المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الأول: - لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبد الحق الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌تقديم بقلم: أ. د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ (الأمِيْنِ العَامِّ لِرَابِطَةِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ)

- ‌تَقْدِيْمٌ بِقَلَمِ: سَمَاحَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الرَّابِعِ الحَسَنِيِّ النَّدْوِيِّ رَئِيْسِ نَدْوَةِ العُلَمَاءِ بِالهِنْدِ

- ‌تَقدِيْمٌ بِقَلَمِ: أ. د. موَفَّقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ القَادِرِ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ - جَامِعَةُ أُمِّ القُرَى

- ‌تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ: فَضِيلَةِ الأُسْتَاذِ المُحَدِّثِ الفَقِيْهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد تَقِي العُثْمَانِيِّ شَيْخِ الحَدِيثِ بِجَامِعَةِ دَارِ العُلُومِ كراتشي في باكستان

- ‌مُقَدِّمَةُ المُحَقّقْ

- ‌عَمَلي في هَذا الكِتَاب

- ‌تَرْجَمَةُ الإمَامِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الحَقِّ البُخَارِيِّ الدِّهْلَوِيِّ

- ‌ كيف دخل الإسلام الهند:

- ‌ علم الحديث في القرن العاشر الهجري:

- ‌ اسمه ولقبه وأسرته ومولده ونشأته:

- ‌ تدريسه قبل سفره إلى الحجاز:

- ‌ ارتحاله لطلب العلم:

- ‌ ارتحاله إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ عودة الشيخ المحدث من الحجاز إلى الهند:

- ‌ منهج الشيخ المحدث في الدعوة في هذه الظروف:

- ‌ شيوخه:

- ‌ اختيار الشيخ المحدث إسنادًا خاصًّا لرواية الحديث:

- ‌ اعتراف شيوخه برسوخه في العلم:

- ‌ الفرق بين منهج المحدث عبد الحق الدهلوي وبين منهج الإمام ولي اللَّه الدهلوي:

- ‌ وصايا الشيخ عبد الوهاب للشيخ المحدث:

- ‌ وصايا الشيخ أبي المعالي للشيخ المحدث:

- ‌ استكمال التربية والسلوك من الشيخ الكبير عبد الباقي النقشبندي المعروف بخواجه باقي باللَّه:

- ‌ الشيخ المحدث وعلاقته بالربانية:

- ‌ البركة في أعمال الشيخ المحدث:

- ‌ الشيخ المحدث بين التصنيف والتأليف:

- ‌ الشيخ المحدث ومآثره:

- ‌ علاقة الشيخ المحدث مع الإمام السرهندي:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ خلفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ وصول إسناده إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ مؤلفاته

- ‌ أشعة اللمعات في شرح المشكاة:

- ‌ لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح:

- ‌ مصابيح السنة:

- ‌تَرْجَمَةُ صَاحِبِ المِشْكَاةِ

- ‌ مشكاة المصابيح:

- ‌ عدد أحاديثه:

- ‌ وصف النسخ المخطوطة:

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌ النسخة الرابعة:

- ‌ النسخة الخامسة:

- ‌ النسخة السادسة:

- ‌صور المخطوطات

- ‌مُقَدِّمَةُ اللّمَعَات

- ‌مُقَدِّمَةٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ مُصْطَلَحَاتِ عِلْمِ الحدِيثِ مِمَّا يَكْفِيْ فِي شَرْحِ الكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيْلٍ وإِطْنَابٍ

- ‌[تَعْرِيف الحَدِيث]:

- ‌[الْمَرْفُوع]:

- ‌[الْمَوْقُوف]:

- ‌[الْمَقْطُوع]:

- ‌[الحَدِيث والأثر]:

- ‌[الْخَبَر والحَدِيث]:

- ‌[الرّفْع قِسْمَانِ صَرِيح وحكمي]:

- ‌[القولي الصَّرِيح]:

- ‌[الفِعْلِيّ الصَّرِيح]:

- ‌[التقريري الصَّرِيح]:

- ‌[القولي الْحكمِي]:

- ‌[الْفعْلِيّ الْحكمِي]:

- ‌[التقريري الْحكمِي]:

- ‌فصل

- ‌[السَّنَد]:

- ‌[الإِسْنَاد]:

- ‌ المتن

- ‌[الْمُتَّصِل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[الْمُعَلق]:

- ‌[تعليقات البُخَارِيّ]:

- ‌[حكم التَّعْلِيق بِصِيغَة الْمَعْلُوم والمجهول]:

- ‌[الْمُرْسل]:

- ‌[حكم الْمُرْسل]:

- ‌[المعضل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[طَرِيق معرفَة الانْقِطَاع]:

- ‌[المدلس]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس اصْطِلاحًا]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس لُغَة]:

- ‌[وَجه التَّسْمِيَة بِهِ]:

- ‌[حكم المدلِّس]:

- ‌[حكم التَّدْلِيس]:

- ‌[حكم رِوَايَة المدلس]:

- ‌[أَسبَاب التَّدْلِيس]:

- ‌[تَدْلِيس الأكابر]:

- ‌[المضطرب]:

- ‌[حكم المضطرب من الرِّوَايَات]:

- ‌[المدرج]:

- ‌ تَنْبِيه:

- ‌[الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى]:

- ‌[رِوَايَة اللَّفْظ أولى]:

- ‌[العنعنة]:

- ‌[المعنعَن]:

- ‌[شُرُوط العنعنة]:

- ‌[الْمسند]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌المنكر

- ‌[الشاذ لُغَة]:

- ‌[الشاذ اصْطِلَاحًا]:

- ‌[الْمَعْرُوف]:

- ‌[حكم الْمَعْرُوف وَالْمُنكر والشاذ وَالْمَحْفُوظ]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للشاذ]:

- ‌[تَعْرِيف ثَالِث للشاذ]:

- ‌[الْمُعَلل]:

- ‌[المتابع]:

- ‌[فَائِدَة الْمُتَابَعَة]:

- ‌[دَرَجَات الْمُتَابَعَة]:

- ‌[مَتى يسْتَعْمل "مثله" و"نحوه

- ‌[شَرط الْمُتَابَعَة]:

- ‌[الشَّاهِد]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للمتابع وَالشَّاهِد]:

- ‌[الاعْتِبَار]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌الصحيح

- ‌[الصَّحِيح لذاته]:

- ‌[الصَّحِيح لغيره]:

- ‌[الْحسن لذاته]:

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[الْحسن لغيره]:

- ‌[النُّقْصَان المُعْتَبر فِي الْحسن]:

- ‌[الْعَدَالَة]:

- ‌ التقوى

- ‌المروءة

- ‌[عدل الرِّوَايَة أَعم من عدل الشَّهَادَة]:

- ‌[الضَّبْط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بِالْعَدَالَةِ]:

- ‌[1 - الْكَذِب]:

- ‌[الْمَوْضُوع]:

- ‌[حكم متعمد الْكَذِب]:

- ‌[المُرَاد بالموضوع]:

- ‌[مَسْأَلَة الحكم بِالْوَضْعِ ظنية]:

- ‌[2 - اتهام الرَّاوِي بِالْكَذِبِ]:

- ‌[الْمَتْرُوك]:

- ‌[حكم الْمُتَّهم بِالْكَذِبِ]:

- ‌[حكم من يكذب نَادرًا]:

- ‌[3 - الْفسق]:

- ‌[4 - جَهَالَة الرَّاوِي]:

- ‌[حكم الْمُبْهم]:

- ‌[5 - الْبِدْعَة]:

- ‌[حكم حَدِيث المبتدع]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بالضبط]:

- ‌[1 - و 2 - فرط الْغَفْلَة وَكَثْرَة الْغَلَط]:

- ‌[3 - مُخَالفَة الثِّقَات]:

- ‌[4 - الْوَهم]:

- ‌[غموض علم الْعلَّة ودقته]:

- ‌[5 - سوء الْحِفْظ]:

- ‌[حكم سيئ الحِفْظ]:

- ‌[الْمُخْتَلِط]:

- ‌[حكم الْمُخْتَلط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْغَرِيب]:

- ‌[الْعَزِيز]:

- ‌[الْمَشْهُور]:

- ‌[الْمُتَوَاتر]:

- ‌[الْفَرد]:

- ‌[الْفَرد النسبي]:

- ‌[الْفَرد الْمُطلق]:

- ‌[المُرَاد بِكَوْن الرَّاوِي اثْنَيْنِ أَو أَكثر]:

- ‌[لَا تنَافِي بَين الغرابة وَالصِّحَّة]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[مَرَاتِب الصَّحِيح وَالْحسن]:

- ‌[أصح الأَسَانِيد]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[اصْطِلَاحَات التِّرْمِذِيّ]:

- ‌[إِشْكَال اجْتِمَاع الغرابة وَالْحسن]:

- ‌[جَوَاب الإِشْكَال]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الاحْتِجَاج بِالصَّحِيحِ وَالْحسن]:

- ‌[الاحْتِجَاج بالضعيف]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[صَحِيح البُخَارِيّ أَعلَى الصِّحَاح]:

- ‌[وَجه تَرْجِيح صَحِيح مُسلم عِنْد بعض المغاربة]:

- ‌[الْمُتَّفق عَلَيْهِ]:

- ‌[عدد الأَحَادِيث الْمُتَّفق عَلَيهَا]:

- ‌[دَرَجَات الصِّحَاح]:

- ‌[معنى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[البُخَارِيّ وَمُسلم لم يستوعبا الصِّحَاح]:

- ‌[مُسْتَدْرك الْحَاكِم]:

- ‌[صَحِيح ابْن خُزَيْمَة]:

- ‌[صَحِيح ابْن حبَان]:

- ‌[صَحِيح الْحَاكِم (الْمُسْتَدْرك)]:

- ‌[المختارة للمقدسي]:

- ‌[صِحَاح أُخْرَى]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْكتب السِّتَّة]:

- ‌[أَحَادِيث الْكتب الأَرْبَعَة]:

- ‌[اصْطِلَاح الْبَغَوِيّ]:

- ‌[كتاب الدَّارمِيّ]:

- ‌[مصَادر السُّيُوطِيّ فِي جمع الْجَوَامِع]:

- ‌[جمَاعَة من الأَئِمَّة المتقنين]:

- ‌مُقَدِّمَةُ المِشْكَاةِ

- ‌1 - كتاب الإيمان

- ‌ الفصل الأول:

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌1 - باب الكبائر وعلامات النفاق

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّل:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب الوسوسة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب الإيمان بالقدر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب إثبات عذاب القبر

- ‌ الْفَصْل الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌(2) كِتَابُ العِلْمِ

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

الفصل: ‌ الفصل الأول:

*‌

‌ الفصل الأول:

2 -

[1] عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: . . . .

ــ

وليس المعاند بهذه الصفة.

فإن قلت: إنهم يعتبرون الإذعان والقبول في التصديق المنطقي أيضًا، كما وقع في عبارات المنطقيين، فما الزائد عليه المعتبر في التصديق الإيماني؟ .

قلت: الإذعان المعتبر في التصديق المنطقي وهو بمعنى رجحان جانب الإيقاع أو الانتزاع الذي يخرج به الذهن عن حالة التردد والتساوي، ولذا قالوا: أقل مراتب التصديق الظن والرجحان، والإذعان المعتبر في التصديق الإيماني بمعنى آخر يعبر عنه بالتسليم والانقياد والتثبت الحاصل لغير المعاند، فالحاصل أن التصديق الإيماني هو التصديق المنطقي مع زيادة قيد الاختيار والتسليم، هذا هو الكلام المحرر المنقّح عند أهل التحقيق (1)، فافهم، وباللَّه الاستعانة، ومنه التوفيق.

الفصل الأول

2 -

[1] قوله: (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه) اعلم أن المؤلف كما بدأ الكتاب بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) الذي مبنى جميع الطاعات وأصل الأعمال، بدأ كتاب الإيمان بحديث جبرئيل الذي يسمّى أمّ السنة وأمّ الأحاديث وأمّ الجوامع؛ لكونه مضمَّنًا لجميع أحكام السنة وجميع العلوم الذي تتضمنه الأحاديث، كما تسمّى فاتحة الكتاب بأم القرآن؛ لاشتماله على جميع مقاصده (2)، واتفق العلماء على صحة هذا الحديث،

(1) انظر: "فتح الملهم"(1/ 301 - 320) فيه بحث دقيق ولطيف حول هذا الموضوع.

(2)

أي: عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيةِ وَالْحِكَمِ الْفُرْقَانِيَّةِ بِالدَّلَالَاتِ الإِجْمَالِيَّةِ، فَحَدِيثُ:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالْحَمْدَلَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ، =

ص: 195

يْنَمَا نَحْنُ. . . .

ــ

ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث بطرق مختلفة من الصحابة، وأورده المؤلف عن عمر بن الخطاب من رواية مسلم، وهو من أفراده؛ لأن البخاري لم يخرجه عن عمر، وإنما أخرج هو ومسلم عن أبي هريرة نحوه.

وقوله: (بينما)(1) اعلم أن (بين) لازم الإضافة، والأصل فيها الإضافة إلى المفرد، لكنها مع (ما) الكافة، أو ألف الإشباع تكون مضافة إلى الجملة، فعلية كانت أو اسمية، والتخصيص بالاسمية -كما قال الخيالي (2) - محل نظر، إلا أن يكون باعتبار الأكثر، وفيهما معنى المجازاة، فلابد لها من جواب، والجواب قد يكون مع (إذ) و (إذا) للمفاجأة، وقد يكون مجردًا عنهما، فإن كان مجردًا عنهما؛ فهو العامل فيها؛ كقول الشاعر:

وبينا نحن نرقبه أتانا

وإن لم يتجرد؛ فالعامل معنى المفاجأة المفهوم من (إذ) و (إذا) كما في الحديث، ولم يجعلوا الجواب عاملًا على هذا التقدير، لئلا يلزم تقدم ما في صلة المضاف إليه على المضاف؛ لأن (إذ) و (إذا) مضافان إلى الجملة بعدهما.

وقوله: (نحن) الظاهر بل المتعين أن المراد به جماعة من الصحابة، وحمله على

= وَتَنْبِيهٌ نبِيهٌ لِاخْتِيَارِهما فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَمَفْتَتَحِ الأَبْوَابِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 65).

(1)

(بينا) و (بينما) من حروف الابتداء على قول الجمهور، فيقع بعدهما المسند إليه والمسند، وقد يقع بعد (بينا) الفعل، قال الشاعر: فبينا يمشيان جرت عقارب، انظر:"ضوء المشكاة"(1/ 5) مخطوطة.

(2)

هو أحمد بن موسى الخَيَالي، شمس الدين، متكلم فقيه أصولي، كان مدرسًا بالمدرسة السلطانية في بروسة (بتركيا) ثم في أزنيق، له كتب منها:"حاشية على العقائد النسفية"، توفي في حدود (886 هـ). انظر:"معجم المؤلفين"(2/ 187)، و"الأعلام"(1/ 262).

ص: 196

عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ،

ــ

تعظيم المتكلِّم نفسه كما قيل على الاحتمال بعيد وأبعد.

وقوله: (عند) ظرف مكان غير متمكن، ولا يدخل عليها حروف الجر سوى (من)، وهو يعمُّ في الشيء المملوك الحاضر والغائب، بخلاف (لدى)؛ فإنه يختص بالحاضر، ثم اتسع في المملوك وغيره تشبيهًا له بذلك.

وقوله: (ذات (1) يوم) صفة لموصوف مقدر مؤنث؛ كمدة أو نحوها، والإضافة من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم، أي: مدة ذات هذا الاسم؛ أي: يومًا، ونحوه قولهم: ذات مرة، وأما ذات الصدور؛ فبمعنى الأحوال التي فيها؛ أي مضمراتها، ونحوه: ذات بينكم، والبين اسم للحالة التي بين شخصين؛ أي إصلاح أحوال بينكم حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، والمراد بذات اليد ما يملكه الرجل من مال وأثاث، و (ذات) في هذه المواضع مؤنث.

وقوله: (إذ طلع)(2) فيه استعارة تبعية تشبيهًا لظهوره بغتة في أبهة وجلالة بطلوع الشمس والكواكب.

(1) وفي "التقرير": "ذات" زائد، أو لدفع احتمال المجاز من اليوم، وقيل بمعنى الساعة، والغرض كون الواقعة في النهار، انتهى.

(2)

وفي "التقرير": وجه الحديث تقرير الأحكام النازلة متفرّقة، وعدم استطاعة سؤال الصحابة عنه لهيبته عليه الصلاة والسلام، والواقعة كانت سنة (10 هـ)، كما في "تاريخ الخميس"(2/ 147)، ثم قال القاري (1/ 65) عن ابْن حَجَرٍ: إن الْبُخَارِيّ لَمْ يُخْرِجْ حديث عُمَرَ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ.

وقوله: "شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ" فِيهِ إشارة إلى أَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوَانُ الشَّبَابِ؛ لِقُوَّتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَائِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَعَلُّمِ أَدَائِهِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 51).

ص: 197

شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. . . .

ــ

وقوله: (لا يرى) بضم التحتانية على صيغة المجهول في أكثر الروايات، وفي بعضها بفتح النون بصيغة المتكلم المعلوم، والأول أبلغ من الثاني، وفي رواية النسائي (1) عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما:(أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لا يمسها دنس)، وفيه: ندب تنظيف الثياب وتحسين الهيئة بإزالة ما يؤخذ للفطرة، وتطييب الرائحة عند دخول المسجد، وندب ذلك للعلماء والمتعلمين، وندب الثياب البيض لدخول المسجد، بل لكل اجتماع ما عدا العيد إذا كان عنده أرفع منه؛ لأنه يوم زينة وإظهار للنعمة، كذا قال شيخ شيوخنا في الحديث أبن حجر المكي الهيتمي في (شرح الأربعين)(2) للنووي.

وقوله: (ولا يعرفه منا أحد) فيه استغراب حاله بجمعه حالي الحضري والسفري، واستنبط منه الطيبي أنهم ظنوه ملكًا أو جنيًا؛ لأنه لو كان بشرًا لكان إما من المدينة أو غريبًا، ولو كان من المدينة لعرفوه، أو غريبًا لرئي عليه أثر السفر، ويعلم منه أن مجيء جبرئيل في صورة دحية الكلبي كان غالبًا لا دائمًا، وههنا لم يكن في صورته إذ لو كان لعرفوه.

وقوله: (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قيل: (إلى) لانتهاء الغاية، وهو إنما يكون في فعل ممتد كالسير، والجلوس ليس كذلك، فهي ههنا بمعنى (عند) أو (مع)، انتهى. ويمكن أن يضمن الجلوس معنى الميل والانتهاء؛ أي: مائلًا أو منتهيًا إليه صلى الله عليه وسلم كما يفهم

(1)"سنن النسائي"(4991).

(2)

"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 59).

ص: 198

فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. . . .

ــ

من كلام البعض (1).

قوله: (فأسند ركبتيه) صريح في أنه جلس بين يديه دون جانبه، وهي جِلسة المتعلم، لكنه بالغ في القرب جريًا على ما كان بينهما من الأنس والودِّ، وليحصل التمكن من الاستماع والإصغاء، فالضمير الأول للرجل والثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما الضميران في قوله:(ووضع كفيه على فخذيه) فقد اختلفوا فيهما؛ أعني في الأولوية، وأما في الجواز فلا كلام، فقال بعضهم: الضميران معًا راجعان إلى جبرئيل عليه السلام، وهذا هو المناسب لمجيئه إليه صلى الله عليه وسلم وتقربه منه وجلوسه إليه على صورة المتعلمين تأدّبًا معه، وقال بعضهم: الضمير الثاني للرسول كما في قوله: (أسند ركبتيه) لأنه أدخل في التثبيت والتمكين، وجبرئيل ليس متعلمًا إلا في الظاهر، وفي الحقيقة هو المعلّم من جهة اللَّه سبحانه، وقد جاء إسناد تعليمه صلى الله عليه وسلم إليه في قوله تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] على الأرجح من التفسيرين، ولهذا قال في آخر الحديث:(أتاكم يعلمكم دينكم) تنزيلًا للتذكير مقام التعليم، فيمكن أن يكون في أول المجيء قد أظهر هيئة التعلم والطلب، ولما جلس أظهر صورة التعليم والمشيخة، هذا وقد جاء صريحًا في رواية النسائي (2):(حتى وضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم).

وقوله: (وقال: يا محمد)(3) قد يستشكل بحرمة ندائه باسمه صلى الله عليه وسلم، ويجاب بأنه ذلك للصحابة لا للملائكة، والقول بأن هذا قبل النهي عن ذلك لا يخلو عن بعد، فإن

(1) انظر: "المرقاة"(1/ 50).

(2)

"سنن النسائي"(4991).

(3)

هذا بعد السلام والاستئذان كما في رواية الإمام الأعظم، انظر:"مسند أبي حنيفة"(ح: 2).

ص: 199

أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ،

ــ

هذه القضية كان في آخر عهده صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (أخبرني عن الإسلام)(1) وفي رواية الترمذي تقديم السؤال عن الإحسان وإن كان المناسب ذكره بعد الإسلام؛ لكونه بيانًا لكيفية العبادة التي هي الإتيان بأركان الإسلام، والإسلام لغة: الاستسلام والطاعة والانقياد عن طوع ورغبة، وفي الشرع: الانقياد إلى الأعمال الظاهرة كما بينه صلى الله عليه وسلم بالأركان الخمسة، فالإسلام يطلق على ما في الظاهر من التسليم والانقياد والطاعة، والإيمان على ما في الباطن من التصديق والاعتقاد والإذعان، فالإسلام ثمرة الإيمان وفرعه ونتيجته، ويشملهما اسم الدين، ولذلك قال في آخر الحديث:(أتاكم يعلمكم دينكم)، والإحسان يكملهما، وقد جاء الدين بمعنى الإسلام منحصرًا فيه كما في قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والمراد به ههنا الدين المشتمل على الأصول والفروع، قال البيضاوي (2): وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.

ويمكن أن يكون حصر الدين فيه مبالغة واهتمامًا بشأن العمل والتشرع؛ كقولهم: (الحج عرفة)، ثم تكلموا في اتحاد الإيمان والإسلام وتغايرهما، وللإمام الغزالي في

(1) اعلم أنه قدم السؤال عن الإسلام في هذه الرواية، وفي حديث أبي هريرة عند البخاري قدم السؤال عن الإيمان، قال الحافظ (1/ 117): لا شك أن القصة واحدة، واختلفت الرواة في تأديتها، والبغوي ذكر في "المصابيح" السؤال عن الإيمان وجوابه مقدمًا على الإسلام، وهو خلاف ما وقع في حديث عمر عند مسلم وغيره، ففي إيراد الحديث بهذا اللفظ اعتراض فعلي من صاحب "المشكاة" على البغوي في "المصابيح". انظر:"مرقاة المفاتيح"(1/ 53)، و"مرعاة المفاتيح"(1/ 39).

(2)

"تفسير البيضاوي"(1/ 331).

ص: 200

قَالَ: "الإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، . . . .

ــ

(الإحياء)(1/ 116) في ذلك كلام طويل، وقد دل قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] على التغاير مبنيًا على ما ذكرنا من إطلاقهما على المعنيين المذكورين، وقد ذكر في العقائد أن الإيمان والإسلام واحد، بمعنى أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، ولم يجز سلب أحدهما عن الآخر.

واستدلوا بقوله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، ولم يكن هناك إلا بيت واحد، وقوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].

والحق أنه إن كان الإسلام اسمًا للأركان الخمسة فقط، فالإيمان يوجد بدون الإسلام على مذهب أهل السنة من عدم دخول الأعمال في حقيقة الإيمان، أما على قول من لم يجعل الإقرار جزءًا من حقيقته فظاهر، وأما على قول الجمهور القائلين بكون الإقرار جزءًا من حقيقة الإيمان فكذلك، لكون الإسلام عبارة عن مجموع الشهادة التي هي الإقرار والأعمال المذكورة، وكذا الإسلام يوجد بدون الإيمان كما في المنافقين، وإن كان اسما لما يشتمل على التسليم القلبي الذي بمعنى التصديق كما عرفت في تحقيق معنى الإيمان، فهما متصادقان بل مترادفان، والإسلام المعتبر في الدين هو بهذا المعنى، ولهذا حكموا بأن كل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، فتدبر.

وقوله: (الإسلام أن تشهد) ظاهره أنه لابد في الإسلام من لفظ (أشهد)، فلو أسقطها أو قال بدلها (أعلم) لا يكون مسلمًا، والشهادة أخص من العلم؛ لأنها خبر قاطع، فكل شهادة تتضمن العلم دون العكس، وحمل الشهادة في الحديث على العلم غير صحيح؛ لأن المقصود بيان ماهية الإسلام، فلابد أن يكون باللسان، وقد وقع

ص: 201

وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ،

ــ

حديث آخر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا)(1) الحديث، والحق أن المراد القول والإخبار وإن لم يكن بلفظ (أشهد)؛ للإجماع على أن من قال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه فقد أسلم، وقد ورد في الحديث:(من قال: لا إله إلا اللَّه دخل الجنة)(2)، وقد صحت رواية (حتى يقولوا)، وقد اشترط بعض الشافعية لفظ (أشهد) أو ما في معناه كـ (أعلم)، والحق الإطلاق.

وقوله: (وتقيم الصلاة) الروايات الصحيحة المشهورة بنصب (تقيم)، وقد يرفع هذا وما بعده مستأنفة عما قبلها؛ لأنه يكفي في إجراء أحكام الإسلام الشهادتان، والأصوب النصب؛ لأن الانقياد في معنى الإسلام أتم وأكمل في المجموع، فكان الحمل عليه أولى وأنسب، وإن كان أصله حاصلًا في الشهادتين وحدهما، فصار الإسلام مثل الإيمان في أن كمالهما بالأعمال ونقصانهما بتركها.

والمراد بإقامة الصلاة تعديل أركانها، ورعاية شروطها وآدابها، وظاهرها وباطنها، ومحافظة أن يقع فيها زيغ واعوجاج في أفعالها، منْ أَقَامَ العودَ: إذا قوَّمه، أو المواظبة والمداومة عليها، من أقمت السوق: إذا جعلتَها نافقة رائجة، أو الجِدّ في أدائها من غير فتور وتوان، من أقام الأمر: إذا جدّ فيه وتجلّد.

وقال سيدي الشيخ أبو العباس المرسي -قدس اللَّه روحه، وأوصل إلينا فيوضه وفتوحه-: كل موضع ذكرت فيه الصلاة في معرض المدح فإنه إنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال اللَّه سبحانه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ

(1) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (21).

(2)

أخرجه الترمذي (2638)، وابن حبان (151).

ص: 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3]، وقال اللَّه تعالى:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وقال عز وجل:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وقال:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]، ولما ذكر المصلين قال:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]، ولم يقل: للمقيمين الصلاة، والإقامة أنه إذا صلى المؤمن صلاة فتقبلت منه خلق اللَّه تعالى من صلاته صورة في ملكوته راكعة ساجدة إلى يوم القيامة، وثواب ذلك لصاحب الصلاة.

وإقامةُ الصلاة: حفظُ حدودها مع حفظ السر مع اللَّه عز وجل، لا يختلج بسرك سواه.

والصلاة أصلها (صَلَوَةٌ) -بفتحات- مأخوذة من (الصلا)، وهو وسط الظَّهر مِنّا ومن كل ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة (1) والذَّنَبِ، أو ما عَن يمين الذنب وشماله، وهما صلوان، كذا في (القاموس)(2).

وقال في (شرح الأربعين)(3): (الصلا): عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عِرقان، في كل ورك عرق، يقال لهما: الصلوان، فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك، ومنه سمي ثاني خيل السباق مصليًا؛ لأنه يأتي مع صلوي السابق، ثم نقل منه إلى الدعاء تشبيهًا للداعي في تخشعه بالمصلي، كذا قال صاحب (الكشاف)(4)، هو يدل على كونه في معنى الصلاة متقدمًا على معنى الدعاء واصلًا له، وهو محل توقف، ويمكن أن يجعل في كل المعنيين من (الصلا) من غير أن ينقل من

(1) الجاعرة: الاست، أو حلقة الدبر. "القاموس" (ص: 33).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 1198).

(3)

"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 63).

(4)

"الكشاف"(1/ 23).

ص: 203

وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ،

ــ

أحدهما إلى الآخر، وقد ذكرناه في (حاشية البيضاوي)، فتدبر.

وقوله: (وتؤتي الزكاة) الزكاة في اللغة: النماء والتطهير، وفي الشرع: اسم للمخرج من المال إلى الفقراء، سمي بها لأنه يؤخذ من مال نامٍ ببلوغه النصاب الذي مضى عليه الحول، أو لأنه ينمي الأموال بالبركة وحسنات مؤديها بالتكثير، أو لأنه يطهرها من الخبث، ونفس المزكي من رذيلة البخل، ويحتمل اشتقاقه من تزكية الشهود فهو يزكِّيه ويشهد له بصحة إيمانه أو دعوى محبة الحق تعالى.

وقوله: (وتصوم رمضان) مشتق من الرمض محركة: شدّة وقع الشمس على الرمل وغيره، رَمِضَ يومُنًا كفَرِحَ: اشتدّ حرُّه، وقَدَمُه: احترقت من الرمضاء، للأرض الشديدة الحرارة، ورمضان معروف، جمعه رمضانات ورمضانون، سمي به لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر زمن الحر والرمض، أو من رمض الصائم: اشتدّ، كذا في (القاموس)(1)، أو راجِعٌ إلى مَعْنَى الغافِرِ، أي: يَمْحُو الذُّنوبَ ويَمْحَقُها.

ثم اختلفوا في إطلاق رمضان من غير إضافة شهر إليه، فقيل: يكره مطلقًا، وقيل: لا يكره مطلقًا، وقيل: إن دلت قرينة على أن المراد غير اللَّه سبحانه؛ لأنه من أسمائه، ويرد القول بالكراهة مطلقًا ما ورد في الأخبار الصحيحة:(إذا جاء رمضان أو إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة)(2)، وزعم أنه من أسماء اللَّه تعالى غير صحيح، ولم يرو فيه إلا أثر ضعيف، وأسماء اللَّه تعالى توقيفية لا تطلق إلا لخبر صحيح، ولو

(1)"القاموس المحيط"(ص: 594).

(2)

أخرجه مالك (684)، والبخاري (1898، 1899)، ومسلم (1079).

ص: 204

وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا". قَالَ: . . . . .

ــ

صح أيضًا لم تلزمه الكراهة إلا بنهي صريح، ولم يرو، كذا في (شرح الأربعين)(1).

وقوله: (وتحج البيت) أي: تقصده بالوجه المخصوص، وهو للحج عندنا، وللعمرة أيضًا عند الشافعية، إذ هي واجبة عندهم على الصحيح، والبيت اسم جنس غلب على الكعبة، كالكتاب على القرآن المجيد عند الأصوليين، وعلى كتاب سيبويه عند النحاة.

وقوله: (إن استطعت إليه سبيلًا) بأن تجد زادًا وراحلة على الوجه المقرر في الشرع، قال في (شرح الأربعين) (2): وصح عند الحاكم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم فسر بهما السبيل في الآية، وعند مالك: يجب على من قدر على المشي ويندب عند غيره خروجًا من الخلاف، وإنما صرح باشتراط الاستطاعة في الحج دون أخواتها مع أن الاستطاعة (3)، أي: سلامة الأسباب والآلات شرط في سائر العبادات؛ لكون الاستطاعة ههنا أمرًا زائدًا لا يسبق الذهن إليه إلا بذكره، وهو الزاد والراحلة كما بينته السنة، ويدل عليه قوله:(سبيلًا)، فذكرها اهتمامًا بشأنها وشفقة على العباد لئلا يرتكبوا المشاق، وأيضًا ذكرها اتباعًا للنظم القرآني.

وقال في (شرح الأربعين)(4): عدم الاستطاعة في نحو الصلاة والصوم لا يسقط فرضها بالكلية، وإنما يسقط وجوب أدائها بخلافها في الحج، فإن عدمها يسقط وجوبه

(1)"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 64).

(2)

"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 65).

(3)

المراد بالاستطاعة استطاعة الزاد والراحلة مع صحة البدن عند الحنفية، وقال الشافعي بالأول فقط، ومالك بالثاني فقط. كذا في "التقرير"(1/ 37).

(4)

"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 65).

ص: 205

صَدَقْتَ. فَعَحِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،

ــ

بالكلية، فتأمل.

وقوله: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) لأن مقتضى السؤال عدم العلم، ومقتضى التصديق العلم، فإن قيل: قد يصدق الطالب الشيخ إيمانًا به وتسليمًا له فلا يكون دليل العلم؟ قلنا: تصديقه كان على وجه التصويب والتقرير بدلالة المقام، فافهم.

وقوله: (أن تؤمن بالله) الإيمان في اللغة: التصديق مطلقًا، وفي الشرع: التصديق بأمور خاصة، وهي المعلومة من الدين بالضرورة كما مر، فكأنه سأل عن أشياء يصدق بها حتى يحصل الإيمان الشرعي، فأجاب ببيان تلك الأشياء، ففسر الإيمان ببيان متعلقاته، وأصل معنى الإيمان معروف من اللغة، فلا يكون تعريفًا بنفسه كما يوهم، فافهم.

وقوله: (وملائكته) جمع (ملك) على غير القياس، وقيل: جمع (ملأك) على غير القياس مقلوب (مألك)، (مفعل) من الأُلُوكة، وهي الرسالة والسفارة، فخفف بنقل الحركة والحذف فصار ملك، وقيل غير ذلك، وتاؤه لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة، وقد جاء بدون التاء.

وقوله: (وكتبه) قالوا: هي مئة وأربعة، أنزل منها خمسون على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على آدم، وعشرة على إبراهيم، والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن.

وقوله: (ورسله) أي: أنبيائه، فهو مبني على ترادفهما.

وقوله: (واليوم الآخر) وهو من الموت إلى دخول الجنة، والمراد الإيمان به وبما أخبر الشارع بوقوعه فيه، وإنما سمي اليوم الآخر لأنه لا ليل بعده، كذا قيل.

والظاهر أن المراد الزمان، وهو آخر الأزمنة المحدودة.

ص: 206

وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ،

ــ

وقوله: (بالقدر خيره وشره) وفي رواية لمسلم: (بالقدر كله)؛ أي: بأن اللَّه قدر الخير والشر قبل الخلق، وجميع الكائنات بقضائه وقدرته وإرادته، وأن ما قدّره اللَّه لابد من وقوعه، وما لم يقدّره يستحيل وقوعه، قالوا: الإيمان بالقدر على قسمين:

أحدهما: الإيمان بأنه قد سبق في علمه ما يفعله العباد من خير وشر، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.

وثانيهما: أنه تعالى خلق أفعال عباده كلها من خير وشر وكفر وإيمان.

وهذا القسم ينكره القدرية كلهم، والأول لا ينكره إلا غُلاتهم، وكفرهم بإنكاره كثير من العلماء، وهو محل الخلاف حيث لم ينكروا العلم القديم، كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما، كذا ذكره شيخ شيوخنا ابن حجر المكي في (شرح الأربعين)(1)، رحمة اللَّه عليه.

ويؤخذ من هذا الحديث تكفيرهم لجعل القدر من أجزاء المؤمَن به، ويشهد لذلك تبرئة ابن عمر منهم، وخبر:(القدرية مجوس هذه الأمة)(2)، والأشبه عدم التكفير، وتبرئة ابن عمر تغليظ على الابتداع، والحديث غير ثابت، والمسألة آيلة إلى تكفير أهل القبلة من أهل البدعة وعدمِه، والأشبه عدم التكفير فيما ليس معلومًا في الدين بالضرورة، وفيما فيه مجال للشبهة والتأويل، وهو المختار الذي عليه جمهور المتكلمين والفقهاء، واللَّه أعلم.

وقوله: (فأخبرني عن الأحسان) لما بيّن معنى الإسلام والإيمان الذي هو أصل

(1)"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 73).

(2)

أخرجه أبو داود (4691)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 159، رقم: 286).

ص: 207

قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ،

ــ

الدين ومداره أراد أن يكشف عن معنى الإحسان الذي به كمال الدين، وتمامه يرجع إلى الصدق في الإخلاص الذي لا يصح ولا يتم الإيمان والعمل إلا به، وقد كثر في الآيات والأحاديث ذكره؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112]، وقوله تعالى:{ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]، وأمثالها.

وهو إفعال من الحسن، ويستعمل على وجهين: أحدهما: إحسان العمل وإتيانه على وجه الإكمال والإتقان؛ كقولهم: أحسنت كذا وفي كذا، ومنه (إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة. . .) الحديث (1)، وثانيهما: بمعنى الإنعام على الغير؛ كقولهم: أحسنت إلى فلان: إذا فعلت معه ما يحسن فعله، والمراد ههنا الأول؛ إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات وإتيانها على الوجه الأكمل.

وقال الطيبي (2): يجوز أن يحمل الإحسان ههنا أيضًا على الإنعام، وذلك أن العامل المرائي يبطل عمله ويحبط فيظلم على نفسه، فقيل له: أحسن إلى نفسك ولا تشرك باللَّه، واعبد اللَّه كأنك تراه، وإلا فهلكت، انتهى. ولا يخلو هذا عن تكلف.

وقوله: (أن تعبد اللَّه) عبد: أطاع، والتعبد: التنسك، والعبودية: الخضوع والذل.

وقوله: (كأنك تراه) بيّن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الإحسانَ في العبادة على وجهين:

(1) أخرجه مسلم (1955)، وأبو داود (2817)، والترمذي (1409)، والنسائي (4405)، وابن ماجه (3170).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 103).

ص: 208

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: . . . . .

ــ

أحدهما: لمن بلغ غاية مرتبته بحيث كان يرى معبوده ويعاينه سبحانه، وهو مقام المشاهدة، وتلزمه غاية الهيبة والتعظيم والإجلال، والخضوع والخشوع، والحياء والمحبة، والانجذاب والشوق والذوق، والاجتماع بظاهره وباطنه.

وثانيهما: لمن لم ينته إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ورقيب على أحواله، وقد نبّه عليه بقوله:(فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ يعني: إن لم يكن في حضورك بحيث كأنك تراه فَلَاحِظْ رؤيته سبحانه واطلاعه عليك، وهذا حال المراقبة، وهو في اصطلاحهم: ملاحظة العبد نظر اللَّه سبحانه إليه واطلاعه على أحواله الظاهرة والباطنة، وهذا أيضًا يورث الخوف والخشية، والاجتماع في الحركات والسكنات، وضبط الأفعال، ورعاية الأدب في جميع الحالات، وعدم الالتفات يمينًا وشمالًا، كمن قام في حضرة سلطان جبار قهار يراقب أحواله ويشاهد أعماله، يضيق عليه مجال الغفلة وسوء الأدب، لكن المقام الأول أعلى وأرفع، وهو مقام سيّد المرسلين وأكمل العابدين، حيث أشار إليه بقوله:(وجعلت قرة عيني في الصلاة).

وبما قررنا الكلام سقط قول من قال: ينبغي أن يكون الجواب قد انتهى عند قوله: (تراه) الأول وما بعده مستأنف؛ لأن الأول مقدور للعبد؛ لجواز أن يوجد ولا يوجد، والثاني واقع لا محالة لا مدخل لاختيار العبد فيه، فإنه تعالى يرى الكائنات كلها دائمًا، فلا نصيب للعبد في ذلك؛ لأن المطلوب استحضار العبد أنه بين يدي الحق وملاحظته ومراقبته إياه، وهذا مقدور للعبد ومكمل لعبادته، فهو من تتمة الجواب.

ثم اعلم أنه قد لاح على باطن بعض العارفين من الصوفية أنه قد وقف على (تراه) الثانية بإرادة معنى: أنك إذا فنيت عن نفسك فلم تكن شيئًا ولم تر نفسك؛ شاهدت ربك؛ لأنها الحجاب بينك وبين شهود الرب تعالى.

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في (شرح الأربعين)(1): إن المعنى وإن صح إلا أن لفظ الحديث لا ينطبق عليه، فتنزيله عليه جهل من قائله بقواعد العربية وأساليبها.

وقال الشيخ ابن حجر الكبير العسقلاني (2): وأقدم بعض غلاة الصوفية على هذا التأويل بغير علم، وغفل قائله للجهل بالعربية، فإنه لو كان المراد ما زعم؛ لكان قوله:(تراه) محذوف الألف، وإثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يصار إليه، وأيضًا لو كان ما ادعاه صحيحًا لصار قوله:(فإنه يراك) ضائعًا، لأنه لا ارتباط له بما قبله.

قال: ومما يفسد تأويله رواية كهمس فإن لفظها: (فإنك إن لا تراه فإنه يراك)، وكذلك في رواية سليمان، فسلط النفي على الرؤية لا على الكون الذي حمله على ارتكاب التأويل المذكور، وفي رواية أبي فروة:(فإن لم تره فإنه يراك)، وكذلك في حديث أنس وابن عباس، وكل هذا يبطل هذا التأويل، انتهى.

ويمكن أن يقال: إن إثبات الألف في المضارع المجزوم لغة شائعة واردة في كلامهم، وعلى ذلك وردت رواية قنبل عن ابن كثير في قوله تعالى:{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] على وجه، وفي قوله:{مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} ، وقال الشاعر (3):

ألم يأتيك والأنباء تنمي

(1)"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 80).

(2)

"فتح الباري"(1/ 120).

(3)

هو قيس بن زهير، وتمام البيت:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

انظر: "مجمع الأمثال"(ص: 247).

ص: 210

فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا. . . . .

ــ

على أن الجزم في الجزاء فيما كان الشرط ماضيًا غير واجب، والماضي أعمّ من أن يكون لفظًا أو معنى، كما ذكر في النحو.

ويمكن أن يكون ارتباط قوله: (فإنه يراك) لبيان إمكان الرؤية، كما استدل بعض المتكلمين على إمكان رؤيتنا سبحانه برؤيته إيّانا بغير جهة ومكان وخروج شعاع وغيرهما، وإن كان لا يتمّ الاستدلال، ويجوز أن تكون الروايات الأخر بالمعنى بناء على فهم الراوي من معنى الحديث، على أن فهم من فهم من رجال الصوفية ذلك ليس تأويلًا للحديث وبيانًا لمعناه المراد عند علماء العربية، وإنما ذلك شيء يلوح على بواطنهم بغلبة ما فيها من حال المحو والفناء، وليس ذلك إلا من هذا اللفظ الوارد في هذه الرواية، وذلك في الحقيقة من قبيل: ترى، والخيار عشرة بدانق، واللَّه أعلم.

ثم قيل: إن في الحديث دلالة على أن رؤيته تعالى في الدنيا ممكنة عقلًا، لأن (لم) لنفي الممكن؛ كزيد لم يقم، بخلاف الحجر لا يطير، وإمكان الرؤية في الدنيا هو الحق، وإن لم يكن واقعا، انتهى. وفيه: أن المعنى كما يقتضيه السياق: فإن لم تكن كأنك تراه، فالممكن ما في حكم الرؤية دون حقيقتها، فافهم.

وقوله: (فأخبرني عن الساعة) لما بيّن الدين سأل عن القيام؛ لبعثهم على العمل والإخلاص، والمراد السؤال عن وقت قيامها، وإنما سميت ساعة اعتبارًا بأول أزمنتها، أو لأنها تقوم بغتة في ساعة، أو لأنها عند اللَّه على طولها كساعة عند الخلق.

وهي لغةً: قطعة من زمان غير محدودة، وفي اصطلاح أهل الحساب: جزء من أربعة وعشرين جزءًا من الليل والنهار.

وقوله: (ما المسؤول عنها) أي ما الذي سئل عن الساعة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، يقال:

ص: 211

بِأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا،

ــ

سألت الرجل عنه، أي: عن أحواله، والرجل مسؤول، وذلك الشيء مسؤول عنه، ولا يقال للرجل: مسؤول عنه، بل مسؤول أو مسؤول منه، فلا يتوهم ههنا أن الظاهر أن يقال: المسؤول عنه ليرجع الضمير إلى اللام، فتدبر.

وقوله: (بأعلم من السائل) أي: هما سواء في عدم العلم بوقت قيامها، ويمكن أن يراد ما هو المتعارف من هذا التركيب من كون السائل أعلم؛ أعني: لو قدر العلم بها لكان جبريل أعلم؛ لكونه في الملكوت العُلى ناظرًا في اللوح المحفوظ، موكولًا إليه إيحاء العلوم إلى الأنبياء صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

وقوله: (فأخبرني عن أماراتها) المراد علاماتها الصغرى لا الكبرى التي تظهر عند قربها، ويدل على ذلك الجواب.

وقوله: (أن تلد الأمة ربتها) الرب لغة: المالك والسيد، والمدبر والمربي، والمتمم والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على اللَّه إلا نادرًا، والمراد ههنا المولى والسيد أو المالك حكمًا أو حقيقة، والتخصيص بالأنثى إما لشيوع الجهل فيهن، أو للزوم الحكم في الذكور بطريق الأولى، أو بتقدير موصوفها نفسًا أو نسمة، أو للتحاشي عن إطلاق الرب على غيره تعالى، ويدفعه رواية (ربها) بلفظ الذكور، وقد علم إطلاق الرب مضافًا على غير الرب تعالى، وجاء في رواية (بعلها) بمعنى ربها، والبعل قد جاء بمعنى الرب والسيد، منه قوله تعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات: 125] على معناه المشهور على بعض المعاني المذكورة في توجيهه كما ستعرف عند بيانها.

واعلم أنهم ذكروا فيه وجوهًا، فقيل: إن المراد به كثرة السراري بكثرة السبي، فيكون الولد سيدًا ومولًى لأمه بنسبة الأب، إما لأن مال الإنسان صائر إلى ولده بعد

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الموت، أو باعتبار تصرفه فيه بإذنه صريحا أو دلالةً، أو عرفًا وعادةً، أو جعل الولد ربًّا لها لأنه سبب عتقها، فكان كربّها المنعم عليها، أو لأنه لما كثر السبي يمكن أن يكون فيما بينهم من الأولاد من يسبي أمه ويملكها، فإن لم يظهر أنها أمه فيستمر على ذلك، وإن ظهر عتقت عليه فصار معتقها، والمعتق كالرب المنعم، وكونها علامة من جهة وجود الترفه والتنعم والخروج عن دائرة الاعتدال والاقتصاد في المعيشة وأسبابها وآلاتها المفضي إلى الخروج عن انتظام الأحوال والدخول في الفساد والاختلال، أو من جهة أن كثرة الجهاد والقتال موجب لاستيلاء المسلمين على بلاد الكفر، وقوة الإسلام وغلبة أهله وكماله، وإذا تقرر أن لكل كمال زوالًا يكون منذرًا بانتهاء دور الإسلام وانقطاع دولته، وهو علامة قيام القيامة، أو من جهة إساءة أدب الأولاد مع الأمهات وعقوقها (1)، ومعاملتهم معهن معاملة الملاك والسادات، ويمكن أن يتملك الولد بالسبي أو بالشراء ممن سبى أمه فيطأها أو يتزوجها.

فإن قلت: كثرة الجهاد والاستيلاء على بلاد الكفر كان كثيرًا في صدر الإسلام، والظاهر أن علامات القيامة تقع في آخر الزمان، وأن المقصود الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب الساعة؟ قلنا: صدر الإسلام أيضًا كان آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى منه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان، فلو وقع بعض علامات القيامة في

(1) قال الحافظ (1/ 122): أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمّه معاملة السيِّدِ أمتَه من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازًا لذلك، أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة، ومحصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربَّى مربِّيًا والسافلُ عاليًا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: أن تصير الحفاة ملوك الأرض. انتهى.

ص: 213

وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ الْعُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ. . . . .

ــ

ذلك الزمان أيضًا لم يبعد، ولعله يكون الجهاد واستيلاء المسلمين على بلاد الكفار في آخر الزمان أكثر وأكثر، واللَّه أعلم.

وقيل: هذا إخبار بكثرة بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان؛ لفساد أحوال الناس في رعاية الأحكام، واختلاط الحلال والحرام، حتى يشتري الولد بتداول الأيدي أمَّه جاهلًا بأنها أمُّه، فالعلامة من جهة غلبة الجهل الناشئ عنه بيع أمهات الأولاد، وهو ممنوع إجماعًا، ولا اعتبار بقول المخالف، ولو اعُتبر حملُه على البيع في حال حملها، وهو حرام بلا نزاع من أحد، كذا في (فتح الباري)(1).

وقيل: المراد أن الإماء يلدن الملوك والأمراء، فتكون أمهاتهم من جملة الرعايا، ويكونون ملاكًا وسادات بالنسبة إليهن، وهذا أيضًا في آخر الزمان، لا سيما في أثناء دولة بني العباس، والرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبًا عن وطء الإماء ويتنافسون في الحرائر، فتدبر.

وقوله: (أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) الحفاة: جمع حاف بالمهملة، وهو من لا نعل برجله، و (العراة) جمع عار، وهو من لا ثوب على جسده، و (العالة) بتخفيف اللام جمع عائل، من عال: افتقر، و (رعاء) -بكسر أوله وبالمد- جمع راع، ويجمع أيضًا على رعاة بضم أوله، والرعي: الحفظ، يقال: رَعَى الأمر وراعاه: حفظه، والراعي كل من ولي أمر قوم، والشاء: الغنم جمع شاة، وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء، كتمر وتمرة، وفي رواية مسلم:(رعاء البهم) بضم الباء وسكون الهاء وحركتها، جمع بهمة: صغار الضأن والمعز، وقد يختص بالمعز،

(1)"فتح الباري"(1/ 122).

ص: 214

يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". . . . .

ــ

والبهيمة: كل ذات قوائم أربع، والجمع بهائم، وفي رواية البخاري:(رعاء الإبل البهم) جمع الأبهم، وهو الأسود، وهو إما صفة لـ (رعاء)، لأن الأدمة غالب ألوان العرب، أو المراد مجهول الأنساب، وقيل: الذي لا شيء لهم، كذا قال السيوطي، أو صفة الإبل، والسواد شر ألوان الإبل، وخيرها الحمر التي يضرب بها المثل، فيقال:(خير من حمر النعم)، ورواية:(رعاء الشاء) أنسب بالسياق من رواية (رعاء الإبل) وأبلغ؛ لأنهم أصحاب ثروة وخيلاء، وليسوا عالة بالنسبة إلى رعاء الشاء، وإن كانوا بالنسبة إلى الملوك والأمراء فقراء ضعفاء، والجمع بين الروايتين أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، فحفظ راوٍ أحدَهما والآخرُ الآخرَ، واللَّه أعلم.

وقوله: (يتطاولون في البنيان) أي: يبنون الدور والقصور المرتفعة، ويتفاخرون ويتكبرون بها، وهو مفعول ثان لقوله:(ترى) إن كانت الرؤية بمعنى العلم، أو حال إن كانت بصرية (1)، وقد يجعل المفعول قوله:(رعاء الشاء) بمعنى الملوك؛ لأنه قد تجعل الكناية عن ذلك، ويستأنس بصحة هذا المعنى مما ذكر في رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وحاصله: أن الفقراء والأذلاء يصيرون أغنياء وأعزةً وملوكًا، ويصير ذلك سببًا لاختلال أمور الدنيا والدين وهدم أركانهما، فذلك من أمارات الساعة، وقد صح:(لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع)(2) أي لئيم بن لئيم، وصح أيضًا (من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار)(3)، قيل: فيه دليل كراهة تطويل

(1) قال القاري (1/ 64): هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ جَعَلْتَ الرُّؤْيَةَ فِعْلَ الْبَصِيرَةِ، أَوْ حَالٌ إِنْ جَعَلْتَهَا فِعْلَ الْبَاصِرَةِ.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 389).

(3)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 597، رقم: 8661)، والدارمي (476).

ص: 215

قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي:"يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ"؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ". . . . .

ــ

البناء، وفي شرح الشيخ: في إطلاقه نظر، بل الوجه تقييد الكراهة إن سلمت بما لا تدعو الحاجة إليه، وعليه يحمل خبر:(ويؤجر ابن آدم على كل شيء إلا ما يضعه في هذا التراب)، وغيره من الأخبار الواردة في هذا الباب.

وقوله: (قال) أي: عمر.

وقوله: (ثم انطلق) أي: ذلك الرجل.

وقوله: (فلبثت) على صيغه المتكلم، وقد يروى (فلبث) بلفظ الغائب؛ أي النبي صلى الله عليه وسلم (مليًّا) أي: زمانًا طويلًا، ومنه الملوان: الليل والنهار، وأما المهموز فهو من الملاءة بمعنى اليسار والغنى، وقد تثبت رواية الترمذي وأبي داود وغيرهما أنه لبث ثلاثًا، وظاهره أنه ثلاث ليال، وفي (صحيح أبي عوانة):(فلبثت ليالي، فلقيني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث)، ولابن حبان:(بعد ثلاثة)، ولابن منده:(بعد ثلاثة أيام)، قال الشيخ ابن حجر (1): وينافيه خبر أبي هريرة: (فأدبر الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم: رُدّوه، فأخذوا يردّونه، فلم يروا شيئًا، فقال: هذا جبرئيل)، وأجيب بأنه يحتمل أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قوله هذا، بل كان قد ذهب فأخبر به بعد ثلاث، انتهى.

هذا وقد يفسر قوله: (مليًّا) بساعة طويلة، ورواية (ثلاثًا) بثلاث ساعات، ويستبعد غيبة عمر صلى الله عليه وسلم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، واللَّه أعلم.

وقوله: (فإنه جبريل) أي: إذا كنتم غير عالمين فاعلموا أنه جبريل.

(1)"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 87).

ص: 216

رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 8].

3 -

[2] وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مَعَ اخْتِلَافٍ، وَفِيهِ: وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُن إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ قَرأَ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآيَة [لقمان: 34]. مُتَّفق عَلَيْهِ. [خ: 50، م: 10].

ــ

وقوله: (رواه مسلم) فهو من أفراده، ولم يخرج البخاري عن عمر فيه شيئًا، فلا يكون الحديث متفقًا عليه في الاصطلاح، لأنه إنما يطلق على ما أخرجه الشيخان من صحابي واحد.

نعم قد أخرج هو ومسلم عن أبي هريرة نحوه، فهو متفق عليه.

3 -

[2](ورواه أبو هريرة)(1) قوله: (الصم البكم) فيه تحقير لشأنهم بكونهم جاهلين لا يستمعون العلم والحق ولا ينطقون به؛ كما قال اللَّه تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].

وقوله: (في خمس)(2) أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، وأخرج أحمد (3) عن ابن مسعود:(أوتي نبيكم [مفاتيح] كل شيء سوى هذه الخمس)، والمراد لا يعلم بدون تعليم اللَّه منه، وتحقيق معنى هذه الآية وبيان إفادتها الحصر (4)، يطلب من كتب التفسير.

(1) اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي على الأشهر، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا يبلغ إلى أكثر من ثلاثين، انظر:"فتح الباري"(1/ 51)، و"إسعاف المبطأ" (ص: 122).

(2)

فَإنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْبَرَ الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيفَ الْحَصْرُ؟ قُلْتُ: الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّاتِهَا دُونَ جُزئِيَّاتِهَا. "مرقاة المفاتيح"(1/ 66).

(3)

"مسند أحمد"(1/ 386).

(4)

قال الحافظ (1/ 49): لم يذكر الجهاد؛ لأنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا في بعض الأحوال.

ص: 217

4 -

[3] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،

ــ

4 -

[3](ابن عمر) قوله: (بني الإسلام على خمس) وفي رواية: (خمسة) بالتاء، فالمجرد عن التاء بتقدير دعائم أو قواعد أو خصال، ومعها على تأويل الأركان أو أشياء أو نحو ذلك، كذا قال الطيبي (1)، وقيل: إن أسماء العدد إنما يكون تذكيرها بالتاء، وتأنيثها بسقوط التاء إن كان المميز مذكورًا، وأما إذا لم يذكر فيجوز الأمران صرح به النحاة، كذا في الحاشية نقلًا من خط الأمير جمال الدين المحدث، وأيده الشيخ في (شرح الأربعين) (2) بقوله:(أربعة أشهر وعشرًا)، وبقوله:(من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال)، نعم في الرواية دليل على إرادة الأركان، وقد جاء في رواية:(خمس دعائم)، انتهى.

ثم اعلم أنه إن أريد الأركان أو القواعد للبيت وهي داخلة في البيت يكون الإسلام محمولًا على الظاهر الذي دل عليه حديث جبرئيل من كون حقيقته عبارة عن الأركان الخمسة المذكورة، وإن أريد الدعائم أو أعمدة الخباء ونحوها، وهي خارجة، حمل على معنى الدين، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، أو على معنى الإيمان بناء على القول باتحادهما، وعلى كل تقدير ففيه استعارة مكنية بتشبيه الإسلام ببيت أو خباء، وإثبات البناء له تخييلية، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية بتشبيه ثبات الإسلام واستقامته ببناء بيت أو خباء، ثم اشتق منه الفعل، فتدبر.

وقوله: (شهادة) بالجر على البدلية، ويجوز رفعه على أنه خبر؛ أي: أحدهما،

(1)"شرح الطيبي"(1/ 111).

(2)

"فتح المبين لشرح الأربعين"(ص: 90).

ص: 218

وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 8، م: 45].

5 -

[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً،

ــ

أو مبتدأ أي: منها، وقد ينصب بتقدير أعني، وكذا في أخواته الأربع، وفي الأخريين يحتمل اكتساء إعراب المضاف المحذوف؛ أعني: أداء.

5 -

[4](أبو هريرة) قوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) في (القاموس)(1): البضع كالمنع: القطع، وهو بالكسر ويفتح: ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى الأربعة، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وإذا جاوزت لفظ العشر؛ ذهب البضع، لا يقال: بضع وعشرون، أو يقال [ذلك. الفراء: لا يذكر مع العشرة (2) والعشرين] إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومئة [ولا ألف]، وفي (النهاية) (3): هو بالكسر وقد يفتح: ما بين الواحد إلى العشر، أو الثلاث إلى التسع، ومنعه الجوهري مع العشرين، وقد جاء في الحديث:(تفضل صلاة الجماعة على صلاة الواحد ببضع وعشرين)(4).

وقال السيوطي: إنه ما بين الثلاث إلى السبع، وقيل: إلى العشر، وقيل: من اثنين إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وعن الخليل: البضع: السبع، والبضعة بالفتح وقد تكسر: القطعة من اللحم، والجمع بَضْع بالفتح، وكعِنَبٍ وصِحَافٍ وتَمَراتٍ، وفي

(1)"القاموس المحيط"(ص: 648).

(2)

وفي نسخة "التاج" للزبيدي: "إلا مع العشرة".

(3)

"النهاية"(1/ 133).

(4)

أخرج نحوه ابن خزيمة في "صحيحه"(1472).

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الحديث: (فاطمة بضعة مني) أي: جزء مني، وروي (إنما بنتي مضغة مني) بضم الميم بمعناه، والبضع بالضم: الجماع، أو الفرج نفسه، والمهر والطلاق والنكاح، ضد.

ثم المذكور في بعض روايات البخاري: (بضع وستون)، وفي بعضها:(بعض وستون أو بضع وسبعون) على الشك، وفي بعضها:(بضع وسبعون) من غير شك، كما في رواية الكتاب، ولأبي عوانة في (صحيحه) من طريقه:(ست وسبعون أو سبع وسبعون)، ورجح قوم رواية (بضع وستون)؛ لأنها المتيقن وما عداها مشكوك فيه، ورجح الآخرون روايات الزيادة لكونها زيادة ثقة، وتعقب بأن الذي زادها لم يستمر على الجزم بها لا سيما مع اتحاد المخرج.

ثم اعلم أن شعب الإيمان أكثر من أن تحصى وتضبط؛ لأن أنواع الفرائض والواجبات وإن انحصرت وانضبطت لكن أفراد السنن والنوافل والآداب من الأعمال والأخلاق لا تنحصر في عدد، ولا تنضبط في حصر، ومع ذلك يرجع إلى أصل واحد، وهو تكميل النفس وتحصيل سعادتها في المبدأ والمعاد بتحصيل الكمال العلمي والعملي، وذلك باعتقاد الحق والاستقامة في العمل، كما يشير إليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، وقوله صلى الله عليه وسلم:(قل: آمنت باللَّه ثم استقم)(1)، لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالعدد المخصوص، فإما أن يقال: أنواع الفضائل والخصائل الإيمانية وأصولها منحصرة في هذا العدد وإن لم نعرفها، وترى عندنا أقل بالإرجاع أو أكثر بالتفصيل، أو يقال: المراد به التكثير دون التحديد، واستعمال لفظ السبعين في هذا المعنى كثير متعارف، وبكون ذكر البضع للترقي والإشارة إلى أن شعب الإيمان

(1) أخرجه أحمد (3/ 413)، وابن حبان (972).

ص: 220

فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،

ــ

أعداد مبهمة لا نهاية لكثرتها، ولذا أبهم، ولو أريد التحديد لم يبهم، كذا قال الطيبي (1)، وهو قول قريب إلى الصواب، لكنه قد ينافيه وقوع غير عدد السبعين في بعض الروايات كالستين، وتعيين البضع من ست أو سبع أو أربع، وقد تصدى العلماء لحصرها وضبطها، وذلك لا يخلو عن تكلف، واللَّه أعلم.

قال في (فتح الباري)(2) نقلًا عن القاضي عياض: قد تكلف جماعة في عد الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، وقال الشيخ: ولم يتفق من عدّ الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان؛ فإنه عدّ كل طاعة عدّها اللَّه تعالى في كتابه أو النبي صلى الله عليه وسلم في سننه، وقال: وقد لخصت مما أوردوه [ما أذكره] وهو أن [هذه] الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، ثم ذكر في أعمال القلب أربعة وعشرين خصلة، وفي أعمال اللسان سبعًا، وفي أعمال البدن ثمان وثلاثين، والمجموع تسع وستون مذكورة في كتابه، ومع ذلك الحصر محل بحث، فلعله ترك فيها بعض الأنواع، وأما الأفراد فأكثر كما يظهر بالنظر في ذلك، واللَّه أعلم.

وقوله: (فأفضلها قول: لا إله إلا اللَّه) أكثر ما يذكر في الأحاديث لا إله إلا اللَّه، ويراد به مجموع هذا مع محمد رسول اللَّه اكتفاء بالجزء الأعظم الأقدم كما ستعرف، ويمكن أن يكون المراد ههنا هو وحده؛ لأن المراد بيان أفضل شعب الإيمان، ولا شك أن هذا الجزء أفضل، ولا يلزم منه أن يكون كافيًا في الإيمان، فافهم، وإنما قال: قول لا إله إلا اللَّه؛ لأن التصديق نفس الإيمان، وأما القول فشعبة منه، فتأمل.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 115).

(2)

"فتح الباري"(1/ 52)، و"إكمال المعلم"(1/ 272).

ص: 221

وَأَدْناهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَن الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَة مِنَ الإِيْمَانِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 9، م: 35].

ــ

وقوله: (إماطة الأذى عن الطريق) وهي تنحية مثل الشوك والحجر والقذر والشجر المؤذي للمرور، ونحو ذلك، وذلك على نوعين: أحدهما: أن ينحي عن طريق المسلمين ما يتأذون به، والثاني: أن لا يتعرض لهم في طرقهم بما يؤذيهم، وترك ذلك في حكم الإماطة، كذا قال التُّورِبِشْتِي، ولو أُوِّلَ بدفع كل ما يؤذيهم وتركه مطلقًا؛ لكان شيئا عظيمًا شاملًا لأشياء كثيرة، ومع ذلك هو أدنى من قول:(لا إله إلا اللَّه) وغيره، وذلك أمر نسبي، كذا قيل، وفي اعتبار ترك ما يؤذي بهذا المعنى أدنى الشعب خفاءٌ مع ورود:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) إلا أن يقال: ليس المراد الأدنى حقيقة بل أمر نسبي، ودفع ما يؤذي متأخر رتبة عن حقيقة التوحيد والإقرار به بلا شبهة (1)، فافهم.

وقوله: (الحياء شعبة من الإيمان)(2) الحياء بالمد في اللغة: تغير وانكسار تعتري

(1) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَفْضَلُهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ عِصْمَةَ الدَّمِ وَالْمَالِ، لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 70).

(2)

وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فسمِّي إيمانًا كما يسمَّى الشيء باسم ما قام مقامه. "فتح الباري"(1/ 74).

وقال الحافظ التُّورِبِشْتِي رحمه اللَّه تعالى: فإن قيل: الحياء يوجد أيضًا في الكافر؟ قلت: النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحياء الصادق الذي وصفناه؛ لأن المؤمن إذا عامل الناس بالحياء فلأن يعامل اللَّه به أحق وأجدر، ومن لم يؤمن باللَّه ولم يترك المعاصي له فإنه لم يستح، ومن لم يستح من ربه فهو بمعزل من الحياء، واللَّه أعلم، انظر:"التعليق الصبيح"(1/ 74).

وقال القاري (1/ 140): والمراد به الحياء الإيماني، وهو خلق يمنع الشخص من الفعل =

ص: 222

6 -

[5] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،

ــ

الإنسان بحكم الطبيعة من خوف ما يعاب به، وفي الشرع (1): خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولاختيار العبد مدخل في تحصيل هذا كما في سائر الأخلاق وتهذيبها، وبهذا الاعتبار جعله من شعب الإيمان (2)، وإنما أفرده بالذكر لكونه شعبة عظيمة كالداعي إلى باقي الشعب؛ إذ الحييّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر، فمن استحيا من اللَّه حق الحياء، فقد أتى بالخيرات أجمعها ظاهرًا وباطنًا.

وقيل: معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب كأنه يقول: هذه شعبة واحدة من شعب الإيمان، فهل يحصى ويعد شعبها؟ فافهم.

6 -

[5](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (المسلم من سلم المسلمون)(3) خرج مخرج الغالب، وإلا فالذمي كذلك، وفيه: تغليب، فإن المسلمات داخلاتٌ فيهم، وفي رواية

= القبيح بسبب الإيمان؛ كالحياء عن كشف العورة والجماع بين الناس، لا النفساني الذي خلقه اللَّه في النفوس، وهو تغير وانكسار يعتري المرء من خوف ما يلام ويعاب عليه، انتهى.

(1)

وسئل الجنيد عن الحياء فقال: رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء. "الرسالة القشيرية" (ص: 99)، وانظر:"التعليق الصبيح"(1/ 75).

(2)

يشكل كون الحياء جزءًا للإيمان مع أن الإيمان اكتساب والحياء غريزة، فكيف تكون الغريزة جزءًا للاكتسابي، إلا أن يقال: إن العرب يسمون الشيء باسم سببه، وكذا بالآخر، فكذلك ههنا تركه سبب للمعاصي الكثيرة. كذا في "تأويل مختلف الحديث" (ص: 345).

(3)

التعريف في المسلم والمهاجر للجنس، وقال ابن جني: من عادة العرب أن يوقعوا على الشيء الذي يختصونه بالمدح اسم الجنس، ألا تراهم كيف سموا الكعبة بالبيت، وكتاب سيبويه بالكتاب، واللَّه أعلم. "عمدة القاري"(1/ 75 - 76).

ص: 223

وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: . . . . .

ــ

ابن حبان (1): (من سلم الناس) وهو أعم، كذا ذكر السيوطي، والمراد أن المسلم الكامل من هذه صفته، وهو مبالغة في الحث بالاتصاف بها، ولا يلزم من ذلك أن من اتصف [بها] وحدها كان كاملًا، فإن المراد مع مراعاة باقي الأركان، وحقيقة المراد مَن جمع إلى أداء حقوق اللَّه تعالى حقوق المسلمين، ووجه تخصيص اللسان واليد (2) بالذكر؛ لأن أكثر أنواع الإيذاء يقع بهما، واللسان هو المعبّر عما في الإنسان، وأكثر الأفعال باليد، ووجه تقديم اللسان لأن الإيذاء به أغلب وأشد، ولأنه يمكن القول به في الماضين والموجودين والحادثين بخلاف اليد.

نعم يمكن أن تشارك اليد اللسان في ذلك بالكتابة، ويشمل اليد اليدَ المعنويةَ كالاستيلاء على حق الغير من غير حق، وعلى كل تقدير يستثنى ما كان من الزجر والضرب وغيرهما لحق الشرع، وذلك ظاهر.

وقوله: (المهاجر) هو كالمسافر في التعبير عن الفاعل بالمفاعل، ويحتمل أن يكون على معنى بابه؛ لأنه من لازم كونه هاجرًا وطنه، والهجرة شاملة للهجرة الظاهرة، وهي الفرار بالدين من الفتن، والباطنة، وهو ترك ما تدعو إليه النفس والشيطان، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد الخروج من دارهم، أو تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك بحصول ثواب الهجرة لمن هجر ما نهى اللَّه عنه.

وقوله: (أيّ المسلمين) وفي رواية: . . . . .

(1)"صحيح ابن حبان"(361).

(2)

قال الحافظ (1/ 54): وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، انتهى.

ص: 224

"مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ من لِسَانه وَيَده". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 10، م: 40].

7 -

[6] وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 15، م: 44].

ــ

(أيّ الإسلام)(1)[أي]: أي خصال الإسلام، أم أيّ ذوي الإسلام، وعلى الأول يحتاج في الجواب إلى تقدير: خصلة من سلم، بخلاف الثاني، وهو أوفق برواية الكتاب.

7 -

[6](أنس) قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) من المحبة ما يكون جبلِّيًّا لا اختيار للعبد فيه، وهو خارج عن البحث؛ لأن الكلام في الإيمان الذي يكلف العبد في تحصيله وتكميله، فالمراد بالمحبة (2) ههنا ما يكون للاختيار فيه مدخل، وحاصله ترجيح جانبه صلى الله عليه وسلم في أداء حقه بالتزام دينه واتباع سنته ورعاية أدبه وإيثار رضاه على كل من سواه من النفس والولد والوالد والأهل والمال حتى يرضى بهلاك نفسه، وفقدان كل محبوب دون فوات

(1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: "أَيُّ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ (خَيْرٍ) وَ (أَفْضَلَ) بِأَنَّ الأَوَّلَ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، إِذْ هُوَ النَّفْعُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ وَالْمَضَرَّةِ، وَالثَّانِي مِنَ الْكِمِّيَّةِ، إِذْ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِلَّةِ، انظر:"مرقاة المفاتيح"(1/ 72).

(2)

قال شيخنا على هامش "اللامع الدراري مع كنز المتواري"(2/ 136): قال عامة الشراح: إن المحبة ههنا عقلية، لكن والدي -نور اللَّه مرقده- كان يقول: إن المحبة تعم العقلية والطبعية كلتيهما، لكن المحبة الطبعية تسترها العوارض أحيانا، وتظهر عند التزاحم، مثال ذلك: رجل يكون له ولد يحبه حبًّا جمًّا، لكنه لو وضع هذا الطفل الحبيب قدمه على القرآن الكريم فماذا سيكون؟ إن الوالد سيرمي بابنه بعيدًا ويضطرب لما حدث، هكذا لو أساء حبيب أحد في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن لمسلم أن يتحمل ذلك مهما بلغت محبة الحبيب، انتهى. فهذا هو محبته عليه الصلاة والسلام، فالمراد حب الطبعي، كذا في "التقرير".

ص: 225

8 -

[7] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيْمَانِ: . . . . .

ــ

حقه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر النفس في هذا الحديث كما ذكر في الدعاء المأثور:(اللهم اجعل حبَّك أحبَّ إليّ من نفسي ومالي وولدي)؛ لأن في محبة الوالد والولد شيء من مدخلية الاختيار بخلاف النفس.

هذا وقد يفهم مما ورد: (ومن الماء البارد) إلى العطشان (1) أنه قد تسري المحبة إلى الطبيعة، ويضطر المحب في محبة المحبوب بحيث لا يبقى له اختيار بحسب الظاهر، كما في محبة العطشان الماء البارد، ولعل حصول هذه المرتبة بالاستدامة والاستقامة على رعاية حقوق المحبة الاختيارية حتى يصير عادة قريبة من الجبلة، وهذا أكمل مراتب الإيمان، والكلام في الإيمان الكامل، وللكمال مراتب، بعضها أعلى بالنسبة إلى بعض.

اعلم أن منشأ المحبة وسببها إما الحسن أو الإحسان، أما الإحسان فإن الإنسان مجبول على محبة من أحسن إليه، وأما الحسن فلأنه قد يكون في رجل حسن يحبه الناس، وإن لم يصل إحسان منه إليهم، كمن سمع رجلًا في أقصى ديار المغرب موصوفًا بالفضائل الصورية والمعنوية، يحبه السامع وتنجذب نفسه إليه، وإن لم يكن وصول أثرها إليه، وهذان الوصفان ينحصران في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة هما مقصوران على اللَّه تعالى، فإن الخير كله بيديه، وحاصلان فيه صلى الله عليه وسلم منه جل وعلا، وبهذا الوجه يمكن أن تسند الأحبية إليه صلى الله عليه وسلم أو إلى اللَّه عز وجل أو إليهما، فافهم.

8 -

[7](عنه) وقوله: (ثلاث من كن فيه. . . إلخ): (ثلاث) بتقدير: خصال ثلاث، مبتدأ، والشرطية خبره. وقوله:(من كان) بتقدير: خصال من كان، بدل أو

(1) أخرجه الترمذي (3490).

ص: 226

مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ. . . . .

ــ

خبر مبتدأ محذوف، وهذا هو الأظهر.

وقوله: (من كان اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما) استشكل ههنا بأنه صلى الله عليه وسلم ذم الخطيب الذي جمع بين ضمير اللَّه ورسوله، كما أخرجه مسلم (1) عن عدي بن حاتم: أن رجلًا خطب عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم:(بئس الخطيب قل: ومن يعص اللَّه ورسوله)، وأكثر الشراح على أن وجه كراهة النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب هو الجمع بين ضمير اللَّه ورسوله الذي يقتضي التسوية، فأمره بتقديم اسم اللَّه وعطف رسوله عليه المشعر بالتبعية والفرعية، فكيف جمع ههنا؟

وأجيب بأن القول بأن وجه الكراهة هو الجمع بين الضميرين غير مسلم؛ لأن اقتضاء التسوية محل بحث؛ لوقوع هذا الجمع والتشريك في مثل هذه العبارة في خطبته صلى الله عليه وسلم، كما أورده صاحب (سفر السعادة) من حديث أبي داود والترمذي والنسائي عن ابن مسعود، وقد وقع مثل التشريك المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، بل السبب في الذم المذكور اقتصاره على هاتين الكلمتين مع سلوك طريق الاختصار في الضميرين، بل اللائق بشأن الخطيب في أمثال هذه المقاصد البسط والتفصيل والتطويل وعدم الملال من ذلك، كما وقعت في خطبته صلى الله عليه وسلم التي وقع فيها هاتان الكلمتان.

وقيل: سبب الذم أن ذلك الخطيب وقف على قوله: (ومن يعصهما) ووصله بقوله: (فقد رشد)، وذلك يوهم عطفه على من يطع اللَّه ورسوله، ووقوع (فقد رشد)

(1)"صحيح مسلم"(87).

ص: 227

كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 21، م: 43، 68].

9 -

[8] وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيْمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا،

ــ

جزاء لهما، وهذا القول ضعيف مخالف لسياق الحديث كما لا يخفى.

وقال الطيبي (1): ثنى الضمير ههنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة، فإنها وحدها ضائعة لا عبرة بها، وأمر بالإفراد في حديث عدي إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية من حيث إن العطف في تقدير التكرير، والأصل فيه استقلال كل من المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، فافهم.

9 -

[8](العباس بن عبد المطلب) قوله: (ذاق طعم الإيمان من رضي باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا) قال الشيخ ابن عطاء اللَّه الإسكندري الشاذلي في (كتاب التنوير في إسقاط التدبير)(2): في قوله: (ذاق طعم الإيمان) دليل على أن من لم يكن كذلك لا يجد حلاوة الإيمان ولا يدرك مذاقه، وإنما يكون إيمانه صورة لا روح لها، وظاهرًا لا باطن له، ومرتسمًا لا حقيقة تحته.

وفيه: إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذوذات المعاني كما تتنعم النفوس بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي باللَّه ربًّا؛ لأنه لما رضي باللَّه ربًّا استسلم له وانقاد لحكمه، وأبقى قياده إليه خارجًا عن تدبيره واختياره إلى حسن تدبير اللَّه واختياره، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضي باللَّه ربًّا كان له الرضا من اللَّه كما قال:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وإذا كان له الرضا من اللَّه تعالى أوجده اللَّه تعالى حلاوة ذلك ليعلم ما منّ به عليه، وليعرف

(1)"شرح الطيبي"(1/ 120).

(2)

(ص: 8).

ص: 228

وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 34].

ــ

إحسان اللَّه إليه، ولا يكون الرضا باللَّه تعالى إلا مع الفهم، ولا يكون الفهم إلا مع النور، ولا يكون النور إلا مع الدنو، ولا يكون الدنو إلا مع العناية، فلما سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد اللَّه تعالى وأنواره؛ عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه، ولو سقم قلبه بالغفلة عن اللَّه لم يدرك ذلك، لأن المحموم ربما وجد طعم السكّر مرًّا، وليس هو في نفس الأمر كذلك، فإذا زالت أسقام القلوب أدركت الأشياء على ما هي عليه، فتدرك حلاوة الإيمان ولذاذة الطاعة ومرارة القطيعة والمخالفة، فيوجب إدراكها لحلاوة الإيمان اغتباطها به وشهود المنة من اللَّه عليها، وتطلب الأسباب الحافظة للإيمان والجالبة له، ويوجب إدراك لذاذة الطاعة المداومة عليها وشهود المنة من اللَّه فيها، ويوجب إدراكها لمرارة الكفران والمخالفة التركَ لهما والنفورَ عنهما وعدمَ الميل إليهما، فيكمل الترك للذنب وعدم التطلع، وليس كل متطلع تاركًا، ولا كل تارك غير متطلع، وإنما كان كذلك لأن نور البصيرة دله على أن المخالفة للَّه تعالى والغفلة عنه سمٌّ للقلوب مهلك، فنفرت قلوب المؤمنين عن مخالفة اللَّه تعالى كنفرتك عن الطعام المسموم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبالإسلام دينًا) لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي بما رضي به المولى، واختاره بقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وإذا رضي بالإسلام دينا فمن لازم ذلك امتثال أوامره، والانكفاف عن وجود زواجره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبمحمد نبيًا) فلازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكون له وليًّا، وأن يتأدب بآدابه، وأن يتخلق بأخلاقه؛ زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناية،

ص: 229

10 -

[9] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 153].

ــ

وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المبالغة قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، وظاهرًا وباطنًا، فمن رضي باللَّه ربًّا استسلم له، ومن رضي بالإسلام دينًا عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها، إذ محال أن يرضى باللَّه ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا، ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بَيِّنٌ لا خفاء فيه.

10 -

[9](أبو هريرة) قوله: (والذي نفس محمد بيده) هذا الحلف كثر وقوعه منه صلى الله عليه وسلم لدلالته على فناء إرادتة وتصرفه في إرادة اللَّه عز وجل وتصرفه، قال صاحب (سفر السعادة): وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الحلف باللَّه تعالى، والذي صح في الأحاديث أكثر من ثمانين موضعًا، وقد أمره اللَّه سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، قال اللَّه تعالى:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال اللَّه تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].

وقوله: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) يقال: سمع بفلان أي: بلغ خبره إليه، ويقال: سمع الناس بفلان أي: تسامعوا به، والباء زائدة؛ أي: لا يسمعني، أو يضمن (سمع) معنى (أخبر)، والمعنى: أخبر برسالتي واحد، يتناول الكثير والقليل، والذكر والأنثى، و (من هذه الأمة) صفة (أحد)، و (يهودي) بدل من (أحد)، و (من) للتبعيض، والمراد أمة الدعوة بدليل قوله:(لم يؤمن بي)، والأمة: جماعة أرسل

ص: 230

11 -

[10] وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا أَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 97، م: 154].

ــ

إليهم رسول، والجيل: من كل حيٍّ، كذا في (القاموس)(1)، و (ثم) هذه للاستبعاد كما في قوله:(ثم أعرض عنها)، والمراد:[من] سمع بي وتبين له معجزتي ثم لم يؤمن، كان من أصحاب النار وإن كان من أهل الكتاب.

11 -

[10](أبو موسى الأشعري) قوله: (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد) دل على أن الكتابي إن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم كان إيمانه بنبيه وعمله على دينه ضائعًا لا يثاب عليه؛ لأنه قد نسخ دينه، وأما إذا آمن به صلى الله عليه وسلم يثاب على دينه والعمل به وإن كان منسوخًا؛ فضلًا من اللَّه تعالى وكرامة منه تعالى لهذا الدين العظيم، فلهذا السبب يثبت له أجران، كذا قالوا، فتدبر.

وقوله: (فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها) التأديب متعلق بالأحوال والأخلاق، والتعليم بالأحكام والمسائل، والإحسان فيهما أن يكونا على وجه ينبغي ويكفي، أو يكونا باللطف والتأني، وثبوت الأجرين للكتابي والعبد المذكورين ظاهر، وأما للرجل الذي كانت عنده أمة يطأها. . . إلخ، فعلى الإعتاق والتزوج.

وأما التأديب والتعليم فيعمان الناس الأجانب والأولاد وغيرهم ولا يختصان بالإماء، أو هما توطئتان لاشتمالهما الإعتاق والتزوج، ولهذا ذكرهما بـ (ثم) المفيدة

(1)"القاموس المحيط"(ص: 994).

ص: 231

12 -

[11] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ. . . . .

ــ

لبعد درجتهما في إتمام الإحسان إليها وإكماله، كذا قيل، وفيه تأمل.

وأما قيد (يطؤها) فالظاهر أنه اتفاقي، وإشارةٌ إلى أن الوطء المذكور كان لا أجر له فيه، ثم بإبلاغه إلى ما بلغ حصل الأجر، ثم قيل: إن المراد ثبوت الأجرين المذكورين في كل عمل كالصلاة والصوم، وإلا فلا غرابة في ثبوت الأجرين لمن عمل عملين (1).

12 -

[11](ابن عمر) قوله: (حتى يشهدوا) أو يأتوا بما في حكم الشهادة؛ كقبول الجزية من أهل الكتاب، والمهادنة من عبدة الأوثان، والاستئمان في الكل، أو يكون ورود هذا القول قبل هذه الأحكام (2).

وقوله: (يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) القتال ينتهي بالشهادة، وهذا إشارة إلى تمامها وكمالها بإتيان الإسلام وأركانها إلا أن يقال بثبوت القتال على ترك الواجبات

(1) قال شيخنا في هامش "الكوكب"(2/ 230): وما أفاد والدي المرحوم -نور اللَّه مرقده- عند تدريس "مشكاة المصابيح" أن مناط تكرار الأجر هو التزاحم، فكل فعل يوجد فيه التزاحم يثنى عليه الأجر، انتهى. وفي "المرقاة" (1/ 79) ويُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَسْخِ الأَدْيَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ لَا ثَوَابَ لأَصْحَابِهَا مُطْلَقًا دَفَعَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ ثَوَابَ عِبَادَةِ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ، فَلِذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ يُقَالُ: إِنَّ إِعْتَاقَ الْجَارِيَةِ وَتَزَوُّجَهَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَهُوَ طَبعٌ، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا أَجْرٌ، فَرَفَعَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَقَالَ: لَهُ أَجْرَانِ.

(2)

وقال السندي: إما مخصوص بمشركي العرب، أو كان قبل شروع الجزية. "حاشية السندي على صحيح البخاري"(1/ 15).

ص: 232

عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ:"إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَام". [خ: 25، م: 22].

ــ

والإصرار عليه بتأويل باطل، كما قاتل الصديق أمير المؤمنين رضي الله عنه مانعي الزكاة، فيكون المراد بحق الإسلام قتل النفس المعصومة والخيانة في أموال الناس وترك الفرائض بتأوبل باطل، فافهم.

وتخصيص الصلاة والزكاة بالذكر للإشارة إلى العبادت البدنية والمالية ولكونهما أمي العبادات وكونهما متقاربين ذكرًا في القرآن، ويحتمل أنه عليه السلام قال هذا قبل فرضية ما سواهما.

وقوله: (وحسابهم على اللَّه) أي: فيما يسرون من الكفر والمعاصي، يعني نحكم بالإسلام وحقوقه بالظاهر، واللَّه يتولى حساب الباطن، وإطلاق هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة يدل على قبول توبة الزنديق وغيره ممن أظهر الإسلام في الظاهر وإن أبطن الكفر، والمراد بالزنديق كل ملحد في الدين لا دين له والمنكر للآخرة والربوبية والدين جملة، وقيل: هو المبطن المظهر للإسلام في الظاهر كالمنافق.

وفي (القاموس)(1): وهو معرب زن دين أي دين المرأة، وفي الأصل اسم لقوم من المجوس يقال لهم: الثنوية، يقولون بالخالقين النور مَبدأ الخيرات، والظلمة مَبدأ الشرور، ومأخوذ من الزند وهو كتاب بالفهلوية لرجل يقال له: زردشت.

وفي قبول توبته أقوال ذكرها الطيبي (2)، أصحها القبول، والمراد بعدم القبول تحتم قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه في الآخرة، والأظهر أنه إن كان ألحد أحيانًا وتاب سريعًا قبل، وإن كان ممن أصر على ذلك تمردًا وعرف أنه ينافق في التوبة ويتوب

(1)"القاموس المحيط"(ص: 822).

(2)

"شرح الطيبي"(2/ 453).

ص: 233

13 -

[12] وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذمَّتِهِ". رَوَاهُ البُخَارِيّ. [خ: 391].

ــ

من خوف السيف ويدافعه للوقت فلا، واللَّه أعلم.

13 -

[12](أنس) قوله: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وكل ذبيحتنا)(1) إنما ذكر هذه الثلاثة ولم يذكر الإسلام وأركانه من الشهادتين وغيرهما؛ لأنها علامات صحيحة دالّة على الإسلام وتميز المسلم من غيره، لأن من صلى كما نصلي دل ذلك على إقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند اللَّه كلّه، وذكر استقبال القبلة، وإن كان شرط الصلاة لاشتهار أمرها واختصاصها بصلاتنا بخلاف القيام والقراءة ونحوهما، وكذا أكل ذبيحتنا مخصوص بأهل الإسلام، والذمة والذمام بالكسر: العهد والضمان والحرمة والحق، وسمّي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.

وقوله: (فلا تخفروا اللَّه) بضم التاء وسكون الخاء وكسر الفاء على صيغة المضارع (إفعال) من الخفر، والخفرة بمعنى العهد والأمان، كما في حديث:(من صلى الصبح فهو في خفرة اللَّه)(2)، أي ذمته، وفي حديث:(الدموع خفر العيون) جمع خفرة بمعنى الذمة أي: الدموع التي تجري خوفًا من اللَّه تخفر العيون من النار، خَفَره أجاره فهو خفير، وكذا خَفّره من التخفير وأخفره أيضًا بمعنى جعلته خفيرًا، والخفارة بالضم والكسر: الذمام، وقد يجيء الهمزة للسلب أخفرته بمعنى غادرته ونقضت عهده، وهو

(1) وفي "التقرير": فيه تنبيه على أن لأكل الذبيحة أيضًا دخلًا في الإسلام، فلا يقال: إننا مسلمو اللحم فقط، ذكره الشيخ التهانوي في وعظه، والشهادة دخلت في صلواتنا، وتخصيص القبلة لعله لمزيد الاهتمام إليه لقرب التحول إليه، وقيل لكونه أعرف من الصلاة، انتهى.

(2)

انظر: "كنز العمال"(14291).

ص: 234

14 -

[13] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وتَصُومُ رَمَضَانَ". قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجنَّة فَلْينْظر إِلَى هَذَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1397، م: 14].

ــ

المراد في الحديث: (فلا تخفروا اللَّه)، أي: لا تغدروه في عهده ولا تعاملوه معاملة الغادر في نقض عهده.

14 -

[13](أبو هريرة) قوله: (أتى أعرابي) العرب سكان الأمصار، أو عام، والأعراب منهم سكان البادية لا واحد له، كذا في (القاموس)(1)، وقد قيل: الأعراب البدوي وإن لم يكن من العرب.

وقوله: (قال: تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئًا) لم يذكر الشهادة لشهرتها، أو لتضمن قوله:(لا تشرك به) إياها، أو لأن السؤال عن عمل بعدها، والمراد بالإشراك إما عبادة الأصنام أو الرياء.

وقوله: (لا أزيد على هذا شيئًا ولا أنقص منه) استشكل هذا بأنه لم يذكر في هذا الحديث جميع الواجبات والمنهيات ولا السنن ولا المندوبات فكيف يصح قوله: (لا أزيد)؟ وأجيب بأنه يحتمل أن الفرائض لم يكن يومئذ إلا ما ذكر، والمراد عدم زيادة النوافل ونقصان الفرائض، وصاحب هذه الحال ناجٍ بلا شك، وإن كان بترك السنن مسيئًا، وقيل: لعله كان هذا قبل شرعية النوافل والسنن، وقيل: المراد الزيادة على حد

(1)"القاموس المحيط"(ص: 118).

ص: 235

15 -

[14] وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، -وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ- قَالَ: . . . . .

ــ

المشروع والنقصان عنه كزيادة ركعة أو نقصانها، وقد قيل: إنه قد جاءت الروايات مختلفة في ذكر الواجبات في هذا الحديث زيادة ونقصانًا، وذلك من تفاوت أحوال الرواة حفظًا وضبطًا أو رواية لما هو المقصود بالاستشهاد، وزيادة الثقة مقبولة، وجاء في رواية البخاري في هذا الحديث زيادة، وهي:(فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: واللَّه لا أزيد ولا أنقص مما فرض اللَّه عليَّ شيئًا)، وعلى هذا لا إشكال أصلًا، ويؤيده أن في هذا الحديث أيضًا (قال: تعبد اللَّه) فعمّم، ثم خصصه بقوله:(وتقيم الصلاة. . . إلخ)، فافهم.

أو هذا الكلام في التصديق والقبول؛ أي: لا أزيد عليه في السؤال مما يتعلق بتحقيق ما ذكرت، ولا أنقص منه في التصديق والقبول، أو كان السائل رسولًا فحلف أن لا أزيد ولا أنقص في الإبلاغ، هذا كله ما ذكره الطيبي (1) ملخصًا.

وقيل: قول الرجل هذا كناية عن شدة الضبط ومبالغة في الأخذ والاهتمام بما أمر الشارع، وليس المراد حقيقة الكلام، فلا ينافي الإتيان بالنوافل والواجبات الأخر، وكذا الكلام في حديث طلحة الآتي.

15 -

[14](سفيان بن عبد اللَّه الثقفي) قوله: (لا أسأل عنه): أي عن ذلك القول؛ لكونه جامعًا فصلًا بَيتًا لا إجمال فيه ولا إشكال، وقيل: الضمير للإسلام، أي: لا أسأل معه عن الإسلام، فافهم.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 132).

ص: 236

"قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّه ثمَّ اسْتَقِم". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 38].

16 -

[15] وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ،

ــ

وقوله: (قل آمنت باللَّه ثم استقم) أي: اشهد بوحدانية اللَّه سبحانه وصدقه كما هو بأسمائه وصفاته وأفعاله فيما أخبر وأمر ونهى، فدخل فيه جميع ما يؤمن به، ثم التزمِ القيام بحقيقة قولك، واستقامة الإنسان ملازمة النهج المستقيم، وهو لفظ جامع للإتيان بجميع الأوامر والنواهي على وجه الدوام والثبات من غير زيغ وفتور، وفي (القاموس) (1): استقام الأمر: اعتدل، وفي (شرح الحكم العطائية): الاستقامة: الاستواء في اتباع الحق على منهاج السداد من غير إفراط ولا تفريط في أركانها، وعمل بلا فترة ولا إخلال، وتوبة بلا إصرار ولا رجوع، وإخلاص بلا تشوف ولا ملاحظة، واستسلام بلا منازعة ولا معارضة، وتفويض بلا تردد ولا تدبير، وملازمها واصل قطعًا، ومفارقها خائب في الحال، فهي الكرامة على الحقيقة لا غيرها، وقال في (قواعد الطريقة): الاستقامة: حمل النفس على أخلاق القرآن والسنة، أي: ارتياضها واعتيادها بتحصيل الملكات الراسخة فيها من الفضائل.

16 -

[15](طلحة بن عبيد اللَّه) قوله: (من أهل نجد) في (القاموس)(2): النجد: ما أشرف من الأرض وما خالف الغور، أعلاه تهامة واليمن، وأسفله العراق والشام، وأوله من أجهة، الحجاز ذات عرق.

وقوله: (ثائر الرأس) الثور: الهيجان والوثب والسطوع، من ثار الشيء يثور:

(1)"القاموس المحيط"(ص: 1062).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 303).

ص: 237

نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ،

ــ

إذا انتشر وارتفع، وفي الحديث:(صلاة العشاء إذا سقط ثور الشفق)، أي: انتشاره وثوران حمرته، وفي الحديث:(بل هي حمى تفور أو تثور)(1)، (ورأيت الماء يثور من بين أصابعه)(2).

وقوله: (ثائر الرأس)، أي: ينتشر شعر الرأس قائمة، وهو منصوب على الحال أو مرفوع على الصفة، والرواية الأولى أشهر.

وقوله: (نسمع دويّ صوته) في (النهاية)(3): الدويّ صوت ليس بالعالي نحو صوت النحل، وحكي ضم داله أيضًا، وفي (القاموس) (4): ودويّ الريح: حفيفها، وكذا من النحل والطائر، وقال الكرماني (5): هو بفتح دال وكسر واو تحتانية على المشهور وحكي ضم الدال، وهو بعد الصوت في الهواء وعلوه، معناه صوت شديد لا يفهم منه شيء كدوي النحل، وقال السيوطي: الدوي صوت متكرر مرتفع لا يفهم، وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد، وهو بالنصب على رواية (نسمع) بالنون، والرفع على رواية التحتانية؛ أي: صيغة المجهول.

وقوله: (عن الإسلام) أي: عن أركانه وفرائضه، ويمكن أنه سأله عن حقيقة الإسلام، لكن لم يذكر في الجواب الشهادتين لشهرتهما وللعلم بهما، ولم يذكر الحج،

(1) أخرجه البخاري (3616).

(2)

أخرج البخاري نحوه (3579)، والنسائي نحوه (77).

(3)

"النهاية"(2/ 143).

(4)

"القاموس المحيط"(ص: 1181).

(5)

"شرح الكرماني"(1/ 180).

ص: 238

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 46، م: 11].

ــ

إما لعدم فرضيته إذ ذاك، أو لعدم كون السائل أهله، وبالجملة السؤال والجواب عن أركان الإسلام خمستها أو ما كان منها يومئذ فرضًا، فيكون المراد بقوله:(هل عليَّ غيرهن) أي: من الصلاة، وبقوله:(هل عليَّ غيره) من الصوم وغيرهما من الصدقة، وهو ظاهر، فلا يلزم أن لا يكون واجب غير ما ذكر، فلا متمسك فيه للشافعية -كما قال الطيبي (1) - في شمول عدم الوجوب في غير ما ذكر في الحديث كعدم وجوب [الوتر، و] التسمية في الذبح، والتباعد بقدر القلتين عن جوانب النجاسة في الماء الراكد، والوليمة، والعقيقة، ولا في أن الشروع غير ملزم لأنه نفى وجوب شيء آخر مطلقًا شرع فيه أو لم يشرع على أنه يلزمهم أن لا يكون في الإسلام فرض غير ما ذكر أصلًا مع كثرتها عينًا وكفاية، وكون الشروع ملزما إنما يثبت لصون العمل عن الإبطال المنهي عنه بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وأما الوتر فليس من الفرائض القطعية المرادة ههنا، ويراد بالتطوع ما يقابله أو يثبت وجوبه بعد ذلك كالحج، واللَّه أعلم.

وقوله: (أفلح الرجل إن صدق) الفلاح: الفوز والنجاة، كذا في

(1)"شرح الطيبي"(1/ 136).

ص: 239

17 -

[16] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الْقَوْمُ؟ -أَوْ: مَنِ الْوَفْدُ؟ -" قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ: بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا. . . . .

ــ

(القاموس)(1)، و (إن صدق) بكسر الهمزة، وقد يفتح بتقدير اللام، والمراد صدقه في إخباره بعمله بذلك من غير زيادة ونقصان، أو صدقه فيما يفهم من كلامه من الاهتمام بالأخذ والرغبة في التصديق، فيكون الفلاح بحسن النية، فافهم.

17 -

[16](ابن عباس) قوله: (إن وفد عبد القيس)(2) الوفد: جماعة قدموا على ملك، جمع وافد، من وفد إليه وعليه وفدًا وفودًا ووفادةً: قَدِمَ ووَرَدَ، فهم وُفودٌ ووفد وأوفاد، وعبد القيس أبو قبيلة من أسد ربيعة، ومضر بن نزار كزفر أبو قبيلة في مقابلتهم ومحاربوهم، ويقال له: مضر الحمراء فإنه أعطي الذهب من ميراث أبيه، وربيعة أعطي الخيل، أو لأن شعارهم كان في الحرب الرايات الحمر.

وقوله: (مرحبًا) منصوب بفعل مقدر وجوبًا؛ أي: أتيتم وصادفتم مكانًا واسعًا، والرحب: المكان الواسع، من رحب ككرم وسمع رحبًا بالضم ورحابة: اتسع، وكذلك أهلًا وسهلًا، أي: أتيت أهلك، ووطئت مكانًا سهلًا، أي: لينًا، ضد الحزن، والباء في (بالقوم) متعلق بالترحيب المفهوم من الكلام، يقال رحّب به ترحيبًا: دعاه إلى الرحب، أو يكون التقدير ههنا: قلت مرحبًا، أو المعنى هذا الدعاء ملتبس بالقوم، أو الباء بمعنى اللام و (غير) منصوب على أنه حال، و (خزايا) جمع خزيان أو خزيٌ من خَزِيَ كرضي خزيًا بالكسر: وَقَعَ في بَلِيَّةٍ وشدةٍ فذلّ بذلك، وأخزاه اللَّه:

(1)"القاموس المحيط"(ص: 227).

(2)

وفي "التقرير": كانوا نازلين ببحرين، أربعة عشر رجلًا أو أربعون، كلتا الروايتين جمعتا بالتعدد، أو بأن الأشراف أربعة عشر، وفدوا سنة ثمان.

ص: 240

وَلَا نَدَامَى". قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه! إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ،

ــ

فضحه، والخَزْيَةُ ويُكسر: البلية.

و(ندامى)(1) جمع نادم، من نَدِمَ عليه كفَرِحَ ندمًا وندامة، وتَنَدَّمَ: أسف، فهو نادم، والمراد بالشهر الحرام الجنس، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فكانوا لا يحاربون فيها، وكانوا فيها آمنين في الطرق تعظيمًا لهذه الأشهر وإيمانًا لزوار بيت اللَّه، وهذا الوجه الآخر يختص بما سوى رجب، وأما المحرم فإنه وإن لم يكن من أشهر الحج لكنه يحتمل التلاقي فيه وقت الرجوع، وفي بعض الحواشي فسر برجب، ولعله كان يمنعهم من الإتيان في الأشهر الحرم الأخر مانع آخر، أو أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد المحرم فليس قدامهم إلا رجب، ولعل إفراد الشهر بهذا، فافهم، والأمر الفصل: هو الحكم المحكم الواضح الذي لا إجمال فيه ولا إشكال، والظاهر أن المراد به واحد الأمور بمعنى الشأن لا واحد الأوامر بمعنى صيغة (افعل) إما وصف المصدر مبالغة أو بمعنى فاصل أو مفصول، و (نخبر) من الإخبار و (ندخل) من الدخول إما مجزومان على جواب الأمر أو مرفوعان على الوصفية أو الاستئناف.

وقوله: (من وراءنا) يجيء بمعنى خلف وقدام، ضدٌّ، ويحتمل الحديث كليهما، فافهم.

(1) وفي "مرقاة المفاتيح"(1/ 88): جَمْعُ نَدْمَانَ بِمَعْنَى نَادِمٍ، أَوْ جَمْعُ نَادِمٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وقال السيد: غيرٌ العبارة لمناسبة "خزايا"، والمقصود: لم تقدموا أسرى فتكونوا خزايا، ولم تقاتلوا منا قبله ولم تقتلوا رجالنا بعدُ فتأتوا ندامى. وقال صاحب "المظاهر": جملتان دعائيتان، كذا في "التقرير".

ص: 241

وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيْمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ:"أَتَدْرُونَ مَا الإِيْمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ". . . . .

ــ

وقوله: (سألوه عن الأشربة) أي: ظروفها، أو الأشربة التي تكون في الأواني المخصوصة المتنوعة التي يأتي ذكرها.

وقوله: (فأمرهم بأربع) المراد بالأمر ههنا ما هو مدلول صيغة (افعل) لمقابلة قوله: (ونهاهم عن أربع) والأمر الفصل الذي يشملها أمرهم بالإيمان باللَّه، وهو أربع باعتبار ما اشتمل عليه من الأركان المذكورة سوى الحج لما ذكر مرارًا أنه لم يفرض يومئذ أو لم يكونوا أهلًا له، وجزم الطيبي (1) ههنا بالأول نقلًا عن القاضي عياض حيث قال: إنما لم يذكره لأن وفادة عبد القيس كانت عام الفتح سنة ثمان قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع على الأشهر، وإنما قال: على الأشهر؛ لأن كثيرًا من الناس زعموا أن الحج فرض سنة ست لكن القول الأول أقوى، ودلائل الفريقين ذكرناها في شرح (سفر السعادة)(2).

وعلى هذا التوجيه قوله: (وأن تعطوا) ذكر زيادة على الأربع؛ لأنهم كانوا أهل جهاد، وكانوا محاربين لكفار مضر، فهو معطوف على قوله:(بأربع) وليس داخلًا تحتها.

وقال بعضهم: أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادة تبركًا؛

(1)"شرح الطيبي"(1/ 139).

(2)

انظر: "مرقاة المفاتيح" أيضًا (5/ 379)، و"بذل المجهود"(7/ 6).

ص: 242

وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ، وَقَالَ:"احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيّ. [خ: 53، م: 17].

18 -

[17] وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: . . . . .

ــ

لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين.

وقوله: (ونهاهم عن أربع) جوابًا عن سؤالهم عن ظروف الأشربة، و (الحنتم) بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الفوقانية: الجرة الخضراء، (والدباء) بضم الدال وتشديد الباء ممدودًا: القرع كالدبة بالفتح والواحد بهاءٍ وهي ظروف الخمر إما الدُّباء حقيقة أو على شكلها من الخشب، والأول أظهر، (والنقير) أصل خشبة ينقر فينبذ فيه فيشتد نبيذه، كذا في (القاموس)(1)، (والمزفت) بضم الميم وتشديد الفاء المفتوحة: المطلي بالزفت بالكسر: القار، والمراد النهي عن استعمال هذه الأواني مبالغة في الاحتراز عن التشبه بشاربي الخمر وأوانيها وقمعًا لآثارها، والظاهر أن المراد النهي عن الاستنقاع والانتباذ فيها لإسراع الاشتداد فيها فيسكر، ولذا وقع في الأحاديث النهي عن الانتباذ إلا في سقاء لإبطاء الاشتداد والإسكار فيها ولتبين الحالة فيها دون الأواني فيتناول غفلة، ثم قالوا: تحريم الانتباذ في هذه الأواني واستعمالها كان في صدر الإسلام حيث كان القصد إلى قمع آثار الخمر وتأكيد حرمتها، ثم نسخ وهو قول الجمهور، وقال بعض ببقاء التحريم، وإليه ذهب مالك وأحمد رحمهما اللَّه.

18 -

[17](عبادة بن الصامت) قوله: (وحوله عصابة) العصابة بالكسر من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين، كالعُصبة بالضم من العصب، وهو

(1)"القاموس المحيط"(ص: 452).

ص: 243

"بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ. . . . .

ــ

الطَّيُّ واللَّيُّ والشَّدُّ، والعصب محركة: أطناب المفاصل، كذا في (القاموس)(1).

وقوله: (بايعوني)(2) المبايعة: المعاهدة والمعاقدة، وأصله من البيع، والبيعة (فعلة) منه، كان كل واحد من المتعاهدين يبيع نفسه من صاحبه، وكما يكون الصفق -وهو ضرب اليد على اليد- عند وجوب البيع جرت العادة بذلك عند المعاهدة أيضًا.

وقوله: (على أن لا تشركوا باللَّه شيئًا) الظاهر أن المراد بالشرك الرياء؛ لأنه الشرك الأصغر، كما ورد في الحديث:(اتقوا الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؟ قال: الرياء)(3) لأن الظاهر كما يدل عليه السياق أن الخطاب للأصحاب، ويحتمل أن يكون المراد عبادة الأصنام، أي: لا ترتدوا بعد الإسلام.

وقوله: (ولا تاتوا ببهتان) في (القاموس)(4): بهته كمنعه بَهْتًا وبَهَتًا وبهتانا: قال عليه ما لم يفعل، والبَهِيتَةُ: الباطلُ الذي يتحير من بطلانه، والكَذِبُ، كالبُهْتِ بالضم، والحيرةُ، فعلُهما كَعلِمَ ونَصَرَ وكَرُمَ.

وقوله: (تفترونه) افترى الكذب: اختلقه، والفرية بالكسر: الكذب، من فرى يفريه: شقه فاسدًا، فأصل الفرى القطع، ومنه كل ما أفرى الأوداج أي: ما شقها وقطعها حتى يخرج الدم.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 120).

(2)

وفي "التقرير": فيه دلالة على بيعة المشايخ؛ لأن تلك العصابة كانوا مسلمين، فإذا لم تكن بيعة الإسلام فماذا كان غير بيعة السلوك.

(3)

أخرج نحوه أحمد في "مسنده"(5/ 428).

(4)

"القاموس المحيط"(ص: 150).

ص: 244

بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كفَّارَةٌ لهُ (1)،

ــ

وقوله: (بين أيديكم وأرجلكم) أي: من عند أنفسكم والناس براء منه، واليد والرجل كنايتان عن الذات، أو كفاحًا يشاهد بعضهم بعضًا، أو تنشؤونه من ضمائركم بناءً على الظنون الفاسدة، أو ما بين الأيدي والأرجل من الإنسان هو القلب لأنه في الصدر، أو نسب الافتراء إلى الأيدي والأرجل من جهة أنها عوامل وحوامل وإن شاركها سائر الأعضاء، وقد وقعت هذه العبارة في مبايعة النساء، وفسر بأن لا يأتين بولد من غير أزواجهن فينسبنه إليهم على بعض المعاني المذكورة، أو المراد من بين الأيدي والأرجل الفروج (2).

وقوله: (ولا تعصوا في المعروف)(3) والمعروف: اسم لكل ما عرف وجهه في الشرع واستحسن فيه كالشخص الذي يعرف، ويقابله المنكر: وهو الشخص الذي لا يعرف.

وقوله: (فمن وفّى) فيه إشارة إلى أن وجوب الأجر إنما هو على تقدير الإتيان بالكل والاستيفاء، فمن أخل بشيء من ذلك استحق العقاب.

(1) قوله: "فهو كفارة له" استدل به الشافعية على أن الحدود كفارات لأهلها، ولم يقل به الحنفية، وقد بسط الكلام في "فيض الباري"(1/ 160)، و"الكنز المتواري"(2/ 149).

(2)

في "التقرير": أو المراد: المواجهة، يقال: بين أيديكم أي: تجاهكم، فذكر الأرجل إذًا للتأكيد، أو الأيدي في الحال، والأرجل في المآل، لأن السعي بالرجل.

(3)

في "التقرير": قيد به مع أن أوامره عليه الصلاة والسلام كلها معروفة، تنبيهًا على أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولأن القيد إذ يكون في عصيانه عليه الصلاة والسلام فغيره أولى، كذا في "تفسير أبي السعود"(6/ 239)، و"الجمل"(4/ 333).

ص: 245

وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ"، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 18، م: 1709].

19 -

[18] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ. . . . .

ــ

وقوله: (ومن أصاب من ذلك شيئًا) قيل: (ذلك) إشارة إلى ما سبق سوى الشرك فإنه لا يكفر بالقتل ولا يعفى، وهو مبني على أن يكون المراد بالشرك الكفر، وإن كان المراد به الرياء، فالمراد بالعقوبة في الدنيا أعم من الحد، لأنه ليس للرياء حد يقام.

وقوله: (فهو إلى اللَّه. . . إلخ) يثبت مذهب أهل السنة من عدم وجوب عقاب العاصي.

19 -

[18](أبو سعيد الخدري) قوله: (خرج في أضحى) جمع أضحاة لغة في أضحية، وفي الحديث:(إن على كل أهل بيت [في كل عام] أضحاة)، أي: أضحية، قال في (النهاية) (1): فيه لغات: أُضْحِيَّةٌ وإضْحِيَّةٌ، والجمع أَضَاحِيُّ، وضَحِيَّةٌ، والجمع ضَحَايَا، وأَضْحَاةٌ، والجمع أضحى، وكذا قال في (القاموس)(2)، وفيه: هي اسم شاة يُضَحّى بها، وسمي بها يوم النحر.

وقوله: (أو فطر) شك الراوي، وقد جاء في رواية:(يوم عيد)، وفي أخرى:(في فطر) بلا شك.

وقوله: (إلى المصلى) هو موضع خارج المدينة المطهرة وبينه وبين المسجد

(1)"النهاية"(3/ 76).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 1199).

ص: 246

فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ"، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ،

ــ

النبوي ألف ذراع.

وقوله: (يا معشر النساء) في (القاموس)(1): المعشر كمسكن: الجماعة، والظاهر أن الخطاب للنساء الحاضرات، ويعلم الحكم فيما عداهن بالدلالة، ويحتمل أن يكون عامًّا تغليبًا للحاضر على الغائب.

وقوله: (فإني أريتكن) أي: أعلمت أنكنَّ أكثر أهل النار، فهو متعدٍّ إلى ثلاثة مفاعيل، أقيم الأول منها مقام الفاعل، والإعلام يحتمل أن يكون بالإخبار من اللَّه تعالى أو كوشف له صلى الله عليه وسلم ذلك عيانًا، واللَّه أعلم.

وقوله: (تكثرن اللعن) أي: في المحاورات والمخاطبات على الأشياء، وذلك مذموم، ومعناه الطرد وإبعاد اللَّه العبد من رحمته، ولا يجوز أن يلعن أحد لشخصه مؤمنًا كان أو كافرًا إلا إذا علم يقينًا موته على الكفر، ويجوز بالوصف؛ كلعنة اللَّه على الكافرين مثلًا، وقد جاء بمعنى الإبعاد من الرحمة الخاصة ومقام القرب، ولا يختص ذلك بالكافر، وجاء إطلاقه على غيره تغليظًا، فتدبر.

وقوله: (تكفرن) من كفران النعمة، كَفَرَ نعمة اللَّه وبها كُفْورًا وكُفْرانًا: جَحَدَها وسَتَرَها، وكَافَرَه حقه: جحده، كذا في (القاموس)(2)، والمادة للستر، و (العشير) القريب والصديق، والعاشر والزوج، كذا في (القاموس)(3)، والظاهر أن المراد ههنا

(1)"القاموس المحيط"(ص: 410).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 438).

(3)

"القاموس المحيط"(ص: 410).

ص: 247

مَا رَأَيْتُ مِن نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ"، قُلْنَ: مَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ"، قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَان عَقْلِهَا"، قَالَ: "أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ "، قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: . . . . .

ــ

الزوج وإن كان كفرهن مع الأقرباء والأصدقاء أيضًا.

وقوله: (ما رأيت من ناقصات) أي: أحدًا من ناقصات، أو (من) زائدة.

وقوله: (أذهب) من الإذهاب، قال الرضي: اشتقاق اسم التفضيل من باب (أفعل) قياس عند سيبويه، ويؤيده كثرة السماع؛ كقولهم: هو أعطاهم للدينار، وأولاهم للمعروف، وأنت أكرم من فلان، وهو كثير، ومجوزه قلة التغير بحذف الهمزة ورده إلى الثلاثي، وهو عند غيره سماعي مع كثرته.

وقوله: (للب) الخالص من كل شيء، والعقل (1)، واللبيب: العاقل، والحزم بالحاء المهملة والزاي: ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة كالحزامة والحزومة، حزُم ككرم فهو حازم وحزيم، والجمع حزمة وحزامًا، من حزمت الشيء إذا شددته، و (من) في (من إحداكن) تفضيلية متعلقة بـ (أذهب).

وقوله: (قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول اللَّه؟ ) قدمن السؤال عن ذهاب دينهن تحسرًا واهتمامًا به، ولم يقدمه صلى الله عليه وسلم قوله:(من ناقصات عقل ودين) تحاشيًا عن نسبة النقصان إلى دينهن في أول الكلام، ولهذا لم يخاطبهن في الجواب بل ذكره بلفظ الغيبة.

(1) قال القاري: الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ يُدْرَكُ بِهَا الْمَعْنَى، وَيَمْنعُ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ نُورُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَاللُّبُّ الْعَقْلُ الْخَالِصُ مِنْ شَوْبِ الْهَوَى. "مرقاة المفاتيح"(1/ 93).

ص: 248

"فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 304، م: 80].

20 -

[19] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ كذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِك، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِك، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا،

ــ

وقوله: (فذلك من نقصان دينها) ذلك وإن كان بخلق اللَّه وليس لها فيه اختيار ولكن خلقها كذلك، ومنعها من بعض العبادات دون الرجل حطٌّ لها من درجة ونقص في المرتبة، فافهم.

20 -

[19](أبو هريرة) قوله: (كذبني ابن آدم) التكذيب راجع إلى إخبار اللَّه تعالى في القرآن بذلك، أو إلى ما يتضمن الإبداء من الإخبار بجواز الإعادة كما ينبئ عنه سياق الحديث، وفي قوله:(ابن آدم) تحقير له لكونه جزءًا من بشر مخلوق من تراب ومن ماء مهين، وإشارة إلى كفرانه النعمة المفاضة على أبيه.

وقوله: (لم يكن له ذلك) أي: لم يصح ولم يجز له ذلك؛ لكونه مخالفًا للبرهان ومرتبة العبودية.

وقوله: (وشتمني) الشتم: السب، فهو وصف الرجل بما فيه إزراء ونقص سيما فيما يتعلق بالنسب، وإنما كان إثبات الولد له تعالى شتمًا؛ لأنه قول بمماثلة [الولد] في [تمام] الحقيقة واستخلافه له، وفيه نقص ظاهر.

وقوله: (لن يعيدني كما بدأني) هذا القول إما من بني آدم القائل بالإبداء أو لأنَّه يعلمه إذا نظر نظرًا صحيحًا، وعلى كل تقدير فيه إشارة إلى خطئه في نفي الإعادة، كما قال:(وليس أول الخلق بأهون)، ومعناه أن الإعادة أهون، كما قالوا في مثل هذا التركيب:

ص: 249

وَأَنا الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفؤًا أَحَدًا".

21 -

[20] وَفِي رِوَايَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، وَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا". رَوَاهُ البخَارِيُّ. [خ: 4482].

ــ

إنه لإفادة الزيادة في مدخول (مِنْ)، وهو الموافق بقوله تعالى:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وهذا بالنسبة إلى الناس، وأما بالنسبة إلى اللَّه سبحانه فالكل سواء.

وقوله: (وأنا الأحد. . . إلخ) صفات مشعرة بالعلية، والأحد الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر مثله، ولو كان معه ولد كان له مثل، فلا يكون متوحدًا في الذات والصفات، و (الصمد) السيد لأنه يقصد، والدائم، والرفيع، ومصمت لا جوف له، كذا في (القاموس)(1)، وفي (النهاية) (2): الصمد: هو السيد الذي انتهى إليه السُّودَدُ، أو الدائم الباقي، أو الذي لا جوف له، أو الذي يصمد إليه في الحوائج، أي: يقصد، أقوال.

وقوله: (لم ألد ولم أولد) واقع على المعنى كما في قوله: أنا الذي سمتني أمي حيدرة، والظاهر لم يلد ولم يولد، كذا قال علماء المعاني، والكفو المثل، كافأه: ماثله، والمراد ههنا الصاحبة، ويحتمل أن يشتمل الولد أيضًا؛ لأنه يكون مثل الأب.

21 -

[20](ابن عباس) قوله: (أن أتخذ صاحبة أو ولدًا) روي (وولدًا) بالواو، وفي بعض الروايات (ولا ولدًا) باعتبار تضمن (سبحاني) معنى التنزيه، كذا قال الطيبي (3).

(1)"القاموس المحيط"(ص: 280).

(2)

"النهاية"(3/ 52).

(3)

انظر: "شرح الطيبي"(1/ 148).

ص: 250

22 -

[21] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِيَ الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4826، م: 2246].

ــ

22 -

[21](أبو هريرة) قوله: (يؤذيني ابن آدم) أي: يأتي بما أكره ولا أرضى.

وقوله: (يسب الدهر) يروى (بسب الدهر) على لفظ المصدر المجرور بحرف الجر، والدهر اسم للزمان الطويل والأمد الممدود، كذا في (القاموس)(1)، وقال البيضاوي (2):[طائفة محدودة من] الزمان الممتد الغير المحدود.

وفي (النهاية)(3): هو اسم للزمان الطويل، ومدة الحياة الدنيا، وكان من شأن العرب ذم الدهر وسَبّه عند النوازل، ويقولون: أبادهم الدهر، فنهوا عن سبه، أي: لا تسبوا فاعلها، فإنكم إذا سببتموه وقع السب على اللَّه؛ لأنه الفعال لما يريد، فإن الدهر هو اللَّه، أي: جالب الحوادث هو لا غير، فوضع الدهر موضع الجالب لاشتهار الدهر عندهم به، وروي (فإن اللَّه هو الدهر) أي: جالب الحوادث لا غير ردًّا لاعتقادهم أن جالبها الدهر، كذا في (النهاية).

وقال الكرماني (4): وأنا الدهر، أي: المدبر، أي: مقلب الدهر، وروي (الدهر) بالنصب، أي: باق فيه، انتهى.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 368).

(2)

"تفسير البيضاوي"(5/ 351).

(3)

"النهاية"(2/ 144).

(4)

انظر: "شرح الكرماني"(18/ 89).

ص: 251

23 -

[22]، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَدْعُونَ لَهُ الْوَلَدَ،

ــ

وقيل: هو ظرف (أقلب)، وتعقب بأنه لا فائدة للظرفية، فالرفع أولى، بمعنى أنا المتصرف المدبر، وأنا فاعل ما يضاف إلى الدهر من المسرة والمساءة، أو بحذف مضاف، أي: أنا مقلب الدهر وهو يذعن لأمري لا اختيار له، فمن ذمه فقد ذمني، وأنكر الخطابي الرفع بأنه يقتضي كون الدهر من أسماء الحسنى، بل معناه على الظرفية أي: أقلب الليل والنهار طول الزمان، كذا في (مجمع البحار)(1).

وقال في (القاموس)(2): الدهر قد يعدّ في الأسماء الحسنى.

واعلم أن إيذاء اللَّه سبحانه بسب الدهر، إما أن يكون لرجوع السب إليه تعالى كما ذكروا، ويمكن أن يكون من جهة أن سب الدهر يشعر بنسبة التصرف إليه واللَّه هو المتصرف، ففيه نفي صفة الكمال عنه تعالى، فافهم.

23 -

[22](أبو موسى الأشعري) قوله: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّه) الصبر الحبس، ومنه: قتل صبرًا، وهو أن يحبس حيًّا ويرمى حتى يموت، وصبر الإنسان. حبس النفس على ما يكرهه، وضده الجزع، والمراد ههنا لازمه، والصبور: الحليم الذي لا يعاجل العصاة بالنقمة بل يعفو أو يؤخر، كذا في (القاموس)(3)، وقال في (النهاية) (4): هو كالحليم، إلا أن المذنب لا يأمن في الصبور العقوبة كما يأمن في الحليم.

(1)"مجمع بحار الأنوار"(2/ 219).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 368).

(3)

"القاموس المحيط"(ص: 393).

(4)

"النهاية"(3/ 7).

ص: 252

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ومعنى الحديث: لا أشد حلمًا وصبرًا عن فاعله وتركًا للمعاقبة عليه من اللَّه سبحانه، وهذا التركيب يفيد في الأصل نفي الأشدية من غير اللَّه سبحانه، فإما أن يكون مساويًا أو ناقصًا، ولما استحال الأول تعين الثاني، والصبر والحلم موجودان في غير اللَّه سبحانه ممن يتخلق بالأخلاق الكريمة، ولكنهما فيه سبحانه وتعالى أتم وأكمل كما في غيرهما من الصفات الكاملة، وفي العرف يفيد الأشدية فيه تعالى كما ذكروا في أمثال هذا التركيب، وقد ذكروا وجهه بأن مساواة اثنين في صفة غير واقع، فإذا انتفت الأفضلية من أحد تثبت للآخر.

هذا وقال الطيبي (1) ما ملخصه: المراد نفي ذات المفضل وقلعه من أصله، فإذا انتفت انتفت المساواة والنقصان، وجعله من قبيل: لا ضب بها ينجحر، والغرض نفي الضب من أصله، وإنما ضمت إليه الصفة ليصير كالشاهد على نفي الصفة، والمعنى لا ضب هناك حتى يكون الانجحار، انتهى.

وفي حمل الحديث على هذا المعنى خفاء ظاهر، فإن المفهوم منه صريحًا نفي الأصبرية من غيره تعالى مع وجود الصابرين، وهو يستلزم أصبريته تعالى عرفًا كما قررنا لا نفي الصابرين، مع كونه غير واقع لكثرة وجود الصابرين، والصفة ههنا هي أصبرية غيره تعالى، وهو غير لازم للموصوف كالانجحار للضب، فلا يكون من ذلك القبيل، ثم تعينه النقصان مما لا دخل له في المقصود؛ لأن المقصود دفع الإشكال بأنه يلزم من نفي أصبرية غيره تعالى احتمال كونه مساويًا له تعالى في الصبر، ولا محذور في كونه ناقصًا على ما قررنا، فتأمل حتى يظهر المقصود.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 151).

ص: 253

ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 7378، م: 2804].

24 -

[23] وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، لَيْسَ بَيِنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي. . . . .

ــ

وقوله: (ثم يعافيهم) العافية دفاع اللَّه عن العبد، عافاه اللَّه عن المكروه عِفاءً ومعافاة وعافية: وَهَبَ له العافية من العلل والبلاء، كأعفاه، والمعافاة: أن يعافيك اللَّه من الناس ويعافيهم منك، كذا في (القاموس)(1)، أي: يدفع عنهم البلاء والضرر في الدنيا، ويرزقهم الأموال والأولاد وأنواع النعم فيها، ولا يعجل العقوبة، فإن اعتبرت حال الدنيا فهذا حلم، وإن اعتبرت الآخرة فصبر.

24 -

[23](معاذ) قوله: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم) الردف بالكسر: الراكب خلف الراكب، كالرديف والمرتدف، وكل ما يتبع شيئًا.

وقوله: (إلا مؤخرة الرحل) بضم فهمزة ساكنة فمعجمة مكسورة، أو همزة مفتوحة ومعجمة مفتوحة مشددة، وهي العود الذي يكون خلف الراكب يستند إليه، كذا في شرح الشيخ، وفي (القاموس) (2): مؤخر الرحل ومؤخرته تكسر وتفتح خاؤهما مخففة ومشددة، وفي (الصحاح) (3): مؤخرة الرحل بفتح الخاء لغة قليلة، وفيه لغة أخرى، وهي (آخرة) بالمد خلاف القادمة، و (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة.

وقوله: (هل تدري) درى دراية: عَلِمَه، أو بضرب من الحيلة، كذا في (القاموس)(4).

(1)"القاموس المحيط"(ص: 206).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 322).

(3)

انظر: "الصحاح"(2/ 66).

(4)

"القاموس المحيط"(ص: 1179).

ص: 254

مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا"، قُلْتُ (1): يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا تُبَشِّرُهُمْ فَيَتَّكِلُوا". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2856، 5967، م: 30].

ــ

وقوله: (ما حق اللَّه على عباده) الحق: ضد الباطل، والأمر المقضي، والواجب، والموجود الثابت، لكن المراد بالأول الواجب الثابت شرعًا، وفي الثاني تفضلًا، وإنما سمّي حقًا واجبًا لتأكده بوعده الحق (2).

وقوله: (ولا يشركوا به شيئًا) إن كان المراد بالإشراك الكفر، فالمراد أن لا يعذب عذاب المشركين، وإن كان الرياء فالعابد بالإخلاص حقه أن لا يعذب أصلًا.

وقوله: (أفلا أبشر به الناس) البشارة مثلثة الباء: الإخبار بما يسرّ، سمّي به لأنه يظهر أثره في البشرة.

وقوله: (فيتكلوا) بتشديد التاء، أي: يعتمدوا ويمتنعوا عن العمل، وروي:(ينكلوا) بضم الكاف من النكول، وهو الامتناع.

فإن قلت: كيف رواه معاذ وبشر به الناس مع نهيه صلى الله عليه وسلم عنه؟

قلنا: علم معاذ رضي الله عنه أن النهي مخصوص بذلك الزمان، أو رواه بعد الأمر

(1) في نسخة: "فقلت".

(2)

قال القاري: حَقُّ اللَّهِ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ وَاللَّازِمِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ بِمَعْنَى الْجَدِيرِ وَاللَّائِقِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ النَّوَوِىُّ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى جِهَةِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ لِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 97).

ص: 255

25 -

[24] وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ -قَالَ: "يَا معَاذُ! " قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:"يَا مُعَاذُ! " قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:"يَا مُعَاذُ! " قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا، قَالَ:"ما مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذًا يَتَّكِلُوا" فَأخْبر بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 128، م: 32].

ــ

بوجوب التبليغ وورود الوعيد على كتمان العلم كما يفهم من الحديث الآتي، أو النهي عن التبشير كان لمن يتكل، فأخبر لمن لا يخشى عليه.

25 -

[24](أنس) قوله: (لبيك (1) رسول اللَّه) حذف حرف النداء (2) للقرب؛ سرعةً وإظهارًا للإجابة من نفسه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والإقبال عليه.

وقوله: (إلا حرمه اللَّه على النار) أي: النار التي أعدت للكافرين، أو حرم الخلود فيها، والتأثم: الاحتراز من الإثم، وفي الحديث:(تأثموا من التجارة)(3)، أي: احترزوا من إثم حاصل من التجارة، وفي (القاموس) (4): تأثم: تاب من الإثم.

(1) مُثَنى مُضَافٌ بُنِيَ لِلتَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، مِنْ لَبَّ: أَجَابَ أَوْ أَقَامَ، أَيْ: أَجَبْتُ لَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَوْ أَقَمْتُ عَلَى طَاعَتِكَ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ، وأما تَكْرِيرُ النِّدَاءِ فهو لِتَأْكِيدِ الاهْتِمَامِ بِمَا يُخْبِرُ، وَلِيُكْمِلَ تَنْبِيهَ مُعَاذٍ فِيمَا يَسْمَعُهُ فَيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، وَأَشَدَّ فِي الضَّبْطِ وَالْحِفْظِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 98).

(2)

كما في نسخة.

(3)

أخرجه البخاري (2098).

(4)

"القاموس المحيط"(ص: 992).

ص: 256

26 -

[25] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ:"مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ:"وَإِنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ"، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ"، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذرٍّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5827، م: 94].

ــ

26 -

[25](أبو ذر) قوله: (قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض. . . إلخ) أشار به إلى ثبته وإتقانه فيما يرويه باطلاعه على خصوصيات أحواله صلى الله عليه وسلم، وكأنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا المنام، فأخبر به بعد استيقاظه، فذكره أبو ذر إشارة إلى ذلك.

وقوله: (قلت: وإن زنى وإن سرق) تقدير الكلام أيدخل الجنة وإن زنى؟ والشرط حال، و (سرق) من باب ضرب يضرب.

وقوله: (على رغم أنف أبي ذر) إما متعلق بـ (يدخل) المقدر، أو قلت هذا، أو حكمت بهذا، والرغم والرغام بالفتح: التراب، ورغم رغمًا مثلثة الراء من سمع وفتح، وأرغم اللَّه أنفه: ألصقه بالرغام، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاب والانقياد على كره، وفي الحديث:(إذا صلى أحدكم فيلزم جبهته وأنفه الأرض حتى يخرج منه الرغم)، أي: حتى يظهر ذله وخضوعه، وفي حديث آخر:(رغم أنفي اللَّه)، أي: ذل وانقاد، وحديث: سجدتي السهو (كانتا ترغيمًا للشيطان)(1)، أي: إغاظة له وإذلالًا، فالمعنى وإن ذلّ وكره أبو ذر، فإنه لما استبعد دخول الجنة مع وجود الزنا

(1) أخرجه مسلم (571)، والنسائي (1238)، وأحمد (3/ 72).

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والسرقة كأنه سعى في نفيه، فالحكم بخلافه وضده كان تذليلًا وإكراهًا.

واعلم أن هذا الحديث وأمثاله تدل على أن المؤمن إن كان فاسقًا ومرتكبًا للكبيرة دخل الجنة، ولم يخلد في النار، ويغفر اللَّه له إن شاء، أو يعذبه ثم يدخله الجنة، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، والأحاديث في ذلك كثيرة، والأحاديث الدالة على خلافه تؤول عندهم تطبيقًا بين الدلائل، وعلى هذا كان إجماع السلف من الصحابة والتابعين، ثم نشأت المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، وقالوا: في هذا انخلاع عن ربقة الدين والملة، وانسلال عن قيد الأحكام والشريعة، وإغراء للناس على ارتكاب المعاصي وتركهم سدى مهملين، وهذا خطأ منهم، فإن الوعيدات الواردة في شأن العصاة كافية في الزجر عن المعاصي وتركها، فلو شاء يعذب على أدنى معصية أحقابًا، وورد:(إن أدنى مدة مكث العصاة من المؤمنين مدة عمر الدنيا وسبع آلاف سنة)، نعم وعد المؤمنين بفضله ورحمته الواسعة بالخلاص عن خلود النار، وأما الأحاديث الناطقة بحرمة (من قال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه صدقًا من قلبه) على النار فمؤول بحرمة خلوده فيها، أو المراد النار التي أعدت للكافرين، وقال بعضهم: إن هذا كان قبل نزول الفرائض والأوامر والنواهي، ومنهم من قال: إن المراد أن يقول هذه الكلمة ويؤدي حقها وفريضتها، وقيل: إذا قالها عند الندم والتوبة، هذا في حرمة قائلها على النار.

أما دخول الجنة ولو بعد التعذيب وعدم خلوده في النار؛ فالمذهب أن مجرد هذه الكلمة إذا صدرت خالصة من القلب صدقًا، ثم لم يطرأ عليها ما يضادها يحصل بها أصل النجاة ولو بعد تعذيب، وليست هذه الحالة يسيرة سهلة تحصل لكل أحد، فإن قلوب أرباب المعاصي قلما تخلو عن استحلال واستحقاق بالمعصية، محشوة

ص: 258

27 -

[26] وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ،

ــ

بالظلمات التي تتطرق بها الشكوك والأوهام المنافية لحقيقة التصديق اليقيني الخالص، وإذا حصل التصديق اليقيني من غير شائبة شك ووهم، واستقام وثبت، ومع ذلك صدرت المعصية بعارض غلبة شهوة وحمية وأنفة، وأمثال ذلك؛ لم يخلَّ بأصل الإيمان، وليس العمل داخلًا في أصل الإيمان بل في كماله، وتمام شعبه وخصاله، وإذا ثبت أمره في النفس الأخير على ذلك يظهر نوره وتندفع ظلمته [التي] طرأت بالمعصية بمغفرة من اللَّه وتطهيره وتنقيته بالعذاب وشفاعة الشافعين، وذلك فضل اللَّه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو العزيز الحكيم، وهو على كل شيء قدير، وتمام هذه المباحث تطلب من كتب الكلام، فتدبر.

27 -

[29](عبادة بن الصامت) قوله: (وأن عيسى عبد اللَّه ورسوله) فيه رد على اليهود والنصارى، الأول في الثاني، والثاني في الأول.

وقوله: (وابن أمته) الظاهر أنه رد على النصارى خاصة وتقرير له، قال الطيبي (1): وكذا على اليهود؛ براءة لساحته من قذفهم.

وقوله: (وكلمته ألقاها) سمي عيسى كلمة اللَّه لوجوده بكلمة {كُن} من غير أب، أو لأنه تكلم في صغره.

وقوله: (وروح منه) سمي بالروح لإحيائه الأموات أو القلوب، أو ذو روح صدر منه اختراعًا لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 159).

ص: 259

وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3435، م: 28].

28 -

[27] وَعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعَكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ "مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ " قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ:"تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ " قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي،

ــ

وقوله: (الجنة والنار حق) ذكر للمعاد كالذي قبله ذكر للمبدأ، والحق: الموجود الثابت، فهي صفة مشبهة، وإن حمل على معنى الصدق فهو مصدر من قبيل رجل عدل.

وقوله: (أدخله اللَّه الجنة) إما ابتداءً بعفو منه أو بشفاعة من رسوله، أو بعد تعذيبه بما شاء.

وقوله: (على ما كان عليه من العمل)(1) أي: كائنًا على أيِّ عمل كان عليه من صغيرة أو كبيرة، وليس في أكثر النسخ (عليه) فهو محذوف أو (كان) تامة.

28 -

[27](عمرو بن العاص) قوله: (فلأبايعك) إما بكسر اللام ونصب الفعل على أن اللام بمعنى (كي) و (أن) مقدرة، فالفاء زائدة، أو اللام للتأكيد والفاء هي التي يقدر بعدها (أن)، أو بفتح اللام الابتدائية، والفعل مرفوع.

وقوله: (تشترط ماذا)(ما) الاستفهامية لها صدر الكلام، فيقدر (ماذا) قبل (تشترط)، والمذكور مفسر له، وقيل: إذا ركّبت مع (إذا) لم يجب تصديرها، أو حرف الاستفهام مقدر قبل (تشترط) و (ماذا) مع فعله المحذوف ابتداء الكلام، ذكر

(1) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 101).

ص: 260