الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبهة حول قوله تعالى: "وأنزل لكم من الأنعام
…
"
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 06/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فيما يلي مقال نشر على أحد مواقع الإنترنت، يشكّك في القرآن وإعجازه، أرجو من فضيلتكم قراءته والرد عليه: قال أشهر علماء العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم الدكتور (استروخ) وهو من أشهر علماء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء، قال: لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثاً معملية، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، قدرات الحديد لها تكوين مميز، إن الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية، ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها، قال تعالى:"وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ"[الحديد: 25] المصدر (الأدلة المادية على وجود الله) لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، يتصور المسلمون بأن قرآنهم يحوي معجزات علمية حديثة، وهم في محاولتهم تلك يلوون عنق اللغة العربية ويجعلون القرآن ينطق بما لم يخطر على بال كاتبه، في مثالنا هذا حول المعجزة المزعومة في القرآن بأن الحديد أتى إلينا من الفضاء الخارجي نجد المحاولة الخائبة من المسلمين مفضوحة تماماً بلا ستر أو أستار، لأن القرآن نفسه ينقضها نقضاً واضحاً، تقول سورة الحديد:"وأنزلنا الحديد"، ويحاول مسلم هذا العصر أن يقول لنا بأن مقصد القرآن بأن الحديد أنزل من السماء ولم يتكون على الأرض، ولكني يجب أن أتوقف عند آية مشابهة وأفحصها هي الأخرى، تقول سورة الزمر الآية 6:"وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"، يقول ابن كثير في تفسير الآية: وقوله تعالى "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام، ثمانية أزواج من الضأن
اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.
إذاً من الواضح لنا تماماً بأن هذه الأنعام ليست إلا حيوانات: إبل، بقر، ضأن، معز. إذًا وجب علي الأيمان بأن "أنزلنا الحديد" تعني نزوله من الفضاء الخارجي إلى الأرض (مخالفاً كل تفاسير ثقات المفسرين للآية) يجب علي أن أؤمن بأن الإبل، البقر، الضأن، المعز كلهم قد هبطوا إلى أرضنا من الفضاء الخارجي أيضاً. لأن القرآن يقول:"وأنزل لكم". أو إذا قلت بأن معنى "وأنزل لكم من الأنعام"، هو خلق لكم من الأنعام. إذًا يجب أن أسلم بأن "أنزلنا الحديد" تعني أيضا خلقنا الحديد. وإذا لم تعجبك هذه المقارنة، قارن أنت بنفسك آية الحديد إلى الأعراف (26) :"يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً" لا تقل لي بأن اللباس (وهو الملابس) قد هبطت علينا من السماء أيضاً؟! إذا لم يعجبك كلامي راجع تفاسير القرآن بنفسك.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
جوابا على السؤال حول تباين دلالة لفظ (الإنزال) في موضعين في القرآن الكريم بين الإنزال الحسي للحديد والإنزال المعنوي للأنعام وللقرآن وما شابه تبعا للسياق وكليهما حقيقة واقعة؛ أقول مستعينا بالله تعالى: إن ظاهرة تباين دلالة اللفظ تبعا للسياق من الخصائص الأساسية في لغات التخاطب وهي أجلى ما تكون في لغة القرآن الكريم، وسماها اللغويون "الوجوه"، والدلالات المعجمية لنفس اللفظ لا يتحدد إحداها إلا من خلال السياق، وكمثال على ذلك قوله تعالى:(بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ)[البقرة:71] ؛ فليس المراد هنا بلفظ (الأرض) الكرة الأرضية لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم وهو إثارة بقرة للغبار ولذا يستقيم أن يكون المراد بلفظ (الأرض) هو التربة، وفي قوله تعالى:(مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدّنْيَا وَالَاخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)[الحج: 15] ؛ ليس المراد بلفظ (السماء) هنا مطلق الكون أو الجو الذي يعلونا لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم وهو مشنوق مربوط إلى ما يعلوه وهو السقف عادة.
ومن يتتبع مدار لفظ (أنزلنا) في القرآن الكريم يجده متعلقا بأمر جلل استوجب التعبير بالتعظيم، وفي مقام النعمة يجد أن فيض الطيف الدلالي يتباين من مقام إلى آخر بين الحسي والمعنوي مع قاسم مشترك من الدلالات مثل التفضل والإنعام من العلي القدير وسبق التقدير من الحكيم العظيم إلى المحتاج الضئيل بما يستوجب الامتنان والتعظيم، وفي مقام النقمة يتجلى معنى الاقتدار والتهويل.
والدلالة الحسية في (أنزلنا) لا تُستبعد إلا بقرائن صارفة ولا تنفي الدلالة المعنوية، وفي قوله تعالى:(يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِينا)[النساء: 174] ؛ يتعلق المقام بوصف القرآن كنعمة تستوجب الامتنان لما فيه من رحمة للبشرية فناسبه تعبير (الإنزال)، وهو كقوله تعالى:(وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)[الزمر:6] ؛ وأجناسها على النحو التالي: الضأن والمعز والإبل والبقر، وتمثل لحومها وألبانها أهم مصادر الغذاء لسكان البادية، وتعبير (الإنزال) يكشف مدى الرحمة والإنعام في إيجاد تلك المواشي المعبر عنها بلفظ (الأنعام)، وفي قوله تعالى:(وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ)[النحل:80] ؛ منافع إضافية غير اللحوم والألبان وهي منتجات الجلود كالصوف في زمهرير الصحراء، ولبيان هذا الإنعام في اللباس خاصة ناسب التعبير عن هذا (الجعل) بلفظ (الإنزال) ضمن مصادر اللباس في تاريخ البشرية؛ وذلك في قوله تعالى:(يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ)[الأعراف:26] ، ولذا فقد أصاب المفسرون في توجيه دلالة لفظ (الإنزال) في مثل هذا المقام إلى معاني كالإنعام والجعل والإيجاد.
أما في قوله تعالى: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ)[الحديد: 25] ؛ فيستقيم حمل لفظ (الإنزال) على الأصل وهو الدلالة الحسية باعتبار تعلق المقام هنا بخلق الأرض لمجيء بيان إنزال الحديد وهو من أثقل مكونات الأرض في مقابل بيان إخراج المواد الأخف من الأرض نحو السطح في قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[النازعات:30-32] ، وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة بخروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان المعبر عنها باللفظ الجامع (مَرْعَاهَا) بعد التهيئة بتكثف أبخرة الماء وانقشاع دخان البراكين في مقابل هبوط أثقل المواد ممثلة بالحديد نحو لب الأرض الذي يتكون معظمه بالفعل من الحديد، وناسب اقتصار نزول الحديد على ما دون الجو الخلو من الإضافة (من السماء) التي لازمت في مواضع عديدة بيان نزول الماء من السحب في الجو نحو قوله تعالى:(وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً)[النمل: 60] ، ويتفق هذا مع تكون الأرض من طبقات يعلو بعضها بعضا أخفها الأعلى وأثقلها هو ما فيها في الباطن، وتلك الحقيقة العلمية يتضمنها بيان أحداث نهاية الأرض المعلومة لدينا اليوم في قوله تعالى:(وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا)[الزلزلة:2]، وفي قوله تعالى:(وَإِذَا الأرْضُ مُدّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ)[الإنشقاق:3و4] ؛ فالوصف متعلق بالأرض المعهودة حاليا لأن ضمير (أثقالها) وضمير (ما فيها) عائد قطعا عليها نفسها.
نزول الحديد نحو الباطن عند تكون الأرض
مع خروج المواد الأخف في اتجاه السطح
(المصدر كتاب فرانك برس: علوم الأرض)
تتكون الأرض من طبقات بعضها فوق بعض
وتتزايد الكثافة مع العمق ومعظم اللب حديد.
وتتميز ذرة الحديد بقوة ترابط شديدة مدهشة قد لا تكفي حرارة باطن شمسنا لتكونها مما فتح بابا لفرضية تكونه خارج النظام الشمسي في قلب نجم مجاور أعظم كتلة انفجر وتناثرت مكوناته، وتدخل ذرة الحديد في تركيبات حيوية غاية في الأهمية بالنسبة للأحياء مثل مركب هيموجلوبين الدم، وتولد حركة الحديد في لب الأرض أغلفة مغناطيسية تحمي الأحياء من خطر الرياح الشمسية، وكل تلك الحقائق يجملها قوله تعالى:) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ (، هذا والله تعالى أعلم.