الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّعْبِير بالمطلوب أولى، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون وَاجِبا أَو مُسْتَحبا، وَإِن كَانَ الْمَشْهُور التَّعْبِير بِالْوَاجِبِ الْمُخَير.
وتصوير الْمَنْدُوب فِي الْمَطْلُوب الْمُخَير حَيْثُ تسْتَحب الْكَفَّارَة.
وَالْمرَاد بِالْكَفَّارَةِ: كَفَّارَة الْيَمين فِي قَوْله تَعَالَى: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] ، وَنَحْوهَا، كجزاء الصَّيْد فِي قَوْله تَعَالَى:{فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} [الْمَائِدَة: 95]، وكفدية الْأَذَى فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} [الْبَقَرَة: 196]، وكالجبران فِي الزَّكَاة فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم َ -: "
شَاتين أَو عشْرين درهما "، وَمثل الْوَاجِب فِي الْمِائَتَيْنِ من الْإِبِل: " أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون "، وكالتخيير بَين غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء للابس الْخُف أَو الْمسْح عَلَيْهِ، وَنَحْوهَا
.
إِذا علم ذَلِك؛ فَالْوَاجِب وَاحِد لَا بِعَيْنِه {عِنْد [أَكثر الْعلمَاء] } ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ موفق [الدّين] ، وَغَيره من الْأَصْحَاب، وَذكره أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ عَامَّة الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَنقل ابْن الباقلاني [أَن] إِجْمَاع السّلف وأئمة الْفِقْه عَلَيْهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذ:(هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء كَافَّة) .
فعلى هَذَا قَالَ { [القَاضِي] ، وَابْن عقيل: يتَعَيَّن} ذَلِك الْوَاحِد {بِالْفِعْلِ} ، وَذكره ابْن عقيل {عَن الْفُقَهَاء والأشعرية.
وَقيل: [يتَعَيَّن بِتَعْيِين الَّذِي وَجب عَلَيْهِ قبل فعله] } .
[قَالَ] الْبرمَاوِيّ: (ثمَّ على القَوْل الأول، بِمَاذَا يتَعَيَّن الْوَاجِب؟ أباختيار الْمُكَلف أَو بِالْفِعْلِ؟ قَولَانِ.
وَحكى الأول ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ") انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب} وَغَيره: (هُوَ {معِين عِنْد الله تَعَالَى، علم أَنه لَا يفعل غَيره) } .
فَحِينَئِذٍ يخْتَلف الْوَاجِب بِحَسب الفاعلين.
ورده ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": (بِأَنَّهُ لَو مَاتَ قبل أَن يفعل شَيْئا، وَلم [يغْفل] عَنهُ، بَان أَنه لَا وجوب، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع) انْتهى.
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": (أَصْحَابنَا ينسبون هَذَا القَوْل إِلَى الْمُعْتَزلَة، والمعتزلة تنسبه إِلَى أَصْحَابنَا، وَاتفقَ الْفَرِيقَانِ على فَسَاده) ، وَيُسمى قَول التراجم.
لذَلِك قَالَ السُّبْكِيّ: (وَعِنْدِي أَنه لم يقل بِهِ أحد) .
قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فقد اخْتَارَهُ الإِمَام أَبُو الْخطاب من أَئِمَّة أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ [الْقطَّان] من الشَّافِعِيَّة عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ، فَلَا وَجه لإنكاره بحثا.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون لكل من الْمُعْتَزلَة والأشعرية، وَلكنه ضَعِيف شَاذ عِنْد كل من الطَّائِفَتَيْنِ لم يشْتَهر، وَهُوَ أولى من النَّفْي، فَإِن النَّاقِل من الطَّائِفَتَيْنِ قد يكون ثِقَة من الْأَئِمَّة، فَهُوَ مقدم على النَّافِي فِيمَا يظْهر، وَلَا يُقَال: هَذَا نفي مَحْصُور، أَو تتبعنا فَلم نجد نقلا بِهِ، وَالله أعلم.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ} لتعارض الْأَدِلَّة.
{وَعَن الْمُعْتَزلَة كَالْقَاضِي} أبي يعلى.
يَعْنِي: أَنهم قَالُوا: الْوَاجِب وَاحِد يتَعَيَّن بِالْفِعْلِ.
{ [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } : الْوَاجِب وَاحِد {معِين} عِنْد الله، {وَيسْقط بِغَيْرِهِ} إِذا فعله الْمُكَلف، وَيكون نفلا أسقط فرضا.
ورد: بالِاتِّفَاقِ على أَنه فعل الْوَاجِب لَا بدله.
{ [وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة] } أَيْضا {كلهَا وَاجِب على التَّخْيِير} ، وَهُوَ مَنْقُول عَن الجبائي وَابْنه، وَنسبه قوم إِلَى كل الْمُعْتَزلَة، وتبعهم قوم من الْفُقَهَاء كَمَا نَقله ابْن الباقلاني.
{ [وَمعنى ذَلِك] : أَن كل وَاحِد مُرَاد} لَا على معنى أَنه يجب الْإِتْيَان بِكُل وَاحِد، بل على أَنه لَا يجوز الْإِخْلَال بِالْجَمِيعِ، فعلى هَذَا لَا خلاف فِي " الْمَعْنى "، بل فِي الْعبارَة، وَإِنَّمَا مَأْخَذ الْمُعْتَزلَة: أَن الحكم عِنْدهم يتبع الْحسن والقبح العقليين، فَلَو كَانَ أحد الْخِصَال وَاجِبا، لزم خلو الْبَاقِي عَن الْحسن الْمُقْتَضِي للْإِيجَاب، فيرتفع الْمُقْتَضِي فِي كل وَاحِد وَاحِد.
كَذَا قرر أَن الْخلاف لَفْظِي: ابْن الباقلاني، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،
وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وسليم الرَّازِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: (بل الْخلاف معنوي، لأَنا نخطئهم فِي إِطْلَاق اسْم الْوُجُوب على الْجَمِيع، لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن الْوَاجِب فِي الْكَفَّارَة المخيرة أحد الْأُمُور) .
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: (الَّذِي يظْهر من كَلَام الْغَزالِيّ، وَابْن فورك: أَنه معنوي) .
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن التلمساني وَغَيرهم.
وَقيل: (تظهر فَائِدَته فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب، إِذا فعل الْجَمِيع، أَو أخل بِالْكُلِّ) وَهُوَ ضَعِيف.
دَلِيل أَرْبَاب القَوْل الأول وَهُوَ الصَّحِيح -: أَنه يجوز التَّكْلِيف بِهِ عقلا: كتكليف السَّيِّد عَبده بِفعل هَذَا الشَّيْء أَو ذَاك، على أَن يثيبه على أَيهمَا فعل، ويعاقبه بترك الْجَمِيع، وَلَو أطلق لم يفهم وجوبهما، وَالنَّص دلّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لم يرد الْجَمِيع وَلَا وَاحِدًا بِعَيْنِه، لِأَنَّهُ خَيره، وَلَو أوجب التَّخْيِير الْجَمِيع، لَوَجَبَتْ عتق الْجَمِيع إِذا وَكله فِي إِعْتَاق أحد عبديه، وتزويج موليته بالخطابين، إِذا وكلته فِي التَّزْوِيج بِأَحَدِهِمَا.
قَالُوا: غير الْمعِين مَجْهُول فَلَا يشْعر بِهِ، ويستحيل وُقُوعه فَلَا يُكَلف بِهِ.
ورد: بتعيينه من حَيْثُ هُوَ وَاجِب، وَهُوَ وَاحِد من الثَّلَاثَة، فَيَنْتَفِي الشخصي، فصح إطلاقهما عَلَيْهِ باعتبارين.
قَالُوا: لَو لم يجب الْجَمِيع لوَجَبَ وَاحِد، فَإِن تعين فَلَا تَخْيِير، أَو وَقع التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن لمة يتعسن فواحد غير وَاجِب، فَإِن تعدد لزم التَّخْيِير بَين وَاجِب وَغَيره، وَإِن اتَّحد اجْتمع الْوُجُوب وَعَدَمه.
رد: يلْزم فِي الْإِعْتَاق وَالتَّزْوِيج، ثمَّ الْوَاجِب لم يُخَيّر فِيهِ لإبهامه، والمخير فِيهِ لم يجب لتعيينه، وَهِي الْأَفْرَاد الثَّلَاثَة، وَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّد الْوُجُوب والتخيير، فتعدد متعلقاهما: الْوَاجِب والمخير، كَمَا لَو حرم الشَّارِع وَاحِدًا وَأوجب وَاحِدًا.
قَالُوا: يجب أَن يعلم الْآمِر مَا أوجبه، لِاسْتِحَالَة طلب غير مُتَصَوّر. رد: يُعلمهُ حسب مَا أوجبه، وَإِذا أوجبه غير معِين علمه كَذَلِك.
قَالُوا: علم مَا يَفْعَله الْمُكَلف، فَكَانَ الْوَاجِب، لِأَنَّهُ يمْتَنع إِيجَابه مَا علم عدم وُقُوعه.
رد: بِمَنْعه، ثمَّ لم يجب بخصوصة للْقطع بتساوي النَّاس فِي الْوَاجِب إِجْمَاعًا.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: حرر ابْن الْحَاجِب معنى الْإِبْهَام فِيهِ، فَقَالَ: (مُتَعَلق الْوُجُوب هُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْخِصَال، وَلَا تَخْيِير فِيهِ لِأَنَّهُ وَاحِد، وَلَا يجوز تَركه، ومتعلق التَّخْيِير خصوصيات الْخِصَال الَّتِي فِيهَا التَّعَدُّد، وَلَا وجوب فِيهَا ".
قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: (وَعِنْدِي زِيَادَة أُخْرَى فِي التَّحْرِير، وَهِي: أَن الْقدر الْمُشْتَرك يُقَال على المتواطي كَالرّجلِ، وَلَا إِبْهَام فِيهِ، فَإِن حَقِيقَته مَعْلُومَة متميزة [عَن غَيرهَا] من الْحَقَائِق، وَيُقَال على الْمُبْهم من شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء كَأحد الرجلَيْن.
وَالْفرق بَينهمَا: أَن الأول لم يقْصد فِيهِ إِلَّا الْحَقِيقَة، وَالثَّانِي قصد فِيهِ ذَلِك مَعَ أحد الشخصين بِعَيْنِه، أَي: لَا بِاعْتِبَار معنى مُشْتَرك بَينهمَا، وَإِن لم يعين، وَلذَلِك سمي مُبْهما، لِأَنَّهُ أبهم علينا أمره، فَلَا يُقَال فِي الأول الَّذِي
هُوَ نَحْو: أعتق رَقَبَة -: إِنَّه وَاجِب مُخَيّر، لِأَنَّهُ لم يقل أحد فِيهِ: بتعلق الحكم [بخصوصياته] ، بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على تَسْمِيَته مُخَيّرا، وَمن الأول أَكثر أوَامِر الشَّرِيعَة.
فَيتَعَيَّن أَن الْقدر الْمُشْتَرك فِي الثَّانِي أخص من الْقدر الْمُشْتَرك فِي الأول، وَإِلَيْهِ يرشد قَوْلهم: من أُمُور مُعينَة.
وَالْمعْنَى: أَن النّظر إِلَيْهَا من حَيْثُ تعينها وتميزها مَعَ الْإِبْهَام احْتِرَاز من الْقسم الأول) انْتهى.
الثَّانِيَة: مَحل الْخلاف فِي صِيغَة وَردت يُرَاد بهَا التَّخْيِير، أَو مَا فِي معنى وُرُود ذَلِك، كَمَا سبق التَّمْثِيل بِهِ.
فَأَما نَحْو تَخْيِير المستنجئ بَين المَاء وَالْحجر، والناسك بَين الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان، وَنَحْو ذَلِك، فَلَيْسَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يرد تَخْيِير بِلَفْظ وَلَا بِمَعْنَاهُ، بِخِلَاف مَا تقدم.
قَوْله: {تَنْبِيه: لَا يجب أَكثر من وَاحِدَة إِجْمَاعًا} .
وَهُوَ وَاضح، لِأَنَّهُ قد خَيره فِي ذَلِك.
{ [وَإِن] كفر بهَا مرتبَة فَالْوَاجِب الأول إِجْمَاعًا} .
لِأَنَّهُ الَّذِي أسقط الْفَرْض، وَالَّذِي بعده لم يُصَادف وجوبا فِي الذِّمَّة. {أَو مَعًا} .
يَعْنِي: إِذا كفر بهَا مَعًا فِي وَقت وَاحِد، وَيتَصَوَّر ذَلِك، وصورها أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ": بِأَن يكون قد بَقِي عَلَيْهِ من الصَّوْم يَوْم ووكل فِي الْإِطْعَام وَالْعِتْق.
قلت: وَأولى مِنْهَا من كَفَّارَة الْيَمين، بِأَن يُوكل شخصا يطعم وشخصاً يكسو أَو يعْتق، وَهُوَ فِي آن وَاحِد، أَو يُوكل فِي الْكل، وَيفْعل فِي وَقت وَاحِد.
إِذا علم ذَلِك؛ { [فَلَا] يُثَاب ثَوَاب الْوَاجِب على كل وَاحِد إِجْمَاعًا، بل على أَعْلَاهَا} ، لِأَنَّهُ لَا ينقصهُ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، وترجيح الْأَعْلَى لكَون الزِّيَادَة فِيهِ لَا يَلِيق بكرم الله تَعَالَى تضييعها على الْفَاعِل، مَعَ الْإِمْكَان وقصدها بِالْوُجُوب وَإِن اقْترن بِهِ آخر.
{وَإِن ترك الْكل لم يَأْثَم عَلَيْهِ} .
أَي: على الْكل {إِجْمَاعًا} ، لِأَن الْكل لَيْسَ بِوَاجِب عَلَيْهِ حَتَّى يَأْثَم عَلَيْهِ إِذا تَركه.
{ [بل قَالَ] القَاضِي} أَبُو يعلى، {و} القَاضِي { [أَبُو الطّيب] } - محققين لذَلِك -:( { [يَأْثَم] بِقدر عِقَاب أدناها، [لَا أَنه] [نفس عِقَاب أدناها] } ) .
وَغَيرهمَا قَالَ: (يُعَاقب على الْأَدْنَى، لِأَن الْوُجُوب يسْقط بِهِ) .
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل: (يُثَاب على وَاحِد وَيَأْثَم بِهِ) }
وَقيل: (يَأْثَم على وَاحِد لَا بِعَيْنِه كَمَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّه قَول أبي الْخطاب، وَابْن عقيل.
وَقيل: (يُثَاب على فعل الْكل على مَجْمُوع أُمُور، لَا يجوز ترك كلهَا، وَلَا يجب فعلهَا.
أَي: ثَوَاب وَاجِبَات مخيرة، وَهُوَ أَزِيد من ثَوَاب بَعْضهَا، وَكَذَلِكَ الْعقَاب، يُعَاقب على ترك مَجْمُوع أُمُور، كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا بَين ترك أَي وَاحِد مِنْهَا شَاءَ بِشَرْط فعل الآخر) ، وَاخْتَارَ هَذَا الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الغموض والإبهام.