الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعاذة بالله من شر ما خلق
نتكلم عن الشر {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (ما) هنا موصولة ليس إلا. والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسما، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك، ولكنه تعالى يلهم النفس البشرية خيرها وشرها ليمكنها بعد ذلك المفاضلة والاختيار في صراع الإيمان والضلالة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وما يفعله الله سبحانه وتعالى من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون بالنسبة إلى العباد، فالشر وقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالق الخير والشر وملهمهما النفس إعدادا للتكليف.
وينبغي أن نعرف جيدا: أن ما هو شر، أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا، لا يكون لله تعالى، ولا فعلا من أفعاله.
ذلك أن مقياس الخير والشر مقياس نسبي معياري له دائما وجهان، فالشر الذي ينزل على فرد واحد في شكل عقوبة مثلا يحقق خيرا عميما للمجموعة التي يعيش فيها ذلك الواحد، ويحقق له هو نفسه نجاة من النار.
مثال: إن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما، بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم، فهو محمود على حكمه
بذلك، وأمره به مشكور عليه، يستحق عهليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة له
…
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرياتهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي.
فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل، فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر، ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه هو البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العادل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا أن يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته .. وبعض الطوائف يقولون: إن الأمرين- الخير والشر- بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
يرد القرآن على هذه الأفكار، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها كقوله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . وقوله كذلك {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيء ونزه نفسه عنه تعالى عما يشركون.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: إن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وألوهيته لا إله إلا هو، تعالى مما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والإنتقام في موضع الرحمة والاحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كمن إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من فعله، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها ..
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة؟ وإنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم يلق هذا التأويل بالفطر السليمة ولظهرت مناقضة الحكمة
…
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (سورة الكهف) فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا، إنه أمر إبليس- لعنه الله- بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده ولعنه، وعاداه من أجل إبائه عن السجود، لابينا ثم أنتم توالونه من دوني، وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني، أفليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم؟ ويوم القيامة يقول تعالى:"أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟ ".
فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة: إذا ذهبوا مع
أوليائهم، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ربهم ويقول: "ألا تذهبون حيث ذهب الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده. فيقول هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟
فيقولون: نعم إنه لا مثيل له فيتجلى لهم، ويكشف عن ساق فيخرون له سجدا".
فيا قرة عين أوليائه بتلك الموالاة، وما أفرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون.
فما أحوج القلوب إلى معرفة ربها، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.