الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك -وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام- غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير
(1)
قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا
(2)
على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر
(3)
في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان
(4)
قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى
(5)
بغيرها، وكان يقول:"الحرب خدعة "، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد حين طابت الثمار والظلال، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً
(6)
وعدواً كثيراً، فجلّى
(7)
للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة
(8)
غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - فما رجل يريد أن يتغيب، إلا ظن أن سيخفى له - ما لم ينزل فيه وحي الله -، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت
(9)
أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يوم الخميس - ولقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر، إلا خرج يوم الخميس - وأنا لم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت
(10)
بعد أن فصلوا
(11)
لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط
(12)
الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك،
(1)
العير: كل ما جلب عليه المتاع والتجارة، من قوافل الإبل والبغال والحمير.
(2)
تواثقنا: تعاهدنا.
(3)
أي: أعظم ذكرا.
(4)
الراحلة: البعير القوي على الأسفار والأحمال، ويقع على الذكر والأنثى.
(5)
ورّى: أخفى مراده، وستر غايته، وأوهمهم بأمر آخر.
(6)
المفازة: البرية القفر، سميت مفازة تفاؤلاً.
(7)
جلّى: أظهر وأبان.
(8)
التأهب والأهبة: التجهز والاستعداد.
(9)
طفق يفعل الشيء: أخذ في فعله واستمر فيه.
(10)
الغدو: السير أول النهار.
(11)
(فصلوا) أي: خرجوا من المدينة. كقوله تعالى: {ولما فصلت العير} أي: خرجت منطلقة من مصر إلى الشام.
(12)
أي: فات وسبق، والفرط: السبق.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلاً مغموصاً
(1)
عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه
(2)
ونظره في عطفيه
(3)
، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري رضي الله عنه وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون - قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً
(4)
من تبوك حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضُحىً، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ثم يجلس فيه للناس، فلما فعل ذلك؛ جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له - وكانوا بضعة وثمانين رجلاً - فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسُّم المغضب، ثم قال:"تعال"، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خلفك؟، ألم تكن قد ابتعت
(5)
ظهرك
(6)
؟ "، فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ
(7)
فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك،
(1)
مغموصاً: مطعوناً في دينه، متهماً بالنفاق.
(2)
البرد والبردة: الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صور.
(3)
عطف الإنسان (بالكسر): جانبه، من رأسه إلى وركه أو قدمه، ومنه: هم ألين عطفاً.
(4)
أي: راجعاً.
(5)
ابتاع: اشترى.
(6)
الظهر: الإبل تعد للركوب وحمل الأثقال.
(7)
تجد علي: تغضب مني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك "، فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني، حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟، قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟، قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامي وكلام صاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟، ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي، أقبل إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عنّي فلبثت كذلك، حتى طالت عليّ جفوة الناس وما من شيء أهم إليّ من أن أموت، فلا يصلي عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلّي ولا يسلم عليّ، فمشيت حتى تسورت
(1)
جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي - فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟، فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار،
(1)
تسوّر: تسلق وصعد السور أو الحائط.
فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني، دفع إلي كتاباً من ملك غسان - وكنت كاتباً - فقرأته، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته
(1)
بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلِّقها أم ماذا أفعل؟، قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله عز وجل في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟، قال:"لا، ولكن لا يقربك"، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنتُهُ فيها وأنا رجل شاب؟، فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رَحُبَت؛ سمعت صوت صارِخٍ أَوْفَى على جبلِ سَلْعٍ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن
(2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرساً، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ، فكسوته إياهما ببشراه - والله ما أملك غيرهما يومئذ - واستعرت ثوبين فلبستهما،
(1)
التنور: ما يخبز فيه. وسجرته، أي: أوقدته.
(2)
آذن: أخبر وأعلم.
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنّاني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه:"أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "، فقلت: أمن عندك يا رسول الله؟، أم من عند الله؟، قال:"لا، بل من عند الله"، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي، صدقةً إلى الله وإلى رسوله
(1)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك "، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجزئ عنك الثلث "، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ، ولا نصب، ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا، إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً، إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} ،
(1)
وفي رواية: قال كعب: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة.
فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتخلفين واعتذروا بالباطل حين أنزل الوحي، شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:{يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل لا تعتذروا، لن نؤمن لكم، قد نبأنا الله من أخباركم، وسيرى الله عملكم ورسوله، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئكم بما كنتم تعملون، سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم، فأعرضوا عنهم، إنهم رجس، ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} ، قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله:{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.