الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البعثة المحمدية على صاحبها
أفضل الصلاة وأزكى التسليم
بعث الله تعالى نبيه الكريم، ورسوله العظيم سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، على حين فترة من الرسل وفي جاهلية جهلاء لا تعرف من الحق رسما، ولا تقيم للعدل وزنا، لقد اصطفاه الله ليكون رسولا للعالمين، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا حاملا معه مختتم الرسالات السماوية إلى الناس كافة، وقد أمده الله بالصبر واليقين والعزم، فواجه بها كفار قريش كلهم، صلفهم وكبريائهم وجبروتهم وعتوهم وغرورهم فلم يحفل بتهديدهم ووعيدهم، ولا لان له، فعارضوه ورموه بالزور والبهتان، وبالكذب تاره، وهو الصادق المصدوق لم يجربوا عليه كذبا قط، وتارة يتهمونه بالسحر وهم يعلمون أنه لم يكن من أهله، وتارة يقولون أنه مجنون وهم لا يشكون في كمال عقله، وحاولوا مرارا أن يستنزلوه على طريق عبادتهم ليظفروا منه بالموافقة على الاعتراف باعتقاداتهم الفاسدة، فأبى عليه الصلاة والسلام الا الثبات على أوضح طريق الحق ..
حمل الرسالة السماوية، وواجه بها الناس جميعا متحديا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة، فما وهن صلى الله عليه وآله وسم، وما ضعف عن حمل هذه الرسالة، وصبر على ما تنوء به الجبال من الاحمال الشاقة، فلكم لقى من السفهاء والحمقى والطغاة الظالمين من بغي وعدوان؟ كيف به وقد بلغ بصبره وجهاده وعزمه ما أراد الله لدعووته أن تبلغ؟ وهكذا ما انفك يدعو إلى الله فيأتي إليه الواحد بعد الواحد متسللين مختفين خوفا من اعتداء الكفار عليهم، ولما اشتدت معارضة كفار قريش لدعوة الإسلام، وتكالبت على الرسول وأصحابه قوى الشر والطغيان خاف على الدعوة أن يمسكها المشركون على أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع الناس بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها، فخرج مهاجرا من البلد الحرام حاملا لهذه الرسالة الربانية ثم خاض غمار الحروب في سبيلها، فكان صلى الله عليه وسلم يتقدم صفوف الأبطال والفرسان ..
وقد لقى مكر اليهود في المدينة بلطف ووداعة، حتى إذا لجوا في الضلال، وتمادوا في الكيد والبغي صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها، فبلغ رسالة ربه، وجاهد في سبيلها حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا في دين الله أفواجا.
لقد امتن الله على العالم عامة وعلى العرب خاصة ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبها انتقل من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن القسوة إلى الرحمة ومن الظلم إلى العدل، ولم يتذوق العالم طعم المدنية الصحيحة ولا الإنسانية الكاملة، ولا الحرية والعدالة الحقيقيتين إلا بعد البعثة المحمدية التي غيرت مجرى تاريخ البشر وتفكير العالم ووجهته أحسن توجيه.
البعثة المحمدية صححت العقول الفاسدة، والمفاهيم الخاطئة للناس، وسمت بهم، فأصبحوا لا يؤمنون إلا بالله ربا، ولا يعبدون إلا الاله الواحد القوي العزيز الذي لا إله إلا هو
…
فبهذه البعثة الميمونة تحرر الضعفاء من الاستبداد والاستعباد والأفكار والعقائد من القيود والخرافات والأوهام ..
نجحت الدعوة الإسلامية في مكة وربوعها، وعلى العرب المتعصبين الضالين، ومن بعد نجحت في العالم شرقا وغربا، وسر نجاحها وتغلبها على العقبات والصعاب، يرجع إلى المسلمين الذين تمسكوا بالعقيدة تمسكا قويا، بالإخلاص لها والتفاني في سبيلها، فقد كانوا يقدمون على المعركة في سبيل الله وهم أقلة في عددهم وعدتهم يجابهون كثرة من الأعداء، وهم في صلفهم وغرورهم بخلاف المؤمنين الذين يلقون أعداءهم مستبسلين يرجون رضاء الله، ولا عليهم في ذلك أعادوا إلى الديار سالمين منصورين أم فاضت أرواحهم إلى ربها راضية مرضية.
وأول معركة في الإسلام هي غزوة بدر الكبرى انتصر فيها التوحيد على الشرك، والحق على الباطل وغلبت الفئة المؤمنة الصابرة الكثرة المتعجرفة، ما هي إلا دليل على الإخلاص والصبر.
وقعت هذه الغزوة المباركة في السابع عشر من شهر رمضان المعظم في السنة الثانية من الهجرة
…
كان الإسلام المهاجر لا زال خافض الجناح في المدينة وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا زالوا تحت البلاء يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة ليجتبيهم لنشر دعوته ويعلم الذين بصطفيهم لتبليغ رسالته، فلما أراد الله لدينه أن يسود ولمجده أن يعود، ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلاثمائة نفر إلى وادي بدر يعتقبون على سبعين بعير، ويستعينون بصبر المجاهد على قلة الزاد وبعزة المؤمن على الذل، وبعفة الزاهد على الفاقة، كانوا يسيرون إلى بدر في استغراق الصوفي إلى ما وعدهم الله إحدى الطائفتين- العير أو النفير، أو إحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد.
فموقف غزوة بدرمن الشرك كان موقف محنة، فإما أن يقود محمد صلى الله عليه وسلم زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك
…
وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد صلى الله عليه وسلم وراء القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب، فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان فإما أن يتمزق تراث الانسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذا البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذا الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه المعركة الفاصلة
…
كان النبي صلى الله عليه وسلم أمام العريش يدعو ربه ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيقول:"اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض"(1) فيرد الصديق عليه رداءه، ويقول بعض هذا يا نبي الله فإن ربك منجز وعده، وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل
(1) شطر من حديث طويل في غزوة بدر. أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس
الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان لا يرسم في أدهانهم إلا الحور العين ولا يصور في أعينهم إلا الملائكة وقد قذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القتم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلاثمائة على ما يقرب من ألف جندى من جيش الضلال والشرك
…
غزوة بدر غيرت وجه التاريخ، ومكنت للمسلمين العرب أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الدين، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم والوحي، لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمرة السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمرة الإيمان والصدق، قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل، والمثل العليا، فيها الحب والإيثار فلا تبالي بالعدد الكثير، ولا ترهب السلاح، ولا تعرف الخطر
…
بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في غزوة بدر والقادسية واليرموك، وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية والعروبة عمرانا صادقا طبق الأرض بالخير وملكا نظم الدنيا بالعدل، ودينا ألف القلوب بالرحمة.
بهذا الشعور القدسي، وبهذا اليقين النفسي وقف المسلمون في كل معركة انتصروا فيها عبر التاريخ، فالدعوة المحمدية تتطلب من المسلمين أن يعملوا لدنياهم ولأخراهم فتريدهم أن يكونوا شجعانا فيما يقولون، وفيما يعتقدون، ويفعلون لا يخشون في الله لومة لائم. وليست الشجاعة مقصورة على الحروب والمعارك، فإن الدعوة إلى الحق في عالم ضال شجاعة، والدعوة إلى الإصلاح في أمة فاسدة النظم شجاعة، والاستمساك بالعقيدة شجاعة، مهما أوذي صاحبها، والدفاع عن الدين أو العرض أو الجار المضطهد أو الأجير المظلوم شجاعة، والشجاعة تعد فضيلة لأنها مجازفة بالحياة، والحياة أغلى ما يملك الإنسان. أما الجبن فإنه رذيلة لأن صاحبه يرضى بالذلة والمهانة، ونذير باستمرار الضعف والتخلف والفوضى، إن تاريخ المسلمين لحافل بأعلى
المثل في الشجاعة التي ناصرت الحق على الباطل، وآزرت الخير على الشر وظاهرت الصلاح على الطلاح ..
كان المسلمون الأولون على أهبة الاستعداد دائما لما عساه أن يطرأ عليهم من الحوادث، فإذا نزلت حادثة فجأة تجدهم مستعدين لها، وشجاعة المسلمين في سبيل إقامة شعائر دينهم، ومسارعتهم في رضى الله لا تحتاج إلى برهان، قال الله عز وجل في حقهم:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (سورة آل عمران).
كان النبي صلى الله عليه وسلم شجاعا يقود المعارك ويتقدم الصفوف، ويتصدى لكل بطل موهوب، يقول سيدنا علي كرم الله وجهه، "إذا حمى البأس، واحمرت الحدق إتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو وقد ثبت في غزوة حنين لما تفرق عنه أصحابه، فكان يسير نحو العدو"، وهو يقول:"أيها الناس تعالوا إلي أنا محمد رسول الله أنا محمد بن عبد المطلب"(1) ..
وكان أبو بكر رضي الله عنه شجاعا لا ينثني عن عزيمة يعتقد فيها خيرا للإسلام، فقد فوجيء إثر توليته للخلافة بارتداد العرب عن الإسلام، وكان هذا الإرتداد ممثلا في رفض الصلاة والزكاة فقال:"والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ما تركتهم، ولو خذلني الناس لجاهدتهم وحدي"(2) ولم تكن مشكلة الصلاة والزكاة فحسب، بل مشكلة الوحدة أيضا التي انقضت عراها، وأصبح المسلمون طوائف متنافرة متناحرة، فكيف يطيق أبو بكر مشاهدة الأمة التي جمعها الإسلام، وأنقذها من الكفر تتفرق وأعضاؤها تتناحر، ووحدتها تتمزق، وكيف يمكن للعصاة الثائرين أن
(1) أخرجه بن هشام ومسنده صحيح.
(2)
القصة ثبتت في صحيح البخاري. ورواها مالك- بلاغا-
يحققوا أغراضهم؟ فهذا ما لا يطيقه أبو بكر أبدا وكان سيدنا عمر رضي الله عنه شجاعا في إعلان رأيه متحديا كفار قريش، ولما تولى الخلافة ربى المسلمين على خلق الشجاعة وحثهم على أن يعلموا أولادهم السباحة والرمي وكذلك كان سيدنا علي كرم الله وجهه بطلا شجاعا منذ نشأته إلى وفاته شجاعا في كل حرب خاضها، شجاعا في كل رأي أذاعه، وكل عمل قام به، هذا الشرف العظيم الذي أحرز عليه المسلمون الأولون لم يأتهم تلقائيا، أو جاءهم عفوا، بل قدموا في سبيله الأموال والمهج والتضحيات الجسام، والقرآن كان يرغبهم في الشهادة بقوله عز وجل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحث على الشهادة، ويجد المطلع على سيرة ابن هشام أحاديث للشهادة تطيب لها النفوس، وتهتز لها المشاعر في كل غزوة غزاها سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يبين للشهداء من الآيات البينات، وكان يقول:"الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا"(1) رواه الإمام أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام:"لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجد وأطيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا إننا أحياء في الجنة نرزق ألا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله الآية السابقة. ولا تحسبن الخ"(2) وقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا لا يجب أن يرجع
(1) أخرجه أحمد في مسنده- الطبراني- الحاكم- عن ابن عباس- حسن-
(2)
أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عباس ورجاله ثقات وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
إليها ولو ساعة من نهار، ولو اعطيت له الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يجب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى" (1)
…
الدعوة الإسلامية كانت في الصدر الأول دعوة ربانية وقيادة في ممارستها وتنظيمها، تخلف المسلمون يوم تخلفوا عن القيادة الفكرية، وتقاعسوا عن حملها وأساءوا تطبيقها.
لم يتخلف المسلمون الحاضرون عن الركب الحضاري نتيجة تمسكهم بدينهم- كما يقول بعض المغرضين- وإنما بدأ تخلفهم يوم تمسكوا بالمباديء الوضعية، وسمحوا للعوائد الأجنبية أن تدخل ديارهم وتحتل أذهانهم وتستهوي أبناءهم، ولن يستأنف المسلمون الحياة الإسلامية إلا إذا حملوا دعوة الإسلام بقيادة فكرية إسلامية، ويجب أن تحمل الدعوة كما حملت من قبل إقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن تحيد عن ذلك قيد شعرة، ودون أن يحسب لاختلاف العصور أي حساب لأنها اختلفت فيها الوسائل والأشكال، أما الحقائق والجواهر لم تختلف، وينبغي لحامل الدعوة أن يكون صريحا في الحق وجريئا على الباطل، وقويا بالإيمان، ويجب على حامل الدعوة أن يدعو إلى سيادة الإسلام سيادة مطلقه بغض النظر عما إذا وافق الناس أم خالفهم، ويعلن أحكام الإسلام سواء رضي بها الناس أم رفضوها، فحامل الدعوة لا يتملق ولا يجامل من بيدهم الأمور. حمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القيادة الفكرية في مكة فلما وجد أن أبناءها لا يحققون الغاية هيأ أبناء المدينة لذلك، ثم أوجد الدولة وطبق الإسلام على المجتمع المدني، وأحدث فيه إنقلابا في العقيدة، وتقوية الصلة بالله
…
ويجب على كل من ينتمي إلى الإسلام أن يؤيد الدعاة في مهمتهم كواجب مكلفين به، وأنهم مسؤولون أمام الله إذا لم يقوموا به، قال الله:
(1) ورد بلفظ يقارب في صحيح مسلم. رواه الترميذي من حديث أنس. ورواه النسائي من حديث عبادة بن الصامت.
لقد نوه الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة الميمونة، والمنة الكبرى التي امتن بها على العالمين، والنفحة الربانية العظيمة، والرحمة المهداة، ألا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لولا رسالته لما اهتدينا، ولا تحلينا بسائر مكارم الأخلاق، والخلال الحميدة التي سعدنا بها في ديننا ودنيانا أفرادا وأمما.
وضعت هذه الرسالة الإلهية الخالدة حدا فاصلا لعصو الجاهلية وافتتحت عهدا جديدا، عهد النور والعلم، والعدل والمسامحة والإتحاد، ودعا الناس إلى دين واحد، وعبادة إله واحد
…
هيأ الله صاحب الرسالة منذ صغره لحملها، فحلاه منذ نشأته بالعلم الذي لا يشوبه جهل، وبالفضيلة التي لا يعتريها نقص، وبالصدق الذي لا يخالطه كذب، فجمع له غرر الفضائل التي فاق بها الأولين والآخرين، فنهل منها الناس على اختلاف أجناسهم، ولا تزال على حالها منهلا عذبا للواردين من أصحاب اليمين والسابقين، قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (سورة النساء).
فقد جمع له من مكارم الأخلاق ما تفرق في غيره من النبيئين والمرسلين وقدمه عليهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (سورة الاحزاب). فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
…
أكرم الله الأمة الإسلامية بخاتم الرسالات الذي زكاه ربه وطهره من أدران الجاهلية، فكان صلوات الله وسلامه عليه يتقلب في أصلاب الساجدين وأرحام الطاهرات حتى برز إلى الوجود، ولم يخرج من سفاح قط كما أخبر هو عن نفسه
…
فميلادك يا سيدي يا رسول الله كان حادثا سعيدا على البشرية جمعاء، اهتز له الكون، وطربت السماء، وهتفت له الملائكة وابتهجت به الرسل، وتغنت به الأطيار من فوق أيكتها، وعمت الناس البهجة والسرور، ومادت الأرض فرحا بأمر ربها وأصغى الكون لما ترتله عليه من الآيات الباهرات
…
فها هي رسالتك - يا رسول الله- يكتب لها الخلود على الأبد، ودعوتك تخرق الحجب الكثيفة، وتغذي العباد في كل زمان ومكان وأينما حلت تزيل الظلام والشرك من طريقها، وتعصف بالظلم والظالمين، ولا زالت تغزو المجاهل والأغوار والأدغال، والصحاري والبحار فتثير القلوب الهامدة، وتهيب بها إلى التوحيد فتنقذها من رذيلة الشرك والشك، وتزيل عنها الحيرة والضلال، وترفع عنها الإلتباس والغموض، لا زال الناس يسيرون على هديها المستقيم وطريقها الأمثل بعدما مضى عليها أربعة عشر قرنا من بعثتك الميمونة، وصيحتك المدوية في الآفاق لا زالت ترن في الآذان إلى الآن وإلى الغد
…
سيدي يا رسول الله- سيرتك العطرة لا زالت غظة طرية لم يجد لها الزمان بديلا، فأخلاقك العليا التي شهد لك بها التنزيل لا زالت محل اندهاش وإعجاب من طرف الأجيال المتعاقبة التي جاءت من بعدك، وفي مقدمتهم العباقرة والفلاسفة والعلماء، بل أصبحت شمسا منيرة في كل قلب طاهر نقي اللهم إلا ما كان من قلب حاسد فأعمى بصره وبصيرته، نورك الوهاج فهو لا يبصر النور كالخفافيش التي تعيش في الظلام، هكذا صاغك ربك ظاهرا وباطنا فكنت سر الوجود.
فمنهاجك الرباني طهر النفوس من دياجير الشرك، وأنارها بالتوحيد فرجعها إلى فطرتها السليمة التي فطر الله الناس عليها، وقام صرح العدل شامخا، فأصبح الناس سواسية في هذه الحياة لا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح النافع للبلاد والعباد، لا زال هو المنهج الوحيد الذي يكرم الإنسانية، ويحفظها من شوائب الظلم والطغيان، لم يرق إليه أي منهج من مناهج الناس الكثيرة بعدما تقدم العلم وصال الفكر في مجال العلوم
ومعارف الدين الذي جئت به- يا حبيب الله- ظهر على جميع الأديان كلها قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (سورة الفتح)
…
هذا الدين حق، وإن ارتاب فيه المبطلون، وعارضه المكذبون وكفى بالله شهيدا على استقامته، وما دام هناك تأييد الله لهذا الدين فلا بد أن يسود
…
تجلت عناية الله بهذا الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه فبعث إليه رسوله الكريم على حين فترة من الرسل بالإسلام الذي هو خلاصة الأديان المنزلة من قبله، فأنقذ صلى الله عليه وآله وسلم العالم مما كان يتخبط فيه من الجهالة والحيرة والشرك والضلال بعد تضحيات جسام فحقق له ما كان ينشده من إيمان بالله وعبادته وحده، وعدل ومساواة بين الناس، وكرامة وحرية وإخاء
…
بهذه الرسالة كان المبعوث رحمة للعالين، بهذه الرسالة إلتقت السماء مع الأرض، والروح مع المادة، بهذا الرسول الكريم كان خاتما للرسالات السماوية، وإيذانا بالوحدة البشرية، الوحدة الشاملة التي لا تفرق بين أبيض وأسود، الناس كلهم لآدم وآدم من تراب
…
لما تمت النعمة وكمل الدين، وبلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رسالة ربه أحس بقرب أجله وخروجه من الدنيا ذكر الفقراء، وكان طول حياته لا يرغب في المال، وكان كلما جمع منه شيئا أنفقه في الصدقات، وقد أعطى لعائشة رضي الله عنها يسيرا من المال لتحفظه فلما حضره المرض أمر بإنفاقه على المعوزين لساعته وغاب في سنة، ولما أفاق سألها إن كانت أنفذت أمره، فأجابته بـ:"لا"، فأمر بالنقود إلى العائلات المعوزات فوزعت عليهم، "عندها استراح صلى الله عليه وسلم لأنه كان يخشى أن يلاقي ربه وقد ترك في بيته مالا لم ينفقه على عباد الله" ..
وكان في مرضه يخرج كل يوم ليصلي بالناس، وآخر يوم خرج فيه، وهو متكيء على الفضل بن عباس، وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقصد منبر الخطابة الذي كان يعظ عليه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب في المسلمين بصوت رفيع سمعه من كان خارج المسجد فقال:"أيها الناس تسمعون قولي إن كنت ضربت أحدكم على ظهره فدونه ظهري فليضربه، وإن كنت أسأت سمعة أحد فليتهم من سمعتي وإن كنت سلبت أحدا ماله فإليه مالي يقتص منه، وهو في حل من غضبي، فإن الغل بعيد عن قلبي، ثم نزل على المنبر وصلى بالجماعة، ثم دعا لشهداء البقيع ولمن حارب معه، وطلب الرحمة والغفران، وكان مشهد النبي في ذلك اليوم مشهد إجلال ووقار، وكان أبو بكر رضي الله عنه يبكي ويقول: هلا افيتدينا روحك بأرواحنا"، ثم أوصله الصحابة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، واضطجع تعبا مهزولا، وبدأ المرض يشتد عليه، فتخلف عن الصلاة، قيل له قد جاء وقت الظهر، فأشار إلى أبي بكر ليصلي بالناس، وأخبرت عائشة عن حالة احتضاره، فقالت كان رأس رسول الله مسندا إلى صدري وبقربه قدر ماء يقوم ليضع فيها يده، ويمسح جبينه ويقول:"رب أغني على تحمل سكرات الموت أدن مني يا جبريل رب اغفر لي، واجمع بيني وبين أصدقائي في السماء"، ثم ثقلت رأسه، ومال ثانية إلى صدري، والتحقحت روحه الطاهرة بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم.