الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله: { [فصل] }
{الْوَاجِب
…
إِلَى آخر) } .
لما انْتهى الْكَلَام فِي تَعْرِيف الحكم وتقسيمه إِلَى خَمْسَة، أَخذنَا نبين تَعْرِيف كل وَاحِد مِنْهَا، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْمسَائِل وَالْأَحْكَام.
ونشير قبل ذَلِك إِلَى حُدُودهَا المستفادة من طَرِيق تقسيمها؛ فَنَقُول: الْفِعْل الْوَاجِب: مَا اقْتضى الشَّرْع فعله اقْتِضَاء جَازِمًا.
وَالْمَنْدُوب: مَا اقْتضى فعله اقْتِضَاء غير جازم.
وَالْحرَام: مَا اقْتضى الشَّرْع تَركه اقْتِضَاء جَازِمًا.
وَالْمَكْرُوه: مَا اقْتضى تَركه اقْتِضَاء غير جازم.
والمباح: مَا اقْتضى الشَّرْع التَّخْيِير فِيهِ.
وَهَذِه الْأَشْيَاء هِيَ محَال الْأَحْكَام ومتعلقاتها، وَأما الْأَحْكَام نَفسهَا فَهِيَ: الْإِيجَاب، وَالتَّحْرِيم، وَالنَّدْب، وَالْكَرَاهَة، وَالْإِبَاحَة، وَقد تقدّمت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (الْوُجُوب فِي الِاصْطِلَاح: خطاب بِطَلَب فعل
…
. إِلَى آخِره، وَالْوَاجِب: هُوَ الْفِعْل الْمُتَعَلّق للْوُجُوب، فَهُوَ فعل يتَعَلَّق بِهِ خطاب بِطَلَب) .
إِذا علم ذَلِك؛ فَلهم فِي حد الْوَاجِب حُدُود كَثِيرَة، قل أَن تسلم من خدش، اقتصرنا على أولاها فِيمَا ظهر لنا، فَنَذْكُر غَيره أَولا تكميلاً للفائدة، ثمَّ نذْكر ذَلِك.
أَحدهَا: أَن الْوَاجِب {مَا يُعَاقب تَاركه} .
ورد ذَلِك: بِجَوَاز الْعَفو.
وَجه الرَّد: هُوَ أَن قَوْلهم: الْوَاجِب مَا يُعَاقب تَاركه، يَقْتَضِي [أَن] كل وَاجِب فَإِن تَاركه يُعَاقب، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ لجَوَاز أَن يعْفُو الله تَعَالَى عَنهُ، أَو أَو يسْقط الْعقَاب بتوبة أَو اسْتِغْفَار أَو دُعَاء دَاع، وَبِالْجُمْلَةِ فَترك الْوَاجِب وَفعل الْمَحْظُور سَبَب للعقاب، غير أَن الحكم يجوز تخلفه عَن سَببه لمَانع، أَو انْتِفَاء شَرط، أَو معَارض مقاوم، أَو رَاجِح، وَإِذا جَازَ الْعَفو عَن ترك الْوَاجِب، اقْتضى الْحَد الْمَذْكُور أَن لَا يكون هَذَا الْوَاجِب الْمَتْرُوك وَاجِبا، لِأَن تَاركه لم يُعَاقب، فَانْتقضَ الْحَد.
مِثَاله: لَو ترك الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، ثمَّ تخلف الْعقَاب عَنهُ لسَبَب، لزم بِمُقْتَضى الْحَد أَن لَا تكون الْمَكْتُوبَة وَاجِبَة، وَهُوَ بَاطِل، وَهَذَا النَّقْض من حَيْثُ الْعَكْس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا لم يُعَاقب على تَركه فَلَيْسَ بِوَاجِب، فَيبْطل بِمَا ذكرنَا.
وَيرد عَلَيْهِ من حَيْثُ الطَّرْد ضرب ابْن عشر على ترك الصَّلَاة، [إِذْ] الصَّلَاة فعل عُوقِبَ تَاركه، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ على الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ كل مَا أدب الصَّغِير على تَركه هُوَ معاقب عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ.
{ [الثَّانِي] } : أَن الْوَاجِب {مَا توعد على تَركه بالعقاب} .
وَهُوَ أَعم من الَّذِي قبله، لِأَن كل معاقب على تَركه متوعد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كل متوعد عَلَيْهِ بالعقاب معاقباً [عَلَيْهِ] لجَوَاز الْعَفو بعد الْوَعيد.
وَنقض عَكسه: بِصدق إيعاد الله تَعَالَى.
وَمَعْنَاهُ: أَن الْوَعيد من الله تَعَالَى يسْتَلْزم الْعقَاب، لِأَن الْوَعيد خبر، وَخبر الله تَعَالَى صَادِق لابد من وُقُوع مخبره، وَإِذا لزم وُقُوع مُقْتَضى الْوَعيد صَار هَذَا التَّعْرِيف كَالَّذي قبله.
لَكِن لَيْسَ هَذَا وارداً على أصل أهل السّنة، لأَنهم يَقُولُونَ: يجوز الْعَفو عَن أهل الْكَبَائِر من هَذِه الْأمة وَإِن لم يتب مِنْهَا لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: لجَوَاز إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، مثل أَن يَقُول: صل فَإِن تركت الصَّلَاة عاقبتك إِن شِئْت، فَإِذا تَركهَا بَقِي فِي مَشِيئَة الله، إِن شَاءَ عاقبه بِمُقْتَضى الْوَعيد، وَإِن شَاءَ عفى عَنهُ بِمُقْتَضى الرَّحْمَة والجود وَالْكَرم، دلّ على ذَلِك الْكتاب، وَالسّنة، وَإِذا جَازَ إِيقَاع الْوَعيد بِالْمَشِيئَةِ، لم يلْزم من صدق الإيعاد وُقُوع مُقْتَضَاهُ من الْعقَاب.
الثَّانِي: أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم شَاهدا، أَي: فِيمَا يُشَاهد من أَحْوَال الْعُقَلَاء، فَلَا يقبح غَائِبا، أَي: فِي حق الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ غَائِب عَن الْأَبْصَار، وَإِن كَانَ شَاهدا لخلقه.
أما أَن إخلاف الْوَعيد من الْكَرم فِي الشَّاهِد فلإجماع الْعُقَلَاء على حسن الْعَفو، وَبِالْجُمْلَةِ، فَترك الْوَعيد إِلَى الْعَفو حسن مجمع عَلَيْهِ فِي عرف النَّاس.
وَرَأَيْت كثيرا من الشَّافِعِيَّة كالغزالي وَغَيره يَقُولُونَ: خلف الْوَعيد من الله تَعَالَى محَال، وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الْعَفو عَن فَاعل الْكَبِيرَة مَا لم يتب محَال، وَأَنه مخلد فِي النَّار.
{ [الثَّالِث] } من الْحُدُود: {مَا يذم تَاركه شرعا} ، قَالَه ابْن الباقلاني، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، {وَزَاد [ابْن] الباقلاني:(بِوَجْه مَا) ، ليدْخل الموسع وَفرض الْكِفَايَة.
وَنقض [طرده] } بالنائم، وَالنَّاسِي، وَالْمُسَافر، فَإِنَّهُ يذم بِتَقْدِير ترك الْجَمِيع.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (المُرَاد بالذم شرعا: نَص الشَّارِع بِهِ أَو بدليله، وَذَلِكَ أَنه لَا وجوب إِلَّا بِالشَّرْعِ.
وَقَالَ: (بِوَجْه مَا) ، ليدْخل من الْوَاجِبَات مَا لَا يذم تَاركه كَيْفَمَا تَركه، بل يذم تَاركه بِوَجْه دون وَجه، وَهُوَ الموسع، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا تَركه فِي جَمِيع وقته، وَلَو تَركه فِي بعض وَفعله فِي بعض لم يذم، وَكَذَا فرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ يذم تَاركه إِذا لم يقم بِهِ غَيره فِي ظَنّه.
وَبِهَذَا الْقَيْد حَافظ على عَكسه، فَلم يخرج عَن الْحَد مَا هُوَ من الْمَحْدُود، أَعنِي: الموسع والكفاية، لكنه أخل بطرده، فَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ من الْمَحْدُود، وَهُوَ صَلَاة النَّائِم وَالنَّاسِي وَصَوْم الْمُسَافِر، فَإِنَّهُ يذم تَاركه بِتَقْدِير انْتِفَاء الْعذر.
فَإِن قَالَ: لَا نسلم أَن هَذِه غير وَاجِبَة، وَسقط الْوُجُوب فِيهَا بالعذر.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ فِي الْكِفَايَة، [يُقَال] : يذم بِتَرْكِهِ شرعا، أَي: يجب الذَّم، لكنه يسْقط وجوب الذَّم بِفعل الْبَعْض الآخر، وَإِذا اعتددت بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الْفِعْل، فَلم تَعْتَد بِالْوُجُوب السَّاقِط فِي الذَّم، فَلَا يكون إِلَى قَوْله:(بِوَجْه مَا) ، حَاجَة، وَكَذَلِكَ الموسع) انْتهى.
{الرَّابِع} من الْحُدُود {مَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ} .
وَهُوَ مَرْدُود بِمَا يشك فِي وُجُوبه وَلَا يكون وَاجِبا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ يخَاف الْعقَاب على تَركه، فَيبْطل تَركه.
{الْخَامِس} : - وَهُوَ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّه أولى الْحُدُود { [مَا ذمّ شرعا تَاركه] قصدا مُطلقًا} ، وَهُوَ [للبيضاوي] ، وَنَقله فِي " الْمَحْصُول " عَن الباقلاني، وَقَالَ فِي " الْمُنْتَخب ": (إِنَّه الصَّحِيح من الرسوم، لَكِن فِيهِ نقص تَعْبِير، وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " {وَلم يقل: قصدا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد حد ابْن الباقلاني -: (فَلَو قيل: مَا ذمّ تَاركه شرعا قصدا مُطلقًا، صَحَّ) .
فقولنا: (مَا ذمّ)، هُوَ خير من قَوْلنَا:(مَا يُعَاقب تَاركه) ، لجَوَاز الْعَفو،
وَمن قَوْلنَا: (مَا يتوعد بالعقاب على تَركه) ، لما فِيهِ كَمَا تقدم، وَمن قَوْلنَا:(مَا يخَاف الْعقَاب على تَركه) ، لأجل الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه كَمَا تقدم.
واحترزنا بِهِ عَن الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه والمباح، لِأَنَّهُ لَا ذمّ فِيهَا.
وَالْمرَاد بذم تَاركه: أَن يرد فِي كَلَام الله تَعَالَى، [أَو سنة] رَسُوله، أَو إِجْمَاع الْأمة، مَا يدل على الذَّم.
وَقَوله: (شرعا) ، لِأَن الذَّم لَا يثبت إِلَّا بِالشَّرْعِ، خلاف مَا قالته الْمُعْتَزلَة.
وَقَوله: (تَاركه) ، احْتَرز بِهِ عَن الْحَرَام، فَإِنَّهُ يذم شرعا فَاعله.
وَقَوله " (قصدا) ، فِيهِ تقريران موقوفان على مُقَدّمَة، [وَهِي] : أَن هَذَا التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ بالحيثية، أَي: الَّذِي بِحَيْثُ لَو ترك لذم تَاركه، إِذْ لَو لم يكن بالحيثية، لاقتضى أَن كل وَاجِب لابد من حُصُول الذَّم على
تَركه وَهُوَ بَاطِل.
إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَنه إِنَّمَا أَتَى بِالْقَصْدِ لِأَنَّهُ شَرط لصِحَّة هَذِه الْحَيْثِيَّة، إِذْ التارك لَا على سَبِيل الْقَصْد لَا يذم.
الثَّانِي: أَنه احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا مضى من الْوَقْت قدر فعل الصَّلَاة ثمَّ تَركهَا بنوم أَو نِسْيَان، وَقد تمكن، وَمَعَ ذَلِك لم يذم شرعا تاركها لِأَنَّهُ مَا تَركهَا قصدا، فَأتى بِهَذَا الْقَيْد لإدخال هَذَا الْوَاجِب فِي الْحَد، وَيصير بِهِ جَامعا.
وَلم يذكر فِي " الْمَحْصُول "، و " الْمُنْتَخب "، و " التَّحْصِيل "، و " الْحَاصِل "، والطوفي، هَذَا الْقَيْد.
وَقَوله: مُطلقًا، فِيهِ تقريران أَيْضا موقوفان على مُقَدّمَة، وَهِي: أَن الْإِيجَاب بِاعْتِبَار الْفَاعِل قد يكون على الْكِفَايَة، وعَلى الْعين.
وَبِاعْتِبَار الْمَفْعُول قد يكون مُخَيّرا، كخصال الْكَفَّارَة، وَقد يكون [محتماً: كَالصَّلَاةِ.
وَبِاعْتِبَار الْوَقْت الْمَفْعُول فِيهِ قد يكون موسعاً: كَالصَّلَاةِ، وَقد يكون] مضيقاً: كَالصَّوْمِ.
فَإِذا ترك الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا صدق أَنه ترك وَاجِبا، إِذْ الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت، وَمَعَ ذَلِك لَا يذم عَلَيْهَا إِذا أَتَى بهَا فِي أثْنَاء الْوَقْت، ويذم إِذا أخرجهَا عَن جَمِيعه.
وَإِذا ترك [إِحْدَى] خِصَال الْكَفَّارَة، [فقد] ترك مَا يصدق عَلَيْهِ [أَنه وَاجِب، مَعَ] أَنه لَا ذمّ فِيهِ إِذا أَتَى بِغَيْرِهِ.
وَإِذا ترك صَلَاة جَنَازَة فقد ترك مَا صدق عَلَيْهِ أَنه وَاجِب عَلَيْهِ وَلَا يذم عَلَيْهِ إِذا فعله غَيره.
إِذا علم ذَلِك؛ فأحد التقريرين: أَن قَوْله: (مُطلقًا) ، عَائِد إِلَى الذَّم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد تلخص أَن الذَّم على الْوَاجِب الموسع والمخير وعَلى الْكِفَايَة من وَجه دون وَجه، والذم على الْوَاجِب الْمضيق والمحتم وَالْوَاجِب على الْعين من كل وَجه، فَلذَلِك قَالَ:(مُطلقًا) ، ليشْمل ذَلِك كُله بِشَرْط، وَلَو لم يذكر ذَلِك لورد عَلَيْهِ من ترك شَيْئا من ذَلِك.
والتقرير الثَّانِي: أَن (مُطلقًا) عَائِد إِلَى التّرْك، وَالتَّقْدِير: تركا مُطلقًا، ليدْخل الْمُخَير والموسع وَفرض الْكِفَايَة، فَإِنَّهُ إِذا ترك فرض الْكِفَايَة لَا يَأْثَم، وَإِن صدق أَنه ترك وَاجِبا، وَكَذَلِكَ الْآتِي بِهِ آتٍ بِالْوَاجِبِ، مَعَ أَنه لَو تَركه لم يَأْثَم، وَإِنَّمَا يَأْثَم إِذا حصل التّرْك الْمُطلق مِنْهُ وَمن غَيره، وَهَكَذَا فِي الْوَاجِب الْمُخَير والموسع، وَدخل فِيهِ أَيْضا الْوَاجِب المحتم والمضيق وَفرض الْعين، لِأَن كل مَا ذمّ الشَّخْص عَلَيْهِ إِذا تَركه وَحده، ذمّ عَلَيْهِ أَيْضا إِذا تَركه هُوَ وَغَيره.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَد أجمع وَأَمْنَع من غَيره كَمَا ترى قُلْنَا: هُوَ أولى من غَيره.
{ [السَّادِس: لِابْنِ عقيل] } ، فَإِنَّهُ حَده بِأَنَّهُ:{إِلْزَام الشَّرْع} ، وَقَالَ:(الثَّوَاب وَالْعِقَاب أَحْكَامه ومتعلقاته، فحده بِهِ يأباه الْمُحَقِّقُونَ) ، وَهُوَ حسن.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، فِي بَاب الْوضُوء: (قَالَ القَاضِي فِي الْخلاف: مَا كَانَ طَاعَة لله فعبادة، قيل لَهُ: فقضاء الدّين ورد الْوَدِيعَة عبَادَة؟ فَقَالَ: كَذَا نقُول، قيل لَهُ: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرطه النِّيَّة؟ فَقَالَ: إِذا لم يجز أَن يُقَال فِي الطَّاعَة لله والمأمور [بِهِ] هُوَ الَّذِي من شَرطه النِّيَّة، كَذَا لَا يجوز فِي الْعِبَادَة.
وَكَذَا قَالَ غَيره، يَعْنِي من الْأَصْحَاب) انْتهى كَلَامه فِي الْفُرُوع.
ورد الطوفي فِي " شَرحه " مَا قَالَه الْقَرَافِيّ وَقَالَ: (التَّحْقِيق أَن يُقَال: الْوَاجِب هُوَ الْمَأْمُور بِهِ جزما، [وَشرط] تَرْتِيب الثَّوَاب [عَلَيْهِ] نِيَّة التَّقَرُّب بِفِعْلِهِ، وَالْحرَام الْمنْهِي جزما، وَشرط تَرْتِيب الثَّوَاب على تَركه نِيَّة التَّقَرُّب، فترتيب الثَّوَاب وَعَدَمه فِي فعل الْوَاجِب وَترك الْمحرم وعدمهما رَاجع إِلَى وجود شَرط الثَّوَاب وَعَدَمه وَهُوَ النِّيَّة، لَا إِلَى انقسام الْوَاجِب وَالْحرَام فِي نفسهما) انْتهى.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (الشَّرِيعَة مَأْمُور، ومنهي، ومباح، فالمنهي والمباح لَا يفتقران إِلَى نِيَّة، لِخُرُوجِهِ من الْعهْدَة بِمُجَرَّد التّرْك وَإِن لم يشْعر، لَكِن يحصل لَهُ ثَوَاب بِقصد الْقرْبَة بِتَرْكِهِ، وَلَا عُهْدَة فِي مُبَاح فَلَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة.
[وَدفع الدُّيُون، ورد الغصوب، ونفقات الزَّوْجَات والأقارب، ورد الودائع، وَنَحْوه، وجود الْفِعْل فِيهِ كَاف فِي تَحْصِيل الْمصلحَة، فَإِذا وَقع بِغَيْر نِيَّة لَا يُقَال لَهُ: أعد الدّفع، لحُصُول الْمصلحَة بِمَا وَقع.
- قَالَ -: وَمن ذَلِك: النِّيَّة، فَإِنَّهَا مَأْمُور بهَا، ومقصودها التَّمْيِيز، وَهُوَ حَاصِل لذاتها، لَا يفْتَقر إِلَى نِيَّة] أُخْرَى تصيرها متميزة، لِاسْتِحَالَة وُقُوعهَا غير متميزة، وَلم تفْتَقر إِلَى النِّيَّة.
وَمن ذَلِك: النّظر الأول وَاجِب، مَعَ أَنه لَا يُمكن إِيقَاعه طَاعَة مَعَ أَن فَاعله لَا يعرف وُجُوبه عَلَيْهِ إِلَّا بعد إِتْيَانه بِهِ، وَالْعِبَادَة الْمَحْضَة مقصودها تَعْظِيم الله تَعَالَى، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون مَعَ الْقَصْد، فَلَا جرم لم تحصل مصالحها بِغَيْر نِيَّة. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك -: تَنْبِيه: التَّصَرُّفَات ثَلَاثَة أَقسَام:
مِنْهَا: مَا لَا يُمكن إِلَّا أَن يقْصد بِهِ التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى، كالعبادة الْمَحْضَة.
وَمِنْهَا: مَا لَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ النّظر الأول المفضي إِلَى إِثْبَات الْعلم بالصانع.
وَمِنْهَا: مَا يُمكن التَّقَرُّب بِهِ، كرد الْوَدِيعَة وَنَحْوهَا، وَكَذَا الْمُبَاحَات، كَقَوْل معَاذ:" أحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي ") انْتهى.
وَهُوَ كَلَام حسن.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان وَلَا تفتقران إِلَى نِيَّة؟ فَقَالَ: الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر، وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) انْتهى.
قلت: يحْتَمل أَن يُقَال فِي إِسْلَام الْكَافِر: إِنَّه عبَادَة قطعا، لِأَنَّهُ بِقَصْدِهِ الْإِسْلَام قبل التَّلَفُّظ بِهِ قد بَقِي كَالْمُسلمِ، فَمَا حصل الْإِسْلَام إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الْمُسلم، وَلِهَذَا وَالله أعلم لَو عزم الْكَافِر على الْإِسْلَام وصمم على التَّلَفُّظ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمنع من ذَلِك [قدر] أَنه مُسلم من أهل الْجنَّة، وَكَذَلِكَ - مثلا لَو كَانَ قد اعتقل لِسَانه عِنْد الْمَوْت وَنَحْوه، وَهَذَا وَاضح فِيمَا يظْهر.