الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
فرواه القاسم بن يحيى بن عطاء المقدمي، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.
2 -
وخالفه: ثابت بن يزيد أبو زيد، وزائدة، روياه، عن هشام، عن ابن سيرين: مرسلًا.
وكذلك رواه أيوب السختياني، وابن عون، وأشعث بن سوار، عن ابن سيرين: مرسلًا.
وهو الصواب".
قلت: ولا شك أن قول ثابت بن يزيد أبي زيد البصري، وزائدة بن قدامة [وهما: ثقتان ثبتان] أولى من قول القاسم بن يحيى؛ فهما أكثر وأحفظ.
كما أن أيوب من أثبت أصحاب ابن سيرين، فالمرسل هو الصواب، كما قال الدارقطني، وسقط بذلك قول ابن القطان الفاسي.
• ومن المسائل المتعلقة بهذا الحديث إذ قد ثبت لدينا:
هل التيمم رافع للحدث أم لا؟.
وسوف يتم بحثها إن شاء الله تعالى بعد حديث عمرو بن العاص الآتي:
***
124 - باب إذا خاف الجنب البرد، أيتيمم
؟
334 -
وهب بن جرير: أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب: يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السُّلاسِل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك [في نسخة: أن أغتسل فأهلك]؛ فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ "، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا.
قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير: مصري، مولى خارجة بن حذافة، وليس هو ابن جبير بن نفير.
• حديث شاذ معلول.
أخرجه ابن المنذر في التفسير (2/ 661/ 1644)، والحاكم (1/ 177)، والدارقطني (1/ 178)، وابن شاهين في الناسخ (135)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 225)، وفي
الخلافيات (2/ 478 - 480/ 823 و 824)، وفي الدلائل (4/ 402)، وابن الجوزي في التحقيق (1/ 239/ 282)، وابن حجر في التغليق (2/ 189).
قال البيهقي في الخلافيات: "هذا مرسل؛ لم يسمعه عبد الرحمن بن جبير من عمرو بن العاص، والذي روي عن عمرو بن العاص في هذه القصة متصلًا ليس فيه ذكر التيمم"، ثم أخرج حديث عمرو بن الحارث.
وقال في السنن: "ورواه عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران، فخالفه في الإسناد
والمتن جميعًا".
***
335 -
ابن وهب، عن ابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص كان على سرية. . . وذكر الحديث نحوه، قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم. . . فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم.
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال فيه:"فتيمم".
• حديث مرسل.
أخرجه ابن حبان (4/ 142 - 143/ 1315)، والحاكم (1/ 177)، وابن المنذر (2/ 27/ 528)، والدارقطني (1/ 179)، وابن شاهين في الناسخ (136)، والبيهقي في السنن (1/ 226)، وفي الخلافيات (2/ 480/ 825)، وفي الدلائل (4/ 403)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 148)، والمزي في التهذيب (17/ 32)، وابن حجر في التغليق (2/ 188).
ولفظه عند الحاكم، ومن طريقه: البيهقي: أن عمرو بن العاص كان على سرية، وأنه أصابهم برد شديد لم يُر مثله، فخرج لصلاة الصبح، فقال: والله لقد احتلمت البارحة، ولكني والله ما رأيت بردًا مثل هذا، هل مر على وجوهكم مثله؟ قالوا: لا، فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف وجدتم عمرًا وصحابته؟ "، فأثنوا عليه خيرًا، وقالوا: يا رسول الله! صلى بنا وهو جنب، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو فسأله، فأخبره بذلك، وبالذي لقي من البرد، فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ولو اغتسلت مِتُّ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو.
هكذا روى هذا الحديث عن ابن وهب، فلم يذكر فيه التيمم: محمد بن سلمة المرادي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وحرملة بن يحيى: المصريون، وهم من ثقات أصحاب ابن وهب.
• إلا أن حرملة بن يحيى قد اختلف عليه في لفظه:
فرواه محمد بن الحسن بن قتيبة [ثقة حافظ]، وعبد الله بن محمد بن سلم الفريابي المقدسي [ثقة. السير (14/ 306)]:
كلاهما عن حرملة بن يحيى به مثل الجماعة.
وخالفهما: أحمد بن داود [وهو: ابن عبد الغفار أبو صالح الحراني المصري: قال الدارقطني: "متروك كذاب"، وقال ابن طاهر: "كان يضع الحديث"، وقال ابن حبان: "يضع الحديث"، وقال المنذري: "وثقه الحاكم وحده"، وهو شيخ لابن عدي أكثر عنه، ودافع عنه، ويسميه: أحمد بن داود بن أبي صالح، أو يقول: ثنا ابن أبي صالح، وهو معروف بالرواية عن حرملة. انظر: الضعفاء والمتروكون (52)، المجروحين (1/ 160 - ط السلفي)، اللسان (1/ 178)، الترغيب والترهيب (3/ 281)، الإكمال لابن ماكولا (4/ 41)، الكامل لابن عدي (2/ 461) و (12/ 113) و (6/ 378)]، فرواه عن حرملة بن يحيى به؛ إلا أنه جعل لفظه كلفظ حديث وهب بن جرير، فذكر فيه التيمم [عند ابن المنذر في الأوسط (528)] وهذا مما يؤكد ضعف الحراني هذا.
• وهذا الحديث قد رواه عمرو بن الحارث، ولم يختلف عليه فيه؛ ورواه ابن لهيعة واختلف عليه:
1 -
فرواه ابن وهب [ثقة حافظ]، عن ابن لهيعة، مقرونًا بعمرو بن الحارث به هكذا كما تقدم.
2 -
ورواه حسن بن موسى [ثقة، من متثبتي أهل بغداد]، عن ابن لهيعة: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، أنه قال:. . .، فذكره بلفظ حديث وهب بن جرير بذكر التيمم، ولم يذكر في الإسناد أبا قيس.
أخرجه أحمد (4/ 203)، ومن طريقه: ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 147).
وتابعه: عبد الله بن عبد الحكم المصري، عن ابن لهيعة به كما ذكر في تغليق التعليق (2/ 189)، وعبد الله: صدوق.
3 -
ورواه معاذ بن فضالة [ثقة، بصري]، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص أنه قال: يا رسول الله! إني احتلمت في ليلة باردة لم يصبني برد مثله قط، فخيرت نفسي بين أن أغتسل فأقتل نفسي، أو أتوضأ؛ فذكرت قول الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتوضأت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا.
فلم يذكر في الإسناد أبا قيس، ولم يذكر في المتن غسل المغابن.
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (3/ 928/ 5187).
4 -
ورواه أبو الأسود النضر بن عبد الجبار [ثقة، مصري]، قال أنبأنا ابن لهيعة،
عن ابن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على جيش ذات السلاسل، وفي الجيش نفر من المهاجرين والأنصار، وفيهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاحتلم عمرو بن العاص في ليلة شديدة البرد، فأشفق أن يموت إن اغتسل، فتوضأ ثم أمَّ أصحابه، فلما قدم، تقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشكا عمرو بن العاص حتى قال: وأمَّنا جنبًا، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمر، فلما قدم عمرو، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يخبر بما صنع في غزاته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصليت جنبًا يا عمرو؟ "، فقال: نعم، يا رسول الله، أصابني احتلام في ليلة باردة، لم يمر على وجهي مثلها قط، فخيرت نفسي بين أن أغتسل فأموت، أو أقبل رخصة الله عز وجل، فقبلت رخصة الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل أرحم بي، فتوضأت ثم صليت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحسنت، ما أحب أنك تركت شيئًا صنعته، لو كنتُ في القوم لصنعتُ كما صنعتَ".
فلم يذكر في الإسناد أبا قيس، ولم يذكر في المتن غسل المغابن، وذكر تمام القصة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له.
أخرجه الطحاوي في المشكل (1/ 333/ 316 - ترتيبه).
5 -
ورواه معلى [وهو: ابن منصور: ثقة فقيه، رازي نزل بغداد]، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّر عمرو بن العاص، على جيش. . . فذكر الحديث بمعناه، وفيه ذكر التيمم دون الوضوء.
وصورته مرسل، ولم يذكر أبا قيس في الإسناد.
أخرجه ابن شاهين في الناسخ (137).
قلت: وهذا اضطراب ظاهر من ابن لهيعة في إسناد هذا الحديث ومتنه، وهو يدلل على سوء حفظ ابن لهيعة.
قال ابن حجر في التغليق (2/ 190) بعد أن ذكر الاختلاف فيه على ابن لهيعة بأكثر من هذا: "والاختلاف فيه على ابن لهيعة أظنه منه لسوء حفظه".
• قلت: فيبقى الترجيح بين رواية وهب بن جرير، ورواية عمرو بن الحارث؛ فأقول:
اختلف في إسناد هذا الحديث على يزيد بن أبي حبيب [وهو مصري تابعي، ثقة فقيه جليل]:
1 -
فرواه وهب بن جرير، عن أبيه، قال: سمعت يحيى بن أيوب، يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص به؛ فذكر التيمم.
2 -
ورواه عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص: أن عمرو بن العاص كان على سرية. . . فذكره بدون التيمم.
وعمرو بن الحارث المصري: ثقة ثبت، فقيه حافظ، وروايته عن يزيد هي الصواب، ورواية يحيى بن أيوب الغافقي المصري: وهمٌ سندًا ومتنًا؛ لأمور:
الأول: أن إسناد عمرو بن الحارث: إسناد مصري عرف في بلده واشتهر، وأما إسناد يحيى بن أيوب: فإنه إسناد مصري ثم بصري، فهو حديث تفرد به الغرباء عن أهل مصر؛ فقد تفرد به عن يحيى بن أيوب: جرير بن حازم البصري، وعنه ابنه وهب.
قال الحاكم: "حديث جرير بن حازم هذا لا يعلل حديث عمرو بن الحارث الذي وصله بذكر أبي قيس؛ فإان أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة".
قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 157): "يعني: أن رواية الوضوء يرويها مصري عن مصري، والتيمم: بصري عن مصري، [وانظر: إتحاف المهرة (12/ 481)، والإمام (3/ 117)].
والثاني: أن عمرو بن الحارث: ثقة فقيه، حافظ متقن، ويحيى بن أيوب الغافقي المصري: صدوق سيئ الحفظ، يخطئ كثيرًا، له غرائب ومناكير يتجنبها أرباب الصحاح، وينتقون من حديثه ما أصاب فيه [انظر: التاريخ الكبير (8/ 260 و 306)، الجرح والتعديل (9/ 127)، الثقات (7/ 600)، مشاهير علماء الأمصار (1528)، العلل ومعرفة الرجال (3/ 52/ 4125)، تاريخ ابن معين للدارمي (719)، الضعفاء والمتروكون للنسائي (626)، ثقات العجلي (1962)، سؤالات الآجري (5/ ق 14)، علل الترمذي الكبير ص (118)، عمل اليوم والليلة للنسائي (365)، طبقات ابن سعد (7/ 516)، المعرفة والتاريخ (2/ 445)، ضعفاء العقيلي (4/ 391)، الكامل (7/ 214)، سنن الدارقطني (1/ 98)، علل الدارقطني (5/ ق 21)، بيان الوهم والإيهام (2/ 485/ 484)، سير أعلام النبلاء (8/ 5)، الميزان (4/ 362)، من تكلم فيه (367)، إكمال مغلطاي (12/ 287)، التهذيب (4/ 342).
وانظر أحاديث وهم فيها يحيى بن أيوب: التاريخ الكبير (8/ 306)، علل الحديث لابن أبي حاتم (1/ 85 و 122 و 147/ 226 و 333 و 409)، علل الدارقطني (4/ 335) و (9/ 260)، بيان الوهم والإيهام (3/ 36 و 324 و 495 و 606/ 690 و 1070 و 1269 و 1412) و (4/ 68 - 82 و 149 و 150 و 171 و 636/ 1504 - 1515 و 1592 و 1638 و 2193 و 2194).
وانظر أحاديث تفرد بها جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب: علل الترمذي (355)، علل ابن أبي حاتم (1/ 247/ 1024)، علل الدارقطني (2/ 111)، السير (5/ 8)، وغيرها].
الثالث: أن هذا الحديث من رواية الغرباء عنه، بل من رواية جرير بن حازم البصري عنه، قال ابن يونس:"وحدث عنه الغرباء بأحاديث ليست عند أهل مصر عنه. . .، وأحاديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب: ليس عند المصريين منها حديث، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة، والله أعلم"[السير (8/ 6 و 7)، التهذيب (4/ 343)]، وحديث جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب هذا، مروي عند أحمد (4/ 203)
بسنده ومتنه -من حديث ابن لهيعة- تقدم قريبًا، مما يؤيد كلام ابن يونس، وأن الحديث بذكر التيمم وإسقاط أبي قيس من الإسناد: إنما هو من حديث ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد اضطرب في هذا الحديث.
ثم وجدت [بدلالة بعض الفضلاء] أن أبا داود قد جزم بأن أحاديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب إنما هي أحاديث ابن لهيعة اشتبهت على وهب بن جرير، قال الآجري في سؤالاته (2/ 128 / 1335): "سمعت أبا داود يحدث عن وهب بن جرير، عن أبيه، سمع يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني.
قال أبو داود: جرير بن حازم روى هذا عن ابن لهيعة، طلبتها بمصر فما وجدت منها حديثًا واحدًا عند يحيى بن أيوب، وما فقدت منها حديثًا واحدًا من حديث ابن لهيعة، أراها صحيفة اشتبهت على وهب بن جرير".
وقد رجح جمع من العلماء حديث عمرو بن الحارث:
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والذي عندي أنهما عللاه بحديث: جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب"، ثم قال:"حديث جرير بن حازم هذا لا يعلل حديث عمرو بن الحارث الذي وصله بذكر أبي قيس، فإن أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة".
قلت: هو ليس على شرط أيٍّ منهما؛ فإنهما لم يخرجا حديثًا بهذا الإسناد، إلا أن مسلمًا أخرج لرجاله دون البخاري، ومثل هذه العلة التي سبق ذكرها لا تخفى على الشيخين.
وقال عبد الحق الإشبيلي في أحكامه الوسطى (1/ 223)؛ عن حديث عمرو بن الحارث: "وهذا أوصل من الأول؛ لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص".
وقال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 388) في معرض الرد على من احتج بحديث جرير بن حازم: "صليت بالناس وأنت جنب، على أن التيمم لا يرفع الحدث، قال ابن القيم في الوجه الثاني من الجواب: "أن الرواية اختلفت عنه، فروي عنه فيها: أنه غسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم، ولم يذكر التيمم، وكان هذه الرواية أقوى من رواية التيمم. . .".
وقد تقدم نقل كلام البيهقي تحت الحديث السابق برقم (334).
وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 481) عن رواية عمرو بن الحارث: "وهذا -والله أعلم- أشبه بالصواب".
وقال ابن حجر في التغليق (2/ 190) معلقًا على كلام الحاكم: "قلت: يريد ترجيح رواية عمرو بن الحارث التي زاد فيها أبا قيس، ولا ريب في رجحانها؛ فإنها زيادة من ثقة".
• ومما يؤكد كون رواية يحيى بن أيوب رواية معلولة، وأن الصواب رواية عمرو بن الحارث بدون ذكر التيمم: أن البخاري قد علق في صحيحه رواية يحيى بن أيوب -بذكر التيمم- بصيغة التمريض، مما يدل على ضعفها عنده، فقال في 7 - كتاب التيمم، 7 - باب: إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش يتيمم، ويُذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف. ذكره قبل الحديث رقم (345).
قال ابن حجر في التغليق (2/ 191): "واللائق بتبويب البخاري: رواية يحيى بن أيوب التي ذكر فيها التيمم، والله أعلم".
• وبناء على ما تقدم من أن الراجح والصواب: رواية عمرو بن الحارث، فعندئذ ينظر فيها هل هي ثابتة أم لا؟
ففي روايته أن أبا قيس مولى عمرو بن العاص لم يذكر سماعًا ولا عنعنة، ولكن فيها: أن عمرو بن العاص كان على سرية، لذا قال ابن رجب في الفتح (2/ 78):"وظاهرها الإرسال"، ثم نقل عن أحمد قوله:"ليس إسناده بمتصل"، وهذا يفهم منه أن الإمام أحمد قال هذا في رواية عمرو بن الحارث، وهو محتمل لما سيأتي بيانه، لكن يمكن أن يقال: لعله قال هذا الكلام على رواية ابن لهيعة والتي أخرجها في مسنده (4/ 203) بإسقاط أبي قيس من الإسناد، ولا شك بأنها غير متصلة، فهي أظهر في الإرسال.
وأما رواية عمرو بن الحارث: فإن رجالها كلهم مصريون ثقات، وأبو قيس هو: عبد الرحمن بن ثابت، مولى عمرو بن العاص، وقد سمع منه، وله في الصحيح حديثان عن عمرو بن العاص [اتفق الشيخان على أحدهما: البخاري (7352)، مسلم (1716)، وانفرد مسلم بالآخر (1096)].
وانظر فيما يدل على ثبوت سماع أبي قيس من مولاه عمرو بن العاص: سنن الدارمي (2/ 11/ 1697)، المعرفة والتاريخ (1/ 149).
فإن قيل: أبو قيس: مات قديمًا سنة أربع وخمسين [التقريب (720)]، وعبد الرحمن بن جبير الراوي عنه مات سنة سبع وتسعين (97)، وقيل: بعدها [التقريب (359)]، وعليه: فإن بين وفاتيهما ثلاث وأربعون (43) سنة.
فيقال: عبد الرحمن بن جبير سمع ابن عمرو، كما سمعه أبو قيس [التاريخ الكبير (5/ 267)، الجرح والتعديل (5/ 221)]، وأدرك عمرو بن العاص، قاله أبو حاتم [الجرح والتعديل (5/ 221)]، ووفاة عمرو بن العاص كانت سنة (43 هـ) على الأصح [انظر: التهذيب (3/ 281)]، فيكون عبد الرحمن بن جبير بذلك قد أدرك أبا قيس قبل وفاته بعشر سنوات تقريبًا، فلا يستبعد سماعه منه، إلا أني لم أقف -بعد البحث- على ما يثبت سماعه منه، والله أعلم.
لكن مع ذلك فإن هذا الحديث: مرسل؛ ذلك لأن أبا قيس مولى عمرو بن العاص،
وإن كان سمع منه، إلا أنه لم يدرك هذه القصة التي يحكيها، وهو هنا لم يسند الحديث عن عمرو بن العاص، ولم يروه عنه رواية، وإنما يحكي قصته في غزوة ذات السلاسل، ولم يدرك زمان وقوعها، فهو ظاهر الانقطاع، والله أعلم.
ومن لطائف هذا الإسناد المصري، رواية أربعة من التابعين من أهل مصر بعضهم عن بعض: يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس السهمي.
• وحاصل ما تقدم: أن رواية عمرو بن الحارث هي المحفوظة، لكنها مرسلة، ورواية يحيى بن أيوب: شاذة، وعليه فلا يصح الاستدلال بها على المسائل الآتية:
1 -
تيمم الجنب إذا خاف على نفسه المرض أو الموت.
2 -
صلاة المتيمم بالمتوضئين.
3 -
أن التيمم لا يرفع الحدث، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو:"صليت بأصحابك وأنت جنب"، فأثبت له الجنابة مع التيمم.
وما رُوي عن عمرو في هذا أنه لما خاف على نفسه من البرد: غسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة؛ ولم يتيمم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك: أقوى، ولكنه: مرسل أيضًا، والمرسل: ليس بحجة.
تنبيهان:
الأول: قول ابن المنذر في الأوسط (2/ 21): "وقد ثبت أن عمرو بن العاص احتلم في ليلة باردة فأشفق إن اغتسل أن يهلك فتيمم وصلى".
ثم أورد الحديث في بابه: "ذكر تيمم الجنب إذا خشي على نفسه البرد"، واحتج به على ذلك.
فأقول: قول ابن المنذر في نفسه صحيح إذ هو جارِ على ظاهر السند، فقد قال (528): "حدثنا أحمد بن داؤد: ثنا حرملة، عن ابن وهب: ثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس: أن عمرو بن العاص. . . فذكره بلفظ يحيى بن أيوب تمامًا، بذكر التيمم، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، غير شيخ ابن المنذر فقد أحسن به الظن، ومنه البلية؛ فهو: متروك كذاب، يضع الحديث، قلب المتن، فجعل متن حديث يحيى بن أيوب، لحديث عمرو بن الحارث، وقد تقدم الكلام على ذلك قريبًا.
فلا لوم إذًا على ابن المنذر في حكمه، والحق بخلافه، كما تقدم بيانه.
الثاني: قول البيهقي في السنن (1/ 226): "ويحتمل أن يكون قد فعل ما نقل في الروايتين جميعًا: غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي".
وما جعله البيهقي احتمالًا، جعله بعضهم متعينًا [انظر: أضواء البيان (2/ 41)] [المجموع (2/ 283)، صحيح السنن (2/ 158)]، وقد تبين أن كلا الروايتين لا يصح.
• ولحديث عمرو بن العاص طرق أخرى منها:
1 -
ما علقه أبو داود بقوله: "وروي هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية، قال فيه: "فتيمم".
وهذا ذكره ابن رجب في الفتح (2/ 79)، قال:"وروى أبو إسحاق الفزاري في "كتاب السير"، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا وأمَّر عليهم عمرو بن العاص، فلما أقبلوا سألهم عنه، فأثنوا خيرًا، إلا أنه صلى بنا جنبًا، فسأله فقال: أصابتني جنابة فخشيت على نفسي من البرد، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن رجب: "وهذا مرسل".
قلت: ليس في هذه الرواية التي ساقها أنه تيمم، وحسان: شامي، تابعي، ثقة عابد نبيل.
2 -
وبنحو هذه الرواية بدون ذكر التيمم: روى يوسف بن خالد السمتي: ثنا زياد بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص. . . فذكره.
أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 160)، والطبراني في الكبير (11/ 187/ 11593).
قال ابن عدي: "وهذا عن زياد بن سعد بهذا الإسناد لا أعلم رواه عن زياد غير يوسف بن خالد".
قلت: هو حديث باطل؛ لتفرد السمتي به، وهو: متروك، كذاب.
3 -
وروى الواقدي قال: حدثنا أفلح بن سعيد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش، عن أبي بكر بن حزم، قال: كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم. . . فذكره مطولًا، وفيه قصة أخرى؛ وفيه:"فتوضأ وغسل فرجه وتيمم".
أخرجه الواقدي في مغازيه (2/ 773 - 774)، ومن طريقه: البيهقي في الدلائل (4/ 402).
والواقدي: متروك، وظاهره الإرسال.
4 -
وروى ابن جريج قال: أخبرني إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص: أنه أصابه جنابة وهو أمير الجيش فترك الغسل، من أجل أنه قال: إن اغتسلت مت من البرد، فصلى بمن معه جنبًا، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بما فعل وأنبأه بعذره، فأقر وسكت.
أخرجه عبد الرزاق (1/ 226/ 878)، ومن طريقه: الطبراني في الكبير [عزاه إليه ابن حجر في التغليق (2/ 191)]، والخطيب في المتفق والمفترق (1/ 278/ 123)[وفي إسناد المطبوع سقط ظاهر].
ولم يذكر فيه التيمم ولا الوضوء، وإنما اقتصر على قوله:"فترك الغسل".
وإسناده ضعيف.
قال الخطيب في ترجمة إبراهيم هذا: "حدث عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، أراه مرسلًا، روى عنه ابن جريج".
وبهذا ترجم له ابن حجر في التهذيب (1/ 61) باختصار.
وقال في التغليق (2/ 191): "وهذا إسناد جيد؛ لكن لا أعرف حال إبراهيم هذا".
قلت: بل إسناده ضعيف، لجهالة إبراهيم هذا، وللإرسال الذي نبه عليه الخطيب.
• والحاصل: أنه لا يصح في قصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل لما صلى بأصحابه شيء، لكن رواية: أنه غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة: أصح من رواية التيمم الشاذة، والله أعلم.
• ويتعلق بهذا الحديث، والحديث المتقدم لأبي ذر الغفاري مسائل؛ منها:
أولًا: هل التيمم يرفع الحدث أم هو مبيح لما تجب أو تستحب له الطهارة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: أن التيمم لا يرفع الحدث.
الثاني: أنه يرفعه رفعًا كليًّا.
الثالث: أنه يرفعه رفعًا مؤقتًا.
وحجة القول الأول:
1 -
حديث عمران بن حصين المتفق عليه [البخاري (344 و 348 و 3571)، مسلم (682)، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال:"ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ " قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال:"عليك بالصعيد فإنه يكفيك". . .، وبعد أن وجدوا الماء قال: وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماءٍ، قال:"اذهب فأفرغه عليك"، واللفظ للبخاري (344).
فاستدلوا به على أن تيممه الأول لم يرفع جنابته.
2 -
حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته".
وهو حديث حسن، تقدم معنا برقم (332 و 333).
ومحل الشاهد منه قوله: "فإذا وجد الماء فليمسه بشرته"، فلو كان حدثه -وهو الجنابة- رُفع بالتيمم لما احتاج إلى إمساس الماء بشرته.
3 -
حديث عمرو بن العاص، ومحل الشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم له: "صليت بأصحابك وأنت جنب".
فقد أثبت له بقاء الجنابة بعد التيمم.
وحجة القول الثاني:
1 -
قول الله تعالى لما ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6].
2 -
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".
وفي الآية والحديث ما يدل على كون التيمم مطهر رافع للحدث رفعًا كليًّا، حيث سمي التيمم بأسم الماء وهو الطهور، كما في حديث أبي ذر المتقدم:"الصعيد الطيب: طَهور المسلم"، وفي رواية:"وَضوء المسلم" فأقامه مقام الماء.
3 -
أن التيمم بدل من الوضوء، والقاعدة: أن البدل له حكم المبدل منه، فكما أن طهارة الماء ترفع الحدث، فكذلك طهارة التيمم.
4 -
الإجماع على أن الصلاة تصح بالتيمم، كما تصح بالماء.
• قال العلامة الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان (2/ 43): "الذي يظهر من الأدلة: تعين القول الثالث؛ لأن الأدلة تنتظم به، ولا يكون بينهما تناقض، والجمع واجب متى أمكن.
والقول الثالث المذكور هو: أن التيمم يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا لا كليًّا، وهذا لا مانع منه عقلًا ولا شرعًا، وقد دلت عليه الأدلة.
لأن صحة الصلاة به المجمع عليها يلزمها أن المصلي غير محدث ولا جنب لزومًا شرعيًّا لا شك فيه.
ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك -عند إمكانه- المجمع عليه أيضًا، يلزمه لزومًا شرعيًّا لا شك فيه، وأن الحدث مطلقًا لم يرتفع بالكلية، فيتعين الارتفاع المؤقت، هذا هو الظاهر، ولكن يشكل عليه ما تقدم في حديث عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"صليت بأصحابك وأنت جنب".
قلت: الحديث بهذا اللفظ شاذ لا يثبت، فسقط الاستدلال به، واسترحنا من الإجابة عليه لو كان ثابتًا، وانظر فيمن أجاب عليه: زاد المعاد (3/ 388)، أضواء البيان (2/ 43).
وقال شيخ الإسلام (21/ 359): "فصاحب هذا القول إنما قال: إنه يرفع الحديث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا.
ومن قال: إنه ليس برافع، ولكنه مبيح، والحدث هو المانع من الصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال؛ فهذا صحيح.
وكذلك من قال: هو رافع للحدث، إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنهي والإجماع أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء.
وإن قال: أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء فقد أصاب.
وليس بين القولين نزاع عملي شرعي.
وعلى هذا فيقال: على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل؛ إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا [وهذا -أو: وليس بينهما، فرق مؤثر إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل.
وأيضًا: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، لم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها، كما لم يفصل ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر.
وإذا دلت السُّنَّة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به، ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة ومذهب أبي يوسف وغيره، لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك لنقص حال المتيمم.
وأيضًا: كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سبب حادث، لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة، إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء، والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع".
وقال أيضًا (21/ 362): "والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا ما يبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء"[وانظر أيضًا: (21/ 403)].
وانظر: الأم (2/ 97)، إحكام الأحكام (1/ 152)، الأعلام (2/ 162)، فتح الباري لابن رجب (2/ 20)، فتح الباري لابن حجر (1/ 532)، تفسير القرطبي (5/ 225)، المغني (1/ 158)، التمهيد (7/ 183)، المجموع (2/ 255 و 259)، فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 355 و 361)، الشرح الممتع (1/ 314 - 316).
وتقدم في كلام شيخ الإسلام عدة مسائل متعلقة بالتيمم، وما قاله فيها هو الحق، والله أعلم.
ثانيًا: إذا وجد المتيمم الماء بعد دخوله في الصلاة، هل يتم صلاته أم يقطعها؟.
قال ابن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة أن طهارته تنقض، وعليه أن يتطهر ويصلي.
واختلفوا فيمن تيمم فدخل في الصلاة ثم وجد الماء:
فقالت طائفة: يمضي في صلاته ويتمها، ولا إعادة عليه، هذا قول: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور.
وقد حكي عن أحمد أنه قال: أعجب إليَّ أن يتوضأ.
وقالت طائفة: ينصرف ويتوضأ ويستقبل الصلاة، هذا قول الثوري.
وحكي عن النعمان أنه قال: إن وجد الماء قبل أن يسلم، وقد قعد قدر التشهد أن صلاته فاسدة، فيتوضأ ويستقبل الصلاة. . .
[ثم نقل قول يعقوب، ومحمد، والأوزاعي، ثم قال أبو بكر:] احتج بعض من يقول بالقول الأول، فقال: جعل الله للطهارة وقتًا، وجعل للصلاة وقتًا غيره، فوقت الطهارة هو وقت القيام إلى الصلاة قبل الدخول فيها، ووقت الصلاة هو وقت الدخول في أدائها، وهو حينئذ غير متعبد بفرض الطهارة؛ إذ لا يجوز له أن يدخل الصلاة إلا بعد فراغه من طهارتها، فإذا تيمم كما أمر، فقد خرج عن فرض الطهارة وإذا كبر فقد دخل في فرض الصلاة.
قال أبو بكر: ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها وإبطال ما صلى من الصلاة كما فرض عليه وأمر به إلا بحجة من كتاب أو سُنَّة أو إجماع" [الأوسط (2/ 65 - 66)].
قلت: وما ذهب إليه ابن المنذر هو الصواب، فإن من دخل في العبادة على وجه مأذون له فيه شرعًا، وأتى فيه بما أمر به، فلا ينتقض إلا بدليل صحيح صريح، وأما ما استدل به بعضهم من حديث أبي ذر الصحيح:"فإذا وجد الماء فليمسه بشرته"، فقد قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 406):"ولكنه يشكل على الاستدلال بهذا الحديث قوله: "فإن ذلك خير"، فإنه يدل على عدم الوجوب المدعى".
وأما ما نقله ابن المنذر عن أحمد في القول الأول، فقد حكى المرداوي في الإنصاف (1/ 284) أنه رجع عنه، فقال شارحًا عبارة المقنع:"وإن وجده فيها بطلت"، قال المرداوي:"هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب، وعنه: لا تبطل، ويمضي في صلاته"، إلى أن قال:"روى المروذي عن أحمد أنه رجع عن الرواية الثانية، فلذلك أسقطها أكثر الأصحاب. . .".
وفي مسائل صالح (127) قال: قلت: المتيمم يرى الماء وهو في الصلاة؟ قال الإمام أحمد: "قد كنت أقول: يمضي في صلاته، ثم وقفت فيها".
وانظر: المدونة الكبرى (1/ 46)، الأم (2/ 101)، الجامع لأحكام القرآن (5/ 226)، المغني (1/ 167)، قواعد ابن رجب (1/ 41)، وغيرها.
***