الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكون بين الاتساع والانكماش
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 11/07/1426هـ
السؤال
يقول القرآن إن الساعة قريبة، بينما يؤكد دعاة الإعجاز العلمي ما يقوله الفيزيائيون من أن الكون في اتساع دائم، فما تفسير ذلك؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
جوابا على السؤال حول حالة الكون الآن: (هل هو في اتساع مستمر إلى أن تضم جوانبه فجأة، أم هو في ارتداد قد بلغتنا علاماته، وهل الجواب في القرآن والعلم سواء) ؛ أقول مستعينا بالعلي القدير سائله سبحانه وتعالى العون والتوفيق:
أعلن أدوين هبل Edwin Hubble في العام 1929 ملاحظة كانت حجر الأساس في المفهوم الحديث حول طبيعة الكون وتطوره، فقد لاحظ أن المجرات العظمى تبدو في انحسار، وكلما زاد بعدها زاد معدل الانحسار مما يعني أن مادة الكون في الماضي البعيد كانت في حيز ضئيل تزايد بالاتساع كما تتباعد المواد عند الانفجار، ولذا نالت تسمية "الانفجار العظيم Big Bang" قبولا واسعا في تفسير نشأة الكون وتشكل مكوناته بالاتساع Expansion، ومعدل انحسار المجرات قيمته ثابتة وفقا لبعدها ويسمى (ثابت هبل) وتقديره حاليا حوالي: 24 (30-20) كم/ ثانية، ولذا يمكن استنتاج عمر الكون (عمر الكون = سرعة الضوء\ثابت هبل×مليون) وهو حوالي:12.5 (10-15) بليون سنة، ولما كانت فكرة مركزية الأرض للكون قد دفعتها مشاهدات سابقة فلم يبق إلا قبول مبدأ التجانس Uniformity في تباعد المجرات أو اقترابها بحيث يعاين المراقب من أي موقع في الكون نفس ما يعاينه المراقب على الأرض، ولما كان الكون حادثا وليس أزليا والتوسع المعاين يعكس حالة المجرات العظمى في الماضي البعيد عندما صدر الضوء المحدود السرعة منها منذ بلايين السنين فليس مستبعدا أن يكون بناء الكون آيل للانهيار والزوال خاصة أن المجرة الأقرب على سبيل المثال وهي المجرة المسلسلة Andromeda تبدو في اقتراب بسرعة حوالي 300 كم\ثانية، فإذا كان التجانس مقبولا في ابتعاد المجرات واقترابها فليس مستبعدا أن يكون الكون حاليا ينطوي في انكماش بلغتنا شواهده من الطرف الأقرب، ولم تصلنا بعد من المجرات الأعظم إلا شواهد الانحسار في الماضي نتيجة لبعدها الشديد، والقول إذن بأن الكون في اتساع مستمر يغفل عن اقتراب أقرب المجرات والسرعة المحدودة للضوء القادم من المجرات الأعظم ذات الأبعاد الهائلة، وهو في جانب وهم أزلية المادة والتشكيك في مبدأ حدوث الكون واستبعاد نهايته.
واكتشاف أدوين هبل بأن الكون يبدو في توسع مما يحتم أن تكون له بداية قد أزعج فئة تميل للإلحاد، فحاولوا التشويش عليه تهربا من مبدأ الخلق بفرضيات يجمعها وهم سرمدية الكون تحت مسمى الحالة الثابتة ٍ Steady state، ولو كان الكون ذا بداية أكبر كثافة وأكبر حرارة نتيجة لانضغاط المادة في حيز ضئيل لأصدر في كل اتجاه أشعة تدل على درجة الحرارة الهائلة، تلك التي لا يبلغها اليوم قلب أي نجم مهما بلغت عظمته، ولذا جاءت الضربة القاصمة لتلك الفرضيات قبل نهاية القرن الماضي، فتوارت إلى الأبد عندما اكتشف أرنو بنزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson تلك الأشعة عام 1964 بغير قصد، وتحتمت البداية بلا منافس وتزاحمت الاحتمالات حول كيفيتها، واعترف الفيزيائي هاوكنج قائلا:"إن كونا ذا بداية يستحيل مطلقا أن يكون بلا خالق"، فوحدة البداية تقطع بوجود الخالق، وبالطبع وحدته ناهيك عن التصميم المتقن والنظام الثابت الذي أقر هاوكنج أنه "عماد تاريخ العلم التجريبي أجمعه".
ويبحث الفيزيائيون -حالياً- عن أدلة تكشف نهاية الكون، وأحد الأساليب لتأييد احتمال الانكماش أو الكون المغلق Closed universe اصطلاحا هو تجاوز القيمة الحرجة للكثافة الوسطية للمادة في الكون وقيمتها: 10-29 جم\سم3؛ أي ما يعادل حوالي 5 ذرات أيدروجين في المتر المكعب، وهي في حدود القيمة المحسوبة حاليا للمادة المنظورة، وللمقارنة تبلغ قيمة كثافة الماء 1 جم\سم3 أي ما يعادل حوالي 500 بليون بليون بليون ذرة أيدروجين في المتر المكعب، والمعتقد حاليا وجود مادة غير منظورة بكميات هائلة تسمى المادة السوداء Black matter ترجح انكماش الكون.
وكلما انكمش الكون تزايدت كثافته، ومع تلاشي المسافات تصبح لا نهائية، ولكن تلاشي المسافة يعني انعدام المادة بحيث تتلاشي الكثافة، وهذا يعني توقف القوانين وبلوغ حالة يستوي فيها العدم والوجود في لحظة الفناء العظيم، وهي تماثل تماما لحظة الخلق العظيم حيث وجدت مادة الكون فجأة من عدم، تلك اللحظة المبهرة تسمى -فيزيائياً- لحظة التفرد Singularity لتوحد كافة تنوعات المادة في بنية أساسية واحدة، واللحظة التي يحتمل إعمال قوانين الفيزياء عندها أو قبلها تسمى الكثافة عندها كثافة بلانك Planck density وتبلغ 10 93 جم\سم3 أو ما يماثل 100 بليون مجرة مكدسة في حيز ضئيل لا يتجاوز مداه 10-35 متر (مسافة بلانك) عندما كان عمر الكون 10-43 ثانية (زمن بلانك) ، ولك أن تقول إنه كان عدما عند اللحظة صفر فلا تعمل قوانين الفيزياء إلا مع توفر المادة بعد أجزاء ضئيلة للغاية من أول ثانية، فصفحة الكون ليست أبدية، وإنما ضمن منظومة طوي بعضها الزمن والبعض لم يظهر بعد للوجود، وإنما الكون ينحني على نفسه وينطوي في امتداد مستمر نحو نهايته إن شئت التعبير بالاستمرار، والتعبير الأدق أن يقال: إنه كان حين البناء في اتساع كما ترتفع طوابق البيت حين البناء، وعندما تحين ساعته يُعكس الاتجاه ليعود لأصل حالته، والقول إذن بأن الكون في اتساع مستمر يغفل عن قوانين تطوره، ويماثل القول بالخلق الفجائي للكائنات بلا أطوار.
وقد بلغ التمثيل في القرآن الكريم لحقائق الكون الخفية زمن التنزيل الغاية في الدقة والوفرة والاستيعاب بما لا يعارض حقيقة مكتشفة والقمة في التلطف بما لا يلفت عن غرض، فوصف الكون بالبناء، وجاء بتعبير السماء الدال على العلو بالنسبة للمتطلع من الأرض في مرونة يحدد مداه السياق، وجعل بروج النجوم لبنات والوجود آفاق بتعبير السماوات، ووظف دلالات لفظ السماء لتشمل طيفا واسعا من الكيانات التي تمتد فوق سطح الأرض ولذا طالها فرع شجرة في قوله تعالى:"أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَاءِ"[إبراهيم: 24] ، وبعيدا عن تصورات الكيفية قبل استقرار الحقائق فإن القرآن حاسم في جعل تنوعات التجمعات النجمية باسم البروج فوق عالم الكواكب الأدنى، حيث تسبح الشمس والقمر في محيط الوجود حولنا في قوله تعالى:"وَالسّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ"[البروج: 1] ، وقرائن السياق قد تدل على الإطلاق فتمد دلالة لفظ السماء لتستوعب الكون الفيزيائي Physical universe أجمعه.
ولا يفوتك أن التعبير عن التوسع حين البناء برفع السماء تمثيلا جاء فيه فعل (الرفع) بصيغة الماضي بلا استثناء مما يقصر الاتساع على وقت البناء، ويعارض القول باستمراره إلى الآن، يقول تعالى:"أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ"[الغاشية 17و18]، ويقول تعالى:"وَالسّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ"[الرحمن: 7]، ويقول تعالى:"اللهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا"[الرعد:2]، وجاء التعبير عن الرفع بلفظ الخلق بيانا لتكامل البناء في قوله تعالى:"خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا"[لقمان: 10] ، إنه عمل كامل يمكن معاينته اليوم، ولذا ورد بيان خلقه بفعل (البناء) بالماضي كذلك بلا استثناء، يقول تعالى:"أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا"[النازعات: 27و28]، ويقول تعالى:"أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا"[ق: 6]، ويقول تعالى:"وَالسّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا"[الشمس: 5]، وفي قوله تعالى:"وَالسّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ"[الذاريات: 47] ؛ فعل (البناء) بالماضي يفيد التكامل، ويرجح أن (مُوسِعُونَ) أي قادرون على إعادته كقوله تعالى:"عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه"[البقرة: 236] ، أي القادر خاصة أنه غير (مُوَسِّعُون) أي نوسعها دوما.
فهل الكون في القرآن في ارتداد؟؛ هذا هو صريح الآيات، فالموعد قريب والكون كله كمثقلة على وشك الوضع، والأمر قد أتى ولم يصل بعد تأكيدا لتقدير سرعته، ولا دليل على أن سرعة الانتقال عند نهاية الكون ستصبح لحظية فجأة وتخرق قانونا يشهد بوحدة التقدير، وإذا كنا نشاهد الأطراف البعيدة في انحسار فذلك حالها يوم أن انطلق في الماضي السحيق الضوء المرصود الآن، أما حالها آنيا فلا يعلم به أحد سوى الله تعالى وحده، أليس الضوء مقدر السرعة؟ فكيف نقرأ إذن رسالة سُطِّرَت منذ بلايين السنين عند تشييد الطوابق قبل اكتمال ارتفاع هيكل البناء وكأنها كُتِبَت الآن؟ ، وإن شئت أن تنال ما تستحقه الحقيقة من فزع فاسأل الجيران من المجرات في أقرب الآفاق تخبرك أقربهن على بعد 2 مليون سنة ضوئية أنها تقترب مسرعة، ولا نعلم شيئا عنها الآن، ولم يقل القرآن إن الكون في اتساع مستمر، وقوله تعالى:"وَالسّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ"[الذاريات: 47] ؛ لا يعني دوام التوسع بعد تكامل البناء، وإلا ما كانت للنهاية ساعة، وفي اللغة اسم الفاعل "مُوَسِّعُون"(بضم الميم وفتح الواو وتشديد وكسر السين) يعني دوام التوسعة، ولكن الذي في الآية "مُوسِعُون"(بضم الميم وتسكين الواو وكسر السين) ويعني دوام القدرة، والقدرة في مقام الخلق تعني إعادته.
وأصل اللفظ (مُوسِعُون) أي لذو سعة تمثيلا للقدرة والاستطاعة بالامتداد في المكان وتكشف قرائن السياق ماهية السعة، فتشمل أحوالا كسعة المكان وسعة الرزق وسعة الثراء وسعة القوة والقدرة والاستطاعة، وفي مقام خلق الكون تعني القوة والقدرة والاستطاعة على إعادته وتتضمن الدلالة على بالغ سعة امتداده وعظمته إيغالا في بيان الاقتدار فتعني ضمنا التوسعة الهائلة حين البناء، قال ابن جزي:"وسع يسع سعة من الاتساع ضد الضيق، والسعة الغنى، والواسع اسم الله تعالى، أي واسع العلم والقدرة والغنى والرحمة"، وقال البغوي:" (وإنا لموسعون) قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لقادرون"، وقال الزمخشري:" (وإنا لموسعون) لقادرون من الوسع وهو الطاقة"، وقال ابن حجر:"قوله لموسعون أي لذو سعة، وكذلك (على الموسع قدره) يعني في قوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره) أي من يكون ذا سعة.. يعني القوي وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح قال (وإنا لموسعون) قال أن نخلق سماء مثلها"، وقال السمعاني:"قال مجاهد معناه يسع قدرتنا أن تخلق سماء مثلها"، وقال الرازي: "وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانيا كما قال تعالى: (أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ)[يس: 81] .
والقرآن الكريم يؤكد على قرب ساعة الميعاد؛ يقول تعالى: "أَزِفَتْ الْآزِفَةُ"[النجم: 57]، ويقول تعالى:"اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ"[الأنبياء: 1]، ويقول تعالى:"فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا"[محمد: 18]، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لَا يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [الأعراف: 187] ، وفي كل هذا كما قال ابن كثير وغيره رحمهم الله جميعا) :"يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ" [النحل: 1] "، فكيف يُستبعد إذن أن يكون الكون في ارتداد والقوى تمضي مسرعة لا تحتاج مزيد استعجال ليكتمل طي كل الصفحات! ، كما قال تعالى:"يَوْمَ نَطْوِي السّمَاءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ"[الأنبياء: 104] ، والسجل مسطح يُطوى يحوي كل الصفحات، ولا يظهر منه سوى طرفه القريب، وهو أدق وصف للكون المترابط البناء المنحني المحجوب، وأما بدء الخلق فحقيقة ساطعة قضت إلى الأبد على فرضية الكون الأزلي باسم الحالة الثابتة، وزيفت مستنداً مزعوماً فطواه الزمن، وتصريح القرآن بالتوسع الكوني -قبل أن يدركه بشر بقرون- دليل حاسم على التنزيل.