الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاصة في القدر والمشيئة
مذهب أهل السنة والجماعة في القدر وأفعال العباد ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء من الأعيان والأوصىاف والأفعال وغيرها، وأن مشيئته تعالى عامة شاملة لجميع الكائنات فلا يقع منها شيء إلا بتلك المشيئة، وأن خلقه سبحانه الأشياء بمشيئته إنما يكون وفقا لما علمه منها بعلمه القديم، ولما كتبه وقدره في اللوح المحفوظ وأن للعباد قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم وأنهم الفاعلون حقيقة لهذه الأفعال بمحض إختيارهم ولهذا يستحقون عليها الجزاء. إما بالمدح والمثوبة وإما بالذم والعقوبة، وأن نسبة هذه الأفعال إلى العباد فعلا فلا تنافي نسبتها إلى الله إيجادا وخلقا لأنه هو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها.
الإيمان بالقدر جزء من عقيدة المسلم، وليس معنى الإجبار، قال الخطابي:"قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله سبحانه بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عن تقدير منه تعالى، وخلقه لها خيرها وشرها والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل المقادر".
وعلم الله سبحانه مما سيقع، ووقوعه حسب هذا العلم لا تأثير له في إرادة العبد، فإن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
حكمة الإيمان بالقدر:
وحكمة ذلك: أن تنطلق قوى الإنسان وطاقته لتعرف السنن والقوانين الإلهية، وتعمل بمقتضاها في البناء والتعمير، وفي إستخراج كنوز الأرض، والإنتفاع بما أودع في الكون من خيرات.
وبذلك يكون الإيمان بالقدر قوة باعثة على النشاط والعمل، والإيجابية في الحياة، كما أن الإيمان بالقدر يربط الإنسان برب هذا
الوجود، فيرفع من نفسه إلى معالي الأمور: من الإباء والشجاعة والقوة من أجل إحقاق الحق والقيام بالواجب.
الإيمان بالقدر يري الإنسان أن كل شيء في الوجود إنما يسير وفق حكمة عليا، فإذا مسه الضر فإنه لا يجزع، وإذا صادفه التوفيق والنجاح فإنه لا يفرح ولا يبطر، وإذا برئ الإنسان من الجزع عند الإخفاق والفشل، ومن الفرح والبطر عند التوفيق والنجاح كان إنسانا سويا متزنا بالغا منتهى السمو والرفعة وهذا هو معنى قول الله سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (سورة الحديد).
هذا ما ينبغي أن نفهمه من القدر، وهو مقتضى فهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وفهم أصحابه رضوان الله عنهم أجمعين ..
وقد دخل رسول الله يوما على الإمام علي كرم الله وجهه بعد صلاة العشاء فوجده قد بكر بالنوم فقال له: "هلا قمت من الليل؟ فقال يا رسول الله أنفسنا بيد الله إن شاء بسطها، وإن شاء قبضها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج وهو يضرب على فخذه ويقول، "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" ...... وسرق أحد اللصوص، فلما حضر بين يدي عمر رضي الله عنه سأله لم سرقت؟ فقال قدر الله ذلك، فقال عمر رضي الله عنه أضربوه ثلاثين سوطا، ثم أقطعوا يده، فقيل له: ولم؟ فقال: يقطع لسرقته، ويضرب لكذبه على الله".
إن القدر لا يتخذ سبيلا إلى التواكل، ولا ذريعة إلى المعاصي ولا طريقا إلى القول بالجبر، وإنما يجب أن يتخذ سبيالا إلى تحقيق الغايات الكبرى من جلائل الأعمال، إن القدر يدفع بالقدر، فيدفع قدر الجوع بقدر الأكل، وقدر الظمأ بقدر الري، وقدر المرض بقدر العلاج والصحة، وقدر الكسل بقدر النشاط والعمل.
ويذكر أن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما حينما فر من الطاعون: أتفر من قدر الله قال: نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله، أي يفر من قدر المرض والوباء إلى قدر الصحة والعافية، ثم ضرب له مثلا بالأرض الجدباء، والأرض الخصبة، وأنه إذا انتقل من الأرض الجدباء إلى الأرض الخصبة لترعى فيها إبله، فإنه ينتقل من قدر إلى قدر (1) ....
لقد كان يمكن للرسول وصحابته أن يستكينوا كما يستكين الضعفاء الواهنين معللين أنفسهم بالفهم المغلوط الذي يتعلل به الفاشلوت، ولكنه جاء يكشف عن وجهه الصواب، فلم يهن ولم يضف، واستعان بالقدر على تحقيق رسالته الكبرى ملتزما سنة الله في نصره لعباده ....
فقاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرض بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد، وكان يستعيذ بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، وما غزواته المظفرة إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره ....
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أن يفهم القدر فهما خاطئا، ودعا إلى مجاهدة من يرى هذا الفهم الخطأ، فقد روى عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ثم يقولون: الله قدرها علينا، الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله" ....
هذا هو القدر الذي ينبغي أن نعرفه عن القدر، وما وراء هذه المعرفة عنه فلا يحل لنا البحث فيه، ولا التنازع في شأنه، فإن هذا من أسرارالله التي لا تحيط بها العقول ولا تدركها الأفكار ....
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نتتازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه،
(1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما