الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفاة أبي طالب وخديجة (عام الحزن)
وبدأ مرض الموت بأبي طالب، فلمّا بَلَغَ قُريْشًا ثِقَلُهُ، خَشُوا أَنْ تُعَيِّرَهُمُ العَرَبُ إِنْ أتَوْا بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمُنْكَرٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَيَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ. فَمَشَى إِلَيْهِ أشْرَافُهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أبَا طَالِبٍ! إِنَّكَ كَبِيرُنَا وسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا ونَدَعَهُ وإِلَهَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ البَيْتَ، وبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِس رَجُلٍ، فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ في ذَلِكَ المَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ فَجَلَسَ عِنْدَ البَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! هَؤُلَاءِ أشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ وليَأْخُذُوا مِنْكَ، وَقَدْ سَأَلُوكَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، ويَدَعُوكَ وإِلَهَكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ فَقَدْ أنْصَفُوكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كلِمَةً إِنْ أَنْتُمْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا العَرَبَ، ودَانَتْ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ؟ ". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُرِيدُ مِنْهُمْ كلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ"، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: نَعَمْ وأَبِيكَ، وعَشْرَ كَلِمَاتٍ. إِنَّ هَذِهِ لَكَلِمَةٌ مُرْبِحَةٌ، لَنُعْطيَنَّكَهَا وَعَشرًا مَعَهَا فمَا هِيَ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"تَقُوُلونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ".
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا. أَمَّا زُعَمَاءُ المُشْرِكِينَ فَصفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ، ثُمَّ قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ، وَإِلَهَكَ الذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا. ثم تفرقوا.
وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ).
وبعد أن ألح المرض على أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كفله صغيراً، وآزره كبيراً، وناصره على دعوته، وحماه من عوادي المشركين، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال:"أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبدالمطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه". فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، ونزلت:(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ). وكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الشِّعْبِ في آخِرِ السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ المَبْعَثِ، وذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وتوفيت بعده بقليل زوج النبي صلى الله عليه وسلم، خديجة التي آمنت به إذ كفر به الناس، وآوته إذ رفضه الناس، وصدقته إذ كذبه الناس، ورزقه الله منها الولد. تُوُفِّيَتْ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَدُفِنَتْ رضي الله عنها بِالحَجُونِ في مَقَابِرِ أَهْلِ مَكَّةَ، ونَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حُفْرَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الجَنَازَةِ شُرِعَتْ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَدْ تُوُفِّيتْ رضي الله عنها وَلَهَا مِنَ العُمُرِ خَمْسٌ وسِتُّونَ سَنَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ في الخَمْسِينَ مِنْ عُمُرِهِ
(1)
.
(1)
فَلَبِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَعقد النّكاح على عَائِشَةَ وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ولم يبنِ بها. ثم تزوج سودة بنت زمعة القرشية، بمكة قبل الهجرة.