الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصار الشِّعْب
فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا، وأَصَأبُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَدْ أَسْلَمَ، فكَانَ هُوَ وحَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابِهِ، وجَعَلَ الإِسْلَامُ يَفْشُو في القَبَائِلِ؛ لجأت قريشٌ إلى مساومة أبي طالب بأن يعطوه عُمارَةَ بنِ الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ مقابل أن يسلِّمهم رسول الله ليقتلوه حتى لا يتفرق شمل قريش في زعمهم. فقال: أتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أكْفُلُهُ لَكُمْ، وأُعْطِيَكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ؟. فرفض وأصر على حماية ابن أخيه.
وقَامَ أَبُو طَالِبٍ في بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنع رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والقِيامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وأجَابُوهُ إِلَى ما دَعاهُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَمِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ في ذَلِكَ قَصِيدَةً يَمْدَحُهُمْ، ويُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَدْبِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والنُّصْرَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مِنْهَا:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ
…
فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّها، وصَمِيمُهَا
وَإِنْ حُصِّلَتْ أشْرافُ عَبْدِ مَنَافِهَا
…
فَفِي هَاشِمٍ أشْرافُهَا، وقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا
…
هُوَ المُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وكَرِيمِهَا
تَداعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وسَمِينُهَا
…
عَلَيْنا فَلَمْ تَظْفَرْ، وَطَاشَ حُلُومُهَا
وصَدَحَ أَبُو طَالبٍ بأبْيَاتَهُ المَشْهُورَةَ في نُصْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَقاَل:
واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بَجَمْعِهِمْ
…
حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينَا
فامْضِي لِأَمْرِكَ ما عَلَيْكَ غَضَاضَةً
…
أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أنَّكَ نَاصِحِي
…
فَلَقَدْ صَدَقْتَ وكُنْتَ قِدَمَ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّهُ
…
مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلا المَلَامَةُ أَوْ حَذَارِي سُبَّةً
…
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
وقال قصيدته اللامية المشهورة ومنها:
أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
…
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وثَوْرٍ ومَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ
…
ورَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ ونَازِلِ
وبِالْبَيْتِ حَقُّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةٍ
…
وبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وبِالْحَجَرِ المُسَوَّدِ إذْ يَمْسَحُونَهُ
…
إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى والأَصَائِلِ
ومَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً
…
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
ومِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ
…
ومِنْ مُلْحِقٍ في الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٍ
…
لَدَيْنَا ولَا يَعْنِي بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أيُّ مُؤَمِّلٍ
…
إِذَا قَاسَهُ الحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ
…
يُوَالِي إِلَاهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ
…
تَقَصَّرُ عَنْهُ سُورَةُ المُتَطَاوِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهَلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلَ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ
…
أخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلّفْتُ وجْدًا بِأَحْمَدٍ
…
وإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبِّ المُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا
…
وزَيْنًا لِمَنْ وَاللَّهِ رَبَّ المَشَاكِلِ
ولَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فِيهِمُ
…
وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى والوَسَائِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمُ
…
ونَحْنُ الكَدَى مِنْ غَالِبٍ والكَوَاهِلُ
وقَدْ صَارَحُونَا بِالعَدَاوَةِ والأَذَى
…
وقَدْ طَاوَعُوا أمْرَ العَدُوِّ المُزَايِلِ
وقَدْ حَالفوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً
…
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ
…
وأبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ
وأحْضَرْتُ عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وإخْوَتِي
…
وأمْسَكْتُ مِنْ أثْوَابِهِ بالوَصَائِلِ
شَبَابٌ مِنَ المُطَّيِّبِينَ وَهَاشِمٍ
…
كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أيْدِي الصَّيَاقِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً
…
وَنَظْعَنُ إِلَّا أمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَبْزِي مُحَمَّدًا
…
وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُناضِلِ
ونُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ
…
ونُذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا والحَلَائِلِ
ويَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمُ
…
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ
وإنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ جَدَّ مَا أرَى
…
لَتَلْتَبِسَنْ أسْيَافُنَا بالْأَمَاثِلِ
وحَتَّى ترى ذَا الضِّغْنَ يَرْكَبُ ردعَهُ ** مِنْ الطَّعْنِ فِعْلَ الأنْكَبِ المُتَحَامِلِ
(1)
ثم اجْتَمَعَ صناديدُ قريشٍ وَائْتَمُّروا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتبوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ: عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إِلَيْهِمْ، ولَا يُنْكِحُوهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، وَأَنْ يُضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ، ولَا يُخَالِطُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْقَتْلِ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أنْفُسِهِمْ. ولَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالمُسْلِمُونَ فِي الشِّعْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ
(2)
، وقَطَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ المِيرَةَ والمَادَّةَ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمُ الأَسْوَاقَ، فكَانُوا لَا يَتْرُكُونَ طَعَامًا يَدْنُو مِنْ مَكَّةَ وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوا إِلَيْهِ فَاشْتَرَوْهُ دُونَهُمْ لَيَقْتُلَهُمُ الجُوعُ، واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِيهِنَّ البَلَاءُ وَالجَهْدُ في شعب أبي طالب ثلاث سنين.
(1)
قَالَ فِيهَا الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ فَصِيحَةٌ بَلِيغَةٌ جِدًّا؛ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا إِلَّا مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَهِيَ أَفْحَلُ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وَأَبْلَغُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى مِنْهَا جَمِيعًا.
(2)
وَفِي فَتْرَةِ المُقَاطَعَةِ فِي الشِّعْبِ وُلدَ حَبْرُ الْأُمَّةِ، وتَرْجُمَانُ القُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
حتى نُقضت الصحيفة وفُك الحصار؛ وذلك أن قريشًا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها، فاجتمعوا عند الحجُون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله. ثم نَقَض الصحيفة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشِّعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته بإخباره عن حال الصحيفة، ولكنهم - كما أخبر الله عنهم:(وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ).