المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الأول: - لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبد الحق الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌تقديم بقلم: أ. د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ (الأمِيْنِ العَامِّ لِرَابِطَةِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ)

- ‌تَقْدِيْمٌ بِقَلَمِ: سَمَاحَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الرَّابِعِ الحَسَنِيِّ النَّدْوِيِّ رَئِيْسِ نَدْوَةِ العُلَمَاءِ بِالهِنْدِ

- ‌تَقدِيْمٌ بِقَلَمِ: أ. د. موَفَّقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ القَادِرِ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ - جَامِعَةُ أُمِّ القُرَى

- ‌تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ: فَضِيلَةِ الأُسْتَاذِ المُحَدِّثِ الفَقِيْهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد تَقِي العُثْمَانِيِّ شَيْخِ الحَدِيثِ بِجَامِعَةِ دَارِ العُلُومِ كراتشي في باكستان

- ‌مُقَدِّمَةُ المُحَقّقْ

- ‌عَمَلي في هَذا الكِتَاب

- ‌تَرْجَمَةُ الإمَامِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الحَقِّ البُخَارِيِّ الدِّهْلَوِيِّ

- ‌ كيف دخل الإسلام الهند:

- ‌ علم الحديث في القرن العاشر الهجري:

- ‌ اسمه ولقبه وأسرته ومولده ونشأته:

- ‌ تدريسه قبل سفره إلى الحجاز:

- ‌ ارتحاله لطلب العلم:

- ‌ ارتحاله إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ عودة الشيخ المحدث من الحجاز إلى الهند:

- ‌ منهج الشيخ المحدث في الدعوة في هذه الظروف:

- ‌ شيوخه:

- ‌ اختيار الشيخ المحدث إسنادًا خاصًّا لرواية الحديث:

- ‌ اعتراف شيوخه برسوخه في العلم:

- ‌ الفرق بين منهج المحدث عبد الحق الدهلوي وبين منهج الإمام ولي اللَّه الدهلوي:

- ‌ وصايا الشيخ عبد الوهاب للشيخ المحدث:

- ‌ وصايا الشيخ أبي المعالي للشيخ المحدث:

- ‌ استكمال التربية والسلوك من الشيخ الكبير عبد الباقي النقشبندي المعروف بخواجه باقي باللَّه:

- ‌ الشيخ المحدث وعلاقته بالربانية:

- ‌ البركة في أعمال الشيخ المحدث:

- ‌ الشيخ المحدث بين التصنيف والتأليف:

- ‌ الشيخ المحدث ومآثره:

- ‌ علاقة الشيخ المحدث مع الإمام السرهندي:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ خلفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ وصول إسناده إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ مؤلفاته

- ‌ أشعة اللمعات في شرح المشكاة:

- ‌ لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح:

- ‌ مصابيح السنة:

- ‌تَرْجَمَةُ صَاحِبِ المِشْكَاةِ

- ‌ مشكاة المصابيح:

- ‌ عدد أحاديثه:

- ‌ وصف النسخ المخطوطة:

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌ النسخة الرابعة:

- ‌ النسخة الخامسة:

- ‌ النسخة السادسة:

- ‌صور المخطوطات

- ‌مُقَدِّمَةُ اللّمَعَات

- ‌مُقَدِّمَةٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ مُصْطَلَحَاتِ عِلْمِ الحدِيثِ مِمَّا يَكْفِيْ فِي شَرْحِ الكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيْلٍ وإِطْنَابٍ

- ‌[تَعْرِيف الحَدِيث]:

- ‌[الْمَرْفُوع]:

- ‌[الْمَوْقُوف]:

- ‌[الْمَقْطُوع]:

- ‌[الحَدِيث والأثر]:

- ‌[الْخَبَر والحَدِيث]:

- ‌[الرّفْع قِسْمَانِ صَرِيح وحكمي]:

- ‌[القولي الصَّرِيح]:

- ‌[الفِعْلِيّ الصَّرِيح]:

- ‌[التقريري الصَّرِيح]:

- ‌[القولي الْحكمِي]:

- ‌[الْفعْلِيّ الْحكمِي]:

- ‌[التقريري الْحكمِي]:

- ‌فصل

- ‌[السَّنَد]:

- ‌[الإِسْنَاد]:

- ‌ المتن

- ‌[الْمُتَّصِل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[الْمُعَلق]:

- ‌[تعليقات البُخَارِيّ]:

- ‌[حكم التَّعْلِيق بِصِيغَة الْمَعْلُوم والمجهول]:

- ‌[الْمُرْسل]:

- ‌[حكم الْمُرْسل]:

- ‌[المعضل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[طَرِيق معرفَة الانْقِطَاع]:

- ‌[المدلس]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس اصْطِلاحًا]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس لُغَة]:

- ‌[وَجه التَّسْمِيَة بِهِ]:

- ‌[حكم المدلِّس]:

- ‌[حكم التَّدْلِيس]:

- ‌[حكم رِوَايَة المدلس]:

- ‌[أَسبَاب التَّدْلِيس]:

- ‌[تَدْلِيس الأكابر]:

- ‌[المضطرب]:

- ‌[حكم المضطرب من الرِّوَايَات]:

- ‌[المدرج]:

- ‌ تَنْبِيه:

- ‌[الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى]:

- ‌[رِوَايَة اللَّفْظ أولى]:

- ‌[العنعنة]:

- ‌[المعنعَن]:

- ‌[شُرُوط العنعنة]:

- ‌[الْمسند]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌المنكر

- ‌[الشاذ لُغَة]:

- ‌[الشاذ اصْطِلَاحًا]:

- ‌[الْمَعْرُوف]:

- ‌[حكم الْمَعْرُوف وَالْمُنكر والشاذ وَالْمَحْفُوظ]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للشاذ]:

- ‌[تَعْرِيف ثَالِث للشاذ]:

- ‌[الْمُعَلل]:

- ‌[المتابع]:

- ‌[فَائِدَة الْمُتَابَعَة]:

- ‌[دَرَجَات الْمُتَابَعَة]:

- ‌[مَتى يسْتَعْمل "مثله" و"نحوه

- ‌[شَرط الْمُتَابَعَة]:

- ‌[الشَّاهِد]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للمتابع وَالشَّاهِد]:

- ‌[الاعْتِبَار]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌الصحيح

- ‌[الصَّحِيح لذاته]:

- ‌[الصَّحِيح لغيره]:

- ‌[الْحسن لذاته]:

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[الْحسن لغيره]:

- ‌[النُّقْصَان المُعْتَبر فِي الْحسن]:

- ‌[الْعَدَالَة]:

- ‌ التقوى

- ‌المروءة

- ‌[عدل الرِّوَايَة أَعم من عدل الشَّهَادَة]:

- ‌[الضَّبْط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بِالْعَدَالَةِ]:

- ‌[1 - الْكَذِب]:

- ‌[الْمَوْضُوع]:

- ‌[حكم متعمد الْكَذِب]:

- ‌[المُرَاد بالموضوع]:

- ‌[مَسْأَلَة الحكم بِالْوَضْعِ ظنية]:

- ‌[2 - اتهام الرَّاوِي بِالْكَذِبِ]:

- ‌[الْمَتْرُوك]:

- ‌[حكم الْمُتَّهم بِالْكَذِبِ]:

- ‌[حكم من يكذب نَادرًا]:

- ‌[3 - الْفسق]:

- ‌[4 - جَهَالَة الرَّاوِي]:

- ‌[حكم الْمُبْهم]:

- ‌[5 - الْبِدْعَة]:

- ‌[حكم حَدِيث المبتدع]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بالضبط]:

- ‌[1 - و 2 - فرط الْغَفْلَة وَكَثْرَة الْغَلَط]:

- ‌[3 - مُخَالفَة الثِّقَات]:

- ‌[4 - الْوَهم]:

- ‌[غموض علم الْعلَّة ودقته]:

- ‌[5 - سوء الْحِفْظ]:

- ‌[حكم سيئ الحِفْظ]:

- ‌[الْمُخْتَلِط]:

- ‌[حكم الْمُخْتَلط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْغَرِيب]:

- ‌[الْعَزِيز]:

- ‌[الْمَشْهُور]:

- ‌[الْمُتَوَاتر]:

- ‌[الْفَرد]:

- ‌[الْفَرد النسبي]:

- ‌[الْفَرد الْمُطلق]:

- ‌[المُرَاد بِكَوْن الرَّاوِي اثْنَيْنِ أَو أَكثر]:

- ‌[لَا تنَافِي بَين الغرابة وَالصِّحَّة]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[مَرَاتِب الصَّحِيح وَالْحسن]:

- ‌[أصح الأَسَانِيد]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[اصْطِلَاحَات التِّرْمِذِيّ]:

- ‌[إِشْكَال اجْتِمَاع الغرابة وَالْحسن]:

- ‌[جَوَاب الإِشْكَال]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الاحْتِجَاج بِالصَّحِيحِ وَالْحسن]:

- ‌[الاحْتِجَاج بالضعيف]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[صَحِيح البُخَارِيّ أَعلَى الصِّحَاح]:

- ‌[وَجه تَرْجِيح صَحِيح مُسلم عِنْد بعض المغاربة]:

- ‌[الْمُتَّفق عَلَيْهِ]:

- ‌[عدد الأَحَادِيث الْمُتَّفق عَلَيهَا]:

- ‌[دَرَجَات الصِّحَاح]:

- ‌[معنى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[البُخَارِيّ وَمُسلم لم يستوعبا الصِّحَاح]:

- ‌[مُسْتَدْرك الْحَاكِم]:

- ‌[صَحِيح ابْن خُزَيْمَة]:

- ‌[صَحِيح ابْن حبَان]:

- ‌[صَحِيح الْحَاكِم (الْمُسْتَدْرك)]:

- ‌[المختارة للمقدسي]:

- ‌[صِحَاح أُخْرَى]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْكتب السِّتَّة]:

- ‌[أَحَادِيث الْكتب الأَرْبَعَة]:

- ‌[اصْطِلَاح الْبَغَوِيّ]:

- ‌[كتاب الدَّارمِيّ]:

- ‌[مصَادر السُّيُوطِيّ فِي جمع الْجَوَامِع]:

- ‌[جمَاعَة من الأَئِمَّة المتقنين]:

- ‌مُقَدِّمَةُ المِشْكَاةِ

- ‌1 - كتاب الإيمان

- ‌ الفصل الأول:

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌1 - باب الكبائر وعلامات النفاق

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّل:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب الوسوسة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب الإيمان بالقدر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب إثبات عذاب القبر

- ‌ الْفَصْل الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌(2) كِتَابُ العِلْمِ

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

الفصل: ‌ الفصل الأول:

‌2 - باب الوسوسة

*‌

‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

63 -

[1] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا. . . . .

ــ

2 -

بَابُ الوَسْوَسَةِ

الوسوسة في الأصل بمعنى الصوت الخفي، يقال: وسوس الحلي: إذا تحرك، ويطلق على كلام مختلط غير مبين، يقال: وسوس: إذا اختلط كلامه وتكلم بكلام لم يبينه، وفي الشرع: حديث النفس والشيطان من الأفكار الفاسدة والخواطر الرديئة الداعية إلى المعاصي، وما يدعو إلى الطاعات إلهامٌ، ويقال: الوسواس بالفتح والكسر، وقيل: بالفتح الاسم وبالكسر المصدر، والوسواس اسم للشيطان أيضًا، وعليه يحمل قوله تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 4].

الفصل الأول

63 -

[1](أبو هريرة) قوله: (ما وسوست به صدورها) يروى بالرفع وهو الأظهر؛ لأن وسوس لازم، ويراد بصدورها أنفسها، ويروى بالنصب، ووسوست بمعنى حدثت، والضمير للأمة، كما جاء في الرواية الأخرى:(ما حدثت به أنفسها)، ويجوز فيها الرفع أيضًا، لكن النصب يؤيده ما جاء في أحاديث أخر:(إن أحدنا يحدث نفسه)، و (إني أحدث نفسي)، وظاهر الحديث أن العبد لا يؤاخذ ما لم يعمل، وإن همّ بمعصية ومحزم عليها، وإليه ذهب بعض العلماء أخذًا بظاهر الحديث، والصواب الذي عليه أكثر الفقهاء والمحدثين أنه يؤاخذ على العزم دون الهم، وتحقيقه أن ما وقع في القلب بغتة من غير اختيار سمّاه بعضهم الهاجس فهو معفو عن جميع الأمم لعدم

ص: 314

مَا لم تعْمل بِهِ أَو تَتَكَلَّم". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2528، 6664، م: 127].

64 -

[2] وَعَنْهُ قَالَ: جَاءَ ناسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا. . . . .

ــ

الاختيار فيه، ثم إذا استمرّ وجال في الصدر يسمّى الخاطر فهو معفو عن هذه الأمة فضلًا من اللَّه وتكريمًا لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم السهو والنسيان اللذين رفعا عن هذه الأمة.

ثم إذا همّ بالمعصية في قلبه بالمحبة والتلذذ كما يقصد الوصول إلى امرأة يحبها، فهذا أيضًا مرفوع، ولا يكتب ما لم يعمل، بل تكتب حسنة إذا همّ وكفّ نفسه عن العمل، وقد وردت فيه أحاديث متعددة.

وههنا قسم آخر، وهو العزم، وهو توطين النفس على المعصية، وعقد القلب بها، والتهالك عليها بحيث لا يمنعه عنها إلا عدم تهيؤ الأسباب من خارج، وليس في نفسه مانع وكراهة ونفرة منها، ويؤاخذ عليه؛ لأنه من أعمال القلب، والعبد مؤاخذ عليها، ومن هذا القبيل العقائد الفاسدة ومساوئ الأخلاق، والهم الذي ذكرنا سابق عليه، وليس المراد به القصد الذي يقع به الفعل ويقارنه، وقد يذكر بمعنى العزم، ويقال بالمؤاخذة، لكن العبرة للمعنى.

وينبغي أن يعلم أن عزم الزنا ليس في حكم حقيقة الزنا، والمؤاخذة عليه مؤاخذة الزنا، بل هو معصية في نفسه أدنى من الزنا، وبهذا التحقيق ينحل كثير من الإشكالات، ويحصل به التطبيق في الأحاديث والآيات، فتدبر.

وقوله: (ما لم تعمل) في الأفعال، (أو تتكلم) في الأقوال.

64 -

[2](عنه) قوله: (إنا نجد) بكسر الهمزة وفتحها.

ص: 315

مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ:"أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "ذَاك صَرِيحُ الإِيْمَان". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 134].

65 -

[3] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ. . . .

ــ

وقوله: (ما يتعاظم) صيغة التفاعل للمبالغة، أي: يجد أحدنا التكلم به في غاية العظم لاعتقاد القلب بنقيضه يقينًا.

و(أحدنا) مرفوع، وقال الطيبي (1): ويجوز النصب، أي: يعظم [ويشق التكلم به] على أحدنا، كأنه يريد نصبه على الحذف والإيصال، ولا يخفى بُعده، ثم لا يدرى أن قوله:(ويجوز النصب) ما معناه؟ إما بالرواية أو بمجرد احتمال العربية، فلا يجدي الثاني نفعًا، فهلا يقول: يروى بالنصب؟ واللَّه أعلم.

وقوله: (أوقد وجدتموه) مثل هذه العبارة في القرآن والأحاديث كثيرة، وإعرابها أن الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر من فعل عام، أي: حصل أو وجد ذلك، وقد وجدتموه، وفيه تكرير وتأكيد.

وقوله: (ذاك) إشارة إلى التعاظم أو وجدانكم إياه عظيمًا (صريح الإيمان)، لأن التعاظم إنما يكون لاعتقاد بطلانه، ولخوف اللَّه وخشيته وتعظيمه، وكله من الإيمان.

65 -

[3](عنه) قوله: (فيقول) وهذا القول وأمثاله هو الذي أجمله في الحديث السابق بقوله: (ما يتعاظم أحدنا).

وقوله: (فإذا بلغه) أي: بلغ الشيطان هذا القول، وهو: مَنْ خَلَقَ ربك،

(1)"شرح الطيبي"(1/ 201).

ص: 316

فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3276، م: 132].

66 -

[4] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ. . . .

ــ

(فليستعذ باللَّه ولينته) بالقيام وتغير الحالة؛ فإنه مؤثر في دفع ما فيه الرجل كما في حالة الغضب ونحوها، وإنما أمر بالاستعاذة والانتهاء لأن في محاجة الشيطان والمناظرة معه فتح باب الوساوس وزيادتها، ولعله يغلب بالشبه والمغالطات، ولم يقدر أحدكم على دفعه، ولا سبيل إلا الاستعاذة باللَّه تعالى، والطلب منه تعالى أن يدفع شره بالتمسك باسمه الهادي، وقد أمر في القرآن المجيد بالاستعاذة من شر الوسواس، والاشتغال بالرياضة، وتزكية النفس، وتصفية القلب أعلى أقسام الاستعاذة.

واعلم أن الخلاص من اللعين الرجيم لا يحصل إلا بالإعراض عنه، وترك الجدال والتقاول به وإن جاء بصورة النصيحة والإنصاف، فإن كيده مستتر فيه، قالوا: قد جاء الشيطان في صلاة بعض المشايخ وقال: لم تصل هذه الصلاة التي صليتها كما ينبغي فأعدها، قال: لا أعيد، صليت كما تيسر لي وأعتذر إلى ربي سبحانه من التقصير، فألحّ في ذلك، وقال: إني لك لمن الناصحين، هذه عبادة ومقامك عند اللَّه رفيع، فلا تواجهه بمثل هذه الصلاة، قال: لا أعيد وأرضى بنزول مقامي، قال: فإن اللَّه لا يقبل منك مثل هذا العمل، قال: ربي كريم يقبل مني ولا يتأتى مني أكثر من هذا، فانخذل العدو ومضى، والحمد للَّه.

66 -

[4](عنه) قوله: (لا يزال الناس يتساءلون) الظاهر من العبارة أن التساؤل يجري بين الناس بعضهم مع بعض ولا بعد، فقد يتفق السؤال إلى أن يبلغ إلى هذا القول، ويشهد بذلك حديث مسلم (1): (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم

(1)"صحيح مسلم"(135).

ص: 317

حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: . . . .

ــ

حتى يقولوا: هذا اللَّه خلقنا فمن خلق اللَّه؟ ) وحديث: (لا يزال الناس يسألونك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا اللَّه خلقنا فمن خلق اللَّه؟ ) وحديث البخاري: (إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا حتى يقولوا: هذا اللَّه خلق الخلق فمن خلق اللَّه؟ )(1).

والظاهر أن المجادلين من أهل الكلام المتوغلين فيها غير المتحاشين من إطلاق مثل هذه الألفاظ في مباحثاتهم من غير مبالاة بما يتفوهون داخلون في هذا الوعيد، وعلى هذا ليس هذا من قبيل الوسوسة، ويحتمل أن يكون المراد التساؤل بين الناس وأنفسهم والشياطين، وعلى هذا هو من باب الوسوسة.

نعم وقوعه بينهم وبين النفس والشيطان أكثر.

وقوله: (حتى يقال: هذا خلق اللَّه الخلق فمق خلق اللَّه؟ ) في هذه العبارة وجوه أظهرها وأقلها تكلفًا أن يكون المعنى حتى يقال هذا القول، وهو خلق اللَّه. . . إلخ، ويحتمل أن يكون التقدير: هذا قد علم، أو علم هذا، ويكون هذا إشارة إلى ما جرى من الكلام بينهم بالتساؤل كما يقع في عبارات المصنفين هذا، أي: علم هذا ومعنى هذا، وهذان الوجهان ذكرهما التُّورِبِشْتِي، وزاد الطيبي (2) وجهًا آخر، وهو أن التقدير: هذا مقرر، و (خلق اللَّه) بيان له، ووجهًا آخر، وهو أن يقدر: هذا القول مقرر، فوضع (خلق اللَّه الخلق) موضع القول، وهو بعيد، فإن هذا إنما يوصف بالمعرف باللام

(1) لم أجده في "صحيح البخاري"، بل أخرجه مسلم (136).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 203).

ص: 318

آمَنتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ عن أنس: 7296، م: 134].

ــ

لا بما وضع موضعه، هذا وقد جاء في رواية مسلم عن أنس، وفي رواية البخاري عن أبي هريرة -كما يأتي في الفصل الثالث (1) -:(هذا اللَّه خلق الخلق)، وهو يحتمل سوى الوجوه المذكورة أن يكون (هذا اللَّه) مبتدأ وخبرًا، أو (هذا) مبتدأ، و (اللَّه) عطف بيان، و (خلق الخلق) خبره.

واعلم أن قوله: (فمن خلق اللَّه) بعد قوله: (خلق اللَّه الخلق) ظاهر الفساد، إذ لم يبق شيء يوصف بالخلقة إلا دخل تحت قوله:(خلق اللَّه الخلق)، فإذا ادّعى قسمًا آخر خارجًا عن تلك الجملة فقد ناقض بأخر كلامه أوله، وكان المقصود التشكيك في انتهاء سلسلة الوجود إلى الواجب تعالى وتقدس، والذهول والإذهال عنه، وطريقة أهل العقل في ذلك التمسك والتعلق بالدليل والبرهان، ولكن قضية جناب الرسالة عن ذلك الاستعاذة والالتجاء باللَّه تعالى والإيمان به، فافهم.

وقوله: (آمنت باللَّه ورسله) إن كان ذلك القول صادرًا عن اعتقاد وسؤالًا عن خالقه تعالى وتقدس مع تسليم كونه مخلوقًا كما هو الظاهر من عبارة (من خلق اللَّه) فهو كفر، وهذا القول توبة ورجوع عن ذلك، وإن كان بطريق الوسوسة أو البحث والمجادلة خصوصًا إذا كان التساؤل بين النفس والشيطان على ما قاله الطيبي (2) لم يكن كفرًا، فقوله:(آمنت) في المعنى استعاذة وانتهاء، فاقتصار الطيبي في تعليل قوله:(فليقل آمنت باللَّه) على أنه كفر يجب تداركه بكلمة الإيمان لا يخلو عن شيء، فليتأمل.

(1) انظر: الحديث (75 - 76).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 203).

ص: 319

67 -

[5] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ". قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ،

ــ

67 -

[5](ابن مسعود) قوله: (وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) أي: بكل أحد من بني آدم مصاحب من الملك ومصاحب من الشيطان، وهو القرين، فقرينه من الملائكة يأمره بالخير، وقرينه من الشيطان يأمر بالشر، وقد ورد في بعض الروايات أنه لا يولد لبني آدم ولد إلا يولد لإبليس مثله ويوكل به، كذا في الحواشي نقلًا عن بعض الشروح.

وقوله: (وقرينه من الملائكة) ليس في (المصابيح) ولا في نسخ من (صحيح مسلم)، وقال الطيبي (1): ولكن ذكره الحميدي والصغاني في (المشارق) عن مسلم.

وقوله: (قالوا: وإياك) أي: وإياك يعني أيضًا داخلًا في هذا العموم، وفي رواية:(قيل: وأنت، قال: وأنا)، هكذا ذكر لفظ الحديث في (مشارق الأنوار) للقاضي عياض.

وقوله: (فأسلم) قال التُّورِبِشْتِي: يووى مفتوحة الميم على بناء الماضي من الإسلام، ومضمومة الميم على بناء المضارع من السلامة، ومن أهل العلم من يختار الرواية بضم الميم، ويقول: القرين من الجن إنما هو الشيطان، والشيطان هو المصر على العتو والتمرد، والمطبوع على الكفر فأنّى يتصور منه الإسلام؟

قلت: وإذا صحت الرواية فلا عبرة بهذا التعليل، ولا يستبعد من فضل اللَّه

(1)"شرح الطيبي"(1/ 205).

ص: 320

فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2814].

68 -

[6] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2038، م: 2175].

ــ

ورحمته أن يختص حبيبه صلى الله عليه وسلم بهذه الكرامة، على أن قوله صلى الله عليه وسلم:(فلا يأمرني إلا بخير) يحكم عليه بخلاف ما ذهب إليه، مع أن قوله:(فأسلم) بفتح الميم يحتمل أن يكون بمعنى أذعن، انتهى.

وقد يتعقب دلالة قوله: (فلا يأمرني إلا بخير) على الإسلام بحديث أبي هريرة في توكيله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان وتعليم الشيطان إياه آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه، وقوله صلى الله عليه وسلم:(صدقك وهو كذوب)؛ لأنه يدل على تعليم الكافر الخير، اللهم إلا أن يراد العموم، فافهم.

نعم توجيه رواية الفتح بكونه بمعنى أذعن واستسلم صحيح، يدل عليه حديث تفلّت الشيطان وقطع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم:(فأمكنني اللَّه منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد)، وقد جاء في رواية:(فاستسلم)، قال القاضي عياض: وقد روي في غير هذه الأمهات (فاستسلم)، وقال صاحب (النهاية) (1): ويشهد لكونه من الإسلام حديث: (كان شيطان آدم كافرًا وشيطاني مسلمًا)، وهذا هو المختار، فليس ببعيد أن يخص اللَّه سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل والكرامة كما لا يخفى.

468 -

[6](أنس) قوله: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم):

(1)(2/ 395).

ص: 321

69 -

[7] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3431، م: 2366].

ــ

(مجرى) إما مصدر أو اسم، وعلى التقديرين يمكن إجراء الكلام على جريان الشيطان نفسه في بدن الآدمي لكونه من الأجرام اللطيفة، أو على جريان وساوسه فيه، والمقصود تمكنه من إغواء الإنسان تمكنًا تامًا، وتخصيص الطيبي (1) جواز الاحتمال الأول بالثاني تحكم، فتأمل.

69 -

[7](أبو هريرة) قوله: (إلا يمسه) المس: اللمس باليد، من سمع ونصر، والأول أفصح.

وقوله: (فيستهل) في (الصحاح)(2): استهل الصبي، أي: صاح عند الولادة، وأَهَلَّ المُعْتَمِرُ: إذا رفع صوته في التلبية، وفي (القاموس) (3): استهل الصبي: رفع صوته وخفضه، وفي (النهاية) (4): استهلال الصبي تصويته عند ولادته، و (الصراخ) بضم الصاد: الصوت أو شديده.

أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يمس كل مولود ويصييه بما يؤذيه ويؤلمه، ويتعرض له بما لم يعهد من الآلام، وهذا الإيلام هو المراد من النزغ المذكور في الحديث الآتي، ونزغه: طعنه، وبينهم: أفسد وأغوى ووسوس.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 205).

(2)

"الصحاح"(2/ 255).

(3)

"القاموس المحيط"(ص: 990).

(4)

"النهاية"(5/ 217).

ص: 322

70 -

[8] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4548 بمعناه، م: 2367].

ــ

70 -

[8](عنه)، وفي (النهاية) (1):(صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان) أي: نخسة وطعنة، وقال التُّورِبِشْتِي: نزغه ونسفه: إذا نخسه بعود، وصوت الصبي وصراخه في تلك الحالة من ذلك الإيلام والإصابة، وقال: النزغ هو الدخول في أمر لإفساده، والشيطان إنما يبتغي بلمسه إفساد ما ولد المولود عليه من الفطرة، واستثنى صلى الله عليه وسلم من ذلك مريم وابنها، وذلك لإجابة دعاء امرأة عمران أم مريم {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، قالوا: وتفرد عيسى وأمه بذلك لا يدل على فضلهما على نبينا؛ إذ له صلى الله عليه وسلم فضائل وكرامات لم يكن لأحد من النبيين، ولا يلزم أن يكون في الفاضل جميع صفات المفضول.

قال العبد الضعيف صانه عما شانه: الظاهر أن نبينا صلى الله عليه وسلم مستثنى من هذا العموم، وأنه يخبر عن عامة أحوال بني آدم سوى نفسه الكريمة المقدسة، إذ شأنه أرفع وأعلى من أن يدخل في مثل هذا الحكم، إذ هو الطاهر المطهر من كل دنس، والمعصوم من آفات الشيطان وإفساده خصوصًا في أول خلقه وحين ولادته كما خصوه في أمثال هذا؛ كإلباس إبراهيم عليه السلام أَوّلًا بعد البعث ونحوه. نعم يمكن أن يكون جريان السنة الإلهية في مس الشيطان وقت الولادة كعموم ورود الأنبياء جهنم تحلة للقسم من غير وصول أثر هذا المس والنزغ إليهم وتضررهم به كما في ورود جهنم، وقد خصه بعض العلماء على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من ذلك الورود أيضًا، وقد قيل: إن المتكلم قد لا يدخل في عموم ما يخبر به الناس، واللَّه أعلم (2).

(1)"النهاية"(5/ 42).

(2)

قوله: "إن المتكلم قد لا يدخل. . . إلخ" كذا في (ض)، وفي (ب) بدله: إن المتكلم =

ص: 323

71 -

[9] وَعَن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ يبْعَثُ سَرَاياهُ يَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَدْناهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: . . . .

ــ

71 -

[9](جابر) قوله: (يضع عرشه على الماء) العرش: سرير الملك، ومنه قوله تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، ووضعه إن كان على سطح الماء فإمساك اللَّه تعالى إياه من قبيل الاستدراج، وإن كان على شاطئ البحر فلا إشكال، ولا ضرورة في حمله على الكناية عن الاستيلاء والتملك كما في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] للضرورة هناك.

وقوله: (ثم يبعث سراياه) وهي جنوده، جمع سرية بفتح السين وكسر الراء وتشديد الياء: طائفة من الجيش تبعث على العدو.

قال في (القاموس)(1): هي من خمسة أنفس إلى ثلاث مئة أو أربع مئة.

وقوله: (فأدناهم) أي: أقربهم، في (القاموس) (2): دَناه دُنُوًّا، ودَنَّاه تَدْنِيَةً، وأَدْنَاه: قَرَّبَه، واستدناه: طلب منه الدنو.

وقوله: (أعظمهم فتنة) في (القاموس)(3): الفتنة بالكسر: الخبرة، والضلال، والإثم، والكفر، والفضيحة، والعذاب، وإذابة الذهب والفضة، والإضلال، والجنون،

= يكون خارجًا ومستثنى من الحكم بحكم المجاورة، واللَّه أعلم.

(1)

"القاموس المحيط"(ص: 1190).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 118).

(3)

"القاموس المحيط"(ص: 1125).

ص: 324

مَا تَرَكَتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ،

ــ

والمحنة، والمال، والأولاد، واختلاف الناس في الآراء، وفَتَنَه يفتنه: أَوْقَعَه في الفتنة، كَفتَّنَهُ وأَفْتَنَهُ فهو مُفْتَّنٌ ومَفْتُونٌ، ووقع فيها، لازمٌ ومتعدٌ، كافتتن فيهما، وإلى النساء، أراد الفجور بهن.

وفي (مجمع البحار)(1): {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 10] حرقوهم، من فتنت الفضة بالنار ليتميز رديئها من جيدها، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] اختباره أو كفره {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6]، أي: الفتون، أي: الجنون، أو الباء زائدة {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162]، أي: على اللَّه بمضلين، وإنكم تفتنون في القبور، أي بمسألة منكر ونكير، من الفتنة وهو الامتحان، وأصل الفتنة الامتحان، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر، والقتال والإحراق، والإزالة والصرف عن الشيء.

وقوله: (حتى فرقت بينه وبين امرأته) قال التُّورِبِشْتِي: أما استبشار الشيطان بمن فرق بين الرجل وامرأته، واستحسانه لذلك؛ فلأن الملعون حل عقدة عقدها الشرع، وترك الزوجين بمضيعة من تحصين الدين، وذلك عنده من جلائل الأمور، وعظائم الشؤون، انتهى.

والظاهر من كلامه أن غرض اللعين إيقاع بني آدم في الذنوب والمعاصي حتى يعذبوا ويهلكوا، وذلك من عداوته لهم، ولكن لا خصوصية لذلك بالزوجين، فلذلك قال الطيبي (2): يريد حل ما يعقده الشرع ليستبيح ما حرمه، فيكثر الزنا وأولاد الزنا، فيفسدوا في الأرض ويتعدوا حدود اللَّه، ومن ثم ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يدخل الجنة ولد زنية)، انتهى.

(1)"مجمع بحار الأنوار"(4/ 99).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 208).

ص: 325

وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"، قَالَ الأَعْمَشُ: أرَاهُ قَالَ: "فَيَلْتَزِمْهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2813].

72 -

[10] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ. . . .

ــ

أقول: قد تكلم الحفاظ في ثبوت هذا الحديث، قال ابن طاهر وابن الجوزي (1): إنه موضوع، وقال الشيخ مجد الدين في (سفر السعادة): باطل لم يثبت، وقد ذكرنا طرقه في شرحه، وقال ابن حجر العسقلاني (2): وعلى تقدير الصحة فسره العلماء بأن المراد لم يدخل إن عمل بمثل عمل والديه، وقيل: المراد بولد الزنا من يواظب عليه ويلازمه، كما يقال للشجعان: بنو الحرب، ولأولاد المسلمين: بنو الإسلام، هذا ويمكن أن يراد بالتفريق بين الرجل وبين امرأته إيقاع الخصومة والشقاق بينهما حتى لا يجتمعان ولا يباشران الجماع، فلا يحصل الولد، وهذا أيضًا من العداوة؛ لأن العدو يحب قطع نسل أعدائه، واللَّه أعلم.

وقوله: (نعم أنت) فاعل (نعم) محذوف، و (أنت) مخصوص بالمدح.

وقوله: (قال الأعمش) وهو راوي الحديث عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، فالمضمر المنصوب في (أراه) لطلحة، ويحتمل أن يكون لجابر ويكون هذا قول طلحة، فالمعنى قال الأعمش: قال طلحة: أراه، أي: جابرًا، فافهم.

(قال: فيلتزمه) أي: يعانقه زيادة على (فيدنيه)، أو بدله.

72 -

[10](عنه) قوله: (إن الشيطان قد أيس من أن يعبده المصلون) قال

(1)"الموضوعات"(3/ 109).

(2)

انظر: "المقاصد الحسنة"(ص: 244)، و"كشف الخفاء"(2/ 372).

ص: 326

فِي جَزيرَةِ الْعَرَبِ،

ــ

الطيبي (1): المراد بالمصلين المؤمنون، وبعبادة الشيطان عبادة الأصنام، والمعنى: إن الشيطان أيس أن يعود أحد إلى عبادة الصنم، ولا يرد على هذا [ارتداد] أصحاب مسيلمة ومانعي الزكاة وغيرهم ممن ارتدوا [بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم، انتهى.

وقال التُّورِبِشْتِي: أراد بالمصلين المؤمنون الذين يقيمون الصلاة، أي: أيس أن يرتدوا عن دينهم، فإن قال قائل: كيف بمن ارتد من أصحاب مسيلمة والعنسي وغيرهما؟ فالجواب أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنهم أنهم لا يفعلون ذلك، وإنما أخبر عن اليأس الذي استشعر الشيطان منهم أن يعودوا في طاعته، فلا تضاد بين هذا الحديث وبين القضية التي ذكرت.

ويحتمل معنى آخر، وهو أنه أشار صلى الله عليه وسلم أن المصلين من أمتي الذين يقيمون الصلاة دينا وملة لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى، وذلك أن تقول: معنى الحديث: أن الشيطان أيس من أن يتبدل دين الإسلام، ويظهر الإشراك، ويستمر ويصير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتد، بل لو عبد الأصنام أيضًا لم يضر في المقصود (2)، فافهم.

وقوله: (في جزيرة العرب) وإنما خص جزيرة العرب لأن الدين لم يتعدّ عنها، كذا قال التُّورِبِشْتِي، وقال شيخنا ومولانا الشيخ عبد الوهاب المتقي -نفعنا اللَّه ببركاته وبركات علومه في بعض تعليقاته-: اعلم أن عبارات الناس اختلفت في تحديد أرض

(1)"شرح الطيبي"(1/ 208).

(2)

في "التقرير": قيل: ليس بإخبار، بل بيان كثرة شوكة الإسلام، فلا يضر وقوعه.

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

العرب، فقال صاحب (التبيين): حدها طولًا ما وراء ريف العراق إلى أقصى حَجْر باليمن، وعرضها من جدة وما والاها من الساحل إلى حد الشام.

وقال الزاهدي شارح القدوري: حدها ما بين العُذيب إلى مكة، ومن عدن إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام.

وقال الإمام خواهر زاده: من عدن أبين إلى ريف العراق، ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة، وهي تهامة والحجاز ومكة واليمن والطائف والعمان والبحرين.

وقال محمد رحمه الله: أرض العرب من العُذيب إلى مكة، ومن عدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة.

وقال صاحب (مواهب الرحمن): هي ما بين العُذيب إلى أقصى حَجْر باليمن بمهرة طولًا، وما بين الدمناء ويبرين ورمل عالج إلى حد الشام عرضًا.

وقال شارح (الوقاية): هي ما بين العذيب إلى أقصى حَجْر إلى حد الشام، وهذه العبارة موافقة لما في (ملتقى الأبحر)(1).

وقال في (مجمع البحار)(2): اسم صُقْعٍ من الأرض، وهو ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل يَبْرِين إلى منقطع السَّمَاوَة في العرض، سمّيت به لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بالشمال دجلة والفرات.

وقال الأصمعي: جزيرة العرب ما لم يبلغ مُلك فارس من أقصى عدن إلى ريف العراق، وعرضها من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام.

(1) انظر: "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر"(4/ 343).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(1/ 352).

ص: 328

وَلَكِنَّ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2812].

ــ

وقال صاحب (القاموس)(1): جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن [أبين] إلى أطراف الشام طولًا، ومن جدة إلى ريف العراق عرضًا.

وقال الشُّمُنِّي: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين أرض يَبْرِين إلى منقطع السماوة في العرض.

وفي (صحيح البخاري)(2): قال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب فقال: مكة والمدينة واليمامة واليمن، وقال يعقوب: والعرج أول تهامة.

وفي (شرح الوافي): هي أرض الحجاز وتهامة واليمن ومكة والطائف والبرية.

وقوله: (ولكن في التحريش بينهم) أي: في حملهم على الفتن والحروب، ولعله إخبار عما جرى بين الصحابة، في (القاموس) (3): التحريش الإغراء بين القوم أو الكلاب، وفي الحديث:(نهى عن التحريش بين البهائم)(4)، هو الإغراء وتهييج بعضها كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها، والاحتراش في الأصل: الجمع والكسب والخديعة، ومنه احتراش الضب لاصطياده بالحيلة.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 341).

(2)

"صحيح البخاري"(3053).

(3)

"القاموس المحيط"(ص: 545).

(4)

أخرجه أبو داود (2564)، والترمذي (1708).

ص: 329