الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولولا علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصدق إسلام النجاشي رحمه الله، لما أمر بالاستغفار له والصلاة عليه صلاة الغائب، خصوصاً أن المسافة بعيدة بين مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكان النجاشي، وما كان النجاشي ليُسلم لولا فضل الله عليه وهدايته له أولاً، ثمَّ قوة تأثير شخصية جعفر الدعويَّة رضي الله عنه، التي تأثر بها النجاشي رحمه الله حتى مات على الإسلام.
وهذا إن دلَّ فإنما يدل على عمق أسلوب جعفر رضي الله عنه الدعوي وحجته القويَّة المقنعة التي جعلت ملكاً من الملوك يسلم على يديه. فلا عجب أن يكون أميراً على المسلمين في هجرتهم إلى الحبشة.
وفي هذا معجزة عظيمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أعلم أصحابه بموت النجاشي، في اليوم الذي مات فيه، مع البعد الكبير في المسافة بين أرض الحبشة والمدينة.
وفاته رضي الله عنه
-:
استُشهد رضي الله عنه في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة
(1)
.
ويذهب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسماء بنت عميس زوج جعفر الطيار الشهيد رضي الله عنه، ليُبلّغها خبر استشهاده وعيناه تهراقان الدموع، فيا له من مشهد يجعل العيون تدمع والقلوب تحزن لفراق جعفر رضي الله عنه.
فعن عبد الله بن جعفر قال: «أنا أحفظ حين دخل النبى صلى الله عليه وآله وسلم على أمي ينعى لها
…
أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته، ثم قال: اللهم إن جعفراً قد قدم إلى
(1)
تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني (1/ 162).
أحسن الثواب فاخلفه في ذريته ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته، ثم قال: يا أسماء ألا أبشرك، قالت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة، قالت: بأبي وأمي يا رسول الله فأعلم الناس بذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقى على المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثير بأخيه وابن عمه إلا أن جعفراً قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما فى الجنة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعام يصنع لأهلي وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداء طيباً ومباركاً، عمدت خادمته سلمى إلى شعير فطحنته، ثم نسفته ثم أنضجته وآدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا، فتغديت أنا وأخي معه، فأقمنا ثلاثة أيام فى بيته ندور معه كلما صار فى بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أساوم بشاة أخ لي فقال: اللهم بارك له في صفقته، فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك لي فيه»
(1)
.
وعن عمرة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها قالت: «لما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن
(2)
وأنا أنظر من صائر الباب -شق الباب- فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن. فأمره أن ينهاهن، فذهب ثم أتاه الثانية، لم يطعنه، فقال:«انههن» . فأتاه الثالثة، قال: والله لقد غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال:«فاحث في أفواههن التراب» . فقلت: أرغم الله أنفك لم تفعل ما أمرك
(1)
أخرجه ابن عساكر (27/ 257)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 371).
(2)
يعرف فيه الحزن: للرحمة التي في قلبه ولا ينافي هذا الرضى بقضاء الله.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العناء
(1)
(2)
.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمهل آل جعفر ثلاثا، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم. ثم قال: ادعوا لي بني أخي فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: ادعوا لي الحلاق. فأمره فحلق رؤوسنا»
(3)
.
عن أسماء بنت عميس قالت: «لما أصيب جعفر رضي الله عنه أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تَسَلَّبي
(4)
ثلاثا ثم اصنعي ما شئت»
(5)
.
عن أبي إسحاق قال: أخبرنا أبو ميسرة: «أنه لما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل
(1)
العناء: التعب.
(2)
أخرجه البخاري (1/ 437)، رقم (1237)، ومسلم (2/ 644)، رقم (935)، والنسائي (4/ 313)، رقم (1847)، وأحمد (6/ 276)، رقم (26406).
(3)
أخرجه أبو داود (4/ 83)، رقم (4192)، والنسائي (8/ 182)، رقم (5227)، وأحمد (1/ 204)، رقم (1750)، والطبرانى (2/ 105)، رقم (1461)، وابن عساكر (27/ 254)، قال النووي في رياض الصالحين (528):«إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم» وصححه أيضاً في المجموع شرح المهذب (1/ 296)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 159)«رجاله رجال الصحيح» ، وصحح إسناده أحمد شاكر في مسند أحمد (3/ 192)، قال الألباني في أحكام الجنائز (32) و (209)«إسناده صحيح على شرط مسلم» ، وصححه أيضاً في أبي داود (4192)، وفي النسائي (5227)، قال شعيب الأرنؤوط في مسند أحمد (1750):«إسناده صحيح على شرط مسلم» ، قال الوادعي في الصحيح المسند (560) و (561)«إسناده صحيح على شرط مسلم» .
(4)
أي إلبسي ثوب الحِداد.
(5)
أخرجه أحمد (6/ 438)، رقم (27508)، والبيهقى (7/ 438)، رقم (15300)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 106):«رجال أحمد رجال الصحيح» ، قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 429): بعدما ذكر الحديث الذي أخرجه أحمد «قوي الإسناد» ، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (3226).
جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة ذكر أمرهم فقال: «اللهم اغفر لزيد- ثلاثا، اللهم اغفر لجعفر ولعبد الله بن رواحة»
(1)
.
ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعي جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة بكى وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي
(2)
.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «كنت فيهم فى تلك الغزوة
(3)
فالتمسنا جعفر بن أبى طالب، فوجدناه فى القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية»
(4)
.
وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: «ضرب جعفر بن أبي طالب رجل من الروم فقطعه بنصفين فوقع إحدى نصفيه في كرم فوجد في نصفه ثلاثون أو بضع وثلاثون جرحا»
(5)
.
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جعفر وصاحبيه يشربون من خمر الجنة:
«بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: إنا سنسهله لك. فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، فإذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما. قال: قلت: مَن
(1)
أخرجه ابن سعد (3/ 46)، وابن أبي شيبة (7/ 515)، ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.
(2)
الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 162)، وأسد الغابة لابن الأثير (1/ 396).
(3)
غزوة مؤتة التي استشهد فيها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (5/ 182)، رقم (4261)، وابن أبي شيبة (8/ 550).
(5)
أخرجه الحاكم (3/ 230).
هؤلاء؟ قيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم. فقال: خابت اليهود والنصارى، فقال سليم: ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله أم شيء من رأيه ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا، وأنتنه ريحا، وأسوأه منظرا. فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء قتلى الكفار. ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا، وأنتنه ريحا، كأن ريحهم المراحيض. قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني. ثم انطلق بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات. قلت: ما بال هؤلاء؟ قيل: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن. ثم انطلق بي فإذا أنا بغلمان يلعبون بين نهرين. قلت: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء ذراري المؤمنين. ثم شرف بي شرفا، فإذا أنا بثلاثة يشربون من خمر لهم. قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جعفر، وزيد، وابن رواحة. ثم شرف بي شرفا آخر، فإذا أنا بنفر ثلاثة. قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيم، وموسى، وعيسى، وهم ينتظرونك)
(1)
.
وهكذا وبعد حياة مليئة بالدعوة والجهاد في سبيل الله، استُشهد جعفر استشهاد الأبطال كما رأينا، وكان موته رضي الله عنه من أعظم موتات البشر.
بعد أن كانت سيوف أعدائه ورماحهم طريقاً عبر عليه رضي الله عنه ليحوز على
(1)
أخرجه ابن حبان (16/ 536، رقم 7491)، والحاكم (2/ 228)، رقم (2837) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه و قد احتج البخاري بجميع رواته غير سليم بن عامر و قد احتج به مسلم ووافقه الذهبي في التلخيص، وأخرجه أيضاً الطبراني في المعجم الكبير (8/ 157)، رقم (7667)، والنسائي في الكبرى (3273)، وابن خزيمة (1986)، قال= =المنذري في الترغيب والترهيب:«لا علة له» ، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2393):«صحيح» ، والسلسلة الصحيحة (3951)، قال الوادعي في الصحيح المسند (483):«صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» .
الشهادة في سبيل الله.
ذهب ومضى أبو المساكين رضي الله عنه والمساكين يندبون فقده، وذهب فارس الفرسان، والشجعان يندبون فقده.
وأنبأ العليم الخبير رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى، وبشَّر آل جعفر باستشهاده وأنه يطير في الجنة.
وكان لجعفر يوم توفي إحدى وأربعين سنة
(1)
، ويقال: عاش بضعا وثلاثين
…
سنة رضي الله عنه
(2)
، وقيل غير ذلك رضي الله عنه
(3)
.
قال أبو الفرج الأصبهاني: قال علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: قتل جعفر وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة. وهذا عندي شبيه بالوهم؛ لأنه قتل في سنة ثمان من الهجرة، وبين ذلك الوقت وبين مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرون سنة، وهو أسن من أخيه أمير المؤمنين علي عليه السلام بعشر سنين، وكان لعلي حين أسلم سنون مختلفة في عددها فالمكثر يقول كانت خمس عشرة، والمقلل يقول سبع سنين. وكان إسلامه في السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا خلاف في ذلك. وعلى أي الروايات قيس أمره علم أنه كان عند مقتله قد تجاوز هذا المقدار من السنين
(4)
.
(1)
قاله: الزبير بن بكار، انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 73).
(2)
سير أعلام النبلاء (1/ 212).
(3)
أسد الغابة (1/ 182)، الاستيعاب (1/ 73)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 196).
(4)
مقاتل الطالبيين للأصبهاني (8).