الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشاطه الاختياري، وأنه كالريشة في مهب الريح، تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال.
ومن قائل: بأن الإنسان مخير (1) غير مسير، وأنه يمارس أعماله الاختيارية بمحض إرادته ومشيئته.
ومن قائل: بأن الإنسان ليس له من أعماله إلا الكسب (2) أي أن الله يخلق الشيء عند مباشرته- أي أن الله يخلق الشبع عند الأكل، ويخلق المعرفة عند الدراسة، وهكذا وليس للعبد إلا الكسب، وبه يصح التكليف والثواب والعقاب، والمدح والذم، والذي نراه في هذه القضية ونختاره هو ما قروه الإسلام فيما يلي:
تقرير الإسلام حرية الإرادة:
قرر الإسلام أن الإنسان خلق مزودا بقوى وملكات واستعدادات، وهذه القوى يمكن أن توجه إلى الخير، كما يمكن أن توجه إلى الشر، فهي ليست خيرا محضا، ولا شرا محضا، وإن كانت إرادة الخير في بعض الناس أقوى، وإرادة الشر في البعض الآخر أقوى، وبينهما تفاوت لا يعلمه إلا الله وفي الحديث الصحيح:"كل مولود يولد على الفطرة" وفي الحديث أيضا: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"(3) ويؤيد هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (سورة الشمس) أي أن الله خلق النفس مسواة، ومعتدلة قابلة للتقوى والفجور ومستعدة للخير والشر، والله سبحانه زود الإنسان بالعقل الذي يميز به بين الحق والباطل في العقائد، وبين الخير والشر في الأفعال وبين الصدق والكذب في الأقوال، وأعطاه القدرة التي يستطيع بها أن يحق الحق، ويبطل الباطل وأن يأتي الخير ويدع الشر، وأن يقول الصدق، ويجانب
(1) هذا مذهب المعتزلة والإمامية.
(2)
هذا رأي الأشاعرة.
(3)
رواه مسلم- عن أبي هريرة- صحيح
الكذب ورسم له منهج الحق والخير والصدق مما أنزل من كتب، وبما أرسل من رسل، وما دام العقل المميز موجودا، والقدرة على الفعل صالحة، والمنهج المرسوم واضحا، فقدا ثبت للإنسان حرية الإرادة واختيار الفعل وعلى الإنسان أن يوجه قواه إلى ما يختاره لنفسه من حق، أو باطل، ومن خير أو شر، ومن صدق أو كذب، يقول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي هديناه، وأرشدناه إلى طريق الحق والباطل، والخير والشر، والصدق والكذب، فهو إما أن يسلك السبيل الأهدى فيكون شاكرا، أو الطريق المعوج فيكون كفورا، وفي هذا المعننى أيضا يقول القرآن الكريم:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي الطريقين، كل إنسان مسؤول عن تهذيب نفسه وإصلاحها حتى تصل إلى كمالها المقدر لها، فإصلاحها وتزكيتها وتنميتها يكون بالعلم النافع والعمل الصالح وهو سبيل فلاحها وفوزها برضا الله، والقرب من مشاهدة جلاله وجماله، كما أن إهمالها هو السبيل إلى خيبتها وخسرانها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} والآيات التي تقرر حرية الإنسان كثيرة جدا {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
فأسنذ العمل الصالح، والعمل السيئ إلى الإنسان، ولو لم يكن الإنسان حرا ما أسند إليه الفعل، وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الله سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أي أن الشرور التي تعرض للإنسان إنما هي أثر من آثار عمله، ونتائج اختاره وتصرفه.
وإن القرآن يتحدث عن المفاسد والجرائم التي تحيط بالناس فيبين أنها ليست من صنع الله، وإنما هي من صنع البشر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وهذا الذي يقرره القرآن هو ما يشعر به الإنسان من نفسه، فهو يشعر بأنه يمارس أعماله الإرادية بمحض إرادته واختياره، فهو
يفعل، ويدع منها ما يشاء، وهو إذا فعل منها ما هو نافع استحق المدح، وإذا فعل منها ما هو ضار استوجب الذم فلو لم يكن مختار لما توجه إليه المدح على فعل ما هو نافع، ولا توجه إليه الذم على فعل ما هو ضار بل لو لم يكن الإنسان مختارا لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسيء: اذ أن كلا منهما مجبر على ما يفعله، ولبطل الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، إذ لا فائدة لهما حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولا كان ثمة معنى لتكليف الله العباد، لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم هو منتهى الظم الذي يتنزه الله عنه، ويكون الأمر كما قال القائل:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء، بل لو كان الإنسان مسيرا لضاعت فائدة القوانين ولبطل الجزاء من الثواب والعقاب.
وقد أراد المشركون أن يحتجوا بمشيئة الله على شركهم وأنه لو لم يشأ أن يكونوا مشركين لما كانوا كذلك، فأبطل الله حجتهم ودحضها بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (سورة الأنعام). فالقرآن يرد على المشركين من وجهين: الأول: أن الله أذاق الكافرين بأسه، وأنزل بهم عقابه فلو لم يكونوا مختارين للجرائم والمآثم، والكفر والشرك لما عذبهم الله لأن الله عادل لا يظلم مثقال ذرة.
والوجه الثاني: أنهم زعموا ذلك عن جهل بالله، وجهل بدينه، وأنه ليس عندهم من علم يمكن أن يستند إليه، ويرجع إليه، وإنما كفرهم هذا تمرد على دينه، وافتيات على الحق الذي أنزله على ألسنة الرسل ..
وإذا كان الله قد عذب الأمم السابقة على كفرها وإذا كان المشركون ليس لهم من حجة يحتجون بها فقد تقرر أن دعوى المشركين دعوى ظنية لا تقوم عليها حجة ولا ينهض بها دليل، وبذلك قامت حجة الله البالغة على هؤلاء، ولو شاء الله لأجبرهم على الهداية، وحينئد لم يكونوا من البشر لأن البشر فطروا على الحرية والإختيار ..