الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
115 - باب من قال: توضأ لكل صلاة
304 -
ابن أبي عدي، عن محمد؛ يعني: ابن عمرو: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي".
قال أبو داود: قال ابن المثنى: وحدثنا به ابن أبي عدي حفظًا، فقال: عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة.
قال أبو داود: وروي عن العلاء بن المسيب وشعبة، عن الحكم، عن أبي جعفر. قال العلاء: عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأوقفه شعبة على أبي جعفر: توضأ لكل صلاة.
• حديث منكر.
تقدم برقم (286)، ورواية أبي جعفر: تقدم الكلام عليها تحت الحديث رقم (28
1).
***
116 -
باب من لم يذكر الوضوء إلا عند الحدث
305 -
. . . هشيم: أخبرنا أبو بشر، عن عكرمة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئًا من ذلك توضأت، وصلت.
• حديث مرسل، وحديث عائشة في قصة أم حبيبة هو المحفوظ.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 118/ 1347)، وفيه:"توضأت، واحتشت، وصلت"، والبيهقي (1/ 351)، وفيه:"توضأت، واستثفرت، واحتشت، وصلت".
قال البيهقي: "وهذا أيضًا منقطع، أقرب من حديث عائشة في باب الغسل، وحديث عائشة من الوجه الثابت عنها: أولى أن يكون صحيحًا".
وقال الخطابي في المعالم (1/ 80): "وهذا الحديث منقطع، وعكرمة لم يسمع من أم حبيبة بنت جحش".
وقال المنذري: "هذا مرسل".
قلت: صورته مرسل: ليس بين عكرمة والنبي صلى الله عليه وسلم أحد.
والمرسل لا تقوم به حجة، وحديث عائشة في قصة أم حبيبة أولى من هذا بلا شك.
قال ابن رجب في الفتح (1/ 451): "والظاهر: أنه مرسل، وقد يكون آخره موقوفًا على عكرمة من قوله، والله أعلم".
وكذلك فإن عكرمة لا يُعرف له سماع من أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة [راجع الحديث المتقدم برقم (272)، المراسيل (297)].
***
306 -
قال أبو داود: حدثنا عبد الملك بن شعيب: حدثنا عبد الله بن وهب: أخبرنا الليث، عن ربيعة: أنه كان لا يرى على المستحاضة وضوءًا عند كل صلاة إلا أن يصيبها حدث غير الدم فتوضأ.
قال أبو داود: هذا قول مالك -يعني: ابن أنس-.
• مقطوع بإسناد صحيح.
قلت: وهذا إسناد صحيح إلى ربيعة، رجاله رجال مسلم.
قال الخطابي في المعالم (1/ 80): "وقول ربيعة شاذ ليس عليه العمل".
قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 50): "وأما مالك فإنه لا يوجب على المستحاضة، ولا على صاحب السلس وضوءًا؛ لأنه لا يرفع به حدثًا. وقد قال عكرمة، وأيوب، وغيرهما: سواء دم الاستحاضة، أو دم جرح لا يوجب شيء من ذلك وضوءًا".
"وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا ذهب قدر الحيضة فاغتسلي وصلي"، ولم يذكر وضوءًا، ولو كان الوضوء واجبًا عليها لما سكت عن أن يأمرها به"، وانظر: الأوسط (1/ 164).
قال ابن رجب في الفتح (1/ 451) بعد أن ضعف كل ما روي في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، وقال بأنها كلها مضطربة ومعللة، قال: "وقد روي الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة عن جماعة من الصحابة منهم: علي، ومعاذ، وابن عباس، وعائشة، وهو قول: سعيد بن المسيب، وعروة، وأبي جعفر، ومذهب أكثر العلماء: كالثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغيرهم.
لكن منهم من يوجب عليها الوضوء لكل فريضة كالشافعي.
ومنهم من يرى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بها ما شاءت من فرائض ونوافل حتى يخرج الوقت، وهو قول أبي حنيفة، والمشهور عن أحمد، وهو أيضًا قول الأوزاعي، والليث، وإسحاق.
وقد سبق ذكر قول من لم يوجب الوضوء بالكلية لأجل دم الاستحاضة كمالك وغيره [مالك، وربيعة، وعكرمة، وأيوب].
وهكذا الاختلاف في كل مَن به حدث دائم لا ينقطع، كمن به: رعاف دائم، أو سلس البول، أو الريح، ونحو ذلك.
وعن مالك رواية بوجوب الوضوء، كقول الجمهور".
• قلت: الصواب قول الجمهور؛ ودليله: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية [المائدة: 6]؛ في إيجاب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وهو على غير طهارة، والمستحاضة ومن به سلس دائم من بول وريح ونحوه ليسوا على وضوء، فهم مأمورون بالوضوء لكل صلاة.
وانظر: التمهيد (6/ 50).
وقول عائشة في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام حيضها، ثم تغتسل غسلًا واحدًا، وتتوضأ عند كل صلاة"، وهو صحيح عنها، وتقدم تحت الحديث المتقدم برقم (300).
وعائشة رضي الله عنها هي أفقه وأفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال في شأن المستحاضة؛ من غيرها.
ويفسر هذا قول عروة -وقد تفقه على عائشة-: "ثم توضئي لكل صلاة، حتى يجئ ذلك الوقت"[البخاري (228)].
وهذا يؤيد قول من قال: تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي به ما شاءت من فرائض ونوافل، حتى يخرج الوقت، والله أعلم.
ويحسن في خاتمة أبواب الاستحاضة، ذكر خلاصة ما جاء فيها، وما صح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، مع شيء من فقهها، وبعض أقوال أهل العلم فيها مع الاختصار والإجمال:
• خلاصة أبواب الاستحاضة:
أولًا: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 -
حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي".
وهو حديث صحيح [رقم (274)].
2 -
حديث عراك بن مالك: عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: إن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مِركنها ملآن دمًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي".
فكانت تغتسل عند كل صلاة.
وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم [رقم (279)].
3 -
حديث الزهري: عن عروة، وعمرة، عن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش -ختنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف- استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق، فاغتسلي، وصلي".
فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء. وفي رواية: فكانت تغتسل عند كل صلاة.
وفي رواية الليث بن سعد قال: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.
وهو حديث متفق على صحته [رقم (285)].
• وهذه الأحاديث الثلاثة إنما هي في المعتادة التي لا تمييز لها، أو في المعتادة المميزة التي اتفقت عادتها مع تمييزها.
4 -
حديث هشام بن عروة: عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر؛ أفأدع الصلاة؟ قال: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وصلي".
وفي رواية: "فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك، وصلي"[(282)].
وأما زيادة: "وتوضئي لكل صلاة": فهي زيادة شاذة، أو قل: هي مدرجة في الحديث المرفوع، وإنما هي من قول عروة بن الزبير.
• وهذا الحديث في المستحاضة المميزة، التي تميز دم الحيض من دم الاستحاضة.
قال ابن رجب في الفتح (1/ 440): "والمستحاضة لها أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مميزة، وهي التي دمها مميز، بعضه أسود، وبعضه أحمر أو أصفر.
والحالة الثانية: أن تكون معتادة، وهي التي لها عادة معلومة من الشهر تعرفها.
والحالة الثالثة: أن تجتمع لها عادة وتمييز، وتختلفان.
والحالة الرابعة: أن لا تكون لها عادة ولا تمييز، مثل أن يكون دمها كله لونه واحد، وليس لها عادة: إما بأن تكون قد استحيضت وهي مبتدأة، أو كانت لها عادة ونسيتها.
وقد اختلف العلماء في حكم ذلك:
فذهب الشافعي وأحمد إلى اعتبار التمييز والعادة معًا، فإن انفرد أحدهما عملت به، بغير خلاف عنهما.
وإن اجتمعا واختلفا، ففيه قولان:
أحدهما: تقدم التمييز على العادة، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد، اختارها الخرقي.
والثاني: تقدم العادة على التمييز، وهو المشهور عن أحمد، وعليه أكثر أصحابه، وهو قول إسحاق والإصطخري، وابن خيران من الشافعية، وهو قول الأوزاعي، حتى إنه قدم رجوعها إلى عادة نسائها على تمييز الدم.
وذهب مالك إلى أن لا اعتبار بالعادة، وأن العمل على التمييز وحده، فإن لم يكن لها تمييز فإنها لا تترك الصلاة أصلًا، بل تصلي أبدًا، ويلزمها الغسل لكل صلاة في الوقت لاحتمال انقطاع الحيضة فيه.
ومذهب أبي حنيفة، وسفيان: أن الاعتبار بالعادة وحدها دون التمييز، فإذا لم يكن لها عادة فإنها تجلس أقل الحيض ثم تغتسل وتصلي.
وأما من لا عادة لها ولا تمييز، فإن كانت ناسية: فذهب أبو حنيفة إلى أنها تقعد العادة، تجلس أقل الحيض ثم تغتسل وتصلي. ومذهب مالك: أنها تقعد التمييز أبدًا، وتغتسل لكل صلاة، كما تقدم. وللشافعي فيها ثلاثة أقوال:. . ."، فذكرها، وذكر لأحمد ثلاث روايات، ثم قال: "وأما المبتدأة إذا استحيضت: فإذا كانت مميزة فإنها ترد إلى تمييزها عند الشافعي وأحمد وإسحاق، وإن لم يكن لها تمييز: فعن أحمد فيها أربع روايات:. . ." فذكرها، "وللشافعي قولان. . .، وقال أبو حنيفة: تجلس أكثر الحيض. . .، وعن مالك روايات".
وانظر نحو هذا في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (21/ 627).
وقال الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح (125): "للمستحاضة سنن: فإذا جاءت فزعمت أنها مستحاضة، سئلت عن شأنها، فإذا زعمت أنه كان لها أيام معلومة تجلسها في وقت معلوم، قيل لها: إذا جاء ذلك الوقت من الشهر فاجلسي عدد تلك الأيام التي كنت تجلسين فيما خلا، فإذا جاوزت تلك الأيام، فاغتسلي غسلًا واحدًا، ثم توضئي لكل صلاة، وصلي، وإن شاءت اغتسلت لكل صلاة، فذلك أكثر ما جاء فيه، وإن شاءت جمعت الظهر والعصر بغسل، وبين المغرب والعشاء بغسل، واغتسلت للصبح غسلًا، فهذا وسط ما جاء فيه، وإن توضأت فهو أقل ما جاء فيه، وهو يجزئها إن شاء الله.
والحجة في أن الوضوء يجزئها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة"، فلا يكون الغسل من غير الحيضة، وهذه سُنَّة التي كانت تعرف وقت جلوسها، وعدد أيام جلوسها، وهذا في حديث نافع عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة.
وسُنَّة أخرى للمستحاضة: إذا جاءت فزعمت أنها كانت تستحاض فلا تطهر. قيل لها: أنت الآن ليس لك أيام معلومة فتجلسينها، ولكن انظري إلى إقبال الدم وإدباره، فإذا أقبلت الحيضة، وإقبالها: أن ترى دمًا أسود يعرف، فإذا تغير دمها فكان إلى الصفرة والرقة، فذلك دم الاستحاضة، فاغتسلي وصلي، ثم توضئي لكل صلاة، وإن لم ينقطع الدم إلى خمس عشرة، فلا ينظر بعد خمس عشرة إلى الدم، ولتكن بعد خمس عشرة مستحاضة؛ لأن أكثر الحيض خمس عشرة، فهذه سُنَّة التي لم تكن تعرف أيامها، وهذا في
حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن فاطمة ابنة أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال في موضع آخر (1250): "أول ما يبدأ الدم بالمرأة تقعد ستة أيام أو سبعة أيام، وهو أكثر ما تجلس النساء، على حديث حمنة".
وقال شيخ الإسلام (21/ 630): "وفي المستحاضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنن: سُنَّة في العادة لما تقدم، وسُنَّة في المميزة، وهو قوله: "دم الحيض أسود يعرف"، وسُنَّة في غالب الحيض، وهو قوله: "تحيض ستًّا أو سبعًا، ثم اغتسلي وصلي ثلاثًا وعشرين، أو أربعًا وعشرين، كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن".
والعلماء لهم في الاستحاضة نزاع، فإن أمرها مشكل لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة، فلا بد من فاصل يفصل هذا من هذا.
والعلامات التي قيل بها ستة:
إما العادة: فإن العادة أقوى العلامات؛ لأن الأصل مقام الحيض دون غيره.
وإما التمييز: لأن الدم الأسود الثخين المنتن أولى أن يكون حيضًا من الأحمر.
وإما اعتبار غالب عادة النساء؛ لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السُّنَّة والاعتبار. . . [إلى أن قال:] وهل هذا حكم الناسية، أو حكم المبتدأة والناسية جميعًا فيه نزاع؟ وأصوب الأقوال: اعتبار العلامات التي جاءت بها السُّنَّة، وإلغاء ما سوى ذلك.
وأما المتحيرة: فتجلس غالب الحيض، كما جاءت به السُّنَّة، ومن لم يجعل لها دمًا محكومًا بأنه حيض، بل أمرها بالاحتياط مطلقًا؛ فقد كلفها أمرًا عظيمًا لا تأتي الشريعة بمثله، وفيه تبغيض عبادة الله إلى أهل دين الله، وقد رفع الله الحرج عن المسلمين، وهو من أضعف الأقوال جدًّا".
وقال ابن رجب في الفتح (1/ 532) بعد أن ذكر أقوالهم في المتحيرة، وهي التي نسيت وقتها وعددها ولا تمييز لها، وأنها تغتسل لكل صلاة، وتصلي أبدًا، قال:"وفي هذا حرج عظيم، وعسر شديد، والكتاب ناطق بانتفائه عن هذه الأمة، فكيف تكلف به امرأة ضعيفة مبتلاة، مع أن دين الله يسر، ليس بعسر".
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 408): "والحاصل: أنه لم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة ما يقضي بوجوب الاغتسال عليها لكل صلاة، أو لكل يوم، أو للصلاتين، بل لإدبار الحيضة، كما في حديث فاطمة المذكور، فلا يجب على المرأة غيره، والأحاديث الصحيحة منها ما يقضي بأن الواجب عليها الرجوع إلى العمل بصفة الدم، كما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، ومنها ما يقضي باعتبار العادة، [ثم قال بعد أن ضعف حديث حمنة في الرجوع إلى غالب عادة النساء:] وقد أطال المصنفون في الفقه: الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطرابًا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان، والنقص في الأديان، وبالغوا في
التعسير حتى جاؤوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها لأن حديث الباب ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها، وكذلك الحديث الآتي في الباب الذي بعد هذا فإنه صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة، فطاحت مسألة المتحيرة، ولله الحمد، ولم يبق ها هنا ما يستصعب إلا ورود بعض الأحاديث الصحيحة بالإحالة على صفة الدم، وبعضها بالإحالة عل العادة، وقد عرفت إمكان الجمع بينها".
وقال شيخ الإسلام في المبتدأة (19/ 238): "والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتى يقوم دليل على أنه استحاضة؛ لأن ذلك هو الدم الأصلي الجبلي، وهو دم ترخيه الرحم، ودم الفساد دم عرق ينفجر، وذلك كالمرض، والأصل الصحة لا المرض، فمتى رأت المرأة الدم جارٍ من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة، ومن قال: إنها تغتسل عقيب يوم وليلة، فهو قول مخالف للمعلوم من السُّنَّة وإجماع السلف، فإنا نعلم أن النساء كن يحضن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكل امرأة تكون في أول أمرها مبتدأة، قد ابتدأها الحيض، ومع هذا فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم واحدة منهن بالاغتسال عقب يوم وليلة، ولو كان ذلك منقولًا لكان ذلك حدًّا لأقل الحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحد أقل الحيض باتفاق أهل الحديث، والمروي في ذلك: "ثلاث"، وهي أحاديث مكذوبة عليه باتفاق أهل العلم بحديثه، وهذا قول جماهير العلماء، وهو أحد القولين في مذهب أحمد.
وكذلك المرأة المنتقلة؛ إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض، حتى يعلم أنه استحاضة باستمرار الدم، فإنها كالمبتدأة.
والمستحاضة ترد إلى عادتها، ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء، كما جاء في كل واحدة من هؤلاء سُنَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث
…
والحامل إذا رأت الدم على الوجه المعروف لها فهو دم حيض بناء على الأصل".
• قلت: وما قاله شيخ الإسلام هنا هو الصواب، وقد دل على ذلك الدليل، وبه نأخذ.
فالمستحاضة ترد إلى عادتها: لحديث أم سلمة، وحديث عائشة في قصة أم حبيبة.
ثم ترد إلى تمييزها: لحديث فاطمة بنت أبي حبيش؛ الذي يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
ثم ترد إلى غالب عادة النساء، أو عادة قريباتها: أمها وأخواتها ونحوهن، لحديث ابن عقيل في قصة حمنة بنت جحش، والحديث وإن كان ضعيفًا لا يصلح للاحتجاج، إلا أن العمل بالضعيف هنا أولى من العمل بالقياس، والنظر، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم:"كما تحيض النساء، وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرن"، والله أعلم.
وأما المبتدأة والمنتقلة والحامل: فالأصل فيما نراه أنه حيض حتى تعلم أنه دم استحاضة باستمراره.
ثم إن المستحاضة في ذلك كله: لا يلزمها إلا غسل واحد، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة.
قال الترمذي (125): "حديث عائشة: حديث حسن صحيح [يعني: في قصة فاطمة بنت أبي حبيش]، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وبه يقول: سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، والشافعي: أن المستحاضة إذا جاوزت أيام أقرائها: اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة".
وقال بعد حديث حمنة (128): "وقال أحمد وإسحاق في المستحاضة: إذا كانت تعرف حيضها بإقبال الدم وإدباره، وإقباله: أن يكون أسود، وإدباره: أن يتغير إلى الصفرة، فالحكم لها على حديث فاطمة بنت أبي حبيش.
وإن كانت المستحاضة لها أيام معروفة قبل أن تستحاض فإنها تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي.
وإذا استمر بها الدم، ولم يكن لها أيام معروفة ولم تعرف الحيض بإقبال الدم وإدباره، فالحكم لها على حديث حمنة بنت جحش.
وكذلك قال أبو عبيد"، ثم نقل كلام الشافعي. وانظر: اختلاف العلماء لابن نصر (35).
وقال الشافعي في السنن (1/ 243): "وبحديثي مالك نأخذ: حديث هشام، وحديث نافع.
والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على افتراق حال المستحاضتين:
فإذا كانت للمرأة أيام تحيضهن من الشهر معروفات، ثم استحيضت: وكانت في أيام دمها كلها في حال واحدة، لا ينفصل دمها، فيكون مرة أحمر قانيًا أيامًا، ومرة أصفر رقيقًا، وكان مشتبهًا غير منفصل: نظرت عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر -في أول الشهر كن أو وسطه أو آخره- فتركت الصلاة فيهن، لا تزيد عليهن ساعة استظهارًا، ولا تنقص منهن ساعة تعجيلًا، ثم اغتسلت كما كانت تغتسل عند طهرها من الحيض، ثم صلت وصامت وأتاها زوجها إن شاء، وتوضأت لكل صلاة، وأختار لها بغير إيجاب عليها أن تغتسل من طهر إلى طهر، ولا تدع الوضوء لكل صلاة مكتوبة حضرت، ثم تصلي النوافل بذلك الوضوء، فإذا حضرت مكتوبة استأنفت لها وضوءًا، وأحب لها لو أنها أنقت فرجها، واحتشت واستثفرت، ثم توضأت، فإن توضأت والدم سايل -وهو كذلك في أيامها- مضت على وضوئها.
وإن كان دم المستحاضة ينفصل: فيكون في أيام من شهرها أحمر ثخينًا قانيًا كثيرًا [وفي الأم (8/ 568): أحمر إلى السواد محتدم]، وفي أيام أخرى رقيقًا قليلًا إلى الصفرة [في الأم: غير محتدم]: فالأيام التي يكون الدم فيها أحمر قانيًا: أيام حيضها، والأيام التي كان فيها رقيقًا أصفر قليلًا: أيام استحاضتها، فتغتسل عند إدبار الدم الكثير، وتوضأ
لكل صلاة في أيام الدم القليل، وتفعل كما أمرت الأخرى أن تفعل، ولا تستظهر واحدة منهما بساعة.
وهكذا حديثا مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء.
فأما حديث الزهري: فليس فيه شيء يخالف هذا، وإنما حكى أن المرأة نفسها كانت تغتسل لكل صلاة، وتجلس في مركن، ولم يحك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك".
وقال نحوه في الأم (8/ 568) و (2/ 135)، وزاد في (8/ 569):"وفي قوله دليل على أنه ليس للحائض أن تستظهر بطرفة عين، وذلك أنه أمر إحداهما إذا ذهبت مدة الحيض أن تغسل عنها الدم وتصلي، وأمر الأخرى أن تربص عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ثم تغتسل وتصلي، والحديثان جميعًا ينفيان الاستظهار".
وقال في الأم (2/ 136): "وإذا ابتدأت المرأة ولم تحض، حتى حاضت، فطبق الدم عليها، فإن كان دمها ينفصل: فأيام حيضها: أيام الدم الثخين الأحمر القاني المحتدم، وأيام استحاضتها: أيام الدم الرقيق.
فإن كان لا ينفصل ففيها قولان:
أحدهما: أن تدع الصلاة ستًّا أو سبعًا، ثم تغتسل وتصلي، كما يكون الأغلب من حيض النساء. . . [لحديث حمنة].
والقول الثاني: أن تدع الصلاة أقل ما علم من حيضهن، وذلك يوم وليلة".
وكلام الإمام الشافعي يقودنا إلى الكلام عن الاستطهار الذي قال به أصحاب الإمام مالك المصريين عنه:
فقد قال الشافعي بأن حديث أم سلمة وحديث فاطمة بنت أبي حبيش كلاهما ينفي الاستطهار.
وقال البيهقي في السنن (1/ 330) بعد حديثي فاطمة وأم حبيبة بنت جحش "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك".
قال: "فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعًا إذا أدبرت حيضتها، أو مضى قدر ما كانت حيضتها تحبسها: في حكم الطاهرات، ولم يأمر بالاستطهار، وقد روي في حديث ضعيف ما يوهم أن يكون فيه".
• وهو حديث يرويه: حرام بن عثمان، عن عبد الرحمن، ومحمد ابني جابر، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت أسماء بنت مرشد أخت بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني حدثت لي حيضة لم أكن أحيضها، قال:"وما هي؟ " قالت: أمكث ثلاثًا أو أربعًا بعد أن أطهر ثم تراجعني فتحرم عليَّ الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثًا، ثم تطهري وصلي".
أخرجه إسماعيل القاضي في أحكامه، وابن منده في المعرفة [ذكرهما ابن حجر في
الإصابة (10814)]، وأبو نعيم في المعرفة (6/ 3261/ 7514)، والبيهقي (1/ 330).
قال البيهقي: "قال الشيخ أبو بكر -يعني: ابن إسحاق-: الخبر واهٍ، ويحتمل أنه قال؛ لأن الطهر كثيرًا يقع في وسط الحيض، فيكون حيضًا بعد ذلك. قال الشيخ: حرام بن عثمان: ضعيف، لا تقوم بمثله الحجة".
وقال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (3208): "ولا يصح؛ لأنه انفرد به حرام بن عثمان، وهو متروك عند جميعهم، قال الشافعي: الحديث عن حرام بن عثمان: حرام".
وقال في التمهيد (6/ 42): "احتج بعض أصحابنا في الاستظهار بحديث رواه حرام بن عثمان، وهو حديث لا يصح، وحرام بن عثمان: ضعيف، متروك الحديث، واحتجوا فيه من جهة النظر بالقياس على المصراة من اختلاط اللبنين، وفي هذا المعنى نظر".
وقال في الاستذكار (1/ 341): "وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد، وحرام بن عثمان المدني: متروك الحديث، مجتمع على طرحه، لضعفه ونكارة حديثه، حتى لقد قال الشافعي: الحديث عن حرام بن عثمان: حرام، وقال بشر بن عمر: سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان؛ فقال: ليس بثقة".
وقال ابن حزم في المحلى (2/ 217): "هذا الخبر باطل، إذ هو مما انفرد به حرام بن عثمان، ومالك نفسه يقول: هو غير ثقة".
قلت: وهو كما قال: حديث باطل، حرام بن عثمان: منكر الحديث، متروك الحديث [اللسان (2/ 230)، التاريخ الكبير (3/ 101)، الجرح والتعديل (3/ 282)، الكامل (2/ 444)، تاريخ بغداد (8/ 277)، المجروحين (1/ 269)، منهج النسائي في الجرح والتعديل (3/ 1424)].
وقد روى في الاستطهار حديث صريح، وليس بأحسن حالًا من الذي سبق:
قال الطبراني في مسند الشاميين (4/ 21/ 2620): حدثنا عبدان بن محمد: ثنا محمد بن عرق الحمصي: ثنا عبد المؤمن: ثنا بكر بن مضر: عن سعيد -يعني: ابن بشير-، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة إذا استحيضت استطهرت ثلاثة أيام فوق أقرائها".
وهذا حديث باطل، إسناده مظلم، عبد المؤمن ومحمد بن عرق الحمصي: لم أعرفهما بعد طول بحث، وفي تفرد من لا يعرف عن بكر بن مضر [الثقة الثبت المشهور] نكارة، ثم إن سعيد بن بشير يروي عن قتادة المنكرات.
***