَمثل لَهُ بِالشَّكِّ فِي تناهي الْأَجْنَاس وَعدم
تناهيها عِنْد الشاكين مَعَ أَن عدم تناهيها يَسْتَحِيل عِنْده وَإِلَى استحالته أَشَارَ بقوله وَالَّذِي أرَاهُ قطعا أَنَّهَا منحصرة وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهَا لَو كَانَت غير منحصرة لتَعلق الْعلم بآحاد لَا تتناهى على التَّفْصِيل لِأَن الله تَعَالَى عَالم بِكُل شَيْء فَإِذا كَانَت الْأَجْنَاس غير متناهية وَجب أَن يعلمهَا غير متناهية لِأَنَّهُ يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهِي لَا تَفْصِيل لَهَا حَتَّى يُعلمهُ على التَّفْصِيل فالرب تَعَالَى يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ إِن مجملة فمجملة وَإِن مفصلة فمفصلة والأجناس الْمُخْتَلفَة متباينة بحقائقها فَإِذا علم وَجب أَن يعلمهَا مفصلة متمايزة بَعْضهَا عَن بعض
وَأما أَن ذَلِك يَسْتَحِيل فَلِأَن كل مَعْلُوم على التَّفْصِيل فَهُوَ منحصر متناه كَمَا أَنه مَوْجُود فِي الْخَارِج فَهُوَ منحصر متناه لوُجُوب تشخصها فِي الذِّهْن كَمَا فِي الْخَارِج
وَاعْلَم أَن الإِمَام إِنَّمَا سكت عَن بَيَان الْمُلَازمَة لِأَن دليلها كالمفروغ مِنْهُ
وَقَوله فَإِن استنكر الجهلة ذَلِك وَقَالُوا الباريء عَالم بِمَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل هُوَ إِشَارَة إِلَى اعْتِرَاض على قَوْله وَذَلِكَ مُسْتَحِيل
تَقْرِيره أَن البارىء تَعَالَى عَالم بِمَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل وَهَذَا أصل مفروغ مِنْهُ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقولك إِن تعلق الْعلم بِمَا لَا يتناهى مُسْتَحِيل قَول مَمْنُوع
وَقَوله سفهنا عُقُولهمْ هُوَ جَوَاب الِاعْتِرَاض
وَقَوله وأحلنا تَقْرِير هَذَا الْفَنّ على أَحْكَام الصِّفَات إِشَارَة إِلَى أَن تَقْرِير اسْتِحَالَة تعلق الْعلم بِمَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل مَذْكُور فِي بَاب أَحْكَام الصِّفَات وَكتب أصُول الدّين
وَقَوله وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ بَيَان لكيفية تعلق علم الله تَعَالَى بِمَا لَا يتناهى مَعَ صَلَاحِية كَونه جَوَابا عَن الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور وَتَقْرِيره أَن علم الله سبحانه وتعالى إِذا تعلق بجواهر لَا نِهَايَة لَهَا كَانَ معنى تعلقه بهَا استرساله عَلَيْهَا وَمعنى استرساله عَلَيْهَا وَالله أعلم هُوَ أَن علمه سبحانه وتعالى يتَعَلَّق بِالْعلمِ الْكُلِّي الشَّامِل لَهَا على سَبِيل التَّفْصِيل فيسترسل عَلَيْهَا من غير
تَفْصِيل الْآحَاد لتَعَلُّقه بالشامل لَهَا من غير تَمْيِيز بَعْضهَا عَن بعض تعلقه بهَا على هَذَا الْوَجْه وَعدم تعلقه بهَا على سَبِيل التَّفْصِيل لَيْسَ بِنَقص فِي التَّفْصِيل فِيهَا مَعَ نفي النِّهَايَة مُسْتَحِيل فَإِذا وَجب أَن تكون غير مفصلة وَوَجَب أَن يعلمهَا غير مفصلة لوُجُوب تعلق الْعلم بالشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ
وَقَوله فَإِن مَا يحِيل دُخُول مَا لَا يتناهى فِي الْوُجُود يحِيل وُقُوع تقديرات غير متناهية فِي الْعلم أَي إِنَّمَا تعلق علمه بهَا على سَبِيل الاسترسال لَا على سَبِيل التَّفْصِيل لِأَن الْمَعْلُوم على التَّفْصِيل يَسْتَحِيل أَن يكون غير متناه كَمَا أَن الْمَوْجُود يَسْتَحِيل أَن يكون غير متناه فَمَا لَيْسَ بمتناه يَسْتَحِيل أَن يكون مفصلا متميزا بعضه عَن بعض فَإِذا تعلق الْعلم بِهِ وَجب أَن يكون معنى تعلقه استرساله عَلَيْهِ لوُجُوب تعلق الْعلم بالشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ من إِجْمَال أَو تَفْصِيل
قَوْله والأجناس الْمُخْتَلفَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام يَسْتَحِيل استرسال الْعلم عَلَيْهَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر من جِهَة الْمُعْتَرض
تَقْرِير السُّؤَال إِذا جَازَ استرسال الْعلم على الْجَوَاهِر الَّتِي لَا نِهَايَة لَهَا فَلم لَا تكون الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام يَسْتَحِيل استرسال الْعلم عَلَيْهَا فَإِنَّهَا متباينة بالخواص أَي بالحقائق فَلَيْسَ بَينهَا قدر مُشْتَرك بنقلها يسترسل الْعلم بِسَبَب تعلقه عَلَيْهَا
وَلقَائِل أَن يَقُول لم قلت إِنَّه لَيْسَ بَينهَا مدرك مسترسل وَقَوله وَتعلق الْعلم بهَا على التَّفْصِيل مَعَ نفي النِّهَايَة محَال قد سبق فِي أول الدَّلِيل وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا لِأَنَّهُ مَعَ الْكَلَام الْمَذْكُور آنِفا يصلح أَن يكون دَلِيلا على الْمَطْلُوب أَعنِي أَن الْأَجْنَاس متناهية وَتَقْرِيره أَن الْأَجْنَاس إِذا كَانَ استرسال الْعلم عَلَيْهَا مستحيلا وَجب أَن تكون مَعْلُومَة على التَّفْصِيل وَإِلَّا لم تكن مَعْلُومَة لَهُ سبحانه وتعالى وَتعلق الْعلم بهَا على التَّفْصِيل مَعَ نفي النِّهَايَة محَال فَوَجَبَ أَن تكون محصورة متناهية
وَإِذا ظهر مَقْصُود الإِمَام أَولا وَهُوَ الْفرق بَين الإمكانين وَثَانِيا وَهُوَ أَن الْأَجْنَاس متناهية وَدَلِيله على هَذَا وَجَوَابه غير مَا اعْترض بِهِ عَلَيْهِ تبين أَنه بنى دَلِيله على قَوَاعِد
إِحْدَاهمَا أَن الله عز وجل عَالم بِكُل شَيْء الجزئيات والكليات لَا تخفى عَلَيْهِ خافية
وَالثَّانيَِة أَن الله تَعَالَى يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَيعلم الْأَشْيَاء المجملة الَّتِي لَا يتَمَيَّز بَعْضهَا عَن بعض مفصلة وَهَذَا خلاف مَذْهَب ابْن سينا حَيْثُ زعم أَنه تَعَالَى لَا يعلم الجزئيات الشخصية إِلَّا على الْوَجْه الْكُلِّي وَذَلِكَ كفر صراح
وَالثَّالِثَة أَن المعلومات الْجُزْئِيَّة المتميزة المفصلة لَا يُمكن أَن تكون غير متناهية تَشْبِيها للوجود الذهْنِي بالوجود الْخَارِجِي وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بقوله فَإِن مَا يحِيل دُخُول مَا لَا يتناهى فِي الْوُجُود يحِيل وُقُوع تقديرات غير متناهية فِي الْعلم
وَالرَّابِعَة أَن الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام متناهية بخواصها أَي بحقائقها متميز بَعْضهَا عَن بعض
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه بنى كَلَامه على الْقَوَاعِد الْمَذْكُورَة لِأَنَّهُ لَو لم يكن الرب عز وجل عَالما بِكُل شَيْء لم يجب أَن يعلم الْأَجْنَاس وَلِأَنَّهُ لَو لم يعلم الْأَجْنَاس أَي الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لم يجب إِذا كَانَت غير متناهية أَن يعلمهَا غير متناهية وَلَا إِذا كَانَت متميزة بَعْضهَا عَن بعض أَن يعلمهَا مفصلة وَلِأَنَّهُ لَو لم تكن الْأَجْنَاس الَّتِي فِيهَا الْكَلَام متباينة بحقائقها لم يجب أَن يعلمهَا على التَّفْصِيل فَظهر أَن قَوْله لَو كَانَت غير منحصرة تعلق الْعلم بِمَا لَا يتناهى على التَّفْصِيل وَهُوَ الْمُلَازمَة مَبْنِيّ على هَذِه الْقَوَاعِد الثَّلَاث وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الْجَواب عَن الِاعْتِرَاض إِن معنى تعلق الْعلم بالجواهر الَّتِي لَا تتناهى هُوَ استرساله عَلَيْهَا مَبْنِيّ على أَنه يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِن مَا لَا يتناهى لَا يتَمَيَّز بعضه عَن بعض
وَأما قَوْله إِن تعلق الْعلم على التَّفْصِيل بِمَا لَا يتناهى محَال وَهُوَ انْتِفَاء التَّالِي فَهُوَ مَبْنِيّ على وجوب تعلق الْعلم بالشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ وعَلى أَن كل متميز بعضه عَن بعض متناه فَإِنَّهُ لَو لم يجب أَن يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لوَجَبَ أَن يكون المتميز بعضه عَن بعض غير متناه وَلم يَصح قَوْله وَتعلق الْعلم على التَّفْصِيل بِمَا لَا يتناهى محَال وَالله أعلم
إِن خرق الْمَسْأَلَة أَن مَا لَا يتناهى هَل هُوَ فِي نَفسه متميز بعضه عَن بعض أَولا فَإِن كَانَ وَجب اعْتِقَاد أَن الرب تَعَالَى يُعلمهُ على التَّفْصِيل وَالْإِمَام يُخَالف فِي ذَلِك وَإِن لم يكن لم يجز أَن يُعلمهُ على التَّفْصِيل كَيْلا يلْزم الْجَهْل وَهُوَ الْعلم بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يُخَالف فِي ذَلِك عَاقل وَلَا يشك فِي احْتِيَاج الإِمَام إِلَى دلَالَة على أَن مَا لَا يتناهى لَا تَفْصِيل لَهُ وَلَا يتَمَيَّز حَتَّى يسلم لَهُ مُرَاده وَهُوَ مَمْنُوع
وَقد سبقه إِلَيْهِ أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فَقَالَ فِي كتاب الْمِنْهَاج الْمَعْرُوف بشعب الْإِيمَان فِي الشعبة التَّاسِعَة فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ الله بِكُل شَيْء عليما قُلْنَا بلَى
فَإِن قَالَ أفيعلم مبلغ حركات أهل الْجنَّة وَأهل النَّار قيل إِنَّهَا لَا مبلغ لَهَا وَإِنَّمَا يعرف مَاله مبلغ فَأَما مَا لَا مبلغ لَهُ فيستحيل أَن يُوصف بِأَن يعلم مبلغه
واندفع الْحَلِيمِيّ فِي هَذَا بِعِبَارَة أبسط من عبارَة الإِمَام
وَهَذَا الْحَلِيمِيّ كَانَ إِمَامًا فِي الْعلم وَالدّين حبرًا كَبِيرا وَلَكنَّا لَا نوافقه على هَذَا ونمانعه ممانعة تتبين هُنَا فِي تضاعيف كلامنا وَإِنَّمَا أردنَا بحكاية كَلَامه التَّنْبِيه على أَن الإِمَام مَسْبُوق بِمَا ذكره سبقه إِلَيْهِ بعض عُظَمَاء أهل السّنة
وَإِذا تبين من كَلَام الإِمَام مَا قَصده وَظهر من الْقَوَاعِد مَا بنى عَلَيْهِ غَرَضه علم أَن من شنع عَلَيْهِ وَأَوْمَأَ بالْكفْر إِلَيْهِ غير سَالم من أَن يشنع عَلَيْهِ وَأَن ينْسب الْخَطَأ فِي فهم كَلَام الإِمَام إِلَيْهِ وَالَّذِي تحرر من كَلَام الإِمَام دَعْوَاهُ عدم تَفْصِيل مَا لَا يتناهى وَلَيْسَ فِي اعْتِقَاد هَذَا الْقدر كفر
وَقد أفرط أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ فِي ذَلِك ظنا مِنْهُ أَن الإِمَام يَنْفِي الْعلم بالجزئيات وَأَن كَلَامه هَذَا لَا يحْتَمل غير ذَلِك وَلَا يقبل التَّأْوِيل
وَقَالَ أول مَا نقدمه تحذير الْوَاقِف على كِتَابه هَذَا أَن يصغي إِلَى هَذَا الْمَذْهَب إِلَى أَن قَالَ وددت لَو محوت هَذَا من هَذَا الْكتاب بِمَاء بَصرِي لِأَن هَذَا الرجل لَهُ سَابِقَة قديمَة وآثار كَرِيمَة فِي عقائد الْإِسْلَام والذب عَنْهَا وتشييدها وتحسين الْعبارَة عَن حقائقها وَإِظْهَار مَا أخفاه الْعلمَاء من أسراراها وَلكنه فِي آخر أمره ذكر أَنه خَاضَ فِي فنون من علم الفلسفة وذاكر أحد أئمتها فَإِن ثَبت هَذَا القَوْل عَلَيْهِ وَقطع بِإِضَافَة هَذَا الْمَذْهَب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَيْهِ فَإِنَّمَا سهل عَلَيْهِ ركُوب هَذَا الْمَذْهَب إدمانه النّظر فِي مَذْهَب أُولَئِكَ
ثمَّ قَالَ وَمن الْعَظِيمَة فِي الدّين أَن يَقُول مُسلم إِن الله سُبْحَانَهُ تخفى عَلَيْهِ خافية
إِلَى قَوْله والمسلمون لَو سمعُوا أحدا يبوح بذلك لتبرءوا مِنْهُ وأخرجوه من جُمْلَتهمْ
إِلَى قَوْله إِذا كَانَ خطابي مَعَ موحد مُسلم نقُول لَهُ إِن زعمت أَن الله سُبْحَانَهُ تخفى عَلَيْهِ خافية أَو يتَصَوَّر الْعقل معنى أَو يثبت فِي الْوُجُود صفة أَو مَوْصُوف أَو عرض أَو جَوْهَر أَو حقائق نفسية أَو معنوية وَهُوَ تَعَالَى غير عَالم بِهِ فقد فَارق الْإِسْلَام وَإِن كَانَ كلامنا مَعَ ملحد فنرد عَلَيْهِ بالأدلة الْعَقْلِيَّة
قلت هَذِه الْعبارَات من الْمَازرِيّ تدل على أَنه لم يفهم كَلَام الإِمَام أَو فهم وَقصد أَن يشنع وَهَذَا بعيد على الرجل فَإِنَّهُ من أَئِمَّة الْعلم وَالدّين فالأغلب على ظَنِّي أَنه لم يفهم وَكَيف يفهم كَلَام الإِمَام وَلم يقْصد التشنيع عَلَيْهِ من نسبته إِلَى اعْتِقَاد الفلاسفة وَأَن الله سبحانه وتعالى تخفى عَلَيْهِ خافية أَو أَن الْعقل يتَصَوَّر معنى وَالله عَالم بِهِ أَو يثبت فِي الْوُجُود صفة أَو مَوْصُوف أَو جَوْهَر أَو عرض أَو حقائق نفسية أَو معنوية والرب غير عَالم بِهِ أَو أَنه لَا يعلم الْجِهَات إِلَّا على الْوَجْه الْكُلِّي الَّذِي هُوَ مَذْهَب الفلاسفة وَقد بنى دَلِيله كَمَا سبق على أَن الله عَالم بِكُل شَيْء لَا تخفى عَلَيْهِ خافية وَأَنه يعلم الْأَشْيَاء
على مَا هِيَ عَلَيْهِ إِن مجملة وَإِن مفصلة فمفصلة هَذَا مَا لَا يُمكن وَمَعَ تصريحه فِي مَوَاضِع شَتَّى بِأَن الله تَعَالَى يعلم كل شَيْء
وَقد بَالغ فِي الشَّامِل فِي الرَّد على من يعْتَقد أَنه يعلم بعض المعلومات دون بعض
ثمَّ إِن الْمَازرِيّ وَمن تبعه من شرَّاح الْبُرْهَان أخذُوا فِي تَقْرِير مَسْأَلَة الْعلم بالجزيئات وَهُوَ أَمر مفروغ مِنْهُ عِنْد الْمُسلمين وَكَانَ الأولى بهم صرف الْعِنَايَة إِلَى فهم كَلَام الإِمَام لَا أَن سَيعْلَمُ بِمَا لَا يخفى فهمه فِيهِ الإِمَام وَلَا غَيره فَالَّذِي يَنْبَغِي للمنصف الْوَاقِف على كَلَام الإِمَام أَن يتأمله ليظْهر لَهُ أَن الإِمَام إِنَّمَا منع من تعلق الْعلم التفصيلي بِمَا لَا تَفْصِيل لَهُ وَهِي الْأُمُور الَّتِي لَا تتناهى باعتقاد عدم تَمْيِيز بَعْضهَا عَن بعض وَأَن مَا لَا يتناهى لَا يُمكن أَن يتَمَيَّز بعضه عَن بعض لَا لكَونهَا غير متناهية وَالْمَانِع عِنْده من تعلق التَّفْصِيل بهَا هُوَ عدم تَمْيِيز بَعْضهَا عَن بعض لَا لكَونهَا غير متناهية وَإِنَّمَا تمنع من تعلق الْعلم التفصيلي بهَا وَالْحَالة هَذِه لِأَن الرب الْعَلِيم الْخَبِير إِنَّمَا يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ
وَالله أعلم
وَأما الاستنباط الَّذِي ذكره الْمَازرِيّ من الْقطع بِفساد مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام من مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فِي أَن الْعلم بالشَّيْء مُجملا لَا يضاد الْعلم بِهِ مفصلا ففاسد لِأَن الإِمَام لم يمْنَع من تعلق الْعلم التفصيلي بِمَا لَا يتناهى لحد تعلق الْعلم الإجمالي بِهِ حَتَّى يتَوَهَّم متوهم أَنه يعْتَقد التضاد وَقد صرح فِي الشَّامِل أَنَّهُمَا غير متضادين بل إِنَّمَا منع من ذَلِك لِأَن مَا لَا يتناهى لَا يكون فِي نَفسه إِلَّا مُجملا غير متميز بعضه عَن بعض فَإِنَّهُ إِذا امْتنع أَن يكون فِي نَفسه متميزا امْتنع تعلق الْعلم التفصيلي بِهِ لِأَن الْعلم إِنَّمَا يتَعَلَّق بالشَّيْء على مَا هُوَ عَلَيْهِ من إِجْمَال أَو تَفْصِيل وَإِلَّا كَانَ جهلا
وَأما الْأُمُور المتناهية الْمَعْلُومَة على سَبِيل الْإِجْمَال فَإِن الإِمَام قد لَا يمْنَع الْعلم بهَا على سَبِيل التَّفْصِيل إِذا كَانَت متميزة بَعْضهَا عَن بعض كالسواد وَالْبَيَاض والحمرة وَغَيرهَا من أَجنَاس الألوان فَإِنَّهَا مَعْلُومَة لرب الْعَالمين على سَبِيل الْإِجْمَال من حَيْثُ كَونهَا أعراضا وألوانا وعَلى سَبِيل التَّفْصِيل من حَيْثُ كَونهَا سوادا وبَيَاضًا وَكَذَلِكَ شرب زيد فِي
الْجنَّة من الكأس الْفُلَانِيّ الْمَوْصُوف بصفاته المختصة بِهِ للْإِمَام أَن يَقُول هُوَ مَعْلُوم لله تَعَالَى إِجْمَالا من حَيْثُ اندراجه تَحت مُطلق الشّرْب من كأس مَاء من فضَّة أَو ذهب المندرج تَحت مُطلق النَّعيم وَمَعْلُوم على التَّفْصِيل
وَهنا وَقْفَة فِي كَيْفيَّة ذَلِك الْعلم التفصيلي بحث عَن مَعْرفَتهَا الإِمَام الْمُتَكَلّم بهاء الدّين عبد الْوَهَّاب بن عبد الرَّحْمَن الْمصْرِيّ الإخميمي وَكَانَت لَهُ يَد باسطة فِي علم الْكَلَام وَكَانَ يَقُول يعلم الله تَعَالَى ذَلِك على التَّفْصِيل حَيْثُ تعلق الْإِرَادَة بِهِ وَحين تعلق الْقُدْرَة بِهِ فَإِنَّهُ إِذا علمه أَرَادَهُ وَإِذا أَرَادَهُ أوجده كالمعلوم على التَّفْصِيل لَا يكون إِلَّا متناهيا
وَأنْكرت أَنا عَلَيْهِ ذَلِك وَقلت إِنَّه يلْزمه تجدّد الْعلم الْقَدِيم وَلَكِن للْإِمَام أَن يَقُول يعلم على التَّفْصِيل الْخَارِج مِنْهُ إِلَى الْوُجُود لِأَنَّهُ يعلم مَا سيخرج مِنْهُ وَهنا نظر دَقِيق وَهُوَ أَنَّك تَقول إِذا كَانَ نعيم أهل الْجنَّة لَا يتناهى وَمَا لَا يتناهى عِنْده لَا تَفْصِيل لَهُ فَكيف تَقول إِنَّه يُعلمهُ مفصلا وَالْفَرْض أَن لَا يفصل
وَالْجَوَاب أَن مَا لَا يتناهى لَهُ حالتان حَالَة فِي الْعَدَم وَلَا كَون لَهُ إِذْ ذَاك وَلَا تَفْصِيل عِنْد الإِمَام وَحَالَة خُرُوجه من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَهُوَ مفصل يُعلمهُ الرب تَعَالَى مفصلا وَهَذَا رد على الْمَازرِيّ على قَاعِدَة مَذْهَب شَيخنَا أبي الْحسن
ثمَّ نقُول مَذْهَب إِمَام الْحَرَمَيْنِ الَّذِي صرح بِهِ فِي الشَّامِل أَنه يَسْتَحِيل اجْتِمَاع الْعلم بِالْجُمْلَةِ وَالْعلم بالتفصيل فَإِن من أحَاط بالتفصيل اسْتَحَالَ فِي حَقه تَقْدِير الْعلم بِالْجُمْلَةِ
قَالَ فِي الشَّامِل فَإِن قيل فيلزمكم من ذَلِك أحد أَمريْن إِمَّا أَن تصفوا الرب سبحانه وتعالى بِكَوْنِهِ عَالما بِالْجُمْلَةِ على الْوَجْه الَّذِي يُعلمهُ وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يَتَّصِف الرب بِكَوْنِهِ عَالما بِالْجُمْلَةِ فَإِن وصفتموه بِكَوْنِهِ عَالما بِالْجُمْلَةِ لزم عَن طرد ذَلِك وَصفه بِالْجَهْلِ
بالتفصيل تَعَالَى وتقدس وَإِن لم تصفوه بِكَوْنِهِ عَالما بِالْجُمْلَةِ فقد أثبتم للْعَبد مَعْلُوما وحكمتم بِأَنَّهُ لَا يثبت مَعْلُوما للرب تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَهَذَا مستنكر فِي الدّين مستعظم فِي إِجْمَاع الْمُسلمين إِذْ الْأمة مجمعة على أَن الرب عَالم بِكُل مَعْلُوم لنا
فَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول لَا سَبِيل إِلَى وصف الرب تَعَالَى بِكَوْنِهِ عَالما بالمعلومات على الْجُمْلَة فَإِن ذَلِك مُتَضَمّن جهلا بالتفصيل والرب تَعَالَى يتقدس عَنهُ عَالم بتفاصيل المعلومات وَهِي مُمَيزَة مُنْفَصِلَة الْبَعْض عَن الْبَعْض فِي قَضِيَّة علمه وَالْعلم بالتفصيل يُنَاقض الْعلم على الْجُمْلَة فَلم يبْق إِلَّا مَا استبعده الشَّامِل من تصور مَعْلُوم فِي حق الْمَخْلُوق وَلَا يتَصَوَّر مثله فِي قَضِيَّة علم الله تَعَالَى وَهَذَا مَا لَا استنكار فِيهِ وَلَيْسَ بيد الْخصم إِلَّا التشنيع الْمُجَرّد
انْتهى
وَفِيه تَصْرِيح بِأَن الرب يعلم مَا لَا يتناهى مفصلا ثمَّ صرح بِأَن الْعلم بِالْجُمْلَةِ يُخَالف الْعلم بالتفصيل وأنهما غير متضادين
قَالَ وَلَكِن لما افْتقر الْعلم بِالْجُمْلَةِ إِلَى ثُبُوت جهل بالتفصيل أَو شكّ أَو غَيرهمَا من أضداد الْعُلُوم فيؤول إِلَى المضادة
ثمَّ نقل آخرا عَن الشَّيْخ رضي الله عنه أَن الرب تَعَالَى عَالم بِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل
ثمَّ قَالَ وَهَذَا مِمَّا أستخير الله فِيهِ وَصرح فِي هَذَا الْفَصْل فِي غير مَوضِع بِأَن الرب تَعَالَى يعلم مَا لَا يتناهى مفصلا
وَاسْتدلَّ أَيْضا الْمَازرِيّ على فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام من أَن الْعلم التفصيلي لَا يتَعَلَّق بِمَا لَا يتناهى بِأَن مَا استرسل إِلَيْهِ علم الله تَعَالَى إِمَّا أَن يخرج مِنْهُ إِلَى الْوُجُود أَو لَا فَإِن لم يخرج مِنْهُ شَيْء منعنَا نعيم أهل الْجنَّة الثَّابِت بِالشَّرْعِ وَإِن خرج مِنْهُ فردان أَو ثَلَاثَة فَإِن لم يعلمهَا الرب سُبْحَانَهُ على سَبِيل التَّفْصِيل يلْزم أَن يكون جَاهِلا بِكُل شَيْء وَإِن علمهَا على التَّفْصِيل بِعلم حَادث فَهَذَا مَذْهَب الْجَهْمِية الْقَائِلين بِأَن الله سبحانه وتعالى يعلم المعلومات بعلوم محدثة وَهُوَ بَاطِل فَلم يبْق إِلَّا أَن يعلمهَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيم الْوَاحِد على
التَّفْصِيل ويفرض ذَلِك فِي كل مَا خرج مِنْهَا إِلَى الْوُجُود حَتَّى يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَات علمه بالتفصيل فِيمَا لَا يتناهى كَمَا قَالَ الْمُسلمُونَ
انْتهى
وَللْإِمَام أَن يَقُول يعلمهَا بِالْعلمِ الْقَدِيم الْوَاحِد إِلَّا أَن الْعلم الْقَدِيم يشملها مَعْدُومَة على سَبِيل الْإِجْمَال لعدم تفصيلها حَالَة الْعَدَم فِي نَفسهَا ويشملها مَوْجُودَة على سَبِيل التَّفْصِيل وَإِن لم تتناه فَلَا جهل وَلَا جهمية وَلَا علم تَفْصِيل بِمَا لَا تَفْصِيل لَهُ
هَذَا أقْصَى مَا عِنْدِي فِي تَقْرِير كَلَام الإِمَام ثمَّ أَنا لَا أوافقه على أَن مَا لَا يتناهى لَا تَفْصِيل وَلَا تَمْيِيز لَهُ بل هُوَ مفصل مُمَيّز
وَقد صرح الإِمَام بذلك فِي الشَّامِل ودعواه أَن مِمَّا يحِيل دُخُول مَا لَا يتناهى فِي الْوُجُود وُقُوع تقديرات غير متناهية فِي الْعلم دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا فَمن أَيْن يلْزم من كَون الْمَوْجُود متناهي الْعدَد أَن يكون الْمَعْلُوم متناهيا وَقَوله إِن دُخُول مَا لَا يتناهى فِي الْوُجُود مُسْتَحِيل كَلَام ممجمج فَإِنَّهُ دخل وَخرج عَن كَونه غير متناه
وَلَئِن عَنى بِغَيْر المتناهي الَّذِي لَا آخر لَهُ فنعيم أهل الْجنَّة يدْخل فِي الْوُجُود وَهُوَ لَا يتناهى
وَإِن عَنى مَا لَا يُحِيط الْعلم بجملته فَإِن أَرَادَ علم الْبشر فَصَحِيح لِأَن علمهمْ يقصر عَن إِدْرَاك مَا لَا يتناهى مفصلا وَإِن عَنى علم الْبَارِي فَمَمْنُوع بل هُوَ مُحِيط بِمَا لَا يتناهى مفصلا
وَسمعت بعض الْفُضَلَاء يَقُول إِن الإِمَام لم يتَكَلَّم فِي هَذَا الْفَصْل إِلَّا فِي الْعلم الْحَادِث دون الْعلم الْقَدِيم
وَفِي هَذَا نظر
فَهَذَا مُنْتَهى الْكَلَام على كَلَامه وَلَا أَقُول إِنَّه مُرَاده وَإِنَّمَا أَقُول هَذَا مَا يدل عَلَيْهِ كَلَامه هُنَا وَلَيْسَ هُوَ من الْعَظِيمَة فِي الدّين فِي شَيْء وَلَا خَارِجا عَن قَول الْمُسلمين حَتَّى يجعلهم فِي جَانب وَالْإِمَام فِي جَانب وَإِنَّمَا الْعَظِيمَة فِي الدّين وَالسوء فِي الْفَهم أَن يظنّ الْعَاقِل انسلال إِمَام الْحَرَمَيْنِ من ربقة الْمُسلمين وَلَا يحل لأحد أَن ينْسب إِلَيْهِ أَنه قَالَ إِن الله لَا يُحِيط علما بالجزئيات من هَذَا الْكَلَام
وَأما اعتذار الْمَازرِيّ بِأَنَّهُ خَاضَ فِي عُلُوم من الفلسفة إِلَى آخِره فَهَذَا الْعذر أَشد من الذَّنب
ثمَّ قَالَ الْمَازرِيّ فِي آخر كَلَامه لَعَلَّ أَبَا الْمَعَالِي لَا يُخَالف فِي شَيْء من هَذِه الْحَقَائِق وَإِنَّمَا يُرِيد الْإِشَارَة إِلَى معنى آخر وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يحْتَملهُ قَوْله إِلَّا على استكراه وتعنيف
وَنحن نقُول إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى معنى آخر وَقد أريناكه وَاضحا
وَقَالَ الشريف أَبُو يحيى بعد مَا نَالَ من الإِمَام وأفرط تبعا للمازري يُمكن الِاعْتِذَار عَن الإِمَام فِي قَوْله يَسْتَحِيل تعلق علم الْبَارِي تَعَالَى بِمَا لَا يتناهى آحادا على التَّفْصِيل بل يسترسل عَلَيْهَا استرسالا بتمهيد أَمر وَهُوَ أَن الْحَد الْحَقِيقِيّ فِي المثلين أَن يُقَال هما الموجودان اللَّذَان تعددا فِي الْحس واتحدا فِي الْعقل وحد الخلافين أَنَّهُمَا الموجودان المتعددان فِي الْحس وَالْعقل أَلا ترى أَن البياضين والسوادين وَغَيرهمَا من المثلين متعددان فِي الْحس بِالْمحل وَفِي الْعقل متحدان والسواد وَالْبَيَاض وَغير ذَلِك من المختلفات متعددان حسا وعقلا
وَإِذا تقرر هَذَا فَيمكن أَن يُقَال إِنَّمَا أَرَادَ بقوله يسترسل عَلَيْهَا استرسالا للأمثال المتفقة فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بهَا بِاعْتِبَار حَقِيقَتهَا تعلقا وَاحِدًا فَإِن حَقِيقَتهَا وَاحِدَة كالبياض مثلا فَإِن آحاده لَا تخْتَلف حَقِيقَة فَعبر عَن هَذَا بتعلق الْعلم بالأمثال جملَة يُرِيد الْعلم بالحادث وَإِن كَانَ الْعلم الْقَدِيم يفصل مَا يَقع مِنْهَا مِمَّا علم أَنه يَقع فِي زمَان دون زمَان وَمحل دون مَحل
انْتهى