الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث عن معرفة الله سبحانه وتعالى
هو علم أصول الدين وهو أشرف العلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، لأنه لا حياة للقلوب إلا بمعرفة ربها وبأسمائه الحسنى وبصفاته وأفعاله، ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ربها على التفصيل، ولهذا بعث الله الرسل معرفين به وداعين إليه، ولمن أجابهم مبشرين ولمن خالفهم منذرين
…
ومن الأسباب الموصلة إلى معرفته تعالى هو هذا الوجود الذي تمخر بنا سفينة الحياة عبابه، وتنقلنا بين أغواره وشطآنه، وتتدافع بنا في سكونه واضطرابه. هذا الوجود أغرى الإنسان منذ استهل في الحياة بالنظر إليه، والتأمل فيه والبحث عن أسراره الكامنة في كل كائن من كائنات الوجود، مع أن الوجود، كتاب يستطيع كل إنسان أن ينظر فيه، وأن يقلب صفحاته إلا أن كثيرا من الناس يمرون بآيات هذا الكون دون أن يصل شيء منها إلى عقولهم، ودون أن تحرك فيهم شعورا، وتثير عاطفة، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (سورة يوسف). وقد رأى المعري أن الحياة حين تدب في الكائن الحي تكون أشبه بالدخان، ثم تشتد فتكون نارا، ثم تخمد فتصير رمادا هكذا يقول: تبدأ ضئيلة خافتة، ثم تقوى شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها، ثم ينتهي أمرها إلى الخمود فتكون رمادا
…
في هذا السبيل حشدت الإنسانية كل ما تملك من قوى الإدراك لكشف الطريق إلى تلك الحقيقة. كانت المهمة الأولى رسالات الرسل، ودعوات الأنبياء، فما كانت تلك الرسالات إلا تصحيحا لعقيدة الناس في الإله أو شرحا لها في المحصول الذي خلفه العلماء في مختلف الأمم في جميع الأجيال من المذاهب والأراء التي تدور حول الإلهيات وما يتصل بها.
وسائل البحث عن الله سبحانه وتعالى العقل، فهو الرائد بمسالك الطريق الدالة على الله
…
وما الإنسان إلا بهذا العقل الذي اختصه الله به
وكرمه، ورفع به منزلته بين المخلوقات وبهذا العقل قد استأهل، أن يكون خليفة الله في الأرض وأنه يرى في نفسه القدرة على حمل الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
…
والعقل الذي يحمله الإنسان هو سلاح ذو حدين قد يكون مصباحا يضيىء أو شهابا يحرق أو يحترق يستطيع العقل أن يعرف الله معرفة واضحه إذا وقف من هذا الوجود موقف المتأمل البصير الذي يفرق بين الحق والباطل، ويستدل على الخالق بالمخلوق فتلك هي وظيفة العقل في التعرف على الله، وبهذا العقل المتزن الرشيد عرف العارفون ربهم وتعرفوا عليه وآمنوا به ..
كيف يبحث الإنسان عن معرفة الله في هذه الكائنات؟ لهذا الوجود المحيط بنا وجهان، وجه ظاهر يلقاه المرء بحواسه ويتجاوب معه بمشاعره، ووجه آخر خفي لا يقع في مجال الحس والمشاهدة فلا يستجيب لدعوة الحواس، ولا يكون في متناول العقل، وإنما يحس به الإنسان ببصيرته
…
هذا الوجود بوجهيه الظاهر والخفي قد شغل الإنسان بالبحث منذ برز إلى الوجود عن مالك هذا الوجود ومدبر أمره ومصرف شؤونه. وفي الإنسان نوازع نفسية تدعوه إلى البحث عن الله وهو إذ يستجيب لهذه النوازع إنما يستثير كل قواه، ويستخدم كل ملكاته إلى أن يتعرف إلى الله سبحانه وتعالى
…
فالإشارات التي تشير إليه إنما تنبعث من كل موجود من النبتة الصغيرة إلى النخلة الباسقة، من النملة التي تدب على الأرض إلى النسور المحلقة في الهواء، ومن كل كائن في الأرض إلى كل كوكب ونجم في السماء، ففي كل كائن من هذا الوجود أكثر من إصبع تشير إلى الخالق العظيم وتدعو إليه.
فالطريق إلى الله إذا متعدد المناهج والمسالك فإذا أردنا أن نتعرف إلى الله فلا نجد أكمل من هذا المنهج الذي يجعل الوجود كله كتابا يقرؤه الإنسان في حروفه وكلماته وأسطره وصفحاته وفصوله وأبوابه فكل هذه الآيات تدل على وجود الإله وتتحدث عن جلاله وعظمته وقدرته وحكمته.
فهذا الكتاب- أي كتاب الطبيعة- واقع تحت أنظار الناس جميعا ليس لأحد عذر إن هو أغلق حواسه، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة كي لا يعرف الله، ولا يتعرف إليه، فمن فعل هذا أهدر آدميته وتنكر لإنسانيته وأسقط حسابه من عالم الناس، ودخل إلى عالم الحيوان الأعجم
…
إن منهج الشريعة الإسلامية في الدعوة إلى الله والإستدلال عليه، والتعرف عليه هو هذا المنهج الفطري الذي سلكه الإنسان، فقد دعا الإسلام إلى النظر في ملكوت السماوات، والأرض وجعل هذا النظر والتفكر هو المنهج القويم لمن يريد أن يعرف الله ويؤمن به. وقد أشار القرآن الكريم إلى أكمل الناس عقلا وأرشدهم سبيلا فقال سبحانه وتعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة آل عمران) وقال أيضا مشيرا إلى أسرار حكمته وكمال قدرته: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (سورة الغاشية) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البينة التي تدعو العقل إلى استعمال حقه في هذا الوجود الذي نشاهده.
آثار الله سبحانه وتعالى تتجلى لنا في هذا الوجود الذي تعمل فيه حواسنا وعقولنا دون أن تقع في مجال الحس والإدراك، ولهذا فرض الله سبحانه وتعالى معرفة ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على العباد من خلال آثاره في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين للناس جميعا أنه الحق.
فبذلك نعرف الخالق العظيم.
فكيف يكون الموقف مع الخالق العظيم، والمصور المبدع وما أبدع وصور في هذا الوجود من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى، فماذا تأخذ، وماذا تدع؟ ومن أين تبدأ، وكيف تنتهي؟ فتجد نفسك بعد النظر في
المخلوقات، والتأمل فيها متشوقة إلى رؤية هذا الخالق العظيم. إذا أردت أن تعرفه فادرس هذا الوجود عندئذ تتعرف إلى الله سبحانه وتعالى، فالله قد مهد للناس الطريق إليه، وأقام على جوانبه معالم الهداية والرشاد فنظرة إلى البحر فيها كل معالم الحلال والعظمة تكفيك عن هذا الوجود كله.
أما إذا كنت ممن يتعمقون في بحث المخلوقات فبحسبك قطرة ماء، قطرة واحدة بالتحديد، وعالجها بوسائل العلم الحديث فسترى أنها عالم كبير مليء بالأسرار.
إن أدنى المخلوقات منزلة وأهونها شأنا وأصغرها جرما لتحمل كل آيات الإبداع للمبدع الذي تذهل له العقول وتحار فيه الألباب ولست أجد أروع وأبلغ من القرآن الكريم في الدفاع عن قضية الألوهية، وإفحام المجادلين وآتى بمثالين منه:
الأول: أدعوك أيها القارئ- أن تنضم إلى هذا المجتمع الذي يجتمع فيه الناس جميعا الذي تحمله الآية إلى كل عقل، وأدعوك ثانيا أن تجهز نفسك لهذا الجمع فلا تذهل عن وجودك، فإنك مطالب بأن تسمع وتعي، وأن تنتهي إلى رأي فيما سمعت ووعيت أمستعد أنت؟ فهذا صوت الحق يهتف بك وبالناس جميعا استمع إلى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (سورة الحج). ذبابة واحدة لا غير إنها تقف وحدها في جبهة والناس جميعا في الجبهة المقابلة لها إنها توضع في كفة الميزان والناس جميعا في الكفة الأخرى، وإنها لترجح بهم جميعا. الذبابة تتحدى الناس جميعا في كل أمة، وفي كل زمان تتحدى العلم الذي صعد بالناس إلى كواكب السماء، هؤلاء الناس لن يخلقوا ذبابا واحدا ولو اجتمعوا له. هذا أنتم أيها الناس، وهذه الذبابة هاتوا ما عندكم من علم، واجمعوا ما عندكم من العلماء ودوروا مع الزمن دورات ودورات فلن تخلقوا ذبابا. هذا الذباب إن سلبكم شيئا علق برجله أو بجناحه، أو بفيه ماذا أنتم صانعون
معه؟ لن تستطيعوا أن تستنقذوه منه لقد أفلت بصيده- إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه.
الذباب ضعيف كيف يسلبكم شيئا تعجزون عنه ضعف الطالب والمطلوب.
المثال الثاني: بين الله سبحانه وتعالى نشأة الإنسان وتكوينه وتطويره حتى أبرزه إلى الوجود على هذه الصورة البديعة الشكل في آيات بينات من القرآن الكريم وعرضها على الإنسان ليعرف عنصره المادي الذي خلق منه وهو التراب، ومنه ينمو، وركب الميول فيه إلى الذي تتطلبه ذاته فكانت هذه الآيات الكريمة مظهرا من مظاهر عظمته وقدرته وحكمته، لعل هذا الإنسان يثوب إلى رشده ويتدبر ما في الكون من آيات الله، وفي نفسه وهذا أقرب باعث على إيقاظ الإيمان بالله والإعتراف به قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} يكفي أيها الناس أن تنظروا إلى أنفسكم فإ نها عالم رحيب وكون فسيح تمعنوا في حياتكم من وجودكم نطفة إلى أن صرتم رجالا تجدون آيات بينات دالات على قدرة الخالق العظيم.
تدبروا كيف كان هذا الإنسان نطفة؟ وكيف خلق؟ ومن ثم عمر الأرض وتسلط على حيوانها ونباتها وجمادها وكيف كان قبل وجوده، وما هو عليه الآن من الصنع العجيب والتركيب المحكم والحواس المرهفة المتناسقة في إحكام بديع وإتقان عجيب؟ وكيف زود بالعلم والمعارف والإحساس والشعور حتى صار يرى الأشياء المخفية عليه بعقله؟ من الذي جهزه بهذه الأشياء كلها وخصه بوسائل الإدراك حتى فضل على سائر المخلوقات الأرضية وكيف نفخ فيه الروح؟.
يجب على الإنسان أن ينظر إلى أصل نشأته وتطوره في الحياة، فإنه يرى أن يدا حكيمة قادرة أوجدته من العدم إلى الوجود على هذه الصورة الرائعة من الحسن والجمال التي لا وجود لشبه بينه وبين التراب وقد جعله الله خليفة على هذه الأرض. كيف لا يولي هذا المخلوق وجهه إلى فاطره ومصوره ولا يدين لخالقه بالطاعة والولاء؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (سورة المؤمنون) السلالة هي صفة ماء مني آدم وهو من طين، أو السلالة هي أصل الإنسان، وهي السلسلة التي يمتد بها أصل الشيء حتى يصل ما بين مبدئه وغاياته، والآية الكريمة تشير إلى أن الإنسان في تكوينه وتطويره وخلقه قد مر بأطوار كثيرة بين عالم التراب والنبات وسار مسيرة طويلة في سلسلة منتظمة الحلقات من الطين إلى الحمأ المسنون كما قال سبحانه وتعالى على لسان إبليس لعنه الله {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (سورة الحجر) قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} .
ما الإنسان إلا هذه النطفة وما اشتملت عليه من قوة عاقلة ناطقة مبصرة سميعة مريدة. كانت النشأة الأولى لهذا الإنسان من التراب، وفي هذا التراب كانت تكمن جرثومته الأولى كما تكمن النطفة في قرار مكين، ولكن شتان ما بين الجرتومة التي تكمن في التراب والنطفة التي تستقر في الرحم، فالجرتومة من مادة التراب والنطفة كائن بشري. وفي مواجهة المراحل الكثيرة التي مر عليها الإنسان كان كالنبات حيث تخرج الحبة نباتا مثل النبات جاءت منه النطفة التي خلق منها الإنسان وإن بدت في مرأى العين مجرد ماء فهي في حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى أودعتها فيه قدرة الله جل وعلا، كما أودعت في البذرة صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها كذلك هذه النطفة قد حملت في كيانها صورة الإنسان ولهنه ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه ومشاعره بحيث يتميز كل إنسان على غيره من بني جنسه في طباعه وعواطفه. قال تعالى في سورة الإنسان:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . الأمشاج هي الأخلاط مزج الشيء خلطه. خلق الإنسان للإبتلاء، ولم يخلق عبثا لأنه حمل أمانة التكليف التي لم تستطع السماوات والأرض حملها فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحمالها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
هذه النطفة تخرج من بين الصلب والترائب. صلب الرجل هي فقار ظهره والترائب هي موضع القلادة من صدر المرأة. قال تعالى: في (سورة الطارق){فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} كل إنسان معه عقله فلينظر بهذا العقل إلى قدرة الله في ذاته والأشياء مودعة فيها من العقل والسمع والبصر وتراكيبها المحكمة، فإنه لو نظر بعين عقله لعرف طريق الحق وسلك مسلك الهدى فمن أين خلق الإنسان والعقل والتفكير؟ خلق من ماء دافق
…
هذه النطفة خلق منها الذكر والأنثى قالى تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (سورة القيامة) هذه الآية الكريمة دليل من الأدلة الكاشفة على قدرة الله هي بعث الموتى من القبور. الإنسان الكافر ينكر البعث ويستبعده، فلينظر إلى قدرة الله كيف خلقته؟ ليعلم من أين بدأ؟ وكيف صار؟ وإلى أين ينتهي؟
فخلق فسوى خلق الله تلك العلقة صورا وأشكالا فسواها في تركيبها العجيب المحكم وسواها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق حتى كان منها هذا الإنسان العاقل المفكر الذي يملأ الدنيا خيرا وشرا، وبعد ما ينتهي أجله فيموت، وينتقل من هذا العالم إلى العالم الباقي عالم الجزاء والحساب قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (سورة الحج) حيث كنتم لا وجود لكم ولا أثر يدل عليكم. ثم خلقتم من تراب كما تنبت الشجرة ثم كان تناسلكم في الأرض كما تتوالد وتتناسل الكائنات
…
قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (سورة المؤمنون) عبر القرآن بلفظ {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} والجعل دون الخلق إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق تتحرك النطفة نحو غايتها إلى تكوين مولود بشري سوي بالتنقل من النطفة إلى علقة إلى مضغة إلى
هيكل عظمي معرى من اللحم إلى هيكل بشري يكسوه اللحم إلى جنين إلى طفل
…
من المتوقع أن تكون الحركة للنطفة من الجعل لا من باب الخلق لأن النطفة مجعولة، وكل ما تعطيه هو من المجعول ولكن القرآن عبر عن لفظ الجعل بلفظ الخلق، فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة، ثم {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} والعلقة لم تجعل مضغة وإنما خلقت مضغة {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} والمضغة لم تجعل عظاما وإنما خلقت عظاما فما سر هذا؟ والله أعلم أن كل عملية من هذه العمليات هي خلق جديد لا يملكه إلا الله الخالق جل وعلا، وهذا الخلق مما استأثر به الله سبحانه وتعالى وحده، أبى على خلقه أن يشاركوه في هذه الصفة، وإن كان بعض المفسرين يفسرون الخلق بالصيرورة بمعنى خلقنا النطفة علقة أي صارت النطفة علقة. قال تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} إشارة إلى نفخ الروح فيه بعدما وصل إلى هذه الصورة.
وقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وهو تمجيد لله وتسبيح لجلالته وعظمته {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} هذه حقيقة واقعة يعلما جميع الناس وهي تنبيه وإيقاظ للنائمين الذين هم في خوض يلعبون والموت ليس هو نهاية الحي، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر فيه حساب وجزاء
…
خاطب الله الإنسان المكذب بالبعث بقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (سورة المرسلات) هذه الآية الكريمة دعوة إلى هؤلاء المشركين المكذبين بالبعث أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا حتى يخلصوا أنفسهم من هذا الويل المطل عليهم فتلك هي فرصتهم الأخيرة، وإلا أقلعت سفينة النجاة وتركتهم يغرقون في أوهامهم حتى يدخلوا النار، كيف يستبعد هؤلاء المكذبون البعث؟ ألم يخلقكم الله من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب.
الماء المهين هو ماء الرجل ليس يبدو في ظاهر الأمر شيئا محقرا أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو في حقيقته حياة تضم في كيانها هذه المخلوقات البشرية. لهذا صانه الله وأودعه القرار المكين الذي أعد لحفظه، قال تعالى:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي أحكمنا مسيرة هذه النطفة في الرحم وتقلبها فيه من طور إلى طور وذلك بقدر معلوم، {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} هذا ثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريم التي لا يحسن الثناء عليها ولا يوفيها حقها إلا هو سبحانه وتعالى وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في تمجيد ربه والثناء عليه:"سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "(1).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ومالك في الموطأ- والترمذي والنسائي عن عائشة.