الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوسف بن يعقوب عليه السلام
وكان يوسف وشقيقه الأصغر بنيامين هما أصغر أبناء يعقوب، وأُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ
(1)
. ولما كان يوسف في سن الطفولة أخبر والده يعقوب عليهما السلام أنه رأى في المنامِ أحدَ عشَرَ كوكبًا والشَّمسَ والقمَرَ يسجدون له، ففهم يعقوب تفضيل يوسف على إخوته بالنبوة والعلم، لكنه خشي على يوسُفَ من حسد إخوته وكيدهم له ومن مكر الشيطان، فأمره ألا يقص هذه الرؤيا على إخوته.
وتشاكى إخوةُ يوسُفَ مِن أبيه فيما بينهم من محبة أبيهم ليُوسُفَ وأخاه الشَّقيقَ الأصغر بنيامين، وذكر بعضهم أن أباهم يعقوب يُفَضِّلُهما عليهم مع أنهم جماعةٌ أكثر عدداً وأكبر سناً وأنفع في خدمة أبيهم من يوسف وأخيه. فقال بعضهم: اقتُلوا يوسُفَ، أو ألقُوه في أرضٍ مجهولةٍ، بعيدةٍ عن العُمرانِ، حتى يَخلُصَ لكم حُبُّ أبيكم، ولا يلتفِتْ عنكم إلى غيرِكم، ثم تتوبوا من ذنبكم بعد قَتْلِ يُوسُفَ أو إبعادِه
(2)
.
لكن أحدهم نصحهم ألا يقتُلوا يوسُفَ، وأن يكتفوا بإلقائه في جَوفِ البِئرِ حتى يلتَقِطْه بعضُ المارَّةِ مِن المُسافرينَ فيبعد عنهم ويستريحوا منه.
وبعدَ اتِّفاقِهم على إبعادهِ طلبِ إخوةِ يوسُفَ من أبيهم أن يأذنَ في خروجِ يوسفَ معهم، وقالوا لأبيهم: يا أبانا ما لك لا تأمَنُنا على يوسُفَ مع أنَّه أخونا، ونحن نُريدُ له الخيرَ، ونُشفِقُ عليه ونرعاه، ونخُصُّه بخالِصِ النُّصحِ؟ أرسِلْه معنا غدًا يأكُلْ ويَنشَطْ ويَفرحْ، ويلعَبْ بالاستِباقِ ونحوِه، وإنَّا لحافِظونَ له من كلِّ ما تخافُ عليه.
(1)
أي نصف كمال الجمال البشري، وقيل: نصف جمال آدم عليه السلام. وأن المقصود بـ (أمه): سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، وهي أم جده إسحاق عليهم السلام.
قال ابن قتيبة: وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى، جَعَلَ لِلْحُسْنِ غَايَةً وَحَدًّا، وَجَعَلَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، إِمَّا لِلْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِلْحُورِ الْعين؛ فَجعل ليوسف عليه السلام نِصْفَ ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَنِصْفَ ذَلِكَ الْكَمَالِ.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ لِغَيْرِهِ ثُلُثَهُ، وَلِآخَرَ رُبُعَهُ، وَلِآخَرَ عُشْرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِآخَرَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنَّ يَكُونَ أُعْطِيَ نِصْفَهَا، وَجُعِلَ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمُ النِّصْفَ الْآخَرَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى؛ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُعْطِيَ نِصْفَ الشَّجَاعَةِ، يُقَاوِمُ الْعِبَادَ جَمِيعًا وَحْدَهُ.
وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: أَنْ لِلشَّجَاعَةِ حَدًّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْعَلُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعْطِي غَيْرَهُ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِي لِآخَرَ الثُّلُثَ، أَوِ الرُّبُعَ، أَوِ الْعُشْرَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
(2)
فبيّتوا نيّة التوبة قبل فعل الذنب.
فقال أبوهم يعقوبُ: إنِّي لَيؤلِمُ نفسي ذهابُكم به، ومُفارقتُه لي، وأخشى أن يأكُلَه الذِّئبُ وأنتم عنه غافِلونَ، فقال إخوةُ يوسُفَ لوالِدِهم: لئنْ أكَلَه الذِّئبُ ونحن جماعةٌ قويَّةٌ، إنَّا إذًا لخاسِرونَ، لا خيرَ فينا، ولا نَفعَ يُرْجَى منَّا.
فلمَّا أقنعوا أباهم وطمأنوه؛ ذهبَ إخوةُ يوسُفَ به وأجمَعوا على إلقائِه في جَوفِ البِئرِ، وفعَلوا به ما فعلوا من الأذى، وأخذوا منه قميصه، وذبحوا سخلة (شاة وليدة) فأخذوا دمها فلطخوا به القميص، وأوحَى الله إلى يوسُفَ أنه سيخبر إخوته مُستقبَلًا بفِعلِهم هذا الذي فعَلوه به، وهم لا يَعلَمونَ أنَّه أخوهم يوسُفُ.
ثم رجع إخوةُ يوسُفَ إلى أبيهم في وقتِ العِشاءِ يَتباكونَ، وأتوا في وقت الظلمة حتى لا يرى أعينهم ويدرك تحايلهم، وهم يُظهِرونَ الأسفَ والجَزعَ، وقالوا: يا أبانا إنَّا ذَهَبْنا نتسابَقُ، وترَكْنا يوسُفَ عند زادِنا وثيابِنا فأكَلَه الذِّئبُ، ونعلم أنك لن تصدقنا. ثم جاؤوا بقميصِه مُلطَّخًا بدَماء ليست بدَمِ يوسُفَ؛ لكي يبرهنوا صِدقِهم، وقيل أنهم: نسوا أن يمزقوا القميص، فكان دليلًا على كَذِبِهم، فكيف يأكل الذئب طفلاً دون تمزيق قميصه؟!
فقال لهم أبوهم يعقوبُ عليه السلام: ليس الأمرُ كما تقولونَ، بل زيَّنَت لكم أنفُسُكم الأمَّارةُ بالسُّوءِ أمرًا قبيحًا في يوسُفَ، فرأيتُموه حسَنًا وفعَلتُموه، فصبري صبرٌ جميلٌ لا شكوى معه لأحدٍ مِن الخَلقِ، وأستعينُ باللهِ على احتمالِ ما تَصِفونَ مِن الكَذِب، لا على حَولي وقوَّتي.
ثم جاءت جماعةٌ مِن المُسافرينَ فأرسَلوا مَن يطلُبُ لهم الماءَ، فلمَّا أنزل دَلْوَه في البئرِ ليحضر الماء؛ تعلَّقَ بها يوسُف، فقال ذلك الوارِدُ: يا بُشرايَ هذا غلامٌ. وأخفَى أولئك المسافرون أمرَ يوسُفَ، وجعَلوه بضاعةً وعزَموا على بيعِه، وأخذوه معهم من فلسطين وباعوه في مصر بثَمَنٍ قليلٍ مِن الدَّراهمِ
(1)
، وكانوا زاهدينَ فيه، راغبينَ في التخَلُّصِ منه، واشتَراه منهم عزيزُها- وهو الوزيرُ- وقال لامرأتِه: أحسِني مُعامَلتَه، واجعلي مَقامَه عندنا كريمًا؛ لعلَّنا نستفيدُ مِن خِدمتِه أو نتبناه.
وبذلك أنجى اللهُ يوسُفَ مِن الجُبِّ (البئر)، وجَعَل وزيرَ «مصر» يَعطِفُ عليه، وعَلَّمَه الله تفسيرَ الرُّؤى، ومعاني كتُبِ الله وسُنَن الأنبياءِ. ولَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى قوَّتِه في شبابِه أعطاه الله النُّبوَّةَ والعِلمَ، جزاءً على إحسانِه وصبره.
ولما كان يوسف بالغ الحسن والجمال تعلقت امرأة الوزير بحبه وخططت لإيقاعه في معاشرتها، فتهيأت وتزينت ودعته إلى نَفسِها، وغلَّقَت الأبوابَ عليها وعلى يوسُفَ، وقالت: هلمَّ إليَّ، فقال: معاذَ اللهِ! أعتَصِمُ به وأستجيرُ مِن الذي تدعِينَني إليه مِن خيانةِ سَيِّدي الذي أحسنَ مَنزِلتي وأكرَمَني، فلا أخونُه في أهلِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ مَن ظَلمَ فَفَعل ما ليس له فِعلُه.
ولما استنفدت خططها وحيلها ولم تحصل على ما تريد منه؛ غضبت من امتناعه وتحفظه، وهمّت أن تضربه على تمنّعه وعصيانه أوامرها وهي امرأة سيده، وهمّ يوسف أن يدفعها أو يضربها لغضبه من شناعة ما بدر منها وإصرارها على السوء وإيقاعه فيه، مع أنه وعظها ونبهها إلى شناعة ما تدعوه إليه، لكنه -بما علَّمه الله من حسن التدبير- أدرك أن بذل قوته في دفعها عن نفسه قد يُتَّخَذُ عليه حُجَّةً أنه أراد بقوته إجبار المرأة الأضعف على مراد سيء، ورأى أن ترك ضربها وترك دفعها عن نفسه والإعراض عنها والسعي في الخروج من المكان -حتى تكون هي التي تعتدي عليه-؛ فإنه يكون برهاناً -من توفيق ربه- يشهد بنزاهته، فرأى بعد الوعظ أن يكتفي بالإعراض عنها والانصراف عنها أسرع ما يمكن؛ فإن خرج من المكان؛ كان أسلم له، وإن اعتدت عليه كان برهاناً على براءته، وهذا من فضل الله وتعليمه لنبيه، فهو سبحانه يصرف عن نبيه السُّوءَ والفاحِشةَ في جميعِ أمورِه؛ فيوسف من الأنبياء المُطَهَّرينَ المُصطَفَينَ للرِّسالةِ، الذين أخلَصَهم الله من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ.
(1)
قيل: أنه لَمَّا اسْتَشْعَرَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِأَخْذِ السَّيَّارَةِ لَهُ لَحِقُوهُمْ، وَقَالُوا:"هَذَا غُلَامُنَا أَبِقَ مِنَّا". فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ؛ أَيْ: قَلِيلٍ نَزْرٍ.
وأسرعَ يوسُفُ إلى البابِ يريدُ الخُروجَ، وأسرَعَت غاضبة تُحاوِلُ الإمساكَ به، وجذَبَت قميصَه مِن خَلْفِه؛ لتَحُولَ بينه وبين الخروجِ فشَقَّته، ووجدا زوجَها عند البابِ، فبادرت المرأةُ محاوِلةً إبراء نفسها واتهمت يوسف، وقالت لزوجها: ما جزاءُ مَن أراد بامرأتِك سوءاً إلَّا أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ العذابَ المُوجِعَ. وقال يوسُفُ -مدافعاً عن نفسه-: هي التي طلَبَتْ وحاولتْ، وأنا امتنعتُ منها.
فأرسل الوزير إلى محقق أمين من أهل امرأته ليحقق في هذا الأمر، فحقق في الأمر ولم يجد أثراً للاعتداء على المرأة، مع أن قميص يوسف مشقوق، وبعد التحقيق والنظر قال المحقق في حكمه للوزير: إن كان قميصُ يوسف شُقَّ من الأمامِ فصَدَقت في اتِّهامِها له؛ حيث يكون أرادها وهي امتنعت وشقت قميصه من الأمام عند الدفاع عن نفسها، وإن كان قميصُ يوسف شُقَّ من الخَلفِ؛ فكَذَبت في قَولِها، فتكون هي التي أرادته وهو معرض عنها، وهو من الصَّادقينَ. فلمَّا رأى الوزير قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خَلفِه عَلِمَ براءةَ يوسُفَ، وقال لزَوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي اتَّهَمتِ به هذا الشَّابَّ هو مِن جملةِ مَكرِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- إنَّ مَكرَكُنَّ عظيمٌ، وقال ليوسُفَ: يوسُفُ، اترُكْ ذِكرَ ما كان منها، فلا تَذكُرْه لأحدٍ، وقال لامرأته: اطلُبي- أيَّتُها المرأةُ- المغفرةَ لذَنبِك؛ إنَّك كنتِ من الآثمينَ في مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وفي افترائِكِ عليه.
ومع هذا التكتم فقد تسرّبَ وشاعَ خبرُ امرأةِ العزيزِ، وتحدث به نِسوةٌ في المدينةِ واغتبن امرأةَ العزيز وقُلنَ مُنكِراتٍ عليها: امرأةُ العزيزِ تُراوِدُ غُلامَها عن نفسِه، وتدعوه إلى نَفسِها، وقد بلَغ حبُّها له مبلغًا عظيمًا، إنَّا لَنَراها في هذا الفِعلِ في ضلالٍ واضِحٍ. وقد مكر النسوة بهذا القول لرغبتهن أن يصل هذا الكلام إلى امرأة العزيز فتريهم يوسف وجماله. فلمَّا سَمِعَت امرأةُ العزيزِ بغِيبتِهنَّ إيَّاها، واحتيالهِنَّ في ذمِّها، أرسَلَت إليهنَّ تَدعوهنَّ لزيارتِها، وهيَّأَت لهنَّ ما يتَّكِئنَ عليه مِن الوسائِدِ، وما يأكُلنَه مِن الطَّعامِ، وأعطَتْ كلَّ واحدةٍ منهنَّ سِكِّينًا؛ ليُقَطِّعنَ الطَّعامَ، ثمَّ قالت ليوسُفَ: اخرُجْ عليهنَّ، فلمَّا رأينَه أعظَمْنَه وأجلَلْنَه، وأخَذَهنَّ حُسنُه وجَمالُه، فجَرَحنَ أيديَهنَّ وهُنَّ يُقَطِّعنَ الطَّعامَ؛ مِن فَرْطِ النظر إليه والدَّهشةِ والذُّهولِ، وقُلنَ مُتعَجِّباتٍ: مَعاذَ اللهِ، ما هذا مِن جِنسِ البشَرِ؛ لأنَّ جمالَه غيرُ مَعهودٍ في البشَرِ، ما هو إلَّا مَلَكٌ كريمٌ مِن الملائكة.
عندها أبدت امرأةُ العزيزِ عذرها في مراودة يوسف من شدة جماله، وقالت للنِّسوةِ اللَّاتي قطَّعْنَ أيديَهنَّ: فهذا- الذي أصابَكنَّ لمجرد رؤيَتِكنَّ إيَّاه - هو الفتى الذي لُمتُنَّني في الافتتانِ به، ولقد راودتْه عن نفسِه، فامتنَعَ وأبى، ولئنْ لم يفعَلْ ما آمُرُه به لَيُعاقَبَنَّ بدخولِ السِّجنِ، ولَيكونَنَّ مِن الأذلَّاءِ. وكانت تُسمِعُ يوسفَ هذا الكلام مهددة له أمامهن، فكأنهن أشرن على يوسف أن يجيبها لما تريد وألا يعرض نفسه للسجن والأذى.
فقال يوسُفُ مُستعيذًا مِن شَرِّهنَّ ومَكرِهنَّ: ربِّ، السِّجنُ أحَبُّ إليَّ ممَّا يدعونَني إليه مِن عمَلِ الفاحِشةِ، وإنْ لم تدفَعْ عنِّي مَكرَهنَّ أَمِلْ إليهنَّ، وأكُنْ مِن الجاهلينَ، فاستجاب اللهُ ليوسُفَ دعاءَه، فصرف عنه ما أرادت منه امرأةُ العزيزِ وصَواحِباتُها مِن معصيةِ الله، فهو سبحانه سميع عليم.
ثمَّ ظهر للعزيزِ وأصحابِه - من بعدِ ما رأَوا الأدلَّةَ على براءةِ يوسُفَ وعِفَّتِه- أن يسجُنوا يوسف إلى مُدَّةٍ مِن الزَّمَن؛ لينقطِعَ بذلك الخبرُ، ويتناساه النَّاسُ.
ودخَل مع يوسفَ عليه السلام السجنَ فَتَيانِ، قال له أحدهما: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا ليصيرَ خَمرًا، وقال الآخرُ: إنِّي رأيتُ أنِّي أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا تأكلُ الطَّيرُ منه، أخبِرْنا- يا يوسُفُ- بتفسيرِ ما رأينا، إنَّا نراك من المحسنين. قال لهما يوسفُ: لا تريانِ في مَنامِكما طَعامٌ تُرزَقانِه إلَّا أخبَرتُكما بتفسيرِه في اليقَظةِ قبل أن يأتيَكما، ذلك التَّعبيرُ الذي سأعبِّرُه لكما ممَّا علَّمَني ربِّي؛ إنِّي آمنتُ به، وأخلصتُ له العبادةَ، وابتعدتُ عن دينِ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بالله، وهم بالبَعثِ والحِسابِ جاحِدونَ، واتَّبَعتُ دينَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فعبدتُ الله وَحدَه، ما كان لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه، ذلك التَّوحيدُ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ، ممَّا تفضَّلَ الله به علينا وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يشكُرونَ.
وأخذ يوسف يدعوهما إلى توحيد الله ويبيّن لهما الدين الحق، وقال لهما: يا ساكِنَي السِّجنِ، أعبادةُ آلهةٍ مخلوقةٍ شَتَّى خيرٌ أم عبادةُ اللهِ الواحدِ القَّهارِ؟ ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً لا معانيَ وراءَها، جعلتُموها أنتم وآباؤكم أربابًا، جهلًا منكم وضلالًا، ما أنزل اللهُ مِن حُجَّةٍ أو برهانٍ على صِحَّتِها، وما الحُكمُ إلَّا لله تعالى وَحدَه لا شريكَ له، هو سبحانه أمَرَ ألَّا تعبُدوا أحدًا غيرَه، وهذا هو الدِّينُ القيِّمُ الذي لا عِوَجَ فيه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يجهَلون ذلك، فلا يعلمونَ حقيقتَه.
ثم فسر لهما رؤياهما بقوله: أمَّا أحدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويكونُ ساقيَ الخَمرِ للمَلِك، وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُصلَبُ ويُترَكُ، فتأكُلُ الطَّيرُ مِن رأسِه، فُرِغَ من تأويل رؤياكما وهو واقع بقضاء الله، وقال يوسُفُ للذي علِمَ أنَّه ناجٍ من صاحِبَيه: اذكُرني عند سيِّدِك المَلِك، وأخبِرْه بأنِّي مظلومٌ، قد سُجِنْتُ بلا ذَنبٍ، فأنسَى الشَّيطانُ ذلك الرَّجُلَ أن يَذكُرَ للمَلِك حالَ يوسُفَ، فمكثَ يوسُفُ بعد ذلك في السِّجنِ عِدَّةَ سَنواتٍ.
وبعد تلك السنين جمع ملك مصر أهل الشورى والعلم وقال لهم: إنِّي رأيتُ في منامي سبعَ بقَراتٍ سِمانٍ، يأكُلُهنَّ سَبعُ بقَراتٍ نَحيلاتٍ مِن الهُزالِ، ورأيتُ سبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ، وسَبعَ سُنبُلاتٍ يابساتٍ يلتففن على السنبلات الخضر ويسقطنهن، يا أيُّها الأشرافُ والكُبَراءُ أخبِروني عن هذه الرُّؤيا، إن كنتُم على علمٍ بتفسيرِ الرُّؤى. فقالوا له: رؤياك هذه أخلاطُ من الأحلامٍ لا تأويلَ لها، وما نحن بتفسيرِ الأحلامِ المختلطةِ بعالِمينَ، وهنا تذكر ساقي الملك -وهو الذي نجا من الفَتيَينِ اللَّذينِ كانا في السِّجنِ معَ يُوسفَ- أن يوسف عليه السلام يتقن تأويل الرؤى، فقال للملك ومن معه: أنا أُخبِرُكم بتأويلِ هذه الرُّؤيا، فابعَثوني إلى يوسُفَ المسجونِ؛ لآتيَكم بتفسيرِها. وعندما وصل الرَّجُلُ إلى يوسُفَ قال له: يا يوسُفُ يا أيُّها الصِّدِّيقُ فسِّرْ لنا رؤيا مَن رأى سبعَ بقراتٍ سِمانٍ يأكلُهنَّ سَبعُ بقَراتٍ هَزيلاتٍ، ورأى سبعَ سُنبُلاتٍ خُضرٍ وأُخَرَ يابساتٍ؛ لعلِّي أرجِعُ إلى المَلِك وأصحابِه فأُخبِرُهم؛ لِيعلموا تأويلَ ما سألتُك عنه، ولِيعلَموا مكانتَك وعلمك وفَضلَك.
فقال يوسُفُ لسائِلِه عن رُؤيا المَلِك: تفسيرُ هذه الرُّؤيا هو أنَّكم تزرعونَ سبعَ سِنينَ مُتتابِعةً جادِّينَ ليَكْثُرَ العَطاءُ، فما حصدتُم منه في كلِّ مرَّةٍ فادَّخِروه واترُكوه في سُنبُله؛ لئلَّا يَفْسُدَ، إلَّا قليلًا ممَّا تأكُلونَه من الحُبوبِ. ثمَّ يأتي بعد هذه السِّنينَ الخِصْبةِ سبعُ سنينَ شديدةُ الجَدْبِ، يُؤكَلُ فيهنَّ كلُّ ما ادَّخَرتُم لهنَّ مِن قَبلُ، إلَّا قليلًا ممَّا تَحفَظونَه وتدَّخِرونَه. ثمَّ يأتي مِن بعدِ هذه السِّنينَ المُجدِبةِ عامٌ يُمطَرُ فيه النَّاسُ مطراً يغيثهم ويروي أراضيهم، فيرفَعُ اللهُ تعالى عنهم الشِّدَّةَ، ويَعصِرونَ فيه الثِّمارَ؛ مِن كثرةِ الخِصْبِ والنَّماءِ.
و لَمَّا علِمَ المَلِكُ بتأويلِ رُؤياه قال لأعوانِه: أخرِجوا هذا الرجُلَ المعبِّرَ للرُّؤيا من السِّجنِ، وأحضِروه لي، فلمَّا جاءه رسولُ المَلِك يدعوه، قال يوسُفُ للرَّسولِ: ارجِعْ إلى سَيِّدِك المَلِك، واطلُبْ منه أن يسألَ النِّسوةَ اللَّاتي جَرَحْنَ أيديَهنَّ عن حقيقةِ أمْرِهنَّ وشأنِهنَّ معي؛ لتظهَرَ الحقيقةُ للجميعِ، وتتَّضِحَ براءتي، إنَّ رَبِّي عليمٌ بصَنيعهِنَّ وأفعالِهنَّ، لا يخفى عليه- سُبحانه- شَيءٌ مِن ذلك. فدعا المَلِكُ النِّسوةَ اللَّاتي جرَحْنَ أيديَهنَّ، وقال لهنَّ: ما شأنُكنَّ حين راودتُنَّ يوسُفَ عن نفسِه يومَ الضِّيافةِ؟ فهل رأيتُنَّ منه ما يَريبُ؟ قُلنَ: معاذَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه أدنى شيءٍ يَشِينُه، عند ذلك قالت امرأةُ العزيزِ: الآنَ ظهرَ الحَقُّ بعدَ خفائِه، فأنا التي حاوَلْتُ فِتنَتَه بإغرائِه فامتنَعَ، وإنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ في كُلِّ ما قاله، ذلك القَولُ الذي قُلتُه في تنزيهِه والإقرارِ على نفسي؛ ليعلمَ يوسُفُ أنِّي لم أخُنْه بالكَذِبِ عليه حالَ غَيبتِه عنِّي، وأنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ أهلَ الخيانةِ، ولا يُرشِدُهم في خيانِتِهم، وما أزَكِّي نفسي ولا أُبَرِّئُها؛ إنَّ النَّفسَ لَكثيرةُ الأمرِ لصاحِبِها بعمَلِ المعاصي؛ طلبًا لمَلذَّاتِها، إلَّا مَن عصَمَه الله، إنَّ اللهَ غفورٌ لذُنوبِ مَن تاب مِن عبادِه، رحيمٌ بهم.
و حين عَلِمَ مَلِكُ مصرَ بَراءةَ يوسُفَ قال: جيئُوني به أجعَلْه مِن خُلَصائي وأهلِ مَشورتي، فلَمَّا جاء يوسُفُ، وكلَّمَه المَلِكُ، وعرَفَ براءتَه، وعظيمَ أمانتِه، وحُسنَ خُلُقِه وجليل علمه؛ قال له: إنَّك اليومَ عندنا عظيمُ المَكانةِ، ومُؤتمَنٌ على كلِّ شَيءٍ، وأراد يوسُفُ أن ينفعَ العبادَ، ويُقيمَ العدلَ بينهم، فقال للمَلِكِ: اجعَلْني واليًا على خزائنِ مِصرَ؛ فإنِّي خازِنٌ أمينٌ، ذو عِلمٍ وبصيرةٍ بما أتولَّاه. وكذلك أنعَمَ اللَّهُ على يوسُفَ بالخَلاصِ مِن السِّجنِ، ومكَّنَ له في أرضِ مصرَ ينزِلُ منها أيَّ مَنزِلٍ شاءَه، وجعله عزيز مصر والوالي على خزائنها.
ثم قدِمَ إخوةُ يوسُفَ إلى مِصرَ بعد أنْ حلَّ بهم الجَدبُ في أرضِهم؛ ليَجلِبوا منها الطَّعامَ، فدَخَلوا على يوسفَ، فعَرَفهم لأنه رآهم كباراً ولم يتغيروا كثيراً ولم يَعرِفوه هم لطولِ المدَّةِ حيث فارقهم طفلاً صغيراً وقد شبَّ وتغيَّرت هيئتِه. فأمَرَ يوسُفُ بإكرامِهم وحُسنِ ضيافتِهم، ثمَّ أعطاهم مِن الطَّعامِ ما طلَبوا، وسألهم عن أهلهم وأحوالهم وعددهم، فأخبَروه أنَّ لهم أخًا مِن أبيهم لم يُحضِروه معهم- يُعنونَ شَقيقَه- فقال: في المرة القادمة ائتُوني بأخيكم مِن أبيكم، ألم تَرَوا أنِّي أوفيتُ لكم الكَيلَ، وأكرَمتُكم في الضِّيافةِ، وأنا خيرُ المُضْيفينَ لِمَن نزَلَ بي؟ فإنْ لم تأتوني به فليس لكم عندي طعامٌ أكيلُه لكم، ولا تأْتوا إليَّ. فقالوا: سنبذُلُ جُهدَنا لإقناعِ أبيه أنْ يُرسِلَه معنا، ولن نُقصِّرَ في ذلك. وقال يوسُفُ لغِلمانِه: أعيدوا لهم الثمَنَ الذي دفعوه واجعلوه في أمتعتِهم سِرًّا مع ما أعطيناهم من البضائع؛ رجاءَ أن يَعرِفوا إذا انصرفوا إلى أهلِهم وفتحوا أمتعتهم هناك؛ أنا أكرمناهم وضيفناهم وأوفينا لهم أفضل الكيل والبضاعة وأعدنا لهم الثمن فلم نأخذ منهم شيئاً مقابل كل ذلك، ليكون ذلك أدعى لهم في الرجوع إلينا مرَّةً أُخرى.
فلَمَّا رجَعوا إلى أبيهم قصُّوا عليه ما كان مِن إكرامِ الوزير لهم، وقالوا: إنَّه لن يُعطيَنا مُستقبَلًا إلَّا إذا كان معنا أخونا -بنيامين- حيثُ أخبَرناه به، فأرسِلْه معنا نُحضِرِ الطَّعامَ وافيًا، ونتعهَّدُ لك بحِفظِه. فقال لهم أبوهم: كيف آمَنُكم على بنيامين وقد أمِنتُكم على أخيه يوسُفَ مِن قَبلُ، والتَزمتُم بحِفظِه فلم تَفُوا بذلك؟! فلا أثِقُ بالتزامِكم وحِفظِكم، ولكِنِّي أثِقُ بحِفظِ الله؛ خيرِ الحافِظينَ، وأرحَمِ الرَّاحمينَ.
ولَمَّا فَتَحوا أوعيَتَهم وجَدوا ثمنَ بضاعتِهم الَّذي دَفَعوه قد رُدَّ إليهم، قالوا: يا أبانا ماذا نطلُبُ أكثَرَ مِن هذا؟! هذا ثمَنُ بضاعتِنا رَدَّه العزيزُ إلينا، فكُنْ مُطمَئِنًّا على أخينا، وأرسِلْه معنا؛ لنجلِبَ طَعامًا وفيرًا لأهلِنا، ونحفَظ أخانا، ونزداد حِمْلَ بعيرٍ له؛ فإنَّ العزيزَ يَكيلُ لكلِّ واحدٍ حِمْلَ بعيرٍ،
وذلك كَيلٌ يسيرٌ عليه. فقال لهم يعقوبُ: لن أترُكَه يذهَبُ معكم حتَّى تتعَهَّدوا وتحلِفوا لي باللَّهِ أن ترُدُّوه إليَّ، إلَّا أن تُغْلَبوا عليه فلا تستطيعوا تخليصَه، فلَمَّا أعطَوه عهدَ اللَّهِ على ما طلَبَ، قال يعقوبُ: اللَّهُ على ما نقولُ وكيلٌ، تكفينا شَهادتُه علينا، وحِفظُه لنا.
ولَمَّا أرادوا الذَّهابَ إلى مصرَ خاف عليهم يعقوب من العين، وأمرهم بالأخذ بالأسباب. وقال لهم: يا أبنائي إذا دخَلتُم مدينة مصرَ فلا تدخُلوا مِن بابٍ واحدٍ، ولكن ادخُلوها مِن أبوابٍ مُتفَرِّقةٍ، وإنِّي إذ أُوصيكم بهذا لا أدفَعُ عنكم شيئًا قضاه اللَّهُ عليكم، فما الحُكمُ إلَّا للَّهِ وَحدَه، عليه اعتَمَدتُ ووَثِقتُ، وعليه وَحدَه يتوكل المؤمِنونَ.
ولَمَّا دخلَ إخوةُ يوسُفَ عليه في مَنزلِ ضِيافتِه ومعهم شَقيقُه، ضمَّ يوسُفُ إليه شقيقَه، وقال له سِرًّا: إنِّي أنا أخوك فلا تحزَنْ، ولا تغتمَّ بما صنَعوه بي وبك فيما مضى، وأمَرَه بكتمانِ ذلك عنهم، فلَمَّا جهَّزهم يوسُفُ، وحمَّلَ إبِلَهم بالطَّعامِ، جعَلَ الإناءَ- الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ ويكيلُ للنَّاسِ به (الصُواع)
(1)
- في متاعِ أخيه الشَّقيقِ مِن حيثُ لا يشعُرُ أحَدٌ، ولَمَّا رَكِبوا ليَسيروا نادى مُنادٍ قائلًا: يا أصحابَ هذه العِيرِ المُحمَّلةِ بالطَّعامِ، إنَّكم لسارِقونَ، فقال أولادُ يعقوبَ مُقبِلينَ على المُنادي: ما الَّذي تَفقِدونَه؟ قال المُنادي ومَن بحَضرتِه: نَفقِدُ الإناءَ الَّذي يشرَبُ فيه المَلِكُ، ويكيلُ به الطَّعامَ، ومُكافأةُ مَن يُحضِرُه مِقدارُ حِمْلِ بعيرٍ مِن الطَّعامِ، وقال المنادي: وأنا ضامِنٌ هذه المكافأة لمن يأتي به.
فقال إخوةُ يوسُفَ: لقد تحقَّقتُم ممَّا شاهَدتُموه منَّا أنَّنا ما جِئنا أرضَ مصرَ مِن أجلِ الإفسادِ فيها، وليست السرقةُ مِن صِفاتِنا، و -بأمر يوسف- قال المُنادي ومَن معه لإخوةِ يوسُفَ: فما عُقوبةُ السَّارِقِ عِندَكم إن كُنتُم كاذبينَ في قَولِكم؟ فقال إخوةُ يوسُفَ: جزاءُ السَّارِقِ عندنا في شريعتنا أن يُسلَّمَ إلى مَن سرَقَ منه؛ حتَّى يكون عبدًا عندَه، مثلَ هذا الجزاءِ- وهو الاستِرقاقُ- نَجزي الظَّالِمينَ بالسَّرِقةِ، وهذا دينُنا وسُنَّتُنا في أهلِ السَّرِقةِ.
(1)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنّ {صواع الْملك} كَانَ كَهَيْئَةِ الْمَكُّوكِ، وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَشْرَبُ فِيهِ. فالصواع مكيال وهو: المُدّ. وَيسمى المكوك بِالْفَارِسِيَّةِ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هُوَ المَكُّوك الْفَارِسِيُّ الَّذِي يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ الأعاجم.
فرجع إخوةُ يوسُفَ إليه، وقام يوسُفُ بنَفسِه يُفتِّشُ أمتِعتَهم، فبدَأَ بأمتِعَتهم قبل مَتاعِ شَقيقِه؛ إحكامًا لِما دبَّرَه لاستبقاءِ أخيه معه، ثمَّ انتهى بوعاءِ أخيه، فاستخرجَ الإناءَ (الصواع) منه، كذلك يسَّرَ الله لِيوسُفَ هذا التَّدبيرَ الَّذي توصَّلَ به لأخْذِ أخيه بإقرار إخوته وحسب شريعتهم، وما كان له أن يأخُذَ أخاه في حُكمِ مَلِكِ مصرَ- لأنَّه ليس مِن دينِه أن يتمَلَّكَ السَّارِقَ-، لكن الأمر تم ليوسف بمَشيئةَ اللَّهِ، فقد كادَ اللهُ وقدّر لِمصلحة يوسُفَ، حتَّى يتمكَّنَ مِن أخْذِ شقيقِه مِن إخوتِه، بناءً على شريعتِهم، وإقرارِهم بأنفُسِهم.
فالله سبحانه يرفع مَنازِلَ من يشاء في الدُّنيا على غيرِه بالعلم والتدبير، كما رفَعَ منزلةَ يوسُفَ، وفوقَ كُلِّ ذي علمٍ مَن هو أعلَمُ منه، حتَّى ينتهيَ العِلمُ إلى اللَّهِ تعالى عالمِ الغَيبِ والشَّهادةِ.
ولَمَّا استُخرِجَ الصُّواعُ مِن رَحلِ أخيهم قال إخوةُ يوسُفَ: إنْ سرَقَ هذا فقد سرَقَ أخٌ شقيقٌ له مِن قَبلُ- يقصِدونَ يوسُفَ عليه السلام فأخفَى يوسُفُ في نفسِه كلمةً حدَّثَ نفسَه بها قائلًا: أنتم أسوأُ مَنزلةً ممَّن ذكَرْتُم؛ حيثُ دبَّرتُم لي ما كان منكم، واللَّهُ أعلَمُ بما تَصِفونَ مِن الكَذِبِ والافتراءِ.
ثم تذكر إخوة يوسف ميثاقهم مع أبيهم أن يعيدوا بنيامين إليه، فقالوا ليوسف مُستعطفينَ: يا أيُّها العَزيزُ، إنَّ له والدًا كبيرًا في السِّنِّ يحِبُّه، ولا يُطيقُ بُعدَه، فخُذْ أحَدَنا بدلًا منه؛ إنَّا نراك مِن المُحسنينَ. فقال يوسُفُ: نَستعيذُ باللَّهِ أن نأخُذَ أحدًا غيرَ الَّذي وجَدْنا الصُّواعَ عندَه؛ فإنَّنا نكونُ في عِدادِ الظَّالمينَ إن فعَلْنا ما تطلُبونَ. فلَمَّا يَئِسوا مِن إجابتِه إيَّاهم لِمَا طَلَبوه، انفَرَدوا عن النَّاسِ، وأخَذوا يتشاوَرونَ فيما بينهم. فقال كبيرُهم: ألم تَعلَموا أنَّ أباكم قد أخذَ عليكم العهدَ المُؤكَّدَ؛ لَترُدُّنَّ أخاكم إلَّا أن تُغلَبوا، ومِن قبلِ هذا كان تقصيرُكم في يوسُفَ وتضييعُكم له؛ لذلك لن أُفارِقَ أرضَ مِصرَ حتَّى يأذنَ لي أبي في مُفارَقتِها، أو يقضيَ لي ربِّي بالخُروجِ منها، واللهُ خيرُ مَن حَكَمَ، وأعدَلُ مَن فَصَلَ بين النَّاسِ.
ثم قال لهم: ارجِعُوا إلى أبيكم، وأخبِروه بما جرَى، وقُولوا له: إنَّ ابنَكَ قد سرَقَ، وما شَهِدْنا بذلك إلَّا بعدَ أنْ تَيَقَّنَّا؛ فقد رأيْنا المِكيالَ في رَحْلِه، وما كان عِندَنا عِلمُ الغَيبِ أنَّه سيَسرِقُ حين عاهَدْناكَ على رَدِّه، واسألْ- يا أبانا- أهلَ مِصرَ، ومَن كان معَنا في القافِلةِ الَّتي كنَّا فيها، وإنَّنا لصادِقونَ فيما أخبَرْناكَ به.
ولَمَّا رجَعوا وأخبَروا أباهم، قال لهم: بل زَيَّنَتْ لكُم أنفُسُكم مَكيدةً دبَّرتُموها، كما فعَلتُم مِن قَبلُ مع يُوسُفَ، فصَبري صبرٌ جَميلٌ، لا جزَعَ فيه ولا شَكوَى معه؛ عسى اللَّهُ أنْ يرُدَّ إليَّ أبنائي جميعًا- يوسُفُ، وشقيقُه، وأخوهمُ الكبيرُ الَّذي تخلَّفَ مِن أجْلِ أخيه-؛ إنَّه هو العليمُ بحالي، الحَكيمُ في تدبيرِه. وأعرَضَ يَعقوبُ عنهم، وقد ضاق صَدرُه بما قالوه، وقال: يا حَسرَتي على يوسُفَ، وابيضَّتْ عيناه؛ مِن شِدَّةِ الحُزنِ، فهو مُمتلئُ القَلبِ حُزنًا، ولكِنَّه شَديدُ الكِتمانِ له. فقال بَنُوه: تاللَّهِ، ما تزالُ تتذكَّرُ يوسُفَ، ويَشتدُّ حُزنُك عليه، حتَّى تُشْرِفَ على الهَلاكِ أو تَهلَكَ فِعلًا، فخَفِّفْ عن نفْسِك. فقال يعقوبُ مُجيبًا لهم: لا أُظهِرُ همِّي وحُزني إلَّا إلى اللَّهِ وَحْدَه؛ فهو كاشِفُ الضُّرِّ والبَلاءِ، وأعلَمُ مِن رَحمةِ اللَّهِ وفَرَجِه ما لا تَعلَمونَه.
وكأنّ يعقوب قد تفكر في حال ذلك الرجل الكريم عزيز مصر الذي أكرم أولاده وضيّفهم في زمن القحط، وأوفى لهم الكيل، ورد لهم الثمن، وطلب منهم إحضار أخيهم ليكرمه، فكأنّه رأى فيه كرم النبوة وكرم جده إبراهيم عليه السلام حيث أنه أول من ضَيَّفَ الضيْف، كما أنّ ذاك العزيز حكم بشريعة يعقوب في استرقاق السارق، فاجتمعت فيه خصالٌ من أخلاق الإيمان والنبوة، وكذلك كان مايرجوه يعقوب ليوسف من النبوة حين أخبره عن رؤياه وهو صغير. فقال يعقوب لأبنائِه: عُودُوا إلى مِصرَ، فاستَقْصُوا أخبارَ يوسُفَ وأخيه، ولا تَقنَطوا مِن رَحمةِ اللَّهِ؛ إنَّه لا يَقنَطُ مِن رَحمةِ اللَّهِ إلَّا الجاحِدونَ لقُدرتِه، الكافِرونَ به.
ثم إنَّ إخوةَ يوسُفَ لما رجَعوا إلى مِصْرَ، ودخَلوا على يوسُفَ، أرادوا استرقاق قلبه بضعفهم وشدة حاجتهم، فإن رأوا منه ليناً وشفقة؛ حاولوا معه أن يطلق لهم أخاهم. فلما دخلوا عليه
قالوا: يا أيُّها العزيزُ، أصابَنا وأهْلَنا القَحْطُ والجَدْبُ، وجِئْناكَ بثَمنٍ رَديءٍ قليلٍ، فأعْطِنا به ما كُنتَ تُعطِينا وتُكرمنا مِن قَبلُ بالثَّمَنِ الجَيِّدِ، وتصدَّقْ عليْنا بقَبضِ هذه الدَّراهمِ الْمُزجاةِ وتَجوَّزْ فيها؛ إنَّ اللَّهَ تعالى يُثيبُ المتفَضِّلينَ بأموالِهم على المحتاجينَ. فلَمَّا سمِعَ مَقالتَهم رَقَّ لهم، وعرَّفَهم بنَفْسِه، وقال: هلْ تذكُرونَ الَّذي فعَلْتُموه بيوسُفَ وأخيه مِنَ الأذَى في حالِ جَهْلِكم بعاقبةِ ما تَفعلونَ؟ قالوا: أإنَّكَ لَأنتَ يوسُفُ؟! قال: نَعَمْ، أنا يوسُفُ، وهذا شَقيقي، قد تفضَّل اللَّهُ علينا، فجَمَعَ بيْننا بعدَ الفُرقةِ؛ إنَّه مَن يتَّقِ اللَّهَ، ويَصبِرْ على المِحَنِ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يُذهِبُ ثوابَ إحسانِه، وإنَّما يَجْزيه أحسَنَ الجَزاءِ. قالوا: واللَّهِ، لقد فَضَّلكَ اللَّهُ علينا، وأعزَّك بالعِلْمِ والحِلمِ، والفَضلِ والكرم والملكِ والجمال، وقد كنَّا خاطِئينَ فِيما فعَلْناه بكَ. فقال لهم يوسُفُ: لا تَأنيبَ عليكمُ اليومَ، يَغفِرُ اللَّهُ لكم، وهو أرحَمُ الرَّاحمينَ لِمَن تاب مِن ذَنبِه، وأناب إلى طاعتِه.
ولَمَّا سألَهم عن أبيه أخبَروه بذَهابِ بَصَرِه مِنَ البُكاءِ عليه، فقال لهم: عُودُوا إلى أبيكم ومعَكم قَميصي هذا، فاطْرَحوه على وجهِ أبي؛ يَعُدْ إليه بَصَرُه، ثم أَحْضِروا إليَّ جميعَ أهلِكم.
ولَمَّا خرجَتْ قافلةُ بَني يَعقوبَ من مِصْرَ مُتَّجِهةً إلى الشَّامِ، سارعت الريح بحمل رائحة يوسف إلى يعقوب، وقال يعقوبُ لِمَنْ حَضَرَ عندَه في فلسطين: إنِّي لَأشَمُّ رائحةَ يوسُفَ، لولا أن تُكَذِّبوني وتَنسُبوني إلى الهَرَمِ والخَرَفِ، فقال له الحاضِرونَ: واللَّهِ، إنَّك لفي خَطئِك الَّذي كنتَ عليه قديمًا. فلَمَّا أنْ جاء يعقوبَ ولدُه المبَشِّرُ برِسالةِ يوسُفَ، ألْقَى قَميصَ يوسُفَ على وجْهِ أبيه، فعاد مُبْصِرًا بعَينَيهِ كما كان. وقال يعقوبُ لأولادِه: ألَمْ أَقُلْ لكم: إنِّي أعلمُ مِنَ اللَّهِ تعالى ما لا تَعلمونَه؟ فقالوا له: يا أبانا، ادعُ اللَّهَ أنْ يَغفِرَ لنا ذُنوبنَا؛ إنَّا نَعترِفُ بأنَّنا كُنَّا خاطِئينَ، فقال لهم أبوهم: سوف أستغفر لكم ربِّي؛ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
فلَمَّا دخَلَ يعقوبُ وأهلُه على يوسُفَ ضمَّ إليه أبويْه، وقال لجميعِ أهلِه: ادخُلوا مصرَ آمنينَ إنْ شاءَ اللَّهُ، وأجلَسَ أباه وأمَّه على العَرشِ الَّذي يجلِسُ عليه، وخرَّ الجميعُ له سُجودًا؛ تحيةً وتعظيمًا ليوسُفَ، وقال لأبيه: يا أبتِ هذا السُّجودُ منكم لي هو تَفسيرُ رُؤْيايَ الَّتي رأيتُها في صِغَري، قد حقَّقَها ربِّي، وقد أحسَنَ بي جلَّ وعلا حين أخرَجني مِن السِّجنِ، وجاء بكم مِن الباديةِ مِن بَعدِ أنْ أفسَدَ الشَّيطانُ بَيني وبين إخوتي؛ إنَّ ربِّي لطيفٌ لِمَا يُريدُه، إنَّه هو العليمُ الحَكيمُ.
وقال يوسُفُ داعيًا ربَّه: ربِّي قد آتيتَني مِن مُلْكِ مصرَ، وعلَّمتَني مِن تَعبيرِ الرُّؤى، ومِن عُلومِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وسُنَنِ الأنبياءِ، يا خالقَ السَّمواتِ والأرضِ، أنت ناصِري ومُتولِّي أُموري في الدُّنيا والآخِرَةِ، تَوفَّني وأنا على الإسلامِ، وألْحِقْني في الثَّوابِ والدَّرجاتِ بالصَّالِحين
(1)
.
(1)
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ، والْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهم السلام، نَبِيُّ اللهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللهِ. وقال عليه الصلاة والسلام: عَجِبْتُ لِصَبْرِ أَخِي يُوسُفَ وكَرَمِهِ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، حَيْثُ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ليُسْتَفْتَى فِي الرُّؤْيَا، وَلَو كُنْتُ أَنَا، لَمْ أَفْعَلْ حَتَّى أَخْرُجَ، وعَجِبْتُ لصَبْرِهِ وكَرَمِهِ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، أُتِي لِيُخْرَجَ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِعُذْرِهِ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَبَادَرْتُ الْبَابَ، لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ. ثُمَّ قَرَأَ:{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ، قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ أَنَا، لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ، وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ.