الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تكليف إلا بشرط العقل
العقل في الإسلام له دور فعال في الإيمان بالله عز وجل، وفي الحياة ونظامها، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها على إهماله
…
ولقد حدد الإسلام دور العقل، فمن وظيفته أن يفهم الرسالة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيتلقى عنه دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق.
العقل ليس أصلا لثبوت الشرع، فإن الشرع منزل من عند الله ثابت بنفسه. سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه وهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا إلا أننا محتاجون إليه حتى نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع صار عالما، وإذا لم يعلمه كان جاهلا. والمنقول الصحيح من الآيات والأحاديث لا يعارضه العقل كمسائل التوحيد و (عقائد) صفات الإله، والنبوات والمعاد والرسل عليهم السلام. لا يخبرون بمخالفة العقل، وإنما يخبرون بما عجز عنه، وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول والرفض بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، إلا أنه ملتزم بأحكام الدين إذا بلغت إليه عن طريق صحيح
…
إن الإسلام دين العقل بمعنى أنه يخاطبه بمقتضاه ومقرراته، ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال فيها إلى الإذعان، ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له مناهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموجبات الإيمان والنظر في الأنفس والآفاق، ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه، فإذا وصل العقل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات، ولم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، وعدم التسليم بها فهو كافر.
العقل ميزان صحيح غير أنك لا تستطيع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء الطبيعة
…
وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الاتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت على أن تكون مدركة فيتيه العقل في بيداء الأوهام، وينقطع فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب، وهذا معنى ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"العجز عن الإدراك إدراك" ويقول ابن خلدون التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب.
سأل دعلب اليماني عليا- كرم الله وجهه- هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فأجابه: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال دعلب: وكيف تراه؟ قال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء، غير ملامس، بعيد منها غير مباين لها، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، بصير لا يوصف بحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته وتجل القلوب من مخافته. وقول الإمام الهاشهي- كرم الله وجهه- "لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان" إشارة إلى أن الإدراك ليس ادراكا عقليا مباشرا، وإنما هو إدراك لا يقع في الشعور والحس من إيمان لا يدرك بالعقول.
ووظيفة العقل هي إدراك ما يقع له من مظاهر الوجود، وقد ينتج الإدراك معرفة، ولكن الإيمان أكبر من الإدراك، وأعلى من المعرفة.
وسئل الصديق الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بم عرفت ربك فقال: عرفت ربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال العجز عن الإدراك إدراك ويعلق العز بن عبد السلام على هذا الخبر بقوله: "ومعنى هذه الإشارة الصديقية: إن الحواس الخمسة التي هي آلات الإدراك لسائر المحسوسات لا وصول لها لإدراكه فإذا علمت أن الحق سبحانه منزه عن إدراك الحواس لكن ذاته وصفاته لعجزها عن إدراكه، فقد عرفت الحق
…
ربما يفهم من القول: بأن العجز عن الإدراك إدراك" أن الإيمان المستولد من العجز عن الإدراك إيمان باهت وأنه ليس بشيء والحق أن العجز عن الحقيقة الكبرى حقيقة الوجود العليا ليس هو العجز الذي يعقبه اليأس ويتبعه القنوط، وإنما هو إلهام
روحي، ومن أجل هذا كان الإيمان بالله عز وجل لا يرتاد إلا النفوس التي حل بها الطهر وزكاها العلم، ولا يكودما إلا في النفوس التي خلت من الشك والريب، وسلمت من الزيغ
…
الإسلام يطرح العقيدة على العقل على أساس النظر والفكر ليستقر الإيمان في نفس المخاطب، وجذور هذه العقيدة ضاربة في الكون والنفس والبشر {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (سورة فصلت).
كما هي مودعة في الكتاب الكريم {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (سورة البقرة){إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (سورة ق).
إن الإيمان بالله عز وجل وما أشكل عليه قضية خطيرة قضية تحديد قوة عليا تستوعب الزمان والمكان والإنسان قضية تحديد حياة أخرى لا تقاس بملايين السنين إنه الخلود، ومن تسنى له أن يخوض هذه القضية الكبرى- أي قضية الإيمان- عقليا فيغدو مؤمنا حقا ويكون قد مر بتجربة فكرية اكتسبته مرانا رائعا على التجرد من العقائد الزائفة، ومن شأن هذا المران أن يطيع العقل الإنساني بطابع التثبت والاتزان، والمؤمن الذي يراقب الله بحذر من التسرع قال الله عز وجل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (سورة الإسراء) فإذا آمن الناس بالحقيقة الكبرى إيمانا عقليا وآمنوا برسوله وكتابه إيمانا عقليا أليس من المعقول أن يسلم العقل فيما تعجز عنه حواسهم الحسية من النصوص الواردة من القرآن والحديث في الجنة والنار والملائكة والشياطين؟ سيما وقد قبلوا الأصول الكبرى عن طريق العقل، وهذه التفصيلات الغيبية محدودة في النصوص الصحيحة ..
لقد عرض الله قضية الإيمان على العقل، وأخذ بيده إلى الكون، وخاطبه بالبرهان. ولكن المؤمنين غافلون عن حقيقة إيمانهم، فأصبحوا لا يستخدمون عقولهم في معرفة العقيدة حتى يعرفوها معرفة جيدة،
وكلما أمعنوا النظر والتفكر في الكون والمخلوقات المشاهدة إلا وازدادوا إيمانا بالله عز وجل، وعلما به، وخشية منه، ولكن لا يبحثون عنها بدعوى أنها مقدسية لا تمس، أو بدعوى أنها تتعطالى عن العقول، ولو قدر الناس حرية العقيدة الدينية لما تململوا من البحث والنقاش فيها، وهذا النقاش ليس من الجدل المحظور التي وردت فيه الأحاديث الشريفة بالنهي عنه.
قضية العقيدة خطيرة جدا لأن خطأها يطبق على الإنسان طول العمر، وفي ظلمات القبر، ومن بعد ذلك يأتي البعث والحساب في عالم الخلود.
كيف لا يفكر الإنسان في قضية المعاد؟ وإننا نرى الموت تقصم رقاب الجبابرة والطغاة والظلمة الذين لم تزل قلوبهم عن الموت نافرة حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن الضياء إلى ظلمة اللحد، ومن ملاعبة النساء إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن الأنس إلى وحشة القبر، ومن صحة الذات وتنعمها إلى تشويهها وتمزقها
…
فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء، واستأثر بالبقاء، وسبحان من جعل الموت مخلصا للأتقياء، والقبر سجنا للأشقياء ..
من كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، كيف لا يفكر في قضية البعث والحساب؟ كيف لا يذكره ولا يستعد له، ولا يتدبر في مصيره ولا يهتم به؟ كيف لا يعد نفسه من الموتى، وهو يرى كل يوم يحمل إلى القبور من أهله وذويه وأقربائه وأصدقائه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت"(1) وقساة القلوب يغفلون عن الموت حتى يهجم عليهم فجأة، وإذا ذكروهم به نفروا منه، هؤلاء هم الذين قصدهم القرآن بقوله:{إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} ما دام هناك إيمان
(1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والترمذي قال: حديث حسن. عن شداد بن أوس.
بذلك اليوم الموعود ينتفع الإنسان من استعمال عقله في تثبيت الإيمان في قلبه وصيانته، ولكن ذوي العقول الممتازة العارفين بالله هم الذين يستطيعون مجاهدة الأهواء. وأخلص مراتب التوحيد التي بنيت على النظر والاستدلال كما يقال
…
إذ كل من قلد في التوحيد إيمانه لم يخل من ترديد الكفر جحد الحق- والحق هو الله سبحانه وتعالى، فمن طلب الحق خاليا من الغرض والهوى فقد بريء من الكفر ..
أما المغضوب عليهم والضآلون، فهم ممن وصفهم القرآن بقوله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (سورة النمل) وقال أيضا: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الأنعام).