الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْن أبي ليلى، وَهُوَ ثِقَة عِنْد الْكل. قلت: ذكر الطَّحَاوِيّ ابْن أبي ليلى بِفساد حفظه وَضعه يدل على أَنه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، إِذْ لَو كَانَ هُوَ عبد الله بن عِيسَى لما ذكره هَكَذَا، على أَنا نقُول: قد قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: عبد الله بن عِيسَى بن أبي ليلى عِنْدِي مُنكر، وَكَانَ يتشيع، وَأَيْضًا فَالْحَدِيث الَّذِي فِيهِ عبد الله بن عِيسَى لَيْسَ بمرفوع، بِخِلَاف الحَدِيث الَّذِي ذكره الطَّحَاوِيّ وَقد اخْتلفُوا فِي قَول الصَّحَابِيّ: أمرنَا بِكَذَا ونهينا عَن كَذَا، هَل لَهُ حكم الرّفْع؟ على أَقْوَال: ثَالِثهَا إِن أَضَافَهُ إِلَى عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلهُ حكم الرّفْع، وإلَاّ فَلَا. وَاخْتلف التَّرْجِيح فِيمَا إِذا لم يضفه ويلتحق بِهِ، رخص لنا فِي كَذَا، أَو عزم علينا أَن لَا نَفْعل كَذَا. فَالْكل فِي الحكم سَوَاء، وَقد حصل الْجَواب عَن أثر عَائِشَة وَابْن عمر عِنْد ذكره عَن عبد الله بن عِيسَى.
9991 -
حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ الصِّيامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فإنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيا ولَمْ يَصُمْ صامَ أيَّامَ مِنىً.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (صَامَ أَيَّام منى)، لِأَنَّهُ يُوضح إِطْلَاق التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله:(الصّيام) أَي: الصّيام الَّذِي يفعل للمتمتع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج يَنْتَهِي إِلَى يَوْم عَرَفَة، فَإِن لم يجد هَديا، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ:(فَمن لم يجد)، وَكَذَا هُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) . قَوْله:(صَامَ أَيَّام منى) وَهِي أَيَّام التَّشْرِيق، فَهَذَا وَالَّذِي قبله من الْحَدِيثين يدل على جَوَاز الصَّوْم للمتمتع الَّذِي لَا يجد الْهَدْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَإِلَيْهِ مَال البُخَارِيّ، وَعَن هَذَا قَالَ بَعضهم: ويترجح الْجَوَاز. قلت: كَيفَ يتَرَجَّح الْجَوَاز مَعَ رِوَايَة جمَاعَة من الصَّحَابَة مَا يناهز ثَلَاثِينَ صحابيا النَّهْي عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الصَّوْم فِي أَيَّام التَّشْرِيق؟ وَمَعَ هَذَا فَالْبُخَارِي مَا روى فِي هَذَا الْبَاب إلَاّ ثَلَاثَة من الْآثَار مَوْقُوفَة.
وعَنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ مِثْلَهُ
أَي: وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة مثله، أَي: مثل مَا روى ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله بن عمر.
تابَعَهُ إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ
يَعْنِي: تَابع مَالِكًا إِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن فِي رِوَايَته عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَوَصله الشَّافِعِي، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم ابْن سعد عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، فِي الْمُتَمَتّع: إِذا لم يجد هَديا وَلم يصم قبل عَرَفَة فليصم أَيَّام منى وَعَن سَالم عَن أَبِيه مثله، وَوَصله الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن أَبِيه: أَنَّهُمَا كَانَ يرخصان للمتمتع إِذا لم يجد هَديا، وَلم يكن صَامَ قبل عَرَفَة، أَن يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق) . وَأخرجه ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن ابْن عمر نَحوه، وَالله أعلم.
96 -
(بابُ صِيامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: فِي بَيَان اشتقاق عَاشُورَاء ووزنه: فاشتقاقه من الْعشْر الَّذِي هُوَ اسْم للعدد الْمعِين، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: عَاشُورَاء معدول عَن عاشرة للْمُبَالَغَة والتعظيم، وَهُوَ فِي الأَصْل صفة لليلة الْعَاشِرَة، لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْعشْر الَّذِي هُوَ اسْم الْفِعْل، وَالْيَوْم مُضَاف إِلَيْهَا، فَإِذا قيل: يَوْم عَاشُورَاء فَكَأَنَّهُ قيل: يَوْم اللَّيْلَة الْعَاشِرَة، إلَاّ أَنهم لما عدلوا بِهِ عَن الصّفة غلبت عَلَيْهَا الإسمية، فاستغنوا عَن الْمَوْصُوف فحذفوا اللَّيْلَة، وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الْعشْر بِالْكَسْرِ فِي أوراد الْإِبِل: تَقول الْعَرَب: وَردت الْإِبِل عشرا إِذا وَردت الْيَوْم التَّاسِع، وَذَلِكَ لأَنهم يحسبون فِي الإظماء يَوْم الْورْد، فَإِذا قَامَت فِي الرَّعْي يَوْمَيْنِ ثمَّ وَردت فِي الثَّالِثَة، قَالُوا: وَردت ربعا وَإِن رعت ثَلَاثًا، وَفِي الرَّابِع وَردت خمْسا، لأَنهم حسبوا فِي كل هَذَا بَقِيَّة الْيَوْم الَّذِي وَردت فِيهِ قبل الرَّعْي، وَأول الْيَوْم الَّذِي ترد فِيهِ بعده، وعَلى هَذَا القَوْل يكون التَّاسِع عَاشُورَاء. وَأما وَزنه: ففاعولاء،
قَالَ أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: عَاشُورَاء مَمْدُود، وَلم يجىء فاعولاء فِي كَلَام الْعَرَب إلَاّ عَاشُورَاء، والضاروراء: اسْم الضراء، والساروراء اسْم للسراء، والدالولاء اسْم للدالة، وخابوراء اسْم مَوضِع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يَوْم عَاشُورَاء وعاسوراء ممدودان، وَفِي (تثقيف اللِّسَان) للحميري: عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: عاشورا بِالْقصرِ، وَرُوِيَ عَن أبي عمر، قَالَ: ذكر سِيبَوَيْهٍ فِيهِ الْقصر وَالْمدّ بِالْهَمْز، وَأهل الحَدِيث تَرَكُوهُ على الْقصر، وَقَالَ الْخَلِيل: بنوه على: فاعولاء، ممدودا لِأَنَّهَا كلمة عبرانية، وَفِي (الجمهرة) : هُوَ إسم إسلامي لَا يعرف فِي الْجَاهِلِيَّة، لِأَنَّهُ لَا يعرف فِي كَلَامهم: فاعولاء، ورد على هَذَا بِأَن الشَّارِع نطق بِهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابه. قَالُوا: بِأَن عَاشُورَاء كَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة، وَلَا يعرف إلَاّ بِهَذَا الإسم.
النَّوْع الثَّانِي: اخْتلفُوا فِيهِ فِي أَي يَوْم: فَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الْيَوْم الْعَاشِر، والاشتقاق يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَمن بعدهمْ، فَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ من الصَّحَابَة: عَائِشَة، وَمن التَّابِعين: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمن الْأَئِمَّة: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وأصحابهم، وَذهب ابْن عَبَّاس إِلَى أَن عَاشُورَاء هُوَ الْيَوْم التَّاسِع، وَفِي (المُصَنّف) : عَن الضَّحَّاك: عَاشُورَاء الْيَوْم التَّاسِع، وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ: هَل هُوَ الْيَوْم التَّاسِع أَو الْيَوْم الْعَاشِر أَو الْيَوْم الْحَادِي عشر؟ وَفِي (تَفْسِير أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي) : عَاشُورَاء يَوْم الْحَادِي عشر، وَكَذَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَاسْتحبَّ قوم صِيَام الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي رَافع صَاحب أبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه: كَانَ يَصُوم الْيَوْمَيْنِ خوفًا أَن يفوتهُ، وَكَانَ يَصُومهُ فِي السّفر، وَفعله ابْن شهَاب. وَصَامَ أَبُو إِسْحَاق عَاشُورَاء ثَلَاثَة أَيَّام: يَوْمًا قبله وَيَوْما بعده فِي طَرِيق مَكَّة، وَقَالَ: إِنَّمَا أَصوم قبله وَبعده كَرَاهِيَة أَن يفوتني، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا أَنه قَالَ: صُومُوا قبله يَوْمًا وَبعده يَوْمًا، وخالفوا الْيَهُود. وَفِي (الْمُحِيط) : وَكره إِفْرَاد يَوْم عَاشُورَاء بِالصَّوْمِ لأجل التَّشَبُّه باليهود، وَفِي (الْبَدَائِع) : وَكره بَعضهم إِفْرَاده بِالصَّوْمِ، وَلم يكرههُ عامتهم، لِأَنَّهُ من الْأَيَّام الفاضلة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي يَوْم عَاشُورَاء، أَي يَوْم هُوَ؟ حَدثنَا هناد وَأَبُو كريب، قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن حَاجِب بن عمر عَن الحكم بن الْأَعْرَج، قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى ابْن عَبَّاس وَهُوَ مُتَوَسِّد رِدَاءَهُ فِي زَمْزَم، فَقلت: أَخْبرنِي عَن يَوْم عَاشُورَاء أَي يَوْم أصومه؟ فَقَالَ: إِذا رَأَيْت هِلَال الْمحرم فأعدد، ثمَّ أصبح من الْيَوْم التَّاسِع صَائِما. قلت: أهكذا كَانَ يَصُومهُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نعم، حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عبد الْوَارِث عَن يُونُس عَن الْحسن عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِصَوْم يَوْم عَاشُورَاء الْيَوْم الْعَاشِر. قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث ابْن عَبَّاس حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس الأول رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد، وَالثَّانِي انْفَرد بِهِ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ مُنْقَطع بَين الْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ لم يسمع مِنْهُ، وَقَول التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن، لم يُوضح مُرَاده، أَي حَدِيثي ابْن عَبَّاس أَرَادَ؟ ! وَقد فهم أَصْحَاب الْأَطْرَاف أَنه أَرَادَ تَصْحِيح حَدِيثه الأول، فَذكرُوا كَلَامه هَذَا عقيب حَدِيثه الأول، فَتبين أَن الحَدِيث الثَّانِي مُنْقَطع وشاذ أَيْضا لمُخَالفَته للْحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَقَدّم. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَن عَاشُورَاء هُوَ التَّاسِع؟ قلت: أَرَادَ ابْن عَبَّاس من قَوْله: فَإِذا أَصبَحت من تاسعه فَأصْبح صَائِما، أَي: صم التَّاسِع مَعَ الْعَاشِر، وَأَرَادَ بقوله: نعم، مَا رُوِيَ من عزمه، صلى الله عليه وسلم، على صَوْم التَّاسِع من قَوْله: لأصومن التَّاسِع. وَقَالَ القَاضِي: وَلَعَلَّ ذَلِك على طَرِيق الْجمع مَعَ الْعَاشِر لِئَلَّا يتشبه باليهود، كَمَا ورد فِي رِوَايَة أُخْرَى:(فصوموا التَّاسِع والعاشر) ، وَذكر رزين هَذِه الرِّوَايَة عَن عَطاء عَنهُ، وَقيل: معنى قَول ابْن عَبَّاس: نعم، أَي نعم يَصُوم التَّاسِع لَو عَاشَ إِلَى الْعَام الْمقبل. وَقَالَ أَبُو عمر: وَهَذَا دَلِيل على أَنه، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُوم الْعَاشِر إِلَى أَن مَاتَ، وَلم يزل يَصُومهُ حَتَّى قدم الْمَدِينَة، وَذَلِكَ مَحْفُوظ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس مضطربة.
النَّوْع الثَّالِث: لِمَ سُمِّيَ الْيَوْم الْعَاشِر عَاشُورَاء؟ اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: لِأَنَّهُ عَاشر الْمحرم، وَهَذَا ظَاهر، وَقيل: لِأَن الله تَعَالَى أكْرم فِيهِ عشرَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بِعشر كرامات. الأول: مُوسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ نصر فِيهِ، وفلق الْبَحْر لَهُ، وغرق فِرْعَوْن وَجُنُوده. الثَّانِي: نوح عليه السلام اسْتَوَت سفينته على الجودي فِيهِ. الثَّالِث: يُونُس، عليه السلام،
أنجي فِيهِ من بطن الْحُوت. الرَّابِع: فِيهِ تَابَ الله على آدم عليه السلام، قَالَه عِكْرِمَة. الْخَامِس: يُوسُف عليه السلام، فَإِنَّهُ أخرج من الْجب فِيهِ. السَّادِس: عِيسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ ولد فِيهِ، وَفِيه رفع. السَّابِع: دَاوُد، عليه السلام، فِيهِ تَابَ الله عَلَيْهِ. الثَّامِن: إِبْرَاهِيم، عليه السلام، ولد فِيهِ. التَّاسِع: يَعْقُوب، عليه السلام، فِيهِ رد بَصَره. الْعَاشِر: نَبينَا مُحَمَّد، صلى الله عليه وسلم، فِيهِ غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر.
هَكَذَا ذكرُوا عشرَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: ذكر بَعضهم من الْعشْرَة: إِدْرِيس، عليه السلام، فَإِنَّهُ رفع إِلَى مَكَان فِي السَّمَاء، وَأَيوب، عليه السلام، فِيهِ كشف الله ضره، وَسليمَان؟ عليه السلام، فِيهِ أعطي الْملك.
النَّوْع الرَّابِع: اتّفق الْعلمَاء على أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء سنة وَلَيْسَ بِوَاجِب، وَاخْتلفُوا فِي حكمه أول الْإِسْلَام، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: كَانَ وَاجِبا، وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي على وَجْهَيْن: أشهرهما: أَنه لم يزل سنة من حِين شرع وَلم يَك وَاجِبا قطّ فِي هَذِه الْأمة، وَلكنه كَانَ يتَأَكَّد الِاسْتِحْبَاب، فَلَمَّا نزل صَوْم رَمَضَان صَار مُسْتَحبا دون ذَلِك الِاسْتِحْبَاب. وَالثَّانِي: كَانَ وَاجِبا كَقَوْل أبي حنيفَة، وَقَالَ عِيَاض: كَانَ بعض السّلف يَقُول: كَانَ فرضا وَهُوَ باقٍ على فرضيته لم ينْسَخ، قَالَ: وانقرض الْقَائِلُونَ بِهَذَا، وَحصل الْإِجْمَاع على أَنه لَيْسَ بِفَرْض، إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ.
النَّوْع الْخَامِس: فِي فضل صَوْمه، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي قَتَادَة أَن النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(صِيَام يَوْم عَاشُورَاء إِنِّي أحتسب على الله أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله) ، وَرَوَاهُ مُسلم وَابْن مَاجَه أَيْضا وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ:(يَوْم عَاشُورَاء تصومه الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فصوموه أَنْتُم) . وَفِي (كتاب الصّيام) للْقَاضِي يُوسُف، قَالَ ابْن عَبَّاس:(لَيْسَ ليَوْم فضل على يَوْم فِي الصّيام إلَاّ شهر رَمَضَان أَو يَوْم عَاشُورَاء) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:(سَأَلَ رجل النَّبِي، صلى الله عليه وسلم: أَي شَيْء تَأْمُرنِي أَن أَصوم بعد رَمَضَان؟ قَالَ: صم الْمحرم، فَإِنَّهُ شهر الله، وَفِيه يَوْم تَابَ فِيهِ على قوم وَيَتُوب فِيهِ على قوم آخَرين) . وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَعند النقاش فِي (كتاب عَاشُورَاء) :(من صَامَ عَاشُورَاء فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر كُله وَقَامَ ليله) . وَفِي لفظ: (من صَامَهُ يحْتَسب لَهُ بِأَلف سنة من سني الْآخِرَة) .
النَّوْع السَّادِس: مَا ورد فِي صَلَاة لَيْلَة عَاشُورَاء وَيَوْم عَاشُورَاء، وَفِي فضل الْكحل يَوْم عَاشُورَاء لَا يَصح، وَمن ذَلِك حَدِيث جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رَفعه:(من اكتحل بالإثمد يَوْم عَاشُورَاء لم يرمد أبدا) ، وَهُوَ حَدِيث مَوْضُوع، وَضَعفه قتلة الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: والاكتحال يَوْم عَاشُورَاء لم يروَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ أثر، وَهُوَ بِدعَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَمن أغرب مَا رُوِيَ فِيهِ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الصرد: إِنَّه أول طَائِر صَامَ عَاشُورَاء، وَهَذَا من قلَّة الْفَهم، فَإِن الطَّائِر لَا يُوصف بِالصَّوْمِ. قَالَ الْحَاكِم: وَضَعفه قتلة الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: إِطْلَاق الصَّوْم للطائر لَيْسَ بِوَجْه الصَّوْم الشَّرْعِيّ حَتَّى ينْسب قَائِله إِلَى قلَّة الْفَهم، وَإِنَّمَا غَرَضه أَن الطَّائِر أَيْضا يمسك عَن الْأكل يَوْم عَاشُورَاء تَعْظِيمًا لَهُ، وَذَلِكَ بإلهام من الله تَعَالَى، فَيدل ذَلِك على فَضله بِهَذَا الْوَجْه.
0002 -
حدَّثنا أبُو عاصِمٍ عنْ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدٍ عنُ سالِمٍ عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عاشُورَاءَ إنْ شاءَ صَامَ. (انْظُر الحَدِيث وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِيهَا، ثمَّ أَنه أورد فِيهِ أَحَادِيث وَقدم مِنْهَا مَا هُوَ دالٌّ على عدم وجوب صَوْم عَاشُورَاء، ثمَّ ذكر مَا يدل على التَّرْغِيب فِي صِيَامه.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك ابْن مخلد. الثَّانِي: عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر. الثَّالِث: سَالم بن عبد الله بن عمر. الرَّابِع: عبد الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِي رِوَايَة
مُسلم عَن أبي عَاصِم شيخ البُخَارِيّ فَصرحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيع إِسْنَاده. وَفِيه: رِوَايَة عمر عَن عَم أَبِيه سَالم بن عبد الله ابْن عمر. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية مدنيون.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن أَحْمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي عَن أبي عَاصِم شيخ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن شَاءَ صَامَ) ، كَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ من البُخَارِيّ مُخْتَصرا، وَعند ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن أبي مُوسَى عَن أبي عَاصِم بِلَفْظ:(إِن الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء، فَمن شَاءَ فليصمه وَمن شَاءَ فليفطره)، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ:(يَوْم عَاشُورَاء من شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ أفطره)، وَفِي رِوَايَة مُسلم:(ذكر عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاء فَقَالَ: كَانَ يَوْم يَصُومهُ أهل الْجَاهِلِيَّة، فَمن شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ تَركه) . وروى الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن عمر وَاللَّيْث بن سعد عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: من أحب مِنْكُم أَن يَصُوم يَوْم عَاشُورَاء فليصمه، وَمن لم يحب فليدعه) . وَأخرجه الدَّارمِيّ فِي (سنَنه) : أخبرنَا يعلى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، كَانَت قُرَيْش تصومه فِي الْجَاهِلِيَّة فَمن أحب مِنْكُم أَن يَصُومهُ فليصمه، وَمن أحب مِنْكُم أَن يتْركهُ فليتركه) . وَكَانَ ابْن عمر لَا يَصُوم إلَاّ أَن يُوَافق صِيَامه، وَهَذَا كُله يدل على الِاخْتِيَار فِي صَوْمه.
فَإِن قلت: قد مضى فِي أول كتاب الصَّوْم من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: (صَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاء وَأمر بصيامه فَلَمَّا فرض رَمَضَان تَركه) ، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ وَاجِبا، وَقد رُوِيَ فِي ذَلِك أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث حبيب بن هِنْد بن أَسمَاء عَن أَبِيه قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى قومِي من أسلم، فَقَالَ: قل لَهُم فليصوموا يَوْم عَاشُورَاء، فَمن وجدت مِنْهُم قد أكل فِي صدر يَوْمه فليصم آخِره) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) وَهَذَا أَيْضا يدل على أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا روح، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ هُوَ الْمنْهَال عَن عَمه قَالَ: (غدونا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صَبِيحَة يَوْم عَاشُورَاء، وَقد تغدينا، فَقَالَ: أصمتم هَذَا الْيَوْم فَقُلْنَا: قد تغدينا. فَقَالَ: أَتموا بَقِيَّة يومكم) . وَقد اسْتدلَّ بِهِ من كَانَ يَقُول: إنَّ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمرهم بإتمام بَقِيَّة يومهم ذَلِك بعد أَن تغدوا فِي أول يومهم، فَهَذَا لم يكن إلَاّ فِي الْوَاجِب. وَأجِيب: عَن هَذَا بِوُجُوه: الأول: قَالَه الْبَيْهَقِيّ: بِأَن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، لِأَن عبد الرَّحْمَن فِيهِ مَجْهُول ومختلف فِي اسْم أَبِيه، وَلَا يدْرِي من عَمه، ورد عَلَيْهِ بِأَن النَّسَائِيّ أخرجه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن هَذَا عَن عَمه (أَن أسلم أَتَت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أصمتم يومكم هَذَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوا) . وَعبد الرَّحْمَن بن سَلمَة وَيُقَال: ابْن مسلمة الْخُزَاعِيّ، وَيُقَال: ابْن منهال بن مسلمة الْخُزَاعِيّ ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَعَمه صَحَابِيّ لم يذكر اسْمه، وجهالة الصَّحَابِيّ لَا تضر صِحَة الحَدِيث. الْوَجْه الثَّانِي: مَا قيل بِأَن هَذَا كَانَ حكما خَاصّا بعاشوراء، ورخصة لَيست لسواه، وَزِيَادَة فِي فَضله وتأكيد صَوْمه، وَذهب إِلَى ذَلِك ابْن حبيب الْمَالِكِي. الْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ: كَانَ ذَلِك على معنى الِاسْتِحْبَاب والإرشاد لأوقات الْفضل، لِئَلَّا يغْفل عَنهُ عِنْد مصادفة وقته، ورد هَذَا أَيْضا بِأَن الظَّاهِر أَن هَذَا كَانَ لأجل فَرضِيَّة صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالنَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى:(فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوه) . فَهَذَا صَرِيح فِي دلَالَته على الْفَرْضِيَّة، لِأَن الْقَضَاء لَا يكون إلَاّ فِي الْوَاجِبَات.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي (زياداته على الْمسند) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُوم عَاشُورَاء وَيَأْمُر بصيامه، وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث مُحَمَّد بن صَيْفِي، قَالَ:(قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم عَاشُورَاء: مِنْكُم أحد طعم الْيَوْم؟ قُلْنَا: منا من طعم وَمنا من لم يطعم. قَالَ: أَتموا بَقِيَّة يومكم، من كَانَ طعم وَمن لم يطعم، فأرسلوا إِلَى أهل الْعرُوض فليتموا بَقِيَّة يومهم) . قَالَ: يَعْنِي بِأَهْل الْعرُوض حول الْمَدِينَة. وَمِنْهَا: حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، على مَا يَجِيء. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس على مَا يَجِيء. وَمِنْهَا: حَدِيث الرّبيع بنت معوذ على مَا يَجِيء. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن الزبير. قَالَ، وَهُوَ على الْمِنْبَر:(هَذَا يَوْم عَاشُورَاء فصوموه، فَإِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمر بصومه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث عَائِشَة بِلَفْظ: (أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بصيام عَاشُورَاء يَوْم الْعَاشِر) ، وَرِجَاله رجال
الصَّحِيح. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط أَن أَبَا مُوسَى قَالَ يَوْم عَاشُورَاء: (صُومُوا هَذَا الْيَوْم فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمرنَا بصومه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة سعيد بن الْمسيب أَنه سمع مُعَاوِيَة على الْمِنْبَر يَوْم عَاشُورَاء يَقُول: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمر بصيام هَذَا الْيَوْم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صَائِما يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ لأَصْحَابه:(من كَانَ أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن أكل من غداء أَهله فليتم بَقِيَّة يَوْمه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:(أمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِيَوْم عَاشُورَاء أَن نصومه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذكر يَوْم عَاشُورَاء فَعظم مِنْهُ، قُم قَالَ لمن حوله:(من كَانَ لم يطعم مِنْكُم فليصم يَوْمه هَذَا، وَمن كَانَ قد طعم مِنْكُم فليصم بَقِيَّة يَوْمه)، وَرِجَاله ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِلَفْظ: (بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَسمَاء بن عبد الله يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ: إئت قَوْمك، فَمن أدْركْت مِنْهُم لم يَأْكُل فليصم، وَمن طعم فليصم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث خباب بن الأرتَّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْم عَاشُورَاء: أَيهَا النَّاس {من كَانَ مِنْكُم أكل فَلَا يَأْكُل بَقِيَّة يَوْمه، وَمن نوى مِنْكُم الصَّوْم فليصمه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث معبد الْقرشِي أَنه قَالَ لرجل أَتَاهُ بِقديد: (أطعمت الْيَوْم شَيْئا؟ قَالَ: إِنِّي شربت مَاء} قَالَ: فَلَا تطعم شَيْئا حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَأمر من وَرَاءَك أَن يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم)، وَرِجَاله ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مجزأَة بن زَاهِر عَن أَبِيه بِلَفْظ: (سَمِعت مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ يَقُول: من كَانَ صَائِما الْيَوْم فليتم صَوْمه، وَمن لم يكن صَائِما فليتم مَا بَقِي، وليصم) وَرِجَال الْبَزَّار ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن بدر من رِوَايَة ابْنه بعجة: أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُم يَوْمًا: (هَذَا يَوْم عَاشُورَاء فصوموه) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث رزينة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرنَا بِصَوْم يَوْم عَاشُورَاء، ويحثنا عَلَيْهِ ويتعاهدنا عِنْده، فَلَمَّا فرض رَمَضَان لم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا عَنهُ، وَلم يتعاهدنا عِنْده، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث قيس بن سعد، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عَاشُورَاء، فَلَمَّا نزل رَمَضَان لم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا، وَنحن نفعله. وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن يزِيد قَالَ: دخل الْأَشْعَث بن قيس على عبد الله وَهُوَ يتغدى، فَقَالَ: يَا با مُحَمَّد ادن إِلَى الْغَدَاء! فَقَالَ: أوليس الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء؟ قَالَ: وَهل تَدْرِي مَا يَوْم عَاشُورَاء؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْم كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومهُ قبل أَن ينزل شهر رَمَضَان، فَلَمَّا نزل رَمَضَان ترك. وَقَالَ أَبُو كريب: تَركه.
فَفِي هَذِه الْآثَار نسخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَدَلِيل أَن صَوْمه قد رد إِلَى التَّطَوُّع بعد أَن كَانَ فرضا. وَاخْتلف أهل الْأُصُول أَن مَا كَانَ فرضا إِذا نسخ هَل تبقى الْإِبَاحَة أم لَا؟ وَهِي مَسْأَلَة مَشْهُورَة بَينهم، وَسَيَأْتِي أَن حَدِيث عَائِشَة وَمُعَاوِيَة يدلان على مَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة.
1002 -
حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَمر بِصِيامِ يَوْمِ عاشُورَاءَ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضانُ كانَ مَنْ شاءَ صامَ ومنْ شاءَ أفطَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد ذكر غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَهَذَا أَيْضا يدل على انتساخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَفرض رَمَضَان كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة.
2002 -
حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ يَوْمُ عاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجاهِلِيَّةِ وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ المَدينَةَ صامَهُ وأمَرَ بِصِيامِهِ فَلَمَّا فرِضَ رَمضانُ تَرَكَ يَوْمَ عاشُورَاءَ فَمَنْ شاءَ صامَهُ ومَنْ شاءَ تَرَكَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي مضى فِي أول الْبَاب، وَهُوَ طَرِيق آخر عَن عَائِشَة. قَوْله:(تصومه قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة)، يَعْنِي: قبل الْإِسْلَام. قَوْله: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومهُ)، يَعْنِي: قبل الْهِجْرَة، وَقَالَ بَعضهم: إِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يصومونه، وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، أَي: قبل أَن يُهَاجر إِلَى الْمَدِينَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام غير موجه لِأَن الْجَاهِلِيَّة إِنَّمَا هِيَ قبل الْبعْثَة، فَكيف يَقُول: وَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومهُ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ ثمَّ يفسره بقوله: أَي (قبل الْهِجْرَة) وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ نَبيا فِي مَكَّة ثَلَاثَة عشرَة سنة؟ فَكيف يُقَال: صَوْمه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَوْله: (فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة)، وَكَانَ قدومه فِي ربيع الأول. قَوْله:(صَامَهُ) أَي: صَامَ يَوْم عَاشُورَاء على عَادَته.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد البُخَارِيّ، وَهَذَا أَيْضا يدل على النّسخ.
ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بنَ أبِي سُفْيانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَوْمَ عاشُوراءَ عامَ حَجَّ عَلَى المِنْبَرِ يقُولُ يَا أهْلَ المَدِينَةِ أيْنَ عُلَماؤكُمْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا يَوْمُ عاشُوراءَ ولَمْ يُكْتَبُ عَلَيُكمَ صِيامهُ وَأَنا صَائِمٌ فَمَنْ شاءَ فَلْيَصُمْ ومنْ شاءَ فلْيُفْطِرْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة مَا قبله، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن حَرْمَلَة وَعَن أبي الطَّاهِر وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي.
قَوْله: (عَام حج) قَالَ الطَّبَرِيّ: أَي أول حجَّة حَجهَا مُعَاوِيَة بعد أَن اسْتخْلف، كَانَت فِي أَربع وَأَرْبَعين، وَآخر حجَّة حَجهَا سنة سبع وَخمسين. وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن المُرَاد بهَا فِي هَذَا الحَدِيث الْحجَّة الْأَخِيرَة. قلت: يحْتَمل هَذِه الْحجَّة وَيحْتَمل تِلْكَ الْحجَّة، وَلَا دَلِيل على الظُّهُور أَن حجَّته الَّتِي قَالَ فِيهَا مَا قَالَ كَانَت هِيَ الْأَخِيرَة. قَوْله:(على الْمِنْبَر) يتَعَلَّق بقوله: (سمع)، أَي: سَمعه حَال كَونه على الْمِنْبَر بِالْمَدِينَةِ، وَصرح يُونُس فِي رِوَايَته بِالْمَدِينَةِ، وَلَفظه: يُونُس عَن ابْن شهَاب قَالَ: (أَخْبرنِي حميد بن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان خَطِيبًا بِالْمَدِينَةِ) يَعْنِي: فِي قدمة قدمهَا خطبهم يَوْم عَاشُورَاء
…
الحَدِيث، رَوَاهُ مُسلم عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس. قَوْله:(أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟) قا النَّوَوِيّ الظَّاهِر إِنَّمَا قَالَ هَذَا لما سمع من يُوجِبهُ أَو يحرمه أَو يكرههُ، فَأَرَادَ إعلامهم بِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا محرم وَلَا مَكْرُوه. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يُرِيد استدعاء موافقتهم، أَو بلغه أَنهم يرَوْنَ صِيَامه فرضا أَو نفلا أَو للتبليغ. قَوْله:(لم يكْتب)، أَي: لم يكْتب الله تَعَالَى عَلَيْكُم صِيَامه، وَهَذَا كُله من كَلَام النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، كَمَا بَينه النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته. قَوْله:(وَأَنا صَائِم)، فِيهِ دَلِيل على فضل صَوْم يَوْم عَاشُورَاء لِأَنَّهُ لم يَخُصُّهُ بقوله:(وَأَنا صَائِم) إلَاّ لفضل فِيهِ، وَفِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة.
4002 -
حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدثنَا عَبدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الله ابنُ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قدِمَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ فرَأى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قالُوا هَذَا يَوْمٌ صالِحٌ هَذا يَوْمُ نَجَّى الله بَنِي إسْرَائيلَ مِنْ عَدُوهم فصَامَهُ مُوسَى قَالَ فأنَا أحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصامَهُ وأمَرَ بِصِيامِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا فِي مُطلق الصَّوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَهُوَ يتَنَاوَل كل صَوْم بِيَوْم عَاشُورَاء على أَي وصف كَانَ من الْوُجُوب والاستحباب وَالْكَرَاهَة، وَظَاهر حَدِيث ابْن عَبَّاس يدل على الْوُجُوب لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَ وَأمر بصيامه، وَلَكِن
نسخ الْوُجُوب وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، بعد أَن روى هَذَا الحَدِيث إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صَامَهُ شكرا لله تَعَالَى فِي إِظْهَار مُوسَى، عليه السلام، على فِرْعَوْن، فَذَلِك على الِاخْتِيَار لَا على الْفَرْض. انْتهى. قلت: وَفِيه بحث، لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: لَا نسلم أَن ذَلِك على الِاخْتِيَار دون الْفَرْض، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمر بصومه، وَالْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب، وَكَونه صَامَهُ شكرا لَا يُنَافِي كَونه للْوُجُوب كَمَا فِي سَجْدَة (ص) ، فَإِن أَصْلهَا للشكر مَعَ أَنَّهَا وَاجِبَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن سعيد بن جُبَير. الْخَامِس: سعيد بن جُبَير. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الروَاة الثَّلَاثَة الأول بصريون وَالثَّلَاثَة الْأُخَر كوفيون. وَفِيه: أَن عبد الْوَارِث رَاوِي أبي معمر شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: أَيُّوب عَن عبد الله بن سعيد، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من وَجه آخر: عَن سعيد بن جُبَير، وَالْمَحْفُوظ أَنه عَن أَيُّوب بِوَاسِطَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان وَعَن أسماعيل بن يَعْقُوب. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن سهل بن أبي سهل عَن سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَرَأى الْيَهُود تَصُوم)، وَفِي رِوَايَة مُسلم:(فَوجدَ الْيَهُود يَصُومُونَ)، وَفِي لفظ لَهُ:(فَوجدَ الْيَهُود صياما. قَوْله: (فَقَالَ: مَا هَذَا؟) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير طه: (فَسَأَلَهُمْ)، وَفِي رِوَايَة مُسلم:(فسئلوا عَن ذَلِك، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْم الَّذِي أظهر الله فِيهِ مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل على فِرْعَوْن وَنحن نصومه) . قَوْله: (فصَام) أَي: النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، تَعْظِيمًا لَهُ. وَفِي لفظ لَهُ:(قَالُوا: هَذَا يَوْم عَظِيم أنجى الله تَعَالَى فِيهِ مُوسَى وَقَومه وغرق فِرْعَوْن وَقَومه، فصامه مُوسَى، عليه الصلاة والسلام، شكرا، فَنحْن نصومه) . قَوْله: (فصامه) أَي: النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه صَامَهُ ابْتِدَاء، لِأَنَّهُ قد علم فِي حَدِيث آخر أَنه كَانَ يَصُومهُ قبل قدومه الْمَدِينَة، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ أَنه ثَبت على صِيَامه وداوم على مَا كَانَ عَلَيْهِ. قيل: يحْتَمل أَنه كَانَ يَصُومهُ بِمَكَّة ثمَّ ترك صَوْمه، ثمَّ لما علم مَا عِنْد أهل الْكتاب فِيهِ صَامَهُ. فَإِن قيل: ظَاهر أَن الْخَبَر يَقْتَضِي أَنه صلى الله عليه وسلم حِين قدم الْمَدِينَة وجد الْيَهُود صياما يَوْم عَاشُورَاء، وَالْحَال أَنه، صلى الله عليه وسلم، قدم الْمَدِينَة فِي ربيع الأول. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد أول علمه بذلك، وسؤاله عَنهُ بعد أَن قدم الْمَدِينَة لَا قبل أَن يقدمهَا علم ذَلِك، وَقيل: فِي الْكَلَام حذف تَقْدِيره: قدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة فَأَقَامَ إِلَى يَوْم عَاشُورَاء، فَوجدَ الْيَهُود فِيهِ صياما. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أُولَئِكَ الْيَهُود كَانُوا يحسبون يَوْم عَاشُورَاء بِحِسَاب السنين الشمسية، فصادف يَوْم عَاشُورَاء بحسابهم الْيَوْم الَّذِي قدم فِيهِ، صلى الله عليه وسلم، الْمَدِينَة. وَفِيه نظر لَا يخفى. قَوْله:(وَأمر بصيامه)، وللبخاري فِي تَفْسِير يُونُس من طَرِيق أبي بشر: (فَقَالَ لأَصْحَابه: أَنْتُم أَحَق بمُوسَى مِنْهُم فصوموه.
فَإِن قلت: خبر الْيَهُود غير مَقْبُول، فَكيف عمل، صلى الله عليه وسلم، بخبرهم؟ قلت: لَا يلْزم أَن يكون عمله فِي ذَلِك اعْتِمَادًا على خبرهم، لاحْتِمَال أَن الْوَحْي نزل حِينَئِذٍ على وفْق مَا حكوا من قصَّة هَذَا الْيَوْم. وَقيل: إِنَّمَا صَامَهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقيل: إِنَّه أخبرهُ من أسلم مِنْهُم، كَعبد الله بن سَلام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو كَانَ المخبرون من الْيَهُود عدد التَّوَاتُر، وَلَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر الْإِسْلَام، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قد ثَبت أَن قُريْشًا كَانَت تصومه، وَأَن النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَصُومهُ، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة صَامَهُ فَلم يحدث لَهُ صَوْم الْيَهُود حكما يحْتَاج إِلَى التَّكَلُّم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ صفة حَال وَجَوَاب سُؤال، فَدلَّ أَن قَوْله فِي الحَدِيث:(فصامه) لَيْسَ ابْتِدَاء صَوْمه بذلك حِينَئِذٍ، وَلَو كَانَ هَذَا لوَجَبَ أَن يُقَال: صحّح هَذَا مِمَّن أسلم من عُلَمَائهمْ وَوَثَّقَهُ مِمَّن هذاه من أَحْبَارهم كَابْن سَلام وَبني سعيد وَغَيرهم.
5002 -
حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا أبُو أُسامَةَ عنْ أبِي عُمَيْسٍ عنْ قيْس بنُ مُسْلِمٍ عنْ طارِقِ بنِ شِهابٍ عنْ أبِي موسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ يَوْمُ عاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدا قَالَ
النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصُومُوهُ أنْتُمْ. (الحَدِيث 5002 طرفه فِي: 2493) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصوموه أَنْتُم) ، فَإِنَّهُ من جملَة مَا يدْخل تَحت إِطْلَاق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة، واسْمه: حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث: أَبُو عُمَيْس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: واسْمه عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن عبد الله بن عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود الْهُذلِيّ المَسْعُودِيّ. الرَّابِع: قيس بن مُسلم الجدلي العدواني أَبُو عَمْرو. الْخَامِس: طَارق بن شهَاب بن عبد شمس البَجلِيّ الأحمسي أَبُو عبد الله الصَّحَابِيّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رأى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب إتْيَان الْيَهُود النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، عَن أَحْمد أَو مُحَمَّد بن عبد الله الغداني، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حُسَيْن بن حُرَيْث عَن أبي أُسَامَة عَن أبي عُمَيْس بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تعده الْيَهُود عيدا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تعظمه الْيَهُود وتتخذه عيدا) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: (كَانَ أهل خَيْبَر يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء يتخذونه عيدا، وَيلبسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حليهم وشارتهم) . قلت: شارتهم، بالشين الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف رَاء وَهُوَ بِالنّصب عطف على قَوْله:(حليهم)، وَهُوَ مَنْصُوب بقوله:(يلبسُونَ) ، من الإلباس، قَالَ ابْن الْأَثِير: أَي لباسهم الْحسن الْجَمِيل، وَقَالَ بَعضهم: شارتهم بالشين الْمُعْجَمَة أَي: هيئتهم الْحَسَنَة. قلت: هَذَا التَّفْسِير هُنَا بِهَذِهِ الْعبارَة خطأ فَاحش، وَالتَّفْسِير الصَّحِيح مَا قَالَه ابْن الْأَثِير، وَهُوَ أَن الشارة هُوَ اللبَاس الْحسن الْجَمِيل، وَالتَّفْسِير الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل تَفْسِير الشورة بِالضَّمِّ لِأَن الشورة هِيَ الْجمال والهيئة الْحَسَنَة، وَهنا الشارة وَقع مَفْعُولا لقَوْله:(يلبسُونَ) ، من الإلباس، وَهُوَ يَقْتَضِي الملبس، والملبس لَا يكون الْهَيْئَة، وَإِنَّمَا يكون اللبَاس، فَمن لَهُ أدنى تَمْيِيز يدْرِي هَذَا. قيل: مَا وَجه التَّوْفِيق بَين قَوْله: (عيدا) وَبَين مَا تقدم أَن الْيَهُود تَصُوم يَوْم عَاشُورَاء، وَيَوْم الْعِيد يَوْم الْإِفْطَار؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدهم إِيَّاه عيدا كَونه عيدا، وَلَا من كَونه عيدا الْإِفْطَار لاحْتِمَال أَن صَوْم يَوْم يَوْم الْعِيد جَائِز عِنْدهم، أَو هَؤُلَاءِ الْيَهُود غير يهود الْمَدِينَة، فَوَافَقَ الْمَدَنِيين حَيْثُ عرف أَنه الْحق، وَخَالف غَيرهم لخلافه.
6002 -
حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنِ ابنِ عُيَيْنَةَ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي يَزِيدَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتَحَرى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرهِ إلَاّ هذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عاشُورَاءَ وهَذَا الشَّهْرَ يعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدْخل تَحت إِطْلَاق التَّرْجَمَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن أبي يزِيد من الزِّيَادَة، مر فِي الْوضُوء.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان.
قَوْله: (يتحَرَّى)، من التَّحَرِّي وَهُوَ: الْمُبَالغَة فِي طلب الشَّيْء. قَوْله: (فَضله)، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة يَوْم. قَوْله:(وَهَذَا الشَّهْر)، عطف على: هَذَا الْيَوْم، قيل: كَيفَ صَحَّ هَذَا الْعَطف وَلم يدْخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يقدر فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ: وَصِيَام شهر فَضله على غَيره، وَهُوَ من اللف التقديري، أَو يعْتَبر فِي الشَّهْر أَيَّامه يَوْمًا فيوما مَوْصُوفا بِهَذَا الْوَصْف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: سَبَب تخصيصهما أَن رَمَضَان فَرِيضَة، وعاشوراء كَانَ أَولا فَرِيضَة. وَقَالَ: ورد أَن أفضل الْأَيَّام يَوْم عَرَفَة، والمستفاد من الحَدِيث أَن أفضل الْأَيَّام عَاشُورَاء. قَالَ: فَمَا التلفيق بَينهمَا؟ فَأجَاب: بِأَن عَاشُورَاء أفضل من جِهَة الصَّوْم فِيهِ، وعرفة أفضل من جِهَة أُخْرَى. قَالَ: وَلَو جعل الْهَاء فِي فَضله رَاجعا إِلَى الصّيام لَكَانَ سُقُوط السُّؤَال ظَاهرا. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَقيل: إِنَّمَا جمع ابْن عَبَّاس