الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقام المراقبة
مقام المراقبة وهو مقام شريف قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} هذا المقام أصله علم وحال ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد أن الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله. ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال فهو ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذا الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المهاصي، والجد في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقربين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذى الجلال، إلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(1) فقوله أن تعبد الله كأنك تراه إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المراقبة الموجبة للتعظيم. كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه إن لم تكن من أهل التقوى والعفاف بحيث تراقب الله في كل عمل هو لك، فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى: رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزوان عليه، فنزل إلى المقام الآخر، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتحقق فيها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة، فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة، أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد لنفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله حمد الله، وأن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة عاقب النفس عقابا يزجرها عن العودة إلى
(1) مسلم عن عمر- أحمد في مسنده والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة- صحيح-
مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى
…
التوكل: هو الاعتماد على الله. قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات لوجهين: أحدهما قوله إن الله يحب المتوكلين، والآخر الضمان الذي في قوله: ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وقد يكون واجبا لقوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعله شرطا في الإيمان، والظاهر قوله جل جلاله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب: الأولى أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه، والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلا إليها، والثالثة: أن يكون مع ربه، كالميت بين يدي الغاسل قد أسلم نفسه إليه بالكلية. فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار بخلاف صاحب الثالثة، وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخالص الذي في قوله عز وجل:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها أنه لا ثاني له، فهو نفي للعدد، والآخر أنه لا شريك له، والثالث أنه لا يتبعض، ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله: لا إله إلا هو
…
وأعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات: الأولى توحيد عامة المسلمين، وهو الذي يعصم النفس من الهلاك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة، وهو نفي الشركاء، والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد، الدرجة الثانية توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويعلم يقينا أن الكون قائم بعلمه سائر بمشيئته واقع تحت رحمته
…
وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الإنقطاع الى الله والتوكل
عليه وحده، وإطراح جميع الخلق في قبضة القهر، ليس بيدهم شيء من الأمر، الدرجة الثالثة، ألا يرى في الوجود إلا الله وحده، فيغيب النظر عن المخلوقات حتى كأنها عنده معدومة، وهذه الذي تسميه الصوفية مقام الغناء بمعنى الغيبة عن الخلق، حتى أنه قد يغني عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله، وهذه درجة مرفوضة لأنه لا يوجد- ولا يمكن أن يوجد- من هو أكثر توحيدا وأعمق إيمانا وأشد إخلاصا لله من محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يغب ولم يستغرق! فإن قيل هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟
فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام: أحدها: سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى، فهذا لا يجوز تركه كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد. والثاني سبب مظنون كالتجارة وطلب المعاش وشبه ذلك، فهذا لا يقدم فعله في التوكل، لأن التوكل من أعمال القلب لا من أعمال البدن ويجوز تركه لمن قوى عليه. والثالث سبب موهوم بعيد، فهذا يقدم فعله في التوكل ثم ان فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن التوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى
…
التوبة: قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذا الجلال، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبدا، ومهما قضى عليه بالعودة أحدث عزما مجددا. وآدابها ثلاثة: الإعتراف بالذنب مقرونا بالإنكسار، والإكثار من التضرع والإستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات، ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات،
وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المراقبة (1) عن الغفلات، والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة المحبوب، ومراقبة الرقيب القريب، وتعظيم بالمقام، وشكر الأنعام
…
الخوف من الله والرجاء: جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا كما قال تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله، وشدة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله، وعظيم ثوابه قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث:"لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا"(2) إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات، وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى (3) " واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن، ولا في الظاهر، فوجود هذا الخوف كالعدم، والثانية أن يكون قويا: فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، الثالثة أن يشتد حتى يبلغ الى القنوط واليأس، وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث درجات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث مقامات: الأولى رجاء رحمة
(1) المؤمن لا يغفل عن عبادة الله لأن أعماله كلها مرتبطة بالعبادة، فعمله بيديه لتحصيل الرزق الحلال لا يقل درجة عن صلاته وزكاته ولذلك فهذه التقسيمات مبتدعة من متأخري الصوفية.
(2)
قال ابن تيمية- هذا مأثور عن بعض السلف وهو عام صحيح.
(3)
رواه: أحمد في مسنده- مسلم- وأبو داود- وابن ماجه- عن جابر وهو صحيح
الله مع التسبب فيها بفعل طاعة أو ترك معصية، فهذا هو الرجاء المحمود، والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور .. والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رجاء رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .