الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يحدث حوله من أحداث شعوب العالم، وكيف لفت انتباه الداعية الصحابي جعفر لأن ينظر في هذه الأحداث ويستغلها، لأن الداعية يحتاج لأن يعرف طبيعة البلد التي يجب أن يدعو فيها، ومن هنا جاء سؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجعفر عن أعجب ما رأى في الحبشة والتي كانت بيئة جعفر رضي الله عنه الدعوية، فهو صلى الله عليه وآله وسلم معلِّم البشرية، وجعفر رضي الله عنه صاحبه والمتلقِّي من معلمه الأكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1)
(2)
.
موقعة مؤتة
(3)
:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ - بعد فتح مكّة - يُراسل ملوكَ العالَم يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم ملك بُصرى إذْ أرسل إليه الحرثَ بن عُمَير الأزديّ، فعرض له شُرَحبيلُ بن عمرو فقتله بعد أن عَرَفه أنّه من رُسُل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك بداية للحرب، وموقعة مؤتة.
(1)
غير متعتع: دون أن يصيبه أذى أو ضرر.
(2)
انظر تخريج الحديث تحت عنوان: «الأحاديث الصحيحة في ذكر جعفر رضي الله عنه حديث رقم (13).
(3)
مؤتة: قرية من قرى البَلْقاء على حدود الشام، وهي اليوم معروفة في دولة الأُردنّ.
لم يشارك جعفر رضي الله عنه في أي معركة قبل سنة ثمان للهجرة، وذلك لأنه كان في الحبشة، فقد كان يتمنى ويتلهف شوقاً أن يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، للفوز بالشهادة والجنة، بل كانت تتوق نفسه لأعلى الجنان، بعد أن امتلأت نفسه روعة بما سمع من أنباء إخوانه المؤمنين من الصحابة الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوة بدر، وأحد وغيرهما من المشاهد والمغازي التي لم يشارك فيها جعفر رضي الله عنه.
لقد كان رضي الله عنه ينتظر اللحظة الحاسمة، ليلحق بركب من سبقه من الشهداء، فقد أراد إحدى الحسنيين، فإمّا أن يحقق فيها نصراً كبيرا لدين الله، وإمّا أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله.
ولم يطل انتظاره رضي الله عنه ولم يطل مكثه في المدينة بعد قدومه من الحبشة، فقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة ثمان للهجرة إلى موقعة مؤتة، ليكون ثاني قائد لها بعد زيد بن حارثة رضي الله عنه.
(وهي أول تحرك عسكري للمسلمين خارج الجزيرة العربية، لمقاتلة ومنازلة الروم.
وهي المعركة الوحيدة التي أمّر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أمراء، وهي أيضاً الوحيدة التي نصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نتيجتها وخبرها وحياً وقت وقوعها قبل عودة الصحابة ورجوعهم رضوان الله عليهم أجمعين)
(1)
.
وكان جعفر يعلم علم اليقين، أنها حرب ضارية، لم يخض المسلمون مثلها من قبل، إنها معركة مع امبراطورية الروم، التي تمتلك من العدة والعتاد ما لا
(1)
من دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح.
يستطيع لأي جيش أن يصمد أمامها، ومع هذا كان رضي الله عنه من أشد المسلمين فرحاً بكونه ثاني ثلاثة جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قواداً للجيش وأمراءه.
فعن عروة بن الزبير قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن
أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس»
(1)
.
(2)
.
وبلغ المسلمين أنّ هرقل قد نزل أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من نصارى العرب من قبائل لَخْم وجُذام وقُضاعة وغيرها، مقابل ثلاثة آلاف من المسلمين الشجعان المجاهدين في سبيل الله، من حملة القرآن الكريم.
فهل أخذت جعفر رضي الله عنه الرهبة عندما بَصر جيش الروم بهذا العدد الضخم مقابل عدد المسلمين القليل؟
لا، بل على العكس من ذلك، فقد أخذته نشوة عارمة إذ أحسّ بلذة القتال في سبيل الله، فازداد حماساً إلى حماس.
(1)
أخرجه ابن هشام في السيرة (2/ 373)، والطبراني (5/ 84)، رقم (4655)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 231):«رواه الطبراني ورجاله ثقات إلى عروة» .
(2)
أخرجه ابن هشام في السيرة (2/ 377).
قال ابن إسحاق: «تم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية
…
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى شاط
(1)
في رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه
(2)
القتال اقتحم عن فرس
(3)
له شقراء، فعقرها
(4)
، ثم قاتل القوم حتى قتل»
(5)
.
نعم فما كادت الراية توشك على السقوط من يد زيد بن حارثة رضي الله عنه، حتى تلقاها جعفر بيده ومضى يقاتل بها في إقدام لا مثيل له، نعم إنه يبحث عن الشهادة.
ولم تكن قيادة جعفر رضي الله عنه بمعزل بل كانت في مقدمة الصفوف.
وبعد أن عقر فرسه، انطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه كالإعصار، وراح يصوِّب سيفه ويسدده إلى نحور أعدائه، من غير توقف، لا يبالي بطعناتهم، ولا ضرباتهم، رغم كثرتها، فإنه ثابت رضي الله عنه حتى آخر رمق.
(6)
.
(1)
يقال شاط الرجل: إذا سال دمه فهلك.
(2)
ألحمه القتال: نشب فيه فلم يجد مخلصاً.
(3)
اقتحم عن فرس: رمى بنفسه عنها.
(4)
عقرها: ضرب قوائمها وهي قائمة بالسيف.
(5)
أخرجه ابن هشام في السيرة (2/ 378).
(6)
أخرجه ابن هشام في السيرة (2/ 378).
وهذا دليل شجاعة وإقدامٍ وثباتٍ وقوة إيمانٍ ويقينٍ وفروسيةٍ من جعفر رضي الله عنهم وأرضاه.
وهكذا تركّزت كل مسؤولية جعفر رضي الله عنه في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلامس التراب وهو حيّ، حتى حين تكوَّمت جثته الطاهرة رضي الله عنه، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، وتمسَّك بها إلى آخر لحظة في حياته غير مبالٍ بطعنات أعدائه.
ثم شق الصفوف عبدالله بن رواحة رضي الله عنه كالسهم متجهاً لحمل الراية، وأخذها وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد.
فعن أنس رضي الله عنهم: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)
(1)
.
وعن أبي قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيش الأمراء فقال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري، فوثب جعفر فقال: بأبي
(1)
أخرجه البخاري (4/ 1554) رقم (4014)، قال ابن إسحاق: «ولما أصيب القوم قال
…
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم قال لقد رفعوا إلي في الجنة»، أخرجه ابن هشام في السيرة (2/ 379).
أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً، قال: امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير، فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صعد المنبر، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ناب خير، أو بات خير، أو ثاب خير - شك عبد الرحمن يعني ابن مهدي-، ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فأصيب زيد شهيداً، فاستغفروا له - ثم أخذا اللواء جعفر بن أبي طالب، فشد على القوم حتى قتل شهيداً، أشهد له بالشهادة، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد ابن الوليد - ولم يكن من الأمراء، هو أمر نفسه - ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبعيه فقال: اللهم هو سيف من سيوفك، فانصره - فمن يومئذ سمي خالد سيف الله
(1)
- ثم قال: انفروا فأمدوا إخوانكم، ولا يتخلفن أحد، فنفر الناس في حر شديد مشاة وركبانا»
(2)
.
روى البخاري رواية يظهر فيها مدى حزن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جعفر وصاحبيه رضي الله عنهم، حتى أنَّه سال الدمع من عينيه الشريفتين:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب- وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتذرفان
(3)
- ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له»
(4)
.
(1)
هذا يبيّن فضيلة خالد بن الوليد رضي الله عنه.
(2)
انظر تخريج الحديث تحت عنوان: «الأحاديث الصّحيحة في ذكر جعفر رضي الله عنه» ، حديث رقم (3).
(3)
تذرفان: أي تدفعان الدمع.
(4)
أخرجه البخاري (1/ 420، رقم 1189).