الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} [مُحَمَّد: 33] ، فَيحمل على التَّنْزِيه جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إِن لم يُفَسر بُطْلَانهَا بِالرّدَّةِ، بِدَلِيل الْآيَة الَّتِي قبلهَا، أَو أَن المُرَاد: فَلَا تبطلوها بالرياء، نَقله ابْن عبد الْبر عَن أهل السّنة، وَنقل عَن الْمُعْتَزلَة تَفْسِيرهَا بِمَعْنى: لَا تبطلوها بالكبائر، لَكِن الظَّاهِر تَفْسِيرهَا بِمَا تقدم.
وَاحْتج الْمُخَالف: بِحَدِيث الْأَعرَابِي: هَل عَليّ غَيرهمَا؟ قَالَ: " لَا إِلَّا أَن تطوع "، أَي: فيلزمك التَّطَوُّع إِن تَطَوَّعت، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فِي أَصله.
وَعِنْدنَا: أَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، بِدَلِيل أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
قد أبطل تطوعه كَمَا سبق
.
وَمِمَّا اسْتشْكل على أبي حنيفَة: تجويزه للمتنفل بعد أَن يشرع فِي الصَّلَاة قَائِما، الصَّلَاة قَاعِدا، فَلذَلِك حالفه صَاحِبَاه، فمنعا الْقعُود طرداً للقاعدة.
مَعَ أَنه نقل أَبُو نصر الْعِرَاقِيّ عَن أبي حنيفَة فِي كتاب الصَدَاق: (أَن لَهُ الْخُرُوج من صَوْم التَّطَوُّع، إِلَّا أَنه يجب الْقَضَاء) .
وَأما الْحَج وَالْعمْرَة فَيلْزم إِتْمَامهمَا فِي التَّطَوُّع لمن شرع فيهمَا.
وَفرق بَينهمَا وَبَين سَائِر التطوعات بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن نفلهما مسَاوٍ لفرضهما، نِيَّة، وَكَفَّارَة، وَغَيرهمَا، فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِتْمَام واللزوم.
وَالثَّانِي: - وَهُوَ أَجود، وَبِه أجَاب الإِمَام الشَّافِعِي فِي " الْأُم " أَنه
يجب الْمُضِيّ فِي فَاسد التَّطَوُّع مِنْهُمَا كواجبه، فإتمام صَحِيح التَّطَوُّع أولى، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (لِأَن نفل [الْحَج] كفرضه فِي الْكَفَّارَة، وَتَقْرِير الْمهْر بالخلوة مَعَه، بِخِلَاف الصَّوْم) .
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: (لانعقاد الْإِحْرَام لَازِما) .
وَقَالَ فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ": (لتأكد إحرامهما، وَلَا يخرج مِنْهُمَا بإفسادهما) .
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": (على أَن هَذَا السُّؤَال قد أفسد من أَصله، بِأَن الْحَج لَا يُمكن وُقُوعه تَطَوّعا، [فَإِنَّهُ إِقَامَة شعار الْبَيْت، وَمن فروض] الكفايات، وَهِي تلْزم بِالشُّرُوعِ على الْأَصَح) انْتهى.
وَتبع فِي ذَلِك الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ".
قلت: وَفِيه نظر، وَذَلِكَ أَنه لَو حج حجَّة الْإِسْلَام مَعَ من حج حجَّة ثَانِيَة: هَل يُقَال: إِن الَّذِي حج ثَانِيًا مَعَ الَّذِي وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، يكون حجَّة من فروض الكفايات وَالْحَالة هَذِه؟ فِيهِ نظر ظَاهر.
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا: (إِن الْحَج فرض كِفَايَة فِي كل عَام)، ومرادهم - وَالله أعلم -: إِذا خلا عَام من أَن يُوجد من وَجب عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ يلْزم الْحَج وَيكون فرض كِفَايَة، لَا أَن كل من حج ثَانِيًا يكون حجَّة ذَلِك من فروض الْكِفَايَة، هَذَا مَا ظهر.
وينتفض أَيْضا بِحَجّ الْمُرَاهق، فَإِن حجه نفل، لِأَنَّهُ غير مُخَاطب، إِذْ الْخطاب لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة بِوُجُوب إتْمَام الصَّوْم، وَلُزُوم الْقَضَاء إِن أفطر، وفَاقا لأبي حنيفَة، وَمَالك، كَمَا تقدم.
وَعَن أَحْمد تلْزم صَلَاة التَّطَوُّع بِخِلَاف الصَّوْم، وَمَال إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاق الْجوزجَاني، وَقَالَ:(الصَّلَاة ذَات إِحْرَام وإحلال كَالْحَجِّ) .
قَالَ الْمجد: (وَرِوَايَة إتْمَام الصَّوْم عكس هَذِه الرِّوَايَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عبَادَة تجب بإفسادها الْكَفَّارَة الْعُظْمَى كَالْحَجِّ) .
وَالْمذهب التَّسْوِيَة، وَقيل: الِاعْتِكَاف كَالصَّوْمِ.
وَذكر القَاضِي وَجَمَاعَة من الْأَصْحَاب: (أَن الطّواف كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل)، فَظَاهره: أَنه كَالصَّلَاةِ هُنَا، وفَاقا لمَالِك.
وَلَا تلْزم الصَّدَقَة، وَالْقِرَاءَة، والأذكار، بِالشُّرُوعِ، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة.
قَوْله: {فرع: الزَّائِد على قدر [الْوَاجِب] فِي قيام وَنَحْوه} - كركوع وَسُجُود {نفل عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم} .
مِنْهُم: أَكثر أَصْحَابنَا، لجَوَاز تَركه مُطلقًا، وَهَذَا شَأْن النَّفْل.
قَالَ ابْن برهَان: (على هَذَا أجمع الْفُقَهَاء والمتكلمون) ، وَلم يحك فِيهِ خلافًا إِلَّا عَن الْكَرْخِي.
{وواجب عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة، والكرخي} ، لتناول الْأَمر مِنْهُمَا. قَالَ القَاضِي:(وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد) ، وَأَخذه من نَصه على أَن الإِمَام إِذا أَطَالَ الرُّكُوع فأدركه فِيهِ مَسْبُوق أدْرك الرَّكْعَة، وَلَو لم يكن الْكل وَاجِبا لما صَحَّ لَهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ يكون اقْتِدَاء مفترض بمنتفل.
ورده ابْن عقيل وَأَبُو الْخطاب بِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي بعد هَذِه.
{ [وللقاضي من أَصْحَابنَا كالقول الأول وَالثَّانِي] } .
قَوْله: { [وَعند الثَّلَاثَة: إِن أدْرك الرُّكُوع أدْركهَا] } .
أَي: ذهبت الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد: أَنه لَو أدْرك الإِمَام رَاكِعا و [لَو] بعد الطُّمَأْنِينَة مِنْهُ أدْرك الرَّكْعَة.
قَالُوا: لِأَن الِاتِّبَاع يسْقط الْوَاجِب: كمسبوق، وَصَلَاة امْرَأَة الْجُمُعَة، وَيُوجب الِاتِّبَاع مَا كَانَ غير وَاجِب: كمسافر ائتم بمقيم، فَيلْزمهُ إتْمَام الصَّلَاة.
قَالَ ابْن عقيل: (نَص أَحْمد، - يَعْنِي:[الَّذِي] تقدم فِي الَّتِي قبلهَا لَا يدل عِنْدِي على هَذَا الْمَذْهَب، بل يُعْطي أحد أَمريْن: إِمَّا جَوَاز ائتمام المفترض بالمتنفل، وَيحْتَمل أَن يجرى مجْرى الْوَاجِب فِي بَاب الِاتِّبَاع خَاصَّة، إِذا الِاتِّبَاع قد يسْقط الْوَاجِب، كَمَا فِي الْمَسْبُوق، ومصلي الْجُمُعَة من امْرَأَة، وَعبد، ومسافر، وَقد يُوجب مَا لَيْسَ بِوَاجِب: كالمسافر الْمُؤْتَم بمقيم.
وَقِيَاس الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة، وَهُوَ فعل الْمثل على الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة) انْتهى.
{ [و] } قَالَ الإِمَام { [مَالك] } : لَا يدْرك الرُّكُوع إِلَّا إِن أدْرك { [مَعَه الطُّمَأْنِينَة] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (من أدْرك الإِمَام رَاكِعا فَرَكَعَ مَعَه أدْرك الرَّكْعَة، وفَاقا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
وَقيل: إِن أدْرك مَعَه الطُّمَأْنِينَة وفَاقا لمَالِك) انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (كل مَا كَانَ طَاعَة ومأموراً بِهِ فَهُوَ عبَادَة عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة: الْعِبَادَة مَا كَانَ من شَرط النِّيَّة) انْتهى.
فَدخل فِي كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْأَفْعَال والتروك: كَتَرْكِ الْمعاصِي، [والنجاسة] ، وَالزِّنَا، والربا، وكل محرم، وَالْأَفْعَال: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَغَيرهَا.
وَيدخل فِيهِ: رد الغصوب، والعواري، والودائع، وَالنَّفقَة الْوَاجِبَة، وَالدّين، وَنَحْوهَا، مَعَ الْغَفْلَة عَن النِّيَّة.
وَمِنْهَا: الْإِسْلَام على قَول يَأْتِي، وَتقدم.
وَلما اشْترطت الْحَنَفِيَّة النِّيَّة، لم يدْخل فِي حَدهمْ التروك كلهَا، وَلَيْسَ الْوضُوء عِنْدهم بِعبَادة، لصِحَّته عِنْدهم بِلَا نِيَّة.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة " فِي أوائلها: (قَالَ القَاضِي: الْعِبَادَة كل مَا كَانَ طَاعَة لله، أَو قربَة إِلَيْهِ، أَو امتثالاً لأَمره، وَلَا فرق بَين أَن يكون فعلا أَو تركا، فالفعل: كَالْوضُوءِ، وَالْغسْل، وَالزَّكَاة، وَقَضَاء الدّين، وَالتّرْك: كَتَرْكِ الزِّنَا والربا، وَترك أكل الْمُحرمَات وشربها.
فَأَما التّرْك؛ فَلَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة بِمَنْزِلَة رد الغصوب، وَإِطْلَاق الْمحرم الصَّيْد، وَغسل الطّيب عَن بدنه وثوبه؛ لِأَن ذَلِك كُله طَريقَة التّرْك، فَإِن الْعِبَادَة فِي تجنبه، فَإِذا أَصَابَهُ، لم يُمكن تَركه إِلَّا بِالْفِعْلِ، كَانَ طَرِيقه التّرْك، فيخالف الْوضُوء، لِأَنَّهُ فعل مُجَرّد لَيْسَ فِيهِ ترك.
وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: لَيْسَ بِعبَادة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطهَا النِّيَّة.
[وأفسده] وَقَالَ: سُقُوط النِّيَّة فِي صِحَة الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ، لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِعبَادة، كَمَا لَا يدل على أَنه لَيْسَ بِطَاعَة وقربة) انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (مَا لم يعلم إِلَّا من الشَّارِع فَهُوَ عبَادَة: كَصَلَاة، وَغَيرهَا.
وَهُوَ معنى قَول الْفَخر إِسْمَاعِيل، وَأبي الْبَقَاء، وَغَيرهمَا:(الْعِبَادَة مَا أَمر بِهِ الشَّارِع من غير اطراد عرفي و [لَا اقْتِضَاء] عَقْلِي) .
قيل لأبي الْبَقَاء: الْإِسْلَام وَالنِّيَّة عبادتان، وَلَا يفتقران إِلَى النِّيَّة؟ فَقَالَ: (الْإِسْلَام لَيْسَ بِعبَادة لصدوره من الْكَافِر، وَلَيْسَ من أَهلهَا، سلمنَا، لَكِن للضَّرُورَة، لِأَنَّهُ لَا يصدر إِلَّا من كَافِر.
وَأما النِّيَّة فلقطع التسلسل) .
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف ": (مَا كَانَ طَاعَة لله تَعَالَى فعبادة)، - وَتقدم -. ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: أَنه لَيْسَ من شَرط الْعِبَادَة النِّيَّة، خلافًا للحنفية، وَنِيَّة الصَّلَاة تَضَمَّنت الستْرَة واستقبال الْقبْلَة لوجودهما فِيهَا حَقِيقَة، وَلِهَذَا يَحْنَث بالاستدامة) انْتهى.
فَهَذَا الَّذِي ذكره عَن بعض الْأَصْحَاب، هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْمجد وحفيده.
لَكِن يبْقى نِسْبَة ذَلِك إِلَى بَقِيَّة الْمذَاهب، يَنْبَغِي أَن يجْرِي من أَرْبَابهَا، وَالله أعلم.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي آخر " المسودة ": (الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر عندنَا، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء، والأشعرية، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: [هِيَ] مُوَافقَة الْإِرَادَة) .
وَقَالَ فِي أول " المسودة ": (فصل: قَالَ القَاضِي فِي الْحُدُود، وَفِي مَسْأَلَة الْمَأْمُور بِهِ أَمر ندب: [إِن كل طَاعَة فَهُوَ مَأْمُور
بِهِ] ، الطَّاعَة: مُوَافقَة الْأَمر، وَالْمَعْصِيَة: مُخَالفَة الْأَمر.
وَقَالَ على ظهر الْجُزْء: حد الْأَمر: مَا كَانَ الْمَأْمُور بِفِعْلِهِ ممتثلاً، وَلَيْسَ حَده: مَا كَانَ طَاعَة، لِأَن الْفِعْل يكون طَاعَة بالترغيب فِي الْفِعْل وَإِن لم يَأْمر بِهِ، كَقَوْلِه: من صلى غفرت لَهُ، وَمن صَامَ فقد أَطَاعَنِي، وَلَا يكون ذَلِك أمرا) انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": (الطَّاعَة: الْمُوَافقَة لِلْأَمْرِ على مَذْهَب أهل السّنة، والموافقة للإرادة على مَذْهَب الْمُعْتَزلَة) .