الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله: {فصل}
{الْحُرُوف}
.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (قد قَالَ النُّحَاة: إِن الْحَرْف لَا يسْتَقلّ بِالْمَعْنَى، وَعَلِيهِ إِشْكَال، فنقرر المُرَاد أَولا، وَالْإِشَارَة إِلَى الْإِشْكَال ثَانِيًا، وحله ثَالِثا.
أما تَقْرِيره: فَهُوَ أَن نَحْو: " من " و " إِلَى "، مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة على مَعْنَاهَا الإفرادي، وَهُوَ الِابْتِدَاء والانتهاء ذكر متعلقها من دَار أَو سوق أَو غَيرهمَا مِمَّا يدْخل عَلَيْهِ الْحَرْف وَمِنْه الِابْتِدَاء وَإِلَيْهِ الإنتهاء، وَالِاسْم نَحْو: الِابْتِدَاء والانتهاء، وَالْفِعْل نَحْو: ابْتَدَأَ وانْتهى، غير مَشْرُوط فِيهِ ذَلِك.
وَأما الْإِشْكَال: فَهُوَ أَن نَحْو: " ذُو " و " أولو " و " أولات " و " قيد " و " [قيس] " و " قاب " و " أَي " و " بعض " و " كل " و " فَوق " و " تَحت " و " أَمَام " و " قُدَّام " و " خلف " و " وَرَاء " مِمَّا لَا يُحْصى، كَذَلِك إِذْ لم يجوز الْوَاضِع اسْتِعْمَالهَا إِلَّا بمتعلقاتها، فَكَانَ يجب كَونهَا حروفاً، وَإِنَّهَا أَسمَاء.
وَأما الْحل: فَهُوَ أَنَّهَا وَإِن لم يتَّفق اسْتِعْمَالهَا إِلَّا كَذَلِك لأمر مَا عرض، فَغير مَشْرُوط فِي وَضعهَا دَالَّة ذَلِك، لما علم أَن " ذُو " بِمَعْنى صَاحب، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الْإِفْرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ لغَرَض مَا، وَهُوَ التواصل بِهِ إِلَى الْوَصْف بأسماء الْأَجْنَاس فِي نَحْو: زيد ذُو مَال، وَذُو فرس، فَوَضعه ليتوصل بِهِ إِلَى ذَلِك، هُوَ الَّذِي اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَو ذكر دونه لم يدل على مَعْنَاهُ.
نعم لم يحصل الْغَرَض من وَضعه، وَالْفرق بَين عدم فهم الْمَعْنى، وَبَين عدم فَائِدَة الْوَضع مَعَ فهم الْمَعْنى ظَاهر.
وَكَذَلِكَ " فَوق "، وضع لمَكَان لَهُ علو، وَيفهم مِنْهُ عِنْد الِانْفِرَاد ذَلِك، لَكِن وَضعه لَهُ ليتوصل إِلَى علو خَاص اقْتضى ذكر الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْأَلْفَاظ.
وَإِذ قد تحقق ذَلِك؛ فَنَقُول: الْحَرْف مَا وضع بِاعْتِبَار معنى عَام، وَهُوَ نوع من النِّسْبَة: كالابتداء والانتهاء، لكل ابْتِدَاء وانتهاء معِين بِخُصُوصِهِ.
وَالنِّسْبَة لَا تتَعَيَّن إِلَّا بالمنسوب إِلَيْهِ، فالابتداء الَّذِي لِلْبَصْرَةِ يتَعَيَّن بِالْبَصْرَةِ، والانتهاء الَّذِي للكوفة يتَعَيَّن بِالْكُوفَةِ، فَمَا لم يذكر مُتَعَلّقه لَا يتَحَصَّل فَرد من ذَلِك النَّوْع [الَّذِي] هُوَ مَدْلُول الْحَرْف لَا فِي الْعقل وَلَا فِي الْخَارِج، وَإِنَّمَا يتَحَصَّل بالمنسوب إِلَيْهِ، فيتعقل بتعقله، بِخِلَاف مَا وضع للنوع بِعَيْنِه: كالابتداء والانتهاء، وَبِخِلَاف مَا وضع لذات مَا بِاعْتِبَار نِسْبَة نَحْو:" ذُو " و " فَوق "، و " على " و " عَن " و " الْكَاف " إِذا أُرِيد بهَا علو وَتجَاوز وَشبه مُطلقًا، فَهُوَ كالابتداء والانتهاء) انْتهى.
تَنْبِيه: المُرَاد بالحروف هُنَا: مَا يحْتَاج الْفَقِيه إِلَى مَعْرفَتهَا، وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا قسيم الِاسْم وَالْفِعْل والحرف بِخُصُوصِهِ، لِأَنَّهُ قد ذكر مَعهَا أَسمَاء ك " إِذا " و " إِذْ "، وَأطلق عَلَيْهَا حروفاً تَغْلِيبًا بِاعْتِبَار الْأَكْثَر، وَقَالَ الصفار:(الْحَرْف يُطلقهُ سِيبَوَيْهٍ على الِاسْم وَالْفِعْل) .
قَوْله: {الْوَاو العاطفة لمُطلق الْجمع} .
أَي: للقدر الْمُشْتَرك بَين التَّرْتِيب والمعية، {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} ، وَعَلِيهِ أَكثر النُّحَاة، وَذكره الْفَارِسِي، والسيرافي،
والسهيلي، إِجْمَاع نحاة الْبَصْرَة والكوفة.
فَلَا تدل على تَرْتِيب وَلَا معية، وَهِي تَارَة تعطف الشَّيْء على مصاحبه كَقَوْلِه تَعَالَى:{فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة} [العنكبوت: 15]، وعَلى سابقه:{وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم} [الْحَدِيد: 26] وعَلى لاحقه: {كَذَلِك يُوحى إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك} [الشورى: 3]، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَإِذ أَخذنَا من النبين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] .
وعَلى هَذَا إِذا قيل: قَامَ زيد وَعَمْرو، احْتمل ثَلَاثَة معَان: الْمَعِيَّة، وَالتَّرْتِيب، وَعَدَمه.
قَالَ ابْن مَالك: (وَكَونهَا للمعية رَاجِح، وللترتيب كثير، ولعكسه قَلِيل) .
وَيجوز أَن يكون [بَين] متعاطفيها تفَاوت أَو تراخ، نَحْو:{إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} [الْقَصَص: 7] .
تَنْبِيه: التَّعْبِير بِكَوْنِهَا لمُطلق الْجمع هُوَ الصَّحِيح فِي الْعبارَة، وَلَا يَصح التَّعْبِير عَنْهَا بِأَنَّهَا للْجمع الْمُطلق، لِأَنَّهُ لَا يَفِي بالمراد، [وَإِن] / كَانَ قد عبر بذلك ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَجمع؛ لِأَن الْمُطلق هُوَ الَّذِي لم يُقيد بِشَيْء، فَيدْخل فِيهِ صُورَة وَاحِدَة وَهُوَ قَوْلنَا مثلا: قَامَ زيد وَعَمْرو، وَلَا يدْخل فِيهِ الْقَيْد بالمعية، وَلَا بالتقديم، وَلَا بِالتَّأْخِيرِ، لخروجها بالتقييد عَن الْإِطْلَاق، وَأما مُطلق الْجمع فَمَعْنَاه: أَي جمع كَانَ، فَحِينَئِذٍ تدخل فِيهِ الصُّور كلهَا.
وَقد قَالَ ابْن الْقيم فِي " بَدَائِع الْفَوَائِد ": (الْأَمر الْمُطلق، وَالْجرْح الْمُطلق، وَالْعلم الْمُطلق، وَالتَّرْتِيب الْمُطلق، وَالْبيع الْمُطلق، وَالْمَاء الْمُطلق، وَالْملك الْمُطلق؛ غير مُطلق الْأَمر، وَالْجرْح، وَالْعلم، إِلَى آخرهَا.
وَالْفرق بَينهمَا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَندب وَنَحْوهمَا، فَلَا يكون [مورداً للتقسيم] ، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى أَمر إِيجَاب وَأمر ندب، فمطلق الْأَمر يَنْقَسِم، وَالْأَمر الْمُطلق غير منقسم.
الثَّانِي: أَن الْأَمر الْمُطلق فَرد من أَفْرَاد مُطلق الْأَمر، وَلَا ينعكس.
الثَّالِث: أَن نفي مُطلق الْأَمر يسْتَلْزم نفي الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس.
الرَّابِع: أَن ثُبُوت مُطلق الْأَمر لَا يسْتَلْزم ثُبُوت الْأَمر الْمُطلق، دون الْعَكْس.
الْخَامِس: أَن الْأَمر الْمُطلق نوع لمُطلق الْأَمر، وَمُطلق [الْأَمر] جنس [لِلْأَمْرِ] الْمُطلق.
السَّادِس: أَن الْأَمر الْمُطلق مُقَيّد بِقَيْد الْإِطْلَاق لفظا، مُجَرّد عَن التَّقْيِيد معنى، وَمُطلق الْأَمر مُجَرّد عَن التَّقْيِيد لفظا، مُسْتَعْمل فِي الْمُقَيد وَغَيره معنى.
السَّابِع: أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يصلح للمقيد، وَمُطلق الْأَمر يصلح للمطلق والمقيد.
الثَّامِن: أَن الْأَمر الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد الْإِطْلَاق، فَهُوَ مُتَضَمّن للإطلاق وَالتَّقْيِيد، وَمُطلق الْأَمر غير مُقَيّد وَإِن كَانَ بعض أَفْرَاده مُقَيّدا.
التَّاسِع: أَن من بعض أَمْثِلَة هَذِه الْقَاعِدَة: الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق لَا يُطلق إِلَّا على الْكَامِل الْكَمَال / الْمَأْمُور بِهِ، وَمُطلق الْإِيمَان يُطلق على النَّاقِص والكامل وَلِهَذَا نفى النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ - الْإِيمَان الْمُطلق عَن الزَّانِي وشارب الْخمر وَالسَّارِق، وَلم ينف عَنهُ مُطلق الْإِيمَان، فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى:{وَالله ولي الْمُؤمنِينَ} [آل عمرَان: 68]، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى:{قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1]، وَلَا فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] ، وَنَحْوهَا، وَيدخل فِي قَوْله تَعَالَى:{فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92]، وَفِي قَوْله تَعَالَى:
{وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم َ -:" لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر " وأمثال ذَلِك.
فَلهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الْأَعْرَاب ءامنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} [الحجرات: 14] ، نفيا للْإيمَان الْمُطلق، لَا لمُطلق الْإِيمَان لوُجُوده - وعددها ثمَّ قَالَ -: وَالْمَقْصُود: الْفرق بَين الْإِيمَان الْمُطلق وَمُطلق الْإِيمَان، فالإيمان الْمُطلق يمْنَع دُخُول النَّار، وَمُطلق الْإِيمَان يمْنَع الخلود فِيهَا.
الْعَاشِر: أَنَّك إِذا قلت: الْأَمر الْمُطلق، فقد أدخلت اللَّام على الْأَمر، وَهِي تفِيد الْعُمُوم والشمول، ثمَّ وَصفته بعد ذَلِك بِالْإِطْلَاقِ، بِمَعْنى أَن لم يُقيد بِقَيْد يُوجب تَخْصِيصه من شَرط أَو صفة أَو غَيرهمَا، فَهُوَ عَام فِي كل فَرد من الْأَفْرَاد الَّتِي هَذَا شَأْنهَا.
وَأما مُطلق الْأَمر فالإضافة فِيهِ لَيست للْعُمُوم، بل للتمييز، فَهُوَ قدر مُشْتَرك، [مُطلق] لَا عَام، فَيصدق بفرد من أَفْرَاده، وعَلى هَذَا [فمطلق
البيع يَنْقَسِم إِلَى: جَائِز وَغَيره، وَالْبيع الْمُطلق للجائز فَقَط] .
وَالْأَمر الْمُطلق للْوُجُوب، وَمُطلق الْأَمر يَنْقَسِم إِلَى: وَاجِب، ومندوب، كَمَا تقدم.
وَالْمَاء الْمُطلق طهُور، وَمُطلق المَاء يَنْقَسِم إِلَى: طهُور وَغَيره.
وَالْملك الْمُطلق هُوَ الَّذِي يثبت للْحرّ، وَمُطلق الْملك يثبت للْحرّ وَالْعَبْد، فَإِذا قيل: العَبْد هَل يملك أَو لَا يملك؟ كَانَ الصَّوَاب إِثْبَات مُطلق الْملك لَهُ دون الْملك الْمُطلق.
وَإِذا قيل: الْفَاسِق مُؤمن أَو غير مُؤمن؟ فَهُوَ على هَذَا التَّفْصِيل.
وَبِهَذَا / التَّحْقِيق يَزُول الْإِشْكَال فِي مَسْأَلَة: الْمَنْدُوب هَل هُوَ مَأْمُور بِهِ أم لَا؟ وَفِي مَسْأَلَة: الْفَاسِق الملي هَل هُوَ مُؤمن أم لَا؟) انْتهى.
وَهِي قَاعِدَة عَظِيمَة، نافعة جدا فِي أَبْوَاب كَثِيرَة، وَإِنَّمَا ذكرتها كلهَا لعظم نَفعهَا.
{القَوْل الثَّانِي} : أَو الْوَاو تدل على {الْمَعِيَّة} ، نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ( {وَكَلَام أَصْحَابنَا يدل [على أَن الْجمع
للمعية] ، [وَذكر] } أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: مَا يدل على أَنه {إِجْمَاع أهل اللُّغَة} ، لإجماعهم أَنَّهَا فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة ك " وَاو " الْجمع، و " يَاء " التَّثْنِيَة فِي المتماثلة، وَاحْتج بِهِ ابْن عقيل وَغَيره، وَفِيه نظر، لجَوَاز ذَلِك مَعَ كَونهَا للتَّرْتِيب) .
القَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا تدل على التَّرْتِيب، وَنَقله ابْن أبي مُوسَى، والحلواني، وَغَيرهمَا، عَن أَحْمد، حَتَّى أَن الْحلْوانِي لم يحك خلافًا
عَن أَصْحَابنَا، إِلَّا أَنه قَالَ:" مُقْتَضى أصولهم أَنَّهَا للْجمع ".
وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَبَالغ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْوضُوء من الْحَاوِي، فنقله عَن الْأَخْفَش، وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق فِي " التَّبْصِرَة، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: (صَار إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا) ، وَفِي " الْبُرْهَان ": (هُوَ الَّذِي اشْتهر عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي) ، وَجزم بِهِ ابْن سُرَيج، وَقَالَ: " لَا خلاف فِيهِ بَين أهل اللُّغَة) .
وَحكي عَن جمع من النُّحَاة، مِنْهُم: ثَعْلَب، وَأَبُو عَمْرو الزَّاهِد
وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن جني [وَابْن برهَان، والربعي] ، وقطرب، وَهِشَام، وَأَبُو جَعْفَر الدينَوَرِي.
وَأنكر ابْن الْأَنْبَارِي الْمُتَأَخر هَذَا النَّقْل عَن جَمِيع هَؤُلَاءِ، وَزعم أَن كتبهمْ تنطق بِخِلَاف ذَلِك.
القَوْل الرَّابِع: اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَئِمَّة أَصْحَابنَا: إِن كَانَ كل وَاحِد من معطوفاتها مرتبطاً بِالْآخرِ، وتتوقف صِحَّته على صِحَّته فللترتيب، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ارْكَعُوا واسجدوا} [الْحَج: 77]، {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} [الْبَقَرَة: 158] ، وكآية الْوضُوء، وَإِن لم تتَوَقَّف صِحَة بعض معطوفاتها على بعض لم تدل على التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى:{أقِيمُوا الصَّلَاة وءاتوا الزَّكَاة} ، {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقد أَوْمَأ أَحْمد / إِلَى هَذَا.
القَوْل الْخَامِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب إِن تعذر الْجمع، وَنقل عَن الْفراء.
القَوْل السَّادِس: أَنَّهَا للتَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، حَكَاهُ ابْن الخباز عَن شَيْخه.
تَنْبِيه: يَبْنِي الْأَصْحَاب على ذَلِك من الْفِقْه مسَائِل كَثِيرَة يعرفهَا الفطن.
للواو معَان أخر غير مَا تقدم.
أَحدهَا: أَن تكون بِمَعْنى: " مَعَ "، كَقَوْلِهِم: جَاءَ الْبرد والطيالسة، وَنَحْوه من الْمَفْعُول مَعَه.
الثَّانِي: تكون بِمَعْنى: " أَو "، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [النِّسَاء: 3]، {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] .
الثَّالِث: تكون للقسم؛ بل هِيَ حرف الْقسم، كَقَوْلِه:{وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر} [الْفجْر: 1 - 3]، {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} [الشَّمْس: 1] ، فِي آي كَثِيرَة فِي الْقُرْآن، وَفِي كَلَام الْعَرَب.
الرَّابِع: تكون لرب كَقَوْل الشَّاعِر:
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس
…
)
وَقَوله:
(ونار لَو نفخت بهَا أَضَاءَت
…
وَلَكِن أَنْت تنفخ فِي رماد)
أَي: وَرب بَلْدَة ونار، لَكِن هَذِه الْوَاو تسمى: وَاو " رب "، فَرُبمَا ظَهرت " رب " مَعهَا، وَرُبمَا أضمرت وَبقيت " الْوَاو ".
الْخَامِس: تكون للاستئناف، وَهُوَ كثير.
السَّادِس: تكون بِمَعْنى الْحَال، نَحْو: جَاءَ زيد وَالشَّمْس طالعة، جَاءَ زيد وَهُوَ يضْحك.
قَوْله: {وَالْفَاء العاطفة للتَّرْتِيب والتعقيب، عِنْد الْأَرْبَعَة [وأتباعهم] وَغَيرهم} من النُّحَاة وَغَيرهم.
وَهِي نَوْعَانِ.
أَحدهمَا: يكون ترتيبها معنوياً، كقام زيد فعمرو.
وَالثَّانِي: يكون زَكَرِيَّا، وَهُوَ عطف مفصل على مُجمل هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 36]، {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 54] ، {فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم} [الْأَعْرَاف: 136] ، {فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة} [النِّسَاء: 153] ، {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي} [هود: 45] .
وَتقول: تَوَضَّأ فَغسل وَجهه
…
إِلَى آخِره، وَتقول: قَالَ فَأحْسن، / وخطب فأوجز، وَأعْطى فأجزل، فَهَذَا يبين كَيْفيَّة وُقُوعه.
وَالْمَشْهُور أَن معنى التعقيب: كَون الثَّانِي بعد الأول بِغَيْر مهلة، كَأَن الثَّانِي أَخذ بعقب الأول، يَعْنِي: فِي الْجُمْلَة.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: تعقيب كل شَيْء بِحَسبِهِ، فَيُقَال: تزوج فلَان فولد لَهُ، إِذا لم يكن بَينهمَا إِلَّا مُدَّة الْحمل وَإِن طَالَتْ، وَقطع بِهِ ابْن هِشَام فِي " مُغنِي اللبيب ".
وَنقل الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: الْإِجْمَاع أَنه للتَّرْتِيب والتعقيب، لَكِن قَالَ الْفراء: إِنَّهَا لَا تدل على التَّرْتِيب، بل تسْتَعْمل فِي انتفائه، كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا} [الْأَعْرَاف: 4] ، مَعَ أَن مَجِيء الْبَأْس مُتَقَدم على الإهلاك.
وَأجِيب: بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب الذكري، أَو فِيهِ حذف تَقْدِيره: أردنَا إهلاكها فَجَاءَهَا بأسنا.
وَمثله: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} [النَّحْل: 98] .
وَقَول الْفراء: إِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب، وتفيد " الْوَاو " التَّرْتِيب غَرِيب.
وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا تَأتي لغير التَّرْتِيب، بل تكون كالواو [قَوْله] :
(بَين الدُّخُول فحومل
…
)
وَزعم الْأَصْمَعِي: أَن الصَّوَاب رِوَايَته بِالْوَاو، لِأَنَّهُ لَا يجوز جَلَست بَين زيد فعمرو.
وَأجِيب: بِأَن التَّقْدِير: بَين مَوَاضِع الدُّخُول فمواضع حومل، كَمَا يجوز: جَلَست بَين الْعلمَاء فالزهاد.
وَقَالَ بعض البغداديين: الأَصْل " مَا بَين "، فَحذف " مَا " دون " بَين ".
وَقَالَ الْجرْمِي: لَا تدل على التَّرْتِيب إِن دخلت على الْأَمَاكِن.
نَحْو: نزلنَا نجداً فتهامة، وَنزل الْمَطَر نجداً فتهامة، وَإِن كَانَت تهَامَة فِي هَذَا سَابِقَة، وَلم يعلم مِنْهُ تقدم وَلَا تَأَخّر.
وَقَالَ ابْن مَالك: تَأتي للتَّرْتِيب بمهلة ك " ثمَّ "، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى:{ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} [الْحَج: 63] .
وَقَالَ غَيره: (هَذَا من تَرْتِيب كل شَيْء بِحَسبِهِ) .
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": لَا تعقيب فِي} قَوْله تَعَالَى: { {كن فَيكون} } .
وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ ابْن هِشَام: (قيل: تكون الْفَاء للاستئناف، وَمِنْه {كن فَيكون} بِالرَّفْع، أَي: فَهُوَ يكون حِينَئِذٍ.
قَالَ: وَالتَّحْقِيق أَنَّهَا للْعَطْف، وَأَن الْمُعْتَمد بالْعَطْف الْجُمْلَة لَا الْفِعْل) .
وَيتَفَرَّع على ذَلِك مسَائِل فقهية.
قَوْله: {وَتَأْتِي سَبَبِيَّة، / ورابطة، وَقيل: وزائدة} .
تَأتي الْفَاء سَبَبِيَّة، وَذَلِكَ كثير فِي العاطفة جملَة أَو صفة.
فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} [الْقَصَص: 15]، {فَتلقى ءادم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 37] .
وَالثَّانِي: كَقَوْلِه تَعَالَى: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون مِنْهَا الْبُطُون فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم} [الْوَاقِعَة: 52 - 54] .
وَقد تَجِيء فِي ذَلِك لمُجَرّد التَّرْتِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين فقربه إِلَيْهِم} [الذاريات: 26 - 27]، وَقَوله تَعَالَى:{لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك} [ق: 22]، وَقَوله تَعَالَى:{فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا} [الذاريات: 29]، وَقَوله تَعَالَى:{فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا} [الصافات: 2 - 3] .
ورد السُّهيْلي ذَلِك إِلَى التعقيب، بل رد كل مَعَانِيهَا إِلَى التعقيب.
وَتَأْتِي - أَيْضا " الْفَاء " رابطة للجواب، صَرَّحُوا بذلك، مِنْهُم ابْن الباقلاني، وَقَالَ:(لَا تَقْتَضِي التعقيب) . وَجعلُوا علامتها: حَيْثُ لَا تصلح لِأَن تكون شرطا، وَذَلِكَ فِي سِتّ مسَائِل.
إِحْدَاهَا: أَن يكون الْجَواب جملَة اسمية، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير} [الْأَنْعَام: 17]، {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} [الْمَائِدَة: 118] .
الثَّانِيَة: أَن تكون فعلية [كالاسمية] ، وَهِي الَّتِي يكون فعلهَا جَامِدا، نَحْو:{إِن ترن أَنا أقل مِنْك مَالا وَولدا فَعَسَى رَبِّي إِن يؤتين} [الْكَهْف: 39 40]، {إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ} [الْبَقَرَة: 271] ، {وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قريناً} [النِّسَاء: 38] ، {وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء} [آل عمرَان: 28] .
الثَّالِثَة: أَن يكون فعلهَا إنْشَاء، نَحْو:{إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31]، {فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم} [الْأَنْعَام: 150] ، {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} [الْملك: 30] ، فِيهِ أَمْرَانِ: الاسمية والإنشاء.
الرَّابِعَة: أَن يكون فعلهَا مَاضِيا لفظا وَمعنى، إِمَّا حَقِيقَة نَحْو:{إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} [يُوسُف: 77]، {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت} الْآيَة [يُوسُف: 26] ، وَإِمَّا مجَازًا نَحْو:{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} [النَّمْل: 90] ، نزل هَذَا الْفِعْل لتحَقّق / وُقُوعه منزلَة مَا وَقع.
الْخَامِسَة: أَن تقترن بِحرف اسْتِقْبَال، نَحْو:{من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم} [الْمَائِدَة: 54] ، {وَمَا تَفعلُوا من خير فَلَنْ تكفروه} . .
[آل عمرَان: 115] .
السَّادِسَة: أَن تقترن بِحرف لَهُ الصَّدْر، كَقَوْلِه:
(فَإِن أهلك خذي لَهب لظاه
…
عَليّ يكَاد يلتهب التهابا)
لما عرف من أَن رب مقدرَة، وَأَن لَهَا الصَّدْر.
وَأما إتيانها زَائِدَة، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَذهب سِيبَوَيْهٍ وَمن تبعه: أَنَّهَا لَا تكون زَائِدَة.
وَأَجَازَهُ الْأَخْفَش فِي الْخَبَر مُطلقًا، وَحكى:(أَخُوك فَوجدَ) ، وَقيد الْفراء، والأعلم، وَجَمَاعَة، الْجَوَاز بِكَوْن الْخَبَر أمرا ونهياً، فَالْأَمْر كَقَوْلِه:
(وقائلة خولان فانكح فَتَاتهمْ
…
)
وَحمل الزّجاج عَلَيْهِ {هَذَا فليذوقوه} .
وَالنَّهْي نَحْو: فَلَا تضربه.
وَقَالَ ابْن برهَان: (تزاد الْفَاء عِنْد أَصْحَابنَا يَعْنِي الْبَصرِيين جَمِيعًا، كَقَوْلِه:
(وَإِذا هَلَكت فَعِنْدَ ذَلِك فاجزعي
…
)
انْتهى.
وَتَأَول المانعون قَوْله: فانكح فَتَاتهمْ، على أَن التَّقْدِير: هَذِه خولان، وأولو الْبَاقِي، وَمن أَرَادَ تفاصيل ذَلِك فَعَلَيهِ ب " الْمُغنِي " لِابْنِ هِشَام.
اعْلَم أَن " ثمَّ " حرف عطف للتشريك بَين مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا فِي الحكم، وَخَالف الكوفييون فجوزوا أَن تقع زَائِدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 118] ، فَلَيْسَتْ عاطفة هُنَا الْبَتَّةَ حَتَّى يكون فِيهَا تشريك.
قَوْله: (وللترتيب) .
هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، وَقَطعُوا بِهِ، وَخَالف فِيهِ الْعَبَّادِيّ.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": (إِنَّمَا قَالَه الْعَبَّادِيّ فِي بعض التراكيب، ورد غَيره) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمُخَالف فِي التَّرْتِيب الْفراء، فِيمَا حَكَاهُ السيرافي، وَعَزاهُ غَيره للأخفش، محتجاً بقوله تَعَالَى:{خَلقكُم من نفس وَاحِدَة ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا} [الزمر: 6] ، وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْجعل كَانَ قبل خلقنَا، وتأوله الْجُمْهُور على التَّرْتِيب الإخباري.
وفيهَا مَذْهَب ثَالِث: أَن التَّرْتِيب فِي الْمُفْردَات دون الْجمل، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} [يُونُس: 46] ، إِذْ شَهَادَة الله مُتَقَدّمَة على الْمرجع، قَالَه ابْن [الدهان] ، وَجرى عَلَيْهِ ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع ".
وَالصَّحِيح هُوَ الأول مُطلقًا، لكنه فِي الْمُفْردَات معنوي، وَفِي الْجمل ذكري، نَحْو:
(إِن من سَاد ثمَّ سَاد أَبوهُ
…
ثمَّ [قد] سَاد قبل ذَلِك جده)
فَهُوَ تَرْتِيب فِي الْإِخْبَار، لَا فِي الْوُجُود) .
قَوْله: (بمهلة) .
أَي: بتراخ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَقَطعُوا بِهِ.
وَخَالف الْفراء أَيْضا -، فَقَالَ: قد يتَخَلَّف بِدَلِيل: أعجبني مَا صَنعته الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، " ثمَّ " فِي ذَلِك كُله لترتيب الْإِخْبَار، وَلَا تراخي فِي الإخبارين.
وَوَافَقَهُ على ذَلِك ابْن مَالك، فَقَالَ:(قد تقع " ثمَّ " فِي عطف الْمُتَقَدّم بِالزَّمَانِ، اكْتِفَاء بترتيب اللَّفْظ)، وَجعل مِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا} [الْأَنْعَام: 154] .
قَالَ الرَّاغِب: والعبارة الجامعة أَن يُقَال فِي " ثمَّ ": (إِنَّهَا حرف عطف يَقْتَضِي تَأَخّر مَا بعده عَمَّا قبله، إِمَّا تأخراً بِالذَّاتِ، أَو بالمرتبة، أَو بِالْوَضْعِ) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَآيَة " الْحَج "[و " الْمُؤْمِنُونَ "] فِي النُّطْفَة والعلقة، قيل:" الْفَاء " لآخر النُّطْفَة وَأول الْعلقَة، و " ثمَّ " لأولهما، وَقيل: يتعاقبان، وَقيل: قد يستقرب لعظم الْأَمر فَيُؤتى ب " الْفَاء "، وَقد يستبعد لطول الزَّمَان فيوتى ب " ثمَّ "، وَأما {ثمَّ الله شَهِيد} [يُونُس " 46]{ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} .
فَقيل: لترتيب الْأَخْبَار بَعْضهَا على بعض، نَحْو: زيد عَالم ثمَّ كريم، لَا الْمخبر عَنهُ، وَقيل: بِمَعْنى الْوَاو) .
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": تَأتي " ثمَّ " كالواو.
قَوْله: {و " حَتَّى " العاطفة للغاية} .
كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، فَلَا يكون الْمَعْطُوف بهَا إِلَّا غَايَة لما قبلهَا من زِيَادَة أَو نقص، نَحْو: مَاتَ النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء، وَقدم الْحَاج حَتَّى المشاة.
قَوْله: {لَا تَرْتِيب فِيهَا، وَقيل: ك " الْفَاء "، وَقيل: ك " ثمَّ "، وَقيل " بَينهمَا} .
" حَتَّى " العاطفة لَا تَرْتِيب [فِيهَا] .
قَالَ ابْن مَالك فِي " شرح الْعُمْدَة " تبعا لطائفة: (هِيَ الْوَاو) ،
- وَأنكر على الْقَائِل بِأَنَّهَا للتَّرْتِيب -، (فَإنَّك تَقول: / حفظت الْقُرْآن حَتَّى سُورَة الْبَقَرَة، وَإِن كَانَت أول مَا حفظت، أَو متوسطاً) .
وَقيل: هِيَ كالفاء، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك:(مثل الْفَاء) .
وَقيل: ك " ثمَّ "، قَالَه طَائِفَة مِنْهُم: الصفي الْهِنْدِيّ، قطع بِهِ، وَمِنْهُم: الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: بَينهمَا، قَالَ القواس:(تفِيد المهلة، إِلَّا أَن المهلة فِيهَا أقل من " ثمَّ ") .
قَالَ ابْن إياز: (لَيْسَ ترتيبها ك " الْفَاء " و " ثمَّ "، فَإِنَّهُمَا يرتبان أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر فِي الْوُجُود، وَهِي ترَتّب تَرْتِيب الْغَايَة، وَيشْتَرط أَن يكون
مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا، وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِذكر الْكل قبل الْجُزْء) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (هِيَ للتَّرْتِيب) .
قَوْله: {وَيشْتَرط كَون معطوفها جُزْءا من متبوعه} .
نَحْو: قدم الْحجَّاج حَتَّى المشاة.
{أَو كجزئه} .
كَقَوْلِك: أعجبتني الْجَارِيَة حَتَّى حَدِيثهَا، فَإِن حَدِيثهَا لَيْسَ بَعْضًا، وَلكنه كالبعض، لِأَنَّهُ معنى من مَعَانِيهَا.
وَقد يكوم الْمَعْطُوف ب " حَتَّى " مبايناً، فتقدر بعضيته، كَقَوْلِه:
(ألْقى الصَّحِيفَة كي يُخَفف رَحْله
…
والزاد حَتَّى نَعله أَلْقَاهَا)
فعطف النَّعْل، وَلَيْسَت بَعْضًا لما قبلهَا صَرِيحَة، لَكِنَّهَا بالتأويل؛ لِأَن الْمَعْنى: ألْقى مَا يثقله حَتَّى نَعله.
قَوْله: {وَتَأْتِي [للتَّعْلِيل] } .
كَقَوْلِه: كَلمته حَتَّى يَأْمر لي بِشَيْء، وعلامتها: أَن يصلح موضعهَا " كي " / وَمِنْه أسلم حَتَّى يدْخل الْجنَّة.
قَوْله: {وَقل [لاستثناء مُنْقَطع] } .
إتيانها للاستثناء الْمُنْقَطع نَادِر، ذكره ابْن مَالك فِي " التسهيل "، وَهُوَ مُرَاد من أطلق الِاسْتِثْنَاء، أَي: الْمُنْقَطع، كَقَوْلِه:
(لَيْسَ الْعَطاء من الفضول سماحة
…
حَتَّى تجود وَمَا لديك قَلِيل)
قَالَ ابْن هِشَام فِي " الْمُغنِي ": (" حَتَّى " تَأتي لأحد ثَلَاثَة معَان:
انْتِهَاء الْغَايَة، وَهُوَ الْغَالِب، وَالتَّعْلِيل، وَبِمَعْنى " إِلَّا " فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ أقلهَا.
وتستعمل على ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن تكون حرف جر، بِمَنْزِلَة " إِلَى " فِي الْمَعْنى وَالْعَمَل، لَكِن تخَالفه فِي ثَلَاثَة أُمُور وَذكرهَا -.
الثَّانِي: أَن تكون عاطفة بِمَنْزِلَة " الْوَاو "، إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا من ثَلَاثَة أوجه وَذكرهَا -.
الثَّالِث: أَن تكون حرف ابْتِدَاء، أَي: حرف تبتدأ بعده الْجمل، أَي: تسْتَأْنف الْجمل، سَوَاء كَانَت اسمية أَو فعلية) انْتهى. وحرر أَحْكَامهَا.
قَوْله: {و " من " لابتداء الْغَايَة} .
هَذَا غَالب مَعَانِيهَا، فَفِي الْمَكَان اتِّفَاقًا، كَقَوْلِه تَعَالَى:{سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام} [الْإِسْرَاء: 1] ، وَفِي الزَّمَان عِنْد الْكُوفِيّين، والمبرد، وَابْن درسْتوَيْه، كَقَوْلِه تَعَالَى:{لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} [التَّوْبَة: 108]، {وَمن اللَّيْل فتجهد بِهِ} [الْإِسْرَاء: 79] ، و {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} [الرّوم: 4] .
وَصَححهُ ابْن مَالك، وَأَبُو حَيَّان، لِكَثْرَة شواهده.
وَقد رد بَعضهم سَائِر مَعَانِيهَا إِلَى ابْتِدَاء الْغَايَة، فَإِذا قلت: أخذت من الدَّرَاهِم، فقد جعلت الدَّرَاهِم ابْتِدَاء غَايَة الْأَخْذ.
قَوْله: {حَقِيقَة} .
يَعْنِي أَن " من " لابتداء الْغَايَة حَقِيقَة، وَفِي غَيره من الْمعَانِي مجَاز، { [عِنْد] أَصْحَابنَا وَأكْثر النُّحَاة.
وَقيل: [حَقِيقَة] فِي التَّبْعِيض} ، مجَاز فِي غَيره، { [وَقَالَهُ] ابْن عقيل} فِي مَسْأَلَة الْوَاو.
{وَقيل} : حَقِيقَة {فِي التَّبْيِين} ، مجَاز فِي غَيره / اخْتَارَهُ الطوفي، وَالْمرَاد: بَيَان الْجِنْس.
قَوْله: {وَلها معَان} .
كَثِيرَة لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة.
أَحدهَا: لابتداء الْغَايَة، مَكَانا، أَو زَمَانا، على خلاف تقدم، وعلامتها: أَن يذكر بعْدهَا " إِلَى " فيستقيم الْكَلَام، نَحْو: سرت من الْبَصْرَة، فَإِنَّهُ يَصح أَن تَقول: إِلَى الْكُوفَة، وَقد يحذف انْتِهَاء الْغَايَة بعْدهَا للْعلم بِهِ، وَقد لَا يقْصد فِيهِ انْتِهَاء الْغَايَة أصلا، نَحْو: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَزيد أفضل من عَمْرو.
وَالثَّانِي: التَّبْعِيض، وعلامتها: صِحَة وضع " بعض " فِي محلهَا، نَحْو قَوْله تَعَالَى:{مِنْهُم من كلم الله} [الْبَقَرَة: 253] .
فَائِدَة: الْبَعْض؛ هَل يصدق على النّصْف، أَو مَا دونه؟
فِيهِ قَولَانِ لأهل اللُّغَة، قِيَاس ذَلِك: يجْرِي فِي الْبَعْض الْمُسْتَفَاد من " من "، الْقَوْلَانِ. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَيشْهد للثَّانِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ} [آل عمرَان: 110]، وَفِي " النِّهَايَة " فِي / الْوكَالَة:(لَو قَالَ: بِعْ من عَبِيدِي من شِئْت، فَلَيْسَ للْوَكِيل أَن يَبِيع جَمِيعهم، بل لَهُ أَن يبيعهم إِلَّا وَاحِدًا بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَإِن كَانَ التَّبْعِيض فِي النّظم الْمَعْرُوف إِنَّمَا يُورد على النّصْف فَمَا دونه) انْتهى.
قلت: استدلاله واستشهاده بِالْآيَةِ لَا يُنَافِي أَنه يصدق على النّصْف، وَأَيْضًا فقد قَالَ ابْن أم قَاسم الْمرَادِي، فِي " شرح الألفية "، فِي بَاب الْبَدَل:(إِن الْبَعْض عِنْد الْبَصرِيين يَقع على الشَّيْء وعَلى نصفه وعَلى أَقَله، وَعَن الْكسَائي وَهِشَام: أَن بعض الشَّيْء لَا يَقع إِلَّا على مَا دون النّصْف، وَلذَلِك منعا أَن يُقَال: بعض الرجلَيْن لَك، أَي: أَحدهمَا) انْتهى.
فَخَالف نقل الْبرمَاوِيّ، وَهُوَ الأولى، وَالْقَوْل الأول مُوَافق لكَلَام الْفُقَهَاء.
الثَّالِث: التَّبْيِين، أَي: بَيَان الْجِنْس، وعلامتها: أَن يَصح وضع " الَّذِي "
مَوضِع " من "، نَحْو:{فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} [الْحَج: 30]، أَي: الَّذِي هُوَ الْأَوْثَان، وَمثله: قَوْله تَعَالَى: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب وَيلبسُونَ ثيابًا خضرًا من سندس} [الْكَهْف: 31] .
الرَّابِع: التَّعْلِيل، نَحْو:{يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} [الْبَقَرَة: 19] .
الْخَامِس: الْبَدَل، نَحْو:{أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} [التَّوْبَة: 38]، {وَلَو [نشَاء] لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة} [الزخرف: 60] ، أَي: بدلكم.
السَّادِس: الْغَايَة إِلَى انْتِهَاء الْغَايَة، مثل:" إِلَى "، فَتكون لابتداء الْغَايَة من الْفَاعِل، ولانتهاء غَايَة الْفِعْل من الْمَفْعُول، نَحْو: رَأَيْت الْهلَال من دَاري من خلل السَّحَاب، أَي: من مَكَاني إِلَى خلل السَّحَاب، فابتداء الرُّؤْيَة وَقع من الدَّار، وانتهاؤها فِي خلل السَّحَاب.
ذكر ابْن مَالك أَن سِيبَوَيْهٍ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى، وَأنْكرهُ جمَاعَة، [وَقَالُوا] : هِيَ لابتداء الْغَايَة لَكِن فِي حق الْمَفْعُول.
وَمِنْهُم من جعلهَا فِي هَذَا الْمِثَال لابتداء الْغَايَة فِي حق الْفَاعِل،
بِتَقْدِير: رَأَيْت الْهلَال من دَاري ظَاهرا من خلل السَّحَاب، وَيحْتَمل أَن ترَاد الْغَايَة كلهَا ابْتِدَاء / وانتهاء، حُكيَ عَن قوم فِيمَا إِذا دخلت " من " على فعل لَيْسَ لَهُ امتداد فَيكون الْمُبْتَدَأ والمنتهى وَاحِدًا.
السَّابِع: تنصيص الْعُمُوم، وَهِي الدَّاخِلَة على نكرَة لَا تخْتَص بِالنَّفْيِ، نَحْو: مَا جَاءَنِي من رجل، فَإِنَّهُ كَانَ قبل دُخُولهَا مُحْتملا لنفي الْجِنْس، ولنفي الْوحدَة، وَلِهَذَا يَصح أَن تَقول: بل رجلَانِ، وَيمْتَنع ذَلِك بعد دُخُول " من "، وَيَأْتِي محرراً فِي صِيغ الْعُمُوم، أما الْوَاقِعَة بعد " مَا " فَلَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّفْي والتأكيد نَحْو: مَا جَاءَنِي من أحد، وَزعم الْكُوفِيُّونَ أَنَّهَا تزاد فِي الْإِثْبَات نَحْو:{يغْفر لكم من ذنوبكم} [الْأَحْقَاف: 31، ونوح: 4] بِدَلِيل: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
وَأجِيب: بِأَن " من " للتَّبْعِيض، لِأَن من الذُّنُوب حُقُوق الْعباد، وَالله تَعَالَى لَا يغفرها، بل يستوهبها إِذا شَاءَ.
وَقَوله: {يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِه [الْأمة]، وَقَوله فِي الْآيَة الْأُخْرَى:{من ذنوبكم} هُوَ فِي قوم نوح، فَلم يتواردا على مَحل، وَلَو سلم أَيْضا أَنَّهَا فِي هَذِه الْأمة، فَلَا يبعد أَن يغْفر بعض الذُّنُوب لقوم وجميعها لآخرين.
الثَّامِن: الْفَصْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} [الْبَقَرَة: 220] ، وتعرف بِدُخُولِهَا على ثَانِي المتضادين.
التَّاسِع: مجيئها بِمَعْنى " الْبَاء " كَقَوْلِه تَعَالَى: {ينظرُونَ من طرف خَفِي} [الشورى: 45]، قَالَ يُونُس: أَي: بِطرف، وَيحْتَمل أَنه من ابْتِدَاء الْغَايَة.
الْعَاشِر: بِمَعْنى " فِي " كَقَوْلِه تَعَالَى: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} [فاطر: 40، والأحقاف: 4]، أَي: فِي الأَرْض، كَذَا مثلت، وَالظَّاهِر أَنَّهَا على بَابهَا، لصِحَّة الْمَعْنى بذلك، وَالْأَحْسَن أَن يمثل بِمَا جَاءَ عَن الشَّافِعِي فِي قَوْله:{فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم} أَنَّهَا بِمَعْنى " فِي " بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مُؤمن} .
الْحَادِي عشر: بِمَعْنى " عِنْد " كَقَوْلِه تَعَالَى: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} [آل عمرَان: 10] ، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَمثله:" وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".
الثَّانِي عشر: بِمَعْنى " على "، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ونصرناه من الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 77] ،
وَقيل: بل هُوَ على التَّضْمِين / أَي: منعناه، وَهُوَ أولى من التَّجَوُّز فِي الْحُرُوف، كَمَا سبق ذكر الْخلاف فِيهِ.
الثَّالِث عشر: بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} [الزمر: 22]، أَي: عَن ذكر الله.
قَوْله: {و " إِلَى " لانْتِهَاء الْغَايَة} .
عِنْد الْفُقَهَاء والنحاة وَغَيرهم.
{ [قَالَ] أَبُو الْخطاب} فِي " التَّمْهِيد "، {وَابْن عقيل} فِي " الْوَاضِح ".
{والموفق} فِي " الْكَافِي "، وَغَيرهم، {والكوفيون وَغَيرهم} :{و} تَأتي {بِمَعْنى " مَعَ "} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{من أَنْصَارِي إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14]، أَي: مَعَ الله، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} [النِّسَاء: 2]، أَي: مَعَ أَمْوَالكُم، تَقول الْعَرَب: الذود إِلَى الذود إبل، أَي: مَعَ الذود.
ورده الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ الْحسن وَأَبُو عُبَيْدَة: " إِلَى " فِي قَوْله تَعَالَى: {من أنصارى إِلَى الله} [آل عمرَان: 52، والصف: 14] بِمَعْنى " فِي "، أَي: من أعواني فِي الله، أَي: فِي ذَات الله وسبيله.
وَقيل: " إِلَى " فِي مَوْضِعه، مَعْنَاهُ: من يضم نصرته إِلَى نصْرَة الله.
قَوْله: {وَابْتِدَاء الْغَايَة دَاخل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب.
وَلنَا قَول لَا يدْخل، ذكره الْأَصْحَاب فِي الْإِقْرَار، مثل: أَن يَقُول: لَهُ عِنْدِي من دِرْهَم إِلَى عشرَة، فلنا قَول: أَنه يلْزمه ثَمَانِيَة لَا غير، لعدم دُخُول ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهائها، وَجزم بِهِ ابْن شهَاب من أَصْحَابنَا وكما لَو قَالَ: من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا الْحَائِط.
وَأجَاب القَاضِي عَن مَسْأَلَة الْحَائِط: أَن ذكرهمَا فِي الْإِقْرَار على جِهَة التَّحْدِيد: وَالْحَد لَا يدْخل فِي الْمَحْدُود، أَلا ترى لَو قَالَ فِي الْمَبِيع: حَده الأول إِلَى الطَّرِيق، لم يدْخل الطَّرِيق فِي الْحَد.
قَوْله: {لَا انتهاؤها فِي الْأَصَح} .
يَعْنِي: أَن انْتِهَاء الْغَايَة لَا يدْخل على الْأَصَح { [من مَذْهَبنَا وَمذهب الْمَالِكِيَّة] وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم، فَلَو قَالَ: لَهُ من دِرْهَم إِلَى عشرَة، لزمَه تِسْعَة، على الصَّحِيح، وعَلى القَوْل الآخر، يلْزمه عشرَة، وعَلى القَوْل الْمَاضِي بِأَن ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهاءها لَا يدْخل، يلْزمه ثَمَانِيَة، كَمَا تقدم.
القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: أَن الْغَايَة المحصورة تدخل، وَعَن أَحْمد مَا يدل عَلَيْهِ، وَهَذَا القَوْل يحْتَمل أَن يكون الْمُقَابل للأصح / فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَتْن، وَيحْتَمل أَن يكون القَوْل بِعَدَمِ الدُّخُول مُطلقًا، / وَهُوَ الظَّاهِر.
فعلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل الثَّانِي الْمُقَيد للمسألة زَائِدا على مَا فِي الْمَتْن من الْأَقْوَال.
{و} القَوْل الثَّالِث: {إِن كَانَت الْغَايَة من جنس الْمَحْدُود، كالمرافق} فِي آيَة الْوضُوء، {دخلت، وَإِلَّا فَلَا} ، كَقَوْلِه:{ثن أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187]، وَكَذَا: إِلَى الْغَد، اخْتَارَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من كبار أَصْحَابنَا، { [وَحَكَاهُ القَاضِي] عَن أهل اللُّغَة} .
{و} القَوْل الرَّابِع: {إِن قَامَت الْغَايَة بِنَفسِهَا لم تدخل} فِي الحكم، {كبعتك من هُنَا إِلَى هُنَا، وَإِن تنَاوله صدر الْكَلَام، فالغاية لإِخْرَاج مَا وَرَاءه، كالمرافق والغاية فِي الْخِيَار، [قَالَه الحنيفة] ، وَمنع أَبُو حنيفَة دُخُول الْعَاشِر، فِي [إِقْرَاره] : من دِرْهَم إِلَى عشرَة} ، لعدم التَّنَاوُل، { [وَعند صَاحِبيهِ يدْخل] } ، لعدم الْقيام بِنَفسِهِ، وَكَذَا فِي الطَّلَاق عِنْدهم.
وَالْقَوْل الْخَامِس وَرجحه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " و " الْمُنْتَخب " -: (إِن كَانَ مُنْفَصِلا عَمَّا قبله بمنفصل مَعْلُوم بالحس كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَا يدْخل، وَإِلَّا دخل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] ، فَوَجَبَ الحكم بِالدُّخُولِ) .
القَوْل السَّادِس وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ، قَالَه فِي [الْبُرْهَان]-: أَنَّهَا إِن اقترنت ب " من " لم تدخل، وَإِلَّا احْتمل الْأَمريْنِ.
القَوْل السَّابِع اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ -: أَنَّهَا لَا تدل على شَيْء.
وَلم يصحح ابْن الْحَاجِب شَيْئا، وَتَأْتِي هَذِه الْأَقْوَال فِي التَّخْصِيص بغاية.
قَوْله: { [على] للاستعلاء} .
هَذَا أشهر مَعَانِيهَا، سَوَاء كَانَ ذاتياً، نَحْو:{واستوت على الجودي} [هود: 44]، و {كل من عَلَيْهَا فان} [الرَّحْمَن: 26] ، أَو معنوياً كَقَوْلِه تَعَالَى:{وكتبنا عَلَيْهِم} [الْمَائِدَة: 45] ، {ولعلا بَعضهم} .
قَوْله: {وَهِي للْإِيجَاب عِنْد الْأَصْحَاب وَغَيرهم} .
قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد، و " الْهِدَايَة " فِي بَاب الْعَقِيقَة: (على للْإِيجَاب) .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَهِي للْإِيجَاب) .
وَقَالَ فِي " الْفُرُوع "، فِي بَاب إِخْرَاج الزَّكَاة:(و " على " ظَاهِرَة فِي الْوُجُوب، وأوجبه الظَّاهِرِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقد ذكره صَاحب " الْمُحَرر " فِي قَوْله: وعَلى الْغَاسِل ستر مَا رَآهُ) .
قَوْله: {وَلها معَان} . لَا بَأْس بذكرها تكميلاً للفائدة:
أَحدهَا: أَنَّهَا للاستعلاء، وَهِي أشهر مَعَانِيهَا كَمَا تقدم، حسياً كَانَ أَو معنوياً.
فَائِدَة: قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} [النِّسَاء: 81، والأنفال: 61، والأحزاب: 3، 48] ، لَا استعلاء فِيهِ، لَا حَقِيقَة، وَلَا مجَازًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنى الْإِضَافَة، أَي: أضفت توكلي إِلَى الله.
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمرَان: 159] ، (إِذا عقدت قَلْبك على أَمر بعد الاستشارة فَاجْعَلْ تفويضك فِيهِ إِلَى الله) .
الْمَعْنى الثَّانِي من مَعَاني " على ": المصاحبة، كَقَوْلِه تَعَالَى:{واتى المَال على حبه} [الْبَقَرَة: 177] .
الثَّالِث: الْمُجَاوزَة، بِمَعْنى " عَن "، كَقَوْل الشَّاعِر: