الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم بقلم: أ. د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ (الأمِيْنِ العَامِّ لِرَابِطَةِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ)
الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا المصطفى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن الصلة بين الأقطار الإسلامية المتباعدة، لم تكن في الأزمنة الغابرة بشيء من الأسباب أشدَّ قوة، ولا أمتنَ، منها بحبل العلم وأهله؛ فقد كانت الأبصار ترصد في المسالك إلى الأمصار، ورثة الأنبياء يتجشمون وعثاء الأسفار، مستعذبيها في سبيل ما يطلبون من فنون علوم الشريعة الشريفة، وما يرجون من مُشامّة الشيوخ ولُقي الأكابر للأخذ عنهم، ووصل إسناد العلم بهم:
تَهُونُ علينا فِي المَعَالِي نُفُوسُنا
…
ومَن خَطَبَ الحَسْنَاءَ لَمْ يُغْلها المَهْرُ
وبعضهم رحل بعد ما تضلع مما في بلده وتشيخ، فكانت رحلته للاطلاع والاستزادة وإفادة غيره بما عنده، كما حصل بين القاضي أبي الوليد الباجي والخطيب البغدادي في بغداد، إذ تدبجا برواية كل منهما عن صاحبه ما ليس عنده.
وكانت الكتب ترحل من بلدان مصنفيها إلى أقطار بعيدة في مدد زمنية قصيرة، مما يدل على شدة الحرص عليها، والتلهف لاقتنائها، وما أكثر ما نجد في تراجم
الأعلام، أن فلانًا أول من أدخل كتاب فلان إلى البلد الفلاني. وإن الحرمين الشريفين بما خصهما اللَّه تعالى به من عبادة الحج والعمرة، وتضاعف الصلاة وفضل السكنى والمجاورة، صارا مجمعًا للعلم تجبى إليه الكتب والمصنفات من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، ويلتقي فيه وعاة العلم ورواته من كل مشرق ومغرب، فيحصل بذلك من النفع والفوائد العلمية ما يتجافى عن الحصر، مما صورته كتب أثبات الأسانيد العلمية، والرحلات، والتواريخ، وتراجم أعلام الحرمين الشريفين من أهلهما والطارئين عليهما.
وبهذا الحبل المكي والمدني، الواصل بين أعلام العالم الإسلامي، اتصل بعض علماء شبه القارة الهندية، فاستفادوا من علماء الحرمين الشريفين ثم عادوا إلى بلادهم فأفادوا. ومن أبرزهم نجمان ساطعان دهلويان، بزغ أحدهما في القرن الحادي عشر، وهو عبد الحق بن سيف الدين بن سعد اللَّه البخاري الدهلوي (ت: 1052 هـ)، وبزغ الآخر في القرن الذي بعده، وهو أحمد بن عبد الرحيم العمري الدهلوي، المشهور بشاه ولي اللَّه (ت: 1176 هـ).
وقد كان لهذين الرجلين رحمهما اللَّه فضل كبير على أهل الهند، في تجديد علوم الشريعة ولا سيما في علوم الحديث التي كان الناس قد عزفوا عن الاشتغال بها، دهرًا طويلًا، وأولعوا بالعلوم العقلية والوضعية.
ولئن كان للشيخ عبد الحق فضل السبق بحكم التقدم الزمني، حيث كان أول من نشر علم الحديث بأرض الهند تصنيفًا وتدريسًا، كما وصفه صاحب نزهة الخواطر في ترجمته، فإن للعلامة شاه ولي اللَّه شهرة لا تدانيها شهرة أحد من أهل تلك الديار، قبله ولا بعده إلى عهدنا هذا، تقررت له من جهة سعة علمه وتبحره في الكثير من الفنون، وتميزه بإعمال آلة الاجتهاد التي أظهرت إبداعًا واضحًا في مصنفاته، وفي آثاره التي تمثلت في كثرة كتبه ونجابة تلاميذه؛ فإن عددًا كبيرًا من أعلام الهند من
بعده من رجال العلم والدعوة والإصلاح، يرتبطون بولي اللَّه وأسرته التي كانت منارة علم وصلاح إلى عهد قريب.
والذي يلفت النظر في السيرة العلمية لهذين العالمين، ذلك الجزء الذي يتصل منها برحلتهما إلى الحرمين الشريفين، لأداء الحج والمجاورة حينًا من الدهر في طلب العلم. فقد كان لتلك الرحلة وذلك التتلمذ أثر بارز في صقل الموهبة العلمية لديهما، والتضلع من العلوم النقلية الأثرية، وفي مقدمتها علوم السنة والحديث التي كان الاهتمام بها بين أهل الهند، ضئيلًا إلى ذلك العهد، فقد كاد الناس يقتصرون منها على الكتاب الجامع للسنن في الترغيب والترهيب والأحكام، الذي انتخبه من دواوين السنة المشهورة، محيي السنة الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 510 هـ) وسماه (مصابيح السنن) ثم جاء ولي الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه، الشهير بالخطيب التبريزي (ت: 741 هـ) فأتم ما أغفله البغوي من عزو كل حديث لمخرجه وتسمية الصحابي الذي رواه، وسمى كتابه (مشكاة المصابيح).
وقد اتخذ الناس المشكاة إمامًا في الحديث، يحفظه الطلاب، ويقرر عليهم في المدارس، ويشرح للناس في حلق الدروس.
ولما كانت كتب السنة بحاجة إلى شروح تستخرج كنوزها، وتفسر غريب ألفاظها، وتجلي إشكالاتها المختلفة، وتكشف عن وجه دلالتها على السنن والأحكام التي استنبطها منها الفقهاء، فقد انتدب لشرح هذا الكتاب الجليل جماعة من الأفذاذ، فشرحوه شروحًا تنوعت بين الإيجاز والإسهاب، بعضها باللغة العربية وبعضها بالفارسية التي كانت سائدة في بعض الأقطار الهندية وما يتاخمها، على عهد الدولة المغولية.
ومن أشهر تلك الشروح، الشرح الذي ألفه شرف الدين الحسين بن محمد الطِّيبي (ت: 743 هـ) شيخ التبريزي صاحب المشكاة، فقد بلغ من الأهمية بحيث اعتمد
عليه كثير من شراح كتب السنن الذين جاءوا من بعده، سواء في شرح هذا الكتاب كالشيخ ملا علي القاري الهروي ثم المكي (ت: 1014 هـ) أو غيره من دواوين السنة، كصاحب (عون المعبود)، وصاحب (تحفة الأحوذي)، بل أفاد منه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وهو الذي وصف مؤلفه في ترجمته من الدرر الكامنة، بأنه كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنة، كريمًا متواضعًا حسن المعتقد شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، مظهرًا فضائحهم مع استيلائهم في بلاد المسلمين حينئذ.
ومن شروح المشكاة هذا الذي بين أيدينا، للشيخ عبد الحق الدهلوي السالف الذكر، سماه لمعات التنقيح، وكان قبل ذلك في أثناء اشتغاله بكتاب المشكاة وضع عليه تعاليق باللغة الفارسية، حتى تم له منها شرح كامل في أربعة أسفار سماه (أشعة اللمعات)، انتخب منه الشيخ محمد قلي الدهلوي (ت: 1073 هـ) زبدة فوائده ونوادره، وأودعها في كتابه (سراج المشكاة)، ولخصه الشيخ أمين الدين بن غياث الدين محمود العمري الحنفي الجونبوري، في كتابه (المقتنيات).
ثم سنحت له سانحة أن يصنع صنيعًا شبيهًا بسالفه، يكون بالعربية، فبلغه اللَّه مأموله، وفتح له فيه من التحقيقات والتدقيقات العلمية، فوق ما فتح له في صنوه الفارسي، وهو أكبر كتبه وأحظاها عنده؛ قال عنه في دفتر مصنفاته المسمى (تأليف القلب الأليف بكتابة فهرست التواليف): وقد جاء -بتوفيق اللَّه وتأييده- كتابًا حافلًا شاملًا مفيدًا نافعًا، في شرح الأحاديث النبوية، على مُصدِرها الصلاةُ والتحية، مشتملة على تحقيقات مفيدة، وتدقيقات بديعة، وفوائد شريفة، ونِكات لطيفة.
وقد اعتنى أهل الهند بالشرح الفارسي أيما اعتناء، لكونه أخصر وأسهل عبارة وأقرب تناولًا، ولما ظهرت الطباعة طبعوه مرارًا. وأما الشرح العربي فلم يبلغ في الانتشار مبلغ صنوه، بل بقي تداوله مقتصرًا على ذوي الهمم في البحث والولوع باقتناء
الكتب، ولهذا السبب ظل بعيدًا عن القراء العرب، إذ لم يجد يدًا تمتد إلى طباعته في العالم العربي ونشره بينهم، حتى تنبه لذلك رئيس ندوة العلماء الحالي، سماحة الشيخ محمد الرابع الندوي -حفظه اللَّه- فأشار على أخينا الفاضل العالم المحقق الدكتور تقي الدين الندوي، أن يضطلع بهذه المهمة، فأجابه -وهو ابنُ بَجْدَتِها وأبو عُذرَتِها- وعكف على خدمة الكتاب بضع سنين، حتى أخرجه في عشرة أسفار، مضبوطًا في نصه، موشى في حواشيه بتوثيقات وتعليقات رافدة، كدأبه فيما سلف له من الكتب التي خدمها، وقدم له بمقدمة حافلة عن المؤلف وأصل الكتاب وشرحه، وختمه بفهارس متنوعة تكون مفاتيح لما انطوى عليه من معلومات. فالتحق هذا الكتاب بسوالفه المطبوعة قديمًا كشرح القاري المسمى (مرقاة المفاتيح)، أو حديثًا كشرح الطيبي المسمى (الكاشف عن حقائق السنن)، وشرح أبي الحسن المباركفوري (ت: 1414 هـ) المسمى (مرعاة المفاتيح).
رحم اللَّه البغوي في تأليف كتابه (المصابيح)، والتبريزي في تكميله، والشيخ عبد الحق الدهلوي في شرحه، وغيره من شراحه، وبارك في عمر الدكتور الندوي وأجزل له المثوبة فيما بذل من جهد في إخراج هذا الكتاب بهذه الصورة المتقنة. والحمد للَّه رب العالمين.
أ. د. عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
مكة المكرمة في 27/ 09/ 1435 هـ
* * *