الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بماذا يكون إيمان المكلف؟
وما هي الوسائل التي يستعملها ليكون مؤمنا
؟
الوسائل التي يعرف الإنسان بها ربه متعددة ومتنوعة، منها: النظر في مخلوقاته، (بالعقل المجرد من الهوى) أو بنور يقذفه الله في قلب المؤمن لا يقدر على دفعه، أو بالتقليد (وهي أسوأ الطرق وأفسدها) التوحيد هو أساس الطاعات ونبراس العبادات، وكلمته الطيبة الدالة عليه، وهي: لا إله إلا الله إنها مقصورة على ألوهيته وحدها، فكل مخلوق يجب عليه أن يعبد الله ويطيعه وحده لا شريك له لأنه هو النافع والضار على الإطلاق، وهو خالق كل شيء، وكل من لا يكون نافعا ولا ضارا فليس بخالق يستحق العبادة لأن العبادة هي الطاعة والخضوع والانقياد لله وحده سبحانه وتعالى.
أما الكلمة الطيبة - وهي لا إله إلا الله - قد دلت على ألوهيته الثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا، وقال حجة الإسلام الغزالي في باب "الصدق" من (الاحياء)"كل ما تقيد به العبد فهو عبد له، كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا" وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وعبد الحلة وعبد الخميصة"(1)، وكل من تعلق قلبه بشيء فهو عبد له، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (سورة الجاثية) وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتب التوحيد ظهر لنا أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاحا للدين ومهداة الانام، وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا إله إلا الله دالة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة" وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة"، وحديث
(1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث صالح بن صالح .. ورمز السيوطي إلى صحته
البطاقة أشهر من أن يذكر وكذلك الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليم السلام: "وجاء من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة بلا حساب" وما هو الفرق بين ذلك وبين من قالها ولم تكن آخر كلامه في الدنيا.
أجمع المسلمون على معرفة الله تعالى وإان اختلفوا في الوسائل شرعا وعقلا أما النظر في معرفة الله تعالى لا خلاف بين أهل الإسلام لوجوبه، لأنه أمر يتوقف عليه الواجب، وكل أمر يتوقف عليه الواجب فهو واجب شرعا كما رأى الصحابة رضي الله عنهم، وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال.
أما كون النظر الذي يتوقف عليه التوحيد ليس ضروريا بل هو نظري ومحل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره سعد الدين التفتزاني ورجح هذا القول الإمام الرازي والآمدي وقال بعض العلماء في ذلك: إن المطلوب هو اليقين لقوله تعالى عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وقال أيضا للناس: {اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . ولا يتم اليقين إلا بحصول النظر ولهذا لم يجوز بعض العلماء التقليد في الأصول والبعض منهم أجازوه لكن بشرط العقد الجازم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي من الناس بنظق الشهادتين تحت ظلال السيوف إذا كانت معتقدا لمضمونها على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا لها احتمال عقلي.
والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر عن طريق المتكلمين بل صرح بعضهم أن المعتبر في النظر هو طريق العامة، ويكفي دليلا على صحة إيمان المقلد. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي هو وأصحابه من عوام العجم وأجلاف العرب بمجرد الإقرار بالشهادتين ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق وللقنوه لهؤلاء الأجلاف كما كانوا يلقنونهم الواجبات الشرعية ولم ينقل أحد من الصحابة أنهم أمروا ممن دخل في الإسلام بالاستدلال وترديد النظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجأوا أمره حتى النظر.
فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار، لأن النبي وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك الواجب من غير عذر. إذ أن المقلد غير آثم على ترك النظر بل إيمانه ثابت وصحيح ويشهد لذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد "عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك" من أهل فدك وغيرهم من الأخبار الكثيرة قال عز وجل:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وقد روي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن شرح الصدر فقال: "نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح صدره"(1). فصرح أنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال.
وقد صرح بعض المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو علم ضروري وجدوه في أنفسهم لم يقدروا على دفعه.
ومن أهل الفطرة من وجد فيه الإيمان كذلك بل قد صرحوا بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل. وقال الإمام الغزالي حجة الإسلام في كتابه "فيصل التفرقة" ومن أشد الناس غلوا ونكرا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررنا بها فهو كافر ..
فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواترت به السنة وراء ظهورهم، وظهر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة باسلام على طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الأوثان ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها ومن ظن أن الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد النجعة بل إن الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهداية من عنده تارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين سرى نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينه حال.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم، رواه عبد الرزاق.
فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحدا منكرا فلما وقع وجهه على طلعة النبي صلى الله عليه وسلم البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة، قال: والله ما هذا بوجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام، فأسلم. وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إني والله، الله بعثني نبيا. فصدقه بيمينه وأسلم. فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ..
ولم يشتغل أحد بالكلام وتعلم الأدلة بل كانت تبدو أنوار الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة كتلاوة القرآن وتصفية القلوب. ليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضار أعرابي ولقنوه الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأحداث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وأن الله عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد عن الذات إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين ..
بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من أجلاف العرب أو غيرهم يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسرى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب منه. وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صنيعتهم لرعاية الغنم أو غيرها، لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، ولكن ذلك ليس بمقصود عليه وهو نادر. وساق الكلام إلى أن قال والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما اشتمل عليه القرآن فهو الحق اعتقادا جازما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلة.
فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل لكل شبهة بل الإيمان الواضح إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا وأثر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها- انتهى-