الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخرج من بين الصلب والترائب
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 15/2/1425هـ
السؤال
من المعروف أن تلقيح الحيوان المنوي للبويضة ينتج عنه الزيجوت الذي ينمو ليكون الجنين، وتنتج الحيوانات المنوية في الخصيتين خارج الجسم، والبويضة من مبايض الأنثى الواقعين على جانبي الرحم قال تعالى:"فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ"[الطارق: 5-7] ، إذاً الماء الدافق هو المني، الترائب: عظام صدر المرأة كما يلي الترقوتين، والصلب: فقار الظهر ألم يعلم أنه لا علاقة للحيوانات المنوية بالظهر؟ ولا البويضة بصدر المرأة؟ هذا السؤال طرح للتشكيك في معجزة القرآن الكريم، ونسبته إلى رب الجلالة - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا -؛ فأرجو من العلماء الأجلاء الرد في أسرع وقت ممكن لدحض هذه الشبهة التي ينشرها ويتشدق بها النصارى على موقع في الإنترنت، ولي رجاء من قارئ هذا السؤال أن يطلب من العلماء أصحاب الفتوى في هذا المنتدى والذين نثق بعلمهم أن يقوموا بجمع الشبهات المثارة على الإنترنت والإجابة عليها في كتاب أو في هذا المنتدى ليكون المسلم بعيداً عن أي تشكيك.
الجواب
في قوله تعالى: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلَا نَاصِرٍ"[الطارق 5-10] ؛ الماء الدافق: تعبير وصفي للمني لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل (دافق) لدلالته على الحركة الذاتية، وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان؛ لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس وهو المستدل به على إمكان الإرجاع حيًّا، وضمير (له) في قوله تعالى "فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلَا نَاصِرٍ" لا يستقيم عوده إلى الماء وإنما إلى الإنسان، وضمير (رجعه) في قوله تعالى:"إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ" الأظهر عوده إلى الإنسان والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ"، ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ" و"خُلِقَ مِن مّآءٍ" و (رجعه) في "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِر" و"فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلَا نَاصِرٍ" ولذا الأولى عود ضمير (يخرج) في "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ" إلى الإنسان كذلك مثلها، خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك وإنما من الخصية، والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان، وبيان القدرة المبدعة وسبق التقدير وإمكان الإعادة أظهر في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف، والتلازم قائم بين (إخراج) الإنسان للدنيا وليداً و (إرجاعه) حيًّا بينما لا تلازم بين (إخراج) المني و (إرجاع) الإنسان، وخروج ذرية الإنسان من الظهر مُبَيَّن في قوله:"وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ"[الأعراف: 172]، وقوله:"أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ"[النساء: 23] ، ولم يرد في القرآن فعل (الإخراج) متعلقاً بالمني بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان لبيان خروجه للدنيا وليداً وخروجه حيًّا للحساب، وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهر وموضع خروجها على طريق هجرتها!.
وهجرة أصولها الخلوية بين بدايات العمود الفقري والضلوع قبل انفصالها وتميزها.
والحقيقة العلمية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهما الجنينية ثم تخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري وبدايات الضلوع ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني إذا لم تُكمل رحلتها، والتعبير "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ" يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن ابتداءً من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر، وحتى يولد الأبوان ويبلغان ويتزاوجان وتخلق الذرية مما يماثل نطفة ماء في التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية تتدفق ذاتياً لتندمج مع نطفة نظير فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين، ويستمر فعل الإخراج ساري المفعول ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق ليخرج للدنيا وليداً وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه، وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان قد عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالاتها كل الأحداث:"يَخْرُجُ"، فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير! ، ومع كل تلك المشاهد المتجددة والتقديرات المبدعة والقدرة المفزعة هل يرد مجرد هاجس على الخاطر: أنبعثُ حقاً ونُحَاسَب!.
وهكذا يتصل العرض وينقلك في ومضة من مشاهد بدايات مقدرة تسبق وجود الإنسان إلى حيث يقف عاجزاً معرّى السريرة ليواجه مصيره وحده بلا أعوان فيتجلى بتلك النقلة الكبيرة الفارق في أحواله، وسرعة النقلة تؤكد التقدير وسبق التهيئة وتجلي قدرة الله تعالى وحكيم تدبيره مؤيدةً "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ"، قال الكلبي:"الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان"، وقال المراغي:"فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ " أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه وأنه.. على إعادته أقدر.. "خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ".. حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنًا، بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري (سلسلة ظهره) وترائبه هي عظام صدره.. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب.. فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً ومقابل أسفل الضلوع.. فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما وفي إمدادهما بالدم الشرياني وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم وجاء به رب العالمين ولم يكشفه العلم إلا حديثاً بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول ذلك الكتاب، هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف؛ فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم، وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها ولا تنزل إلى الصفن فتحتاج إلى عملية جراحية.. وإذا هُدي الفكرُ إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث في اليوم الآخر.. "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِر" أي أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء.. قادر أن يرده حيًّا بعد أن يموت".
واقتدار الخالق شاخص في كل العرض بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تُعَرِّيه من الخيلاء وتفاجئه بأصله ومصيره طاويةً حياته ومماته وكأنه لم يكن، في مقابل مشهد استكباره في تبجح صارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف (الفاء) ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه:"فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ"، كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟ ، وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضوراً باهتاً داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة بينما تشخص عياناً أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول:"أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ"[القيامة 40] ، وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال لمشهد يوم عظيم "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ"، فتأمل الاتساق في عرض المشاهد، تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب وتؤز في المسامع نيران تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخالق سبحانه! ، أسلوب مذهل جامع فريد لا يبلغه اليوم أي كتاب ينسب للوحي قد بلغ الذروة في التصوير وثراء المعنى مع الغاية في إيجاز اللفظ، وأما التفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل فهي بعض دلائل النبوة الخاتمة التي تسطع اليوم أمام النابهين.