الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفداً بهدايا إلى النجاشي ليطرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وعلى رأسهم جعفر رضي الله عنه، فطلب النجاشي ليسمع منهم، فتكلم جعفر رضي الله عنه فأحسن وأجاد.
فقد كان رضي الله عنه ذا حجة قوية دامغة، جعلت النجاشي يتأثر بقوله وحجته وقراءته للقرآن، واختياره المناسب للآيات التي تلاها على النجاشي.
وقد ركَّز رضي الله عنه على أنَّ الإسلام جاء بالخير كل الخير، ونهى عن كل شر، وبيَّن أن هذا هو نفس ما جاء به عيسى عليه السلام، وأنه ليس بدعاً من القول، وأنّه ليس أمراً مستحدثاً، فالعقيدة واحدة لكل الشرائع السماوية، ألا وهي توحيد الله سبحانه وعبادته لا شريك له، وهذا هو الذي تألفه الفطرة السليمة وطبيعة الإنسان السويَّة.
ورغم عدم استسلام وفد قريش ورجوعهم مرَّة أخرى للنجاشي ليوغروا صدره على المسلمين، إلا أنَّ تصدي جعفر رضي الله عنه لهم، وبيان إفكهم جعل وفد قريش يرجعون مغلوبين مهزومين، بفضل الله ثم بفضل قوة وحكمة جعفر رضي الله عنه.
وقد قضى بعد ذلك جعفر بن أبي طالب هو وزوجته والمؤمنون من الذين هاجروا إلى الحبشه، في رحاب النجاشي عشر سنوات آمنين مطمئنين.
فوائد من مواجهة جعفر لرسولَي قريش أمام النجاشي:
نستقي من مواجهة جعفر رضي الله عنه لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة الفوائد التالية:
1.
رغم أقلية المسلمين في الحبشة ووجودهم في بلد غير إسلامي، فقد
قاموا بالمشورة فيما بينهم، وتوحدت كلمتهم واجتمع أمرهم، وانتدبوا المتحدث باسمهم وكان جعفر رضي الله عنه، وهم في هذا كأنما يمثلون أوضاع الجاليات المسلمة في بلادٍ غير إسلامية كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم.
2.
لقد أحسن جعفر رضي الله عنه المقالة، وكان صاحب أسلوب مميز، فإنه بدأ كلامه بقوله:«أيها الملك» ، وهذا فيه تنزيلٌ للناس منازلهم، لكي يكون هناك رابط وجسر يمتد منه الحديث لتكوِّن أرضيَّة موحدَّة تؤدي إلى تأليف قلب المستمع، فيسمع ويصغي بكلِّه، وليس في هذا حرجٌ شرعيٌ، وليس فيه شيء من التعظيم لغير المسلم، بل فيه وصفٌ لحقيقته التي هو عليها، فهو ملك تلك البلاد.
3.
سرد جعفر رضي الله عنه عيوب وفواحش الجاهلية بأسلوب بليغ وصيغة موجزة، فلم يحتج النجاشي للسؤال بمزيد من التفاصيل عن الجاهلية التي كانوا فيها قبل الإسلام، هذا الأسلوب كان له الأثر البليغ في قلب النجاشي ممَّا جعله ينفر من الجاهلية ومساوئها، ثمَّ سرد رضي الله عنه بعد ذلك محاسن الإسلام التي هي مضاده لمساويء الجاهلية بنفس الأسلوب المُميَّز الذي تكلم فيه عن مساويء الجاهلية، فأوقع في ذهن النجاشي الصورة المتكاملة والمقارنة الموجزة لحالة المسلمين قبل وبعد الإسلام.
4.
قد يكون المغزى في إختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر رضي الله عنه كمتحدث باسم المهاجرين إلى الحبشة أمام النجاشي هو كونه ابن عم رسول الله ص فهو أعرف به وألزم له من غيره من بقية الصحابة الذين كانوا في الحبشة، فإخباره عن رسول الله صيكون عن بصيرة وعلم
وخبرة وقربٍ، أكثر من غيره، ولذلك قال:«بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه» .
5.
نرى في كلام جعفر أنه ذكر الجوانب الأخلاقية الإنسانية التي هي القاسم المشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً، من أصحاب الفطر السوية، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار، وتسلب أو تُميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام العظيمة، ولذلك قال: (وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات».
6.
أحسن جعفر رضي الله عنه ختام حواره مع النجاشي عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو أهلٌ له، من غير زيادة، ومن أخلاق المسلم الحق وإنصافه وعدله أن يذكر الحق والحقيقة الواقعية حتى وإن كانت هذه الحقيقة عند غير المسلم، ويتمثل هذا الأمر في قوله:(فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك; ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك)، وهذا ممَّا شجع النجاشي أن يسأله بلهفة: هل معك شيء مما جاءك به عن الله عز وجل؟
7.
الداعية إلى الله يجب أن يكون جاهزاً باستمرار، حاملا لأدوات الدعوة، مستوفياً شروط الداعية، متأهباً للأحداث الطارئة والجديدة، فلم يتلكأ جعفر رضي الله عنه عندما سُئل: هل معك شيء مما جاءك به عن الله عز وجل؟، فقال: نعم بثقة وثبات. فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، ولقد كان موفقاً في إختيار ماذا يقرأ؛ فإن في صدر سورة مريم قصة زكريا
ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه.
8.
أعداء الإسلام لا يستسلمون في كل زمان ومكان، فهدفهم الرئيسي هو إبادة الإسلام والمسلمين، حتى لو كانوا مختلفين مع حلفائهم في العقيدة والدين، فها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه داهية العرب لم يستسلم بعد إعطاء النجاشي الأمان للمسلمين، فذكر للنجاشي أمراً متعلقاً بالعقيدة والدين؟ لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة. فقد هدَّد عمرو وأقسم بإخبار النجاشي أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عليه السلام عبد، لعلمه أنهم يقولون بألوهية عيسى عليه السلام.
وهنا نرى ميلَ عمرو بن العاص وقد كان وثنياً مشركاً -حينها - للنصرانية.
فهو يريد الفتنة، وهذا ديدن أعداء الإسلام.
9.
ثبات جعفر رضي الله عنه حتى في المرة الثانية التي دعاهم فيها النجاشي، رغم أنَّ الدعوة الثانية كانت أصعب لما فيه من مساس بعقيدة النصارى والتي كان يدين بها النجاشي، فقد قال: نقول ما جاء به نبينا ص، فليس القول قولنا، وليس هو اجتهاد وإنما هو دين ووحي. فعيسى؛ عبد ورسول أرسله الله كما أرسل محمداً ص. وهو بهذا جمع محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة، فالله يبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها به بعض اليهود فلا عيسى عليه السلام ابن الله، ولا هو الله، بل هو بشر كسائر البشر، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
(1)
.
(1)
الثفروق بضم الفاء - قمع التمرة، أو ما يلتزق به قمعها، ويعني هنا الشيء اليسير.