الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مد الْبَحْر عَن مدى عبابه غير متلعثم فِي الْكَلَام وَلَا مُحْتَاج إِلَى اسْتِدْرَاك عَثْرَة فِي لَفْظَة جرت على غير النظام بل جَار كالسيل منحدرا والبرق إِذا سرى
يعلم المتعمقون أَنه لَا يدْرك لَهُ حد ويعترف المبرزون بِأَنَّهُ عمل صَالحا وَأحسن فِي السرد
قَالَ الثِّقَات إِن مَا يُوجد فِي مصنفاته من الْعبارَات قَطْرَة من سيل كَانَ يجريه لِسَانه على شَفَتَيْه عِنْد المذاكرة وغرفة من بَحر كَانَ يفِيض من فَمه فِي مجَالِس المناظرة
وَأَقُول من ظن أَن فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من يداني فَصَاحَته فَلَيْسَ على بَصِيرَة من أمره وَمن حسب أَن فِي المصنفين من يحاكي بلاغته فَلَيْسَ يدْرِي مَا يَقُول
شرح حَال ابْتِدَاء الإِمَام
ولد فِي ثامن عشر الْمحرم سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة واعتنى بِهِ وَالِده من صغره لَا بل من قبل مولده
وَذَلِكَ أَن أَبَاهُ اكْتسب من عمل يَده مَالا خَالِصا من الشُّبْهَة اتَّصل بِهِ إِلَى والدته فَلَمَّا وَلدته لَهُ حرص على أَن لَا يطعمهُ مَا فِيهِ شُبْهَة فَلم يمازح بَاطِنه إِلَّا الْحَلَال الْخَالِص حَتَّى يحْكى أَنه تلجلج مرّة فِي مجْلِس مناظرة فَقيل لَهُ يَا إِمَام مَا هَذَا الَّذِي لم يعْهَد مِنْك فَقَالَ مَا أَرَاهَا إِلَّا آثَار بقايا المصة
قيل وَمَا نبأ هَذِه المصة قَالَ إِن أُمِّي اشتغلت فِي طَعَام تطبخه لأبي وَأَنا رَضِيع فَبَكَيْت وَكَانَت عندنَا جَارِيَة مُرْضِعَة لجيراننا فأرضعتني مصة أَو مصتين وَدخل وَالِدي فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ هَذِه الْجَارِيَة لَيست ملكا لنا وَلَيْسَ لَهَا أَن تتصرف فِي لَبنهَا وأصحابها لم يأذنوا فِي ذَلِك
وقلبني وفوعني حَتَّى لم يدع فِي باطني شَيْئا إِلَّا أخرجه وَهَذِه اللجلجة من بقايا تِلْكَ الْآثَار
فَانْظُر إِلَى هَذَا الْأَمر العجيب وَإِلَى هَذَا الرجل الْغَرِيب الَّذِي يُحَاسب نَفسه على يسير جرى فِي زمن الصِّبَا الَّذِي لَا تَكْلِيف فِيهِ وَهَذَا يدنو مِمَّا حُكيَ عَن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه
ثمَّ أَخذ الإِمَام فِي الْفِقْه على وَالِده وَكَانَ وَالِده يعجب بِهِ وَيسر لما يرى فِيهِ من مخايل النجابة وأمارات الْفَلاح
وجد واجتهد فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف والأصولين وَغَيرهَا وشاع اسْمه واشتهر فِي صباه وَضربت باسمه الْأَمْثَال حَتَّى صَار إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ وأوقف عُلَمَاء الْمشرق وَالْمغْرب معترفين بِالْعَجزِ بَين يَدَيْهِ وسلك طَرِيق الْبَحْث وَالنَّظَر وَالتَّحْقِيق بِحَيْثُ أربى على كثير من الْمُتَقَدِّمين وأنسى تَصَرُّفَات الْأَوَّلين وسعى فِي دين الله سعيا يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم الدّين
وَلَا يشك ذُو خبْرَة أَنه كَانَ أعلم أهل الأَرْض بالْكلَام وَالْأُصُول وَالْفِقْه وَأَكْثَرهم تَحْقِيقا بل الْكل من بحره يَغْتَرِفُونَ وَأَن الْوُجُود مَا أخرج بعده لَهُ نظيرا
وَأما التَّفْضِيل الَّذِي كَانَ بَينه وَبَين من تقدمه فقد طَال الشَّرْح فِيهِ فِي عصره وَلَا نرى للبحث عَن ذَلِك معنى
ثمَّ توفّي وَالِده وسنه نَحْو الْعشْرين وَهُوَ مَعَ ذَلِك من الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين فَأقْعدَ مَكَانَهُ فِي التدريس فَكَانَ يدرس ثمَّ يذهب بعد ذَلِك إِلَى مدرسة الْبَيْهَقِيّ حَتَّى حصل الْأُصُول عِنْد أستاذه أبي الْقَاسِم الإسكاف الإسفرايني وَكَانَ يواظب على مَجْلِسه
قَالَ عبد الغافر الْفَارِسِي وَقد سمعته يَقُول فِي أثْنَاء كَلَامه كنت علقت عَلَيْهِ فِي الْأُصُول أَجزَاء مَعْدُودَة وطالعت فِي نَفسِي مائَة مجلدة
وَكَانَ يصل اللَّيْل بِالنَّهَارِ فِي التَّحْصِيل ويبكر كل يَوْم قبل الِاشْتِغَال بدرس نَفسه إِلَى مَسْجِد أبي عبد الله الْخَبَّازِي يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن ويقتبس من كل نوع من الْعُلُوم مَا يُمكنهُ مَعَ مواظبته على التدريس وَينْفق مَا وَرثهُ وَمَا كَانَ يدْخل لَهُ على المتفقهة ويجتهد فِي المناظرة ويواظب عَلَيْهَا إِلَى أَن ظهر التعصب بَين الْفَرِيقَيْنِ واضطربت الْأَحْوَال والأمور
قَالَ عبد الغافر فاضطر إِلَى السّفر وَالْخُرُوج عَن الْبَلَد فَخرج مَعَ الْمَشَايِخ إِلَى المعسكر وَخرج إِلَى بَغْدَاد يطوف مَعَ المعسكر ويلتقي بالأكابر من الْعلمَاء ويدارسهم ويناظرهم حَتَّى طَار ذكره فِي الأقطار وشاع ذكره واسْمه فَمَلَأ الديار ثمَّ زَمْزَم لَهُ الْحَادِي بِذكر زَمْزَم وناداه على بعد الديار الْبَيْت الْحَرَام فلبى وَأحرم وَتوجه حَاجا وجاور بِمَكَّة أَربع سِنِين يدرس ويفتي ويجتهد فِي الْعِبَادَة وَنشر الْعلم حَتَّى شرف بِهِ ذَلِك النادي وأشرقت تلاع ذَلِك الْوَادي وأسبلت عَلَيْهِ الْكَعْبَة ستورها وَأَقْبَلت عَلَيْهِ وَهُوَ يطوف بهَا كلما اسود جنح اللَّيَالِي بيض بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَة ديجورها وصفت نِيَّته مَعَ الله فَلَو كَانَت الصَّفَا ذَات لِسَان لشافهته جهارا وشكر لَهُ الْمَسْعَى بَين الصَّفَا والمروة إقبالا وإدبارا
ثمَّ عَاد إِلَى نيسابور بعد ولَايَة السُّلْطَان ألب أرسلان وتزين وَجه الْملك بِإِشَارَة نظام الْملك واستقرت أُمُور الْفَرِيقَيْنِ وَانْقطع التعصب
وَقد قدمنَا حِكَايَة الْفِتْنَة فِي تَرْجَمَة أبي سهل بن الْمُوفق
فبنيت لَهُ الْمدرسَة النظامية بنيسابور وأقعد للتدريس فِيهَا واستقامت أُمُور الطّلبَة وَبَقِي على ذَلِك قَرِيبا من ثَلَاثِينَ سنة غير مُزَاحم وَلَا مدافع مُسلما لَهُ الْمِحْرَاب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التَّذْكِير يَوْم الْجُمُعَة والمناظرة وهجرت الْمجَالِس من أَجله وانغمر غَيره من الْفُقَهَاء بِعِلْمِهِ وكسدت الْأَسْوَاق فِي جنبه ونفق سوق الْمُحَقِّقين من خواصه وتلامذته فظهرت تصانيفه وَحضر درسه الأكابر وَالْجمع الْعَظِيم من الطّلبَة وَكَانَ يقْعد بَين يَدَيْهِ كل يَوْم نَحْو من ثَلَاثمِائَة رجل من الْأَئِمَّة وَمن الطّلبَة وَاتفقَ لَهُ من الْمُوَاظبَة على التدريس والمناظرة مَا لم يعْهَد لغيره مَعَ الوجاهة الزَّائِدَة فِي الدُّنْيَا
وَسمع الحَدِيث فِي صباه من وَالِده وَمن أبي حسان مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُزَكي وَأبي سعد عبد الرَّحْمَن بن حمدَان النصروي وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن يحيى الْمُزَكي وَأبي سعد عبد الرَّحْمَن بن الْحسن بن عَلَيْك وَأبي عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد ابْن عبد الْعَزِيز النيلي وَغَيرهم
وَأَجَازَ لَهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ وَحدث
وروى عَنهُ زَاهِر الشحامي وَأَبُو عبد الله الفراوي وَإِسْمَاعِيل بن أبي صَالح الْمُؤَذّن وَغَيرهم
وَمن تصانيفه النِّهَايَة فِي الْفِقْه لم يصنف فِي الْمَذْهَب مثلهَا فِيمَا أَجْزم بِهِ
والشامل فِي أصُول الدّين
والبرهان فِي أصُول الْفِقْه
والإرشاد فِي أصُول الدّين
وَالتَّلْخِيص مُخْتَصر التَّقْرِيب والإرشاد أصُول فقه أَيْضا