الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
198 -
[1] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةٌ،
ــ
الفصل الأول
198 -
[1](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (بلغوا عني) قيل: يفهم من الحديث اتصال السند بنقل العدل والثقة عن مثله إلى منتهاه وأداء اللفظ كما سمعه من غير تغيير؛ لأن التبليغ من البلوغ، وهو انتهاء الشيء إلى غايته، ولوقوع (بلغوا عني) مقابلًا لقوله:(حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) إذ ليس في التحديث ما في التبليغ من الحرج والتضييق، انتهى. ويمكن أن يكون وجه فهم هذا المعنى من التبليغ من جهة أن في التبليغ معنى الجودة والبلوغ إلى الكنه، يقال: شيء بليغ جيد، والبليغ الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، هذا، والظاهر أن المراد الاتصال، واشتراط اتصال السند والأداء من غير تغير يفهم من مواضع أخر.
وقوله: (ولو آية) الظاهر أن المراد القرآن أي: ولو كانت آية قصيرة من القرآن، والقرآن مبلَّغ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الجائي به من عند اللَّه، ويفهم منه تبليغ الحديث بالطريق الأولى؛ فإن القرآن مع انتشاره وكثرة حملته وتكفُّل اللَّه سبحانه بحفظه، لمَّا أمرنا بتبليغه، فالحديث أولى به، وقد يراد بها الكلام المفيد (1) فائدة شريفة شاملة بكون
(1) قال القاري: وَالأَظْهَرُ أَنَّ المُرَادَ الْكَلَامُ الْمُفِيدُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَإنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الآيَةِ لِشَرَفِهَا، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الآيةِ الْحُكمُ الْمُوحَى إِلَيهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ المَتْلُوَّةِ وَغَيْرِهَا بِحُكْمِ عُمُومِ الْوَحْي الجَلِيِّ وَالخَفِيِّ، أَوْ لأَنَّ كُلَّ مَا صَدَرَ عَن صَدْرِهِ فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ، فَإنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَذهِ الْعُلُومِ مِنَ الأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 281).
وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ،
ــ
آية دالة على عظم معناه المراد به كالأحاديث التي هي من جوامع الكلم، وبذلك يشر كلام الطيبي، والحق أن كل أحاديثه صلى الله عليه وسلم كذلك، فيكون المعنى ولو حديثًا واحدًا، ويعتذر على هذا الوجه من تخصيص التحريض على التبليغ بالأحاديث لعدم الحاجة إليه في تبليغ القرآن لما ذكر، ولا يخفى بعد ذلك، وأبعد منه حمل الآية على العلامة بمعنى كون المبلغ فعلًا أو إشارة باليد والأصابع ونحو ذلك وإن كان فيه تتميم ومبالغة في المقصود، هذه حاصل ما ذكره الطيبي (1) مع تنقيح وتلخيص لمقصوده.
وقوله: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) قال التُّورِبِشْتِي (2): يحتمل أن القوم لما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمُتَهَوِّكُوْنَ أنتم؟ ) تحرجوا عن التحديث عن بني إسرائيل، فرخص لهم في الحديث عنهم، ويحتمل أنهم تعجبوا بما حدثوا به عن بني إسرائيل من جلائل الأمور وعظائم الشؤون حتى تحرجوا عن التحدث به، خشية أن يفضي بهم ذلك إلى التفوه بالكذب، فقالوا:(حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فقد كان فيهم الآيات الغريبة والوقائع العجيبة، انتهى.
أشار إلى أن المراد التحدث بالقصص والمواعظ والحكم والأمثال دون الشرائع والأحكام لنسخها ووقوع التحريف فيها، وقيل: هذا بعد قوة الإسلام، والنهي كان قبلها، وإلى أن المراد بقوله:(لا حرج) أي: لا تضيق لوجوب الاحتياط في ذلك؛ لأن المقصود العبرة والاتعاظ على نحو ما تقرر أنه يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد يقال: يحتمل أن يكون المراد بقوله: (لا حرج) إن لم تحدثوا؛ لأن
(1)"شرح الطيبي"(1/ 355).
(2)
"كتاب الميسر"(1/ 96).
وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3461].
ــ
التحديث مباح، والمعنى الأول هو الراجح.
وقوله: (ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) أي: لينزل منزله من النار، بوأه منزلًا أي: أسكنه إياه، وتبوأت منزلًا: اتخذته، والمباءة: المنزل، وهذا الكلام أمر، ومعناه خبر أو دعاء أي: بوأه اللَّه، واستدل به الجويني والد إمام الحرمين على خلود النار للكاذب عليه تعمدًا وأنه كفر، وإلا فكل كاذب أوعد بالنار، فلا وجه للتخصيص، وضعفه العلماء، وقيل: هذا جزاؤه، وقد يعفى، وقد يتوب، وقيل: الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كبيرة وغيره صغيرة.
وقال الشيخ زكريا في شرح ثلاثيات البخاري: إنه ليس للفظ (عَلَيَّ) مفهوم لأنه لا يتصور أن يكذب له، إذ هو منهي عنه مطلقًا، ونقل الأبهري عن الكرماني: كذب عليه: نسب الكلام إليه كاذبًا سواء كان عليه أو له، انتهى. وفي هذا سد للذريعة على من ذهب إليه من الكرامية.
وقد ينسب إلى بعض المتصوفة أيضًا -واللَّه أعلم- أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب زعمًا منهم أنه كذب له لا عليه، والصواب الذي أجمع عليه المحدثون أنه حرام، وقالوا: يدخل في هذا الوعيد من روى حديثًا علم أو ظن أنه موضوع ولم يتبين حاله.
واختلف في قبول رواية من كذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم تاب، والأصح الجواز إذا حسنت توبته، والأكثر على أنه لا يقبل، وقد مرّ الكلام في أن هذا الحديث متواتر أم لا في المقدمة (1)، فتذكر.
(1) قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: حَدِيثُ "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ" مِنَ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ فِي الأَحَادِيثِ مَا فِي مَرْتَبَتِهِ مِنَ =
199 -
[2] وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [مق: 1].
ــ
199 -
[2](سمرة بن جندب) قوله: (وعن سمرة) بفتح السين وضم الميم، و (جندب) بضم الدال وفتحها.
قوله: (والمغيرة) بضم الميم وكسرها، والضم أشهر.
وقوله: (يرى) بضم الياء أي: يظن، وبفتحها أي: يعلم، والعلم بمعنى الظن لأنه لا يشترط في المنع عن التحديث اليقين بكذبه، بل إذا حصل الظن بكذبه أمسك عن تحدثه، كذا في شرح الشيخ، أي: لا ينبغي أن يروي الحديث إلا عن يقين أو غلبة ظن، انتهى. يعني بصدقه، فإذا حصل الظن بكذبه لم يرو، بقي صورة الشك، والظاهر عدم صحة الرواية على ما يفهم مما ذكر الشيخ، فالمراد بظن كذبه معنى يشمل الشك أيضًا على ما هو مقتضى المعنى اللغوي.
قال التُّورِبِشْتِي (1): الرؤية قد يستعمل على معنى الوهم والتخيل نحو: أرى أن زيدًا منطلق، مثل هذا المعنى أريد منه ههنا، وكذلك أريت، ويجوز أن يكون من الرأي الذي هو اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، ثم صوب هذا المعنى، وقال: إذ ليس لأحد أن يدع الرواية بمجرد الوهم والتخيل، فتدبر.
وقوله: (أحد الكاذبين) يروى بلفظ الجمع وبلفظ التثنية، وقد يروى في حديث
= التَّوَاتُرِ، فَإِنَّ نَاقِلِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمٌّ غَفِيرٌ. قِيلَ: اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ، وَقِيلَ: لَا نَعْرِفُ حَدِيثًا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعَشَرَةُ إِلَّا هَذَا. "مرقاة المفاتيح"(1/ 282).
(1)
"كتاب الميسر"(1/ 97).
200 -
[3] وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 71، 3641، م: 1037].
ــ
سمرة بالتثنية، وفي حديث المغيرة بالشك في التثنية والجمع، وإنما سماه كاذبًا لأنه لما لم يحتط ولم يتحر فكأنه رضي بالكذب، ولأنه أعان الكاذب وشاركه في إشاعته، فاشترك معه في الوزر.
200 -
[3](معاوية) قوله: (يفقهه في الدين) الفقه الفهم والفطنة وهي تهيؤ النفس لجودة فهم ما يرد عليها من الغير أي: يعطيه فهمًا خاصًّا في أحكام الدين يدرك به المراد مما يرد عليه من الكتاب والسنة ويصل إلى حقيقة معناه، وهو أخص من مطلق العلم، حتى لا يحسن إطلاق العلم في بعض المواضع التي يحسن فيه إطلاق الفقه كما قيل في تعريف الفقه، هو معرفة ما لها وما عليها، فغلب في عرف الشرع على معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بدلائلها المستنبطة هي منها، ولعل إرادة المعنى الأول ههنا أولى وأحسن، قال التُّورِبِشْتِي (1): أي: يجعله عالمًا بأحكام الشريعة ثقفًا ذا بصيرة فيه، فيصير قلبه ينبوع العلم يستخرج بفهمه المعاني الكثيرة من اللفظ الموجز، فافهم.
وقوله: (وإنما أنا قاسم واللَّه يعطي) أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الأمر كله بيد اللَّه، وهو المعطي لمن شاء ما شاء، وإنما على يدي قسمة ما أعطى تأكيدًا لقوله:(من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين) وتنبيهًا على شهود التوحيد والرضا بقسمته صلى الله عليه وسلم وإن كانت القسمة بتفضيل بعضهم على بعض، وترجيحه بزيادة القسم؛ لأنه من عند اللَّه، هذا ما يفهم من ظاهر لفظ الحديث، واللَّه أعلم.
(1)"كتاب الميسر"(1/ 97).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال التُّورِبِشْتِي (1): أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإنما أنا قاسم) إلى ما يلقي إليهم من العلم والحكمة، وبقوله:(واللَّه يعطي) إلى فهم ما يهتدى به إلى خفيات العلوم في كلمات الكتاب والسنة، وذلك لأنه لما ذكر التفقه في الدين وما فيه من الخير أعلمهم أنه لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدًا من أمته على الآخر، بل هو سَوَّى في البلاغ وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم أو من القرن الذي يليهم أو ممن أتى بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
وقال الطيبي (2): الواو في قوله: (وإنما أنا قاسم) للحال من فاعل (يفقهه)، أو من مفعوله، وإذا كان الثاني فالمعنى: إن اللَّه يعطي كلًّا ممن أراد أن يفقهه استعدادًا لدرك المعاني على ما قدره، ثم يلهمني بإلقاء ما هو اللائق باستعداد كل واحد، وعليه كلام القاضي، وإذا كان الأول فالمعنى أني ألقي على ما يسنح لي وأسوِّي فيه، ولا أرجح بعضهم على بعض، فاللَّه تعالى يوفق كلًّا منهم على ما أراد وشاء من العطاء، وعليه كلام التُّورِبِشْتِي، انتهى.
قال العبد الضعيف: المعنى الأول الذي عليه كلام القاضي يدل على تخصيص بعضهم بإلقاء بعض العلوم عليه لا على بعض آخر، وتفضيله عليه بذلك بناء على تفاوت الاستعدادات، فهذا ينظر إلى ما ذكرنا في معنى الحديث أولًا، والقسمة لا تقتضي
(1)"كتاب الميسر"(1/ 98).
(2)
"شرح الطيبي"(1/ 358).
201 -
[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ مَعَادِنُ. . . .
ــ
التسوية، وليست التسوية داخلة في مفهومها، بل هو إيصال كل ما هو حقه ونصيبه من جانب المعطي، والمعنى الثاني: هو الذي نقلنا من التُّورِبِشْتِي عبارته، وهو دال على التسوية في القسمة، هذا، ولكن لا يظهر وجه تخصيص المعنى الأول بكون قوله:(وإنما أنا قاسم) حالًا من فاعل (يفقهه)، والمعنى الثاني بكونه حالًا من مفعوله، بل الظاهر أنه يجوز الحمل على كل من المعنيين على كل من التقديرين، فليتأمل.
ثم قد قيل: أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإنما أنا قاسم) قسمة المال، وقال هذا القول لئلا يكون في قلوبهم شحنة ونكير عن التفاضل في القسمة، فإنه من أمر اللَّه وأن اللَّه معطيه، وهذا المعنى صحيح ظاهر من اللفظ، لكن سوق الكلام ورعاية التناسب بين أول الكلام وآخره يأبى عنه ويحكم بأن الظاهر هو المعنى الأول، ولعل الذاهب إلى هذا القول عنده حديث آخر صريح في قسمة المال فبعثه إلى شرحه بهذا المعنى، لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور ظاهر في خلافه.
وقيل: وجه المناسبة أنه صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بزيادة مال لمقتض، فتعرض بعض من خفي عليه المقتضي، فعرض صلى الله عليه وسلم بأن من أريد به الخير يفهم في أمور الدين، ولا يخفى عليه المقتضي، ولا يتعرض لما ليس على وفق خاطره إذ الأمر كله للَّه، وهو المعطي والمانع، كذا في (مجمع البحار)(1) نقلًا عن الكرماني.
201 -
[4](أبو هريرة) قوله: (الناس معادن) عدن بالبلد يَعْدِن ويَعْدُن عَدْنا وعُدُونًا: أقام، ومنه:{جَنَّاتِ عَدْنٍ} ، والمعدن كمجلس: منبت الجواهر من ذهب
(1)"مجمع بحار الأنوار"(4/ 276).
كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فقُهُوا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2526].
ــ
ونحوه لإقامة أهله فيه دائمًا، أو لإنبات اللَّه عز وجل إياه فيه، ومكان كل شيء أصله فيه، كذا في (القاموس)(1).
وقوله: (معادن) تشبيه بليغ، و (كمعادن) بدل منه أو تأكيد أو مجاز عن التفاوت، أي: متفاوتون في شرف النفس واستعدادها، فيتفاوتون في مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات على حسب الاستعدادات ومقدار الشرف تفاوت المعادن، فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة وغيرهما من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى، كالحديد والكحل والزرنيخ والنورة، وكان من يستعد لقبول المآثر وجميل الصفات والفوقية على الأقران في الجاهلية وكان من خيار القبائل فيها، لكنه كان في ظلمة الكفر والجهل مستورًا مغمورًا، كما يكون الذهب والفضة في المعدن ممزوجًا مختلطًا بالتراب، كان في الإسلام كذلك، وفاق بتلك الاستعداد والمآثر والصفات على أقرانه في الدين، وتنور بنور العلم والإيمان، وخلص في سبيكة الرياضة والمجاهدة كما يسبك الذهب والفضة.
وقوله: (إذا فقهوا) يفيد أن الإسلام يرفع اعتبار التفاوت المعتبر في الجاهلية، فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب شرف النسب واستعداد النفس فيجتمع الشرفان، وبدون ذلك لا يعتبر ولا يفيد، وفيه أن الوضيع العالم خير من الشريف الجاهل، يقال: فقه الرجل بالكسر: علم، وفقه بالضم: صار فقيها عالمًا بعلم الشرائع، والرواية بالضم وهو المناسب ههنا، وإن رجحنا الأول في قوله: يفقهه في
(1)"القاموس المحيط"(ص: 112).
202 -
[5] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا. . . .
ــ
الدين، فافهم.
202 -
[5](ابن مسعود) قوله: (لا حسد) المراد به الاغتباط، وهو تمني الرجل مثل ما لأخيه من غير أن يتمنى زواله، ومعنى الحصر مع أن الاغتباط جائز في كل صفة محمودة أن أحق ما يقع في الغبطة هاتان الخصلتان، وقيل: إن حسن الحسد بالفرض والتقدير لا يحسن إلا فيهما، أو المراد المبالغة في تحصيل تينك الخصلتين، يعني ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم، وقيل: الظاهر أن المراد بالحسد صدق الرغبة وشدة الخوض، ولما كان هما السببين الداعيين إلى الحسد كنى عنهما بالحسد، وقيل: إن فيه تخصيصًا لإباحة نوع من الحسد وإن كانت جملته محظورة، وإنما رخص فيهما لما يتضمن مصلحة في الدين، انتهى. وما ذكروه إنما يتم إذا أخذ في معنى الحسد حصول نعمة لنفسه مع تمني زوالها عن غيره، أما إن كان معناه تمني الزوال فقط فلا يتجه فيه ما قيل، تأمل (1)، قال في (القاموس) (2): حسده الشيء وعليه: تَمنّى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يُسْلَبَهُمَا، فتدبر.
وقوله: (إلا في اثنين) روي بتاء التأنيث أي: خصلتين، فقوله:(رجل) بتقدير مضاف أي: خصلة رجل أقيم مقام المضاف إليه، وبدونها فـ (رجل) بدل منه من غير احتياج إلىِ التقدير، وقال الطيبي (3): التقدير في شأن رجل، وقال التُّورِبِشْتِي (4): أوثق
(1) كذا في (د)، وفي (ر):"فلا يتجه وفيه ما فيه تأمل"، وفي (ب):"فلا يتجه".
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 265).
(3)
"شرح الطيبي"(1/ 360).
(4)
"كتاب الميسر"(1/ 99).
فَسَلَّطَه عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 73، م: 816].
203 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: . . . .
ــ
الروايات بالتذكير، وجعله الكرماني أصل الرواية، قال الشيخ (1): في معظم الروايات (اثنتين) بتاء التأنيث، وعلى كل تقدير (رجل) بالجر، ويجوز رفعه بتقدير المبتدأ، فعلى الرواية الثانية ظاهر، وعلى الأولى باكتساء إعراب المضاف.
وقوله: (على هلكته) بفتحات بمعنى الهلاك، وعبر بذلك إشارة إلى أنه لا يبقى شيئًا، وكذا بقوله:(سلطه)، وذلك لكون النفس مجعولة على الشح، وأشار بقوله (في الحق) أي: في الطاعة ليزيل الإسراف المذموم.
وقوله: (آتاه اللَّه الحكمة) قال الكرماني: عرف (الحكمة) ونكر (مالًا)؛ لأن المراد معرفة الأشياء التي جاءت بها الشريعة، فاللام للعهد بخلاف المال.
وقوله: (فهو يقضي بها) أي: يحكم بها بين الناس، وقيل: يعمل بها، وإنما حرص على الغبطة في هاتين الخصلتين؛ لأنهما من صفات الأنبياء والمرسلين خصوصًا الثانية منهما.
203 -
[6](أبو هريرة) قوله: (انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة) هذه العبارة لا تخلو عن شيء، فإن قوله:(عمله) فاعل انقطع، فالظاهر في الاستثناء أن يقال: إلا ثلاثة أي: ثلاثة أعمال، أو يقال: انقطع من عمله إلا من ثلاثة أعمال، فقيل:(من) زائدة، وقيل: بل الضمير في (عنه) زائدة، ومعناه: إذا مات الإنسان انقطع عن أعماله
(1)"فتح الباري"(1/ 167).
إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمِ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1631].
ــ
إلا من ثلاثة، وقيل: كلتاهما أصليتان ومعناه: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله، وانقطع هو عن عمله إلا من ثلاثة أعمال، بقي أن الظاهر أن يقال: إلا عن ثلاثة، وجوابه أن (من) و (عن) قد يتناوبان، ويذكر كل منهما مقام الآخر، هذا، وقد أشار الطيبي (1) في أثناء البيان إلى توجيهه حيث قال: تقديره ينقطع عنه ثواب أعماله من كل شيء كالصلاة والزكاة والحج، ولا ينقطع ثواب أعماله من هذه الثلاثة، فالمضاف مقدر، و (من) ابتدائية أي: انقطع عنه الثواب الحاصل من كل أعماله إلا الثواب الحاصل من هذه الأعمال الثلاثة، فافهم. ويحتمل أن يكون صلة لـ (انقطع).
وقوله: (صدقة جارية) في (النهاية)(2): أي: دارّة متصلة كالوقوف المرصدة لأبواب البر، وفي بعض الشروح عن (الأزهار) (3): اختلف العلماء في الصدقة الجارية، قال أكثرهم: هي الوقف وشبهه مما تدوم منافعه، وقال بعضهم: هي القناة والعين الجارية المُسَبّلة.
ثم قد استشكل هذا الحديث بحديث: (من سن سنة حسنة فله أجره وأجر من عمل بها)(4)، وحديث:(كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل اللَّه، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة)(5)، فإن هذين القسمين المذكورين في ذينك الحديثين
(1)"شرح الطيبي"(1/ 361).
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر"(1/ 264).
(3)
انظر: "مرقاة المفاتيح"(2/ 101).
(4)
أخرجه الترمذي (2675)، وابن ماجه (203).
(5)
أخرجه أبو داود (2502)، والترمذي (1621)، وأحمد (6/ 20).
204 -
[7] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،
ــ
زائدان على الثلاثة المذكورة في الحديث.
وأجيب بأن السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به، والذي ذكر عن المرابط فإنه عمله الذي قدمه في حياته فينمو إلى يوم القيامة، وأما الثلاثة المذكورة في هذا الحديث فإنها أعمال محدثة بعد وفاته لا ينقطع عنه؛ لأنه سبب تلك الأعمال، فهذه الأشياء يلحقه منها ثواب طارئ خلاف أعماله التي مات عليها، كأنه ينقطع عمله المنضم إلى عمل الغير إلا عن ثلاثة، هذا حاصل كلام التُّورِبِشْتِي والطيبي (1)، وجعل الطيبي المرابط داخلة في الصدقة الجارية، ولا يخلو عن خفاء، فتدبر، واللَّه أعلم.
204 -
[7](عنه) قوله: (من نَفَّس عن مؤمن كربة) نفس تنفيسًا: فرج تفريجًا، وأصل اشتقاقه من النفس بمعنى الريح يخرج من باطن الإنسان كأنه احتبس نفسه ففتح مخرجه، والكرب والكربة بالضم كالكرب: الحزن والغم والشدة بأخذ النفس، وتنوين كربة للتقليل والتحقير، وفي الثاني للتعظيم والتكثير قال:(من كرب الدنيا) يعني فكيف من كرب العقبى بأن وقع في غم وشدة من جهة الدين كالإكراه على الكفر والمعصية مثلًا.
وقوله: (ومن يسر على معسر) العسر ضد اليسر، وهو الصعوبة، فالمعسر من وقع في العسر، وليس ذلك مخصوصًا بمن ركبه الدين، فقول الطيبي (2): المعسر من
(1)"كتاب الميسر"(1/ 99)، و"شرح الطيبي"(1/ 362).
(2)
انظر: "شرح الطيبي"(1/ 362).
وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ. . . .
ــ
ركبه الدَّين ويعسر عليه قضاؤه على سبيل التمثيل، أو باعتبار كثرة استعماله فيه، كقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أو حمل للعام على الخاص؛ لأن ما عدا ذلك مذكور في الكربة وداخل فيها.
وقوله: (من ستر مسلمًا) بأن ألبسه ثوبًا أو لم يفضحه على قبيح، وهو الأظهر؛ لأن المشهور في معنى الإلباس كسا إلا أن يراد ستر عورته.
وقوله: (ما كان العبد في عون أخيه) بدفع ضرر أو جلب نفع بأي وجه كان، فهذا تعميم بعد التخصيص، ولما ذكر بعض أنواع العمل الواصل نفعه إلى الخلق أشار إلى فضيلة العلم الذي به قوام جميع الأعمال اللازمة والمتعدية وصحتها وسلامتها عن الآفات المفسدة لها تعميما للفائدة، فقال:(ومن سلك طريقًا) أي: بالمشي إلى المدرسة، أو السفر إلى بلد، أو اختار وجهًا وسببًا لتحصيل العلم من الإنفاق والسعي فيما يوصل إليه كالتعلم والتعليم والتصنيف، (يلتمس فيه) أي: يطلب علمًا ولو قليلًا، (سهل اللَّه له به طريقًا) أي: يدخله الجنة، أو يوفقه لعمل صالح يوصله إليها، أو يسهل له ما يزيد علمه؛ لأنه أقرب طريق إلى الجنة، كما قال المشايخ: إن أولى جزاء العمل هو التوفيق لزيادة العمل، وقوله:(به) أي: بسبب سلوك طريق العلم، وعلى المعنى الأخير يشبه أن يكون الباء تجريدية نحو: رأيت به أسدًا، وإن كانت السببية صحيحة باعتبار المزيد، فافهم.
وقوله: (في بيت من بيوت اللَّه) أي بيت كان اختاروه للاجتماع على التلاوة
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ،
ــ
والتدارس سواء كان مسجدًا أو مدرسة أو رباطًا أو غيرها، والإضافة للتشريف ولاختياره لتلاوة كتاب اللَّه.
وقوله: (يتلون كتاب اللَّه) التلاوة قراءة القرآن متتابعًا كالأدوار والأوراد الموظفة، والقراءة أعم، كذا في (شرح الأرجوزة الجزرية).
وقوله: (ويتدارسونه) في (القاموس)(1): درس الكتاب يَدْرُسُه ويَدْرِسُه دَرْسًا ودراسةً: قرأه كأدرسه، والدُّرْسَة بالضمم: الرياضة، وفي (مشارق الأنوار) (2): درست الكتاب: قرأته، وفي (مجمع البحار) (3): يتدارسونه، التدارس: أن يقرأ بعض القوم مع بعض شيئًا، أو يعلم بعضهم بعضًا ويبحثون في معناه، أو في تصحيح ألفاظه وحسن قراءته، وفي حديث:(تدارسوا القرآن) أي: اقرأوه وتعهدوه لئلا تنسوه، وأصل الدراسة والمدارسة: الرياضة (4) والتعهد للشيء، ولا يخفى أن الدرس هو القراءة، فالتداريس يكون بمعنى قراءة بعضهم مع بعض، وما سوى ذلك مما ذكر يكون داخلًا فيها بطريق الدلالة.
وقوله: (نزلت عليهم السكينة) في (القاموس)(5): السَّكِينة والسِّكِّينة بالكسر
(1)"القاموس المحيط"(ص: 594).
(2)
"مشارق الأنوار"(1/ 405).
(3)
"مجمع بحار الأنوار"(2/ 169).
(4)
قوله: "وأصل الدراسة والمدارسة: الرياضة" كذا في الأصول الثلاثة من المخطوطة، وفي "المجمع" و"النهاية" (2/ 350):"وأصل الدراسة الرياضة"، وكذا في "لسان العرب"(6/ 69)، وفي "تاج العروس" (1/ 3937):"وأصل المدارسة: الرياضة".
(5)
"القاموس"(ص: 1111).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مشددة: الطمأنينة، وقرئ بهما قوله تعالى:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248]، انتهى. وقال التُّورِبِشْتِي (1): أي الحالة التي يطمئن بها القلب، فيسكن عن الميل إلى الشهوات، وعن الرعب، وقيل: السكينة ملك يسكن قلب المؤمن، وقد تفسر بالرحمة والصفا والنورانية، وكأنه تفسير باللازم، وفي بعض الشروح عن (شرح مسلم) (2): المختار أنها شيء من مخلوقات اللَّه فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة.
والكلام الجامع للأقوال ما ذكره القاضي عياض في (مشارق الأنوار)(3) في قوله: (تلك السكينة نزلت بقراءة القرآن) قيل: هي الرحمة، وقيل: الطمأنينة، وقيل: الوقار، وما يسكن به الإنسان مخففة الكاف، هذا هو المعروف، وحكى الحربي عن بعض اللغويين فيها التشديد، وذكر عن الفراء والكسائي، وقد يحتمل أن التي نزلت لقراءة القرآن السكينة التي ذكر اللَّه تعالى بقوله:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] فقد قيل: إنها شيء كالريح، وقيل: خلق كالهر، وقيل: خلق لها وجه كوجه الإنسان، وقيل: روح من اللَّه يكلمهم ويبين لهم إذا اختلفوا في شيء، وقيل فيه غير هذه، وفيما ذكرناه ما يحتمل أن ينزل مثل هذا على قراء القرآن أو من يجتمع للذكر؛ لأنها من جملة الروح والملائكة، واللَّه أعلم. وأما قوله في الصلاة:(فأتوها وعليكم الوقار والسكينة)(4) فهو ههنا بمعنى الوقار والسكون، وكرر للتأكيد، انتهى.
(1)"كتاب الميسر"(1/ 100).
(2)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 82).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 365).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(150)، والبخاري نحوه (909)، ومسلم (602).
وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2699].
205 -
[8] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ. . . .
ــ
وقوله: (وحفتهم الملائكة) أي: طافت بهم ودارت حولهم فيمن عنده من الملائكة مباهاة بعباده وإثباتًا للحجة عليهم في طعنهم في البشر.
وقوله: (ومن بطأ به) بالتشديد بطأ به وأبطأ بمعنى أخّره، أي: من أخّره العمل لم يقدمه النسب، والرجل إذا قصر في الأعمال المصالحة لم يجبر نقصه بكونه نسبيًا في قومه.
205 -
[8](عنه) قوله: (إن أول الناس يقضى عليه) صفة للناس لكون اللام للعهد الذهني كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني، ثم إنه ذكر ثلاثة نفر بالواو، وقال: إنهم أول من يقضى فيكونون أوائل ممن عداهم في السؤال، ولا يعلم الترتيب فيما بينهم، وهذا السؤال من الإخلاص في العمل، فلا ينافي (إن أول ما يسأل العبد عن الصلاة) أي: في السؤال عن الإتيان بالعبادات، وإن أول ما يقضى بالقصاص، وذلك في باب المظالم.
وقوله: (استشهد) أي: مات شهيدًا، في (القاموس) (1): استشهد: قتل في سبيل اللَّه.
وقوله: (فعرفه نعمته) من التعريف أي: عرف اللَّه الرجل إلزامًا وتبكيتًا، والمراد بالنعمة الجنس، وفي بعض النسخ (نعم) بلفظ الجمع، أي: ذكر ما أنعم اللَّه عليهم من
(1)"القاموس المحيط"(ص: 278).
فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمر بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ،
ــ
أنواع النعم، وقال الطيبي (1): نعمته على صيغة المفرد أولًا، وعلى الجمع في الآخرين، هكذا جاء في الأصول.
وقوله: (فعرفها) بالتخفيف أي: عرف الرجل نعمة اللَّه عليه واعترف بها.
وقوله: (ما عملت فيها) في تعليلية، أي: فكيف أديت شكرها.
وقوله: (قاتلت فيك) أي: لأجل إرادة وجهك خالصًا.
وقوله: (جريء) بفتح الجيم وكسر الراء ممدودًا من الجراءة بمعنى الشجاعة.
وقوله: (فقد قيل) أي: قال الناس هذا القول في مدحك ففزت ثوابه، فماذا تطلب مني؟ .
وقوله: (أمر به فسحب) كلاهما على لفظ المجهول، وأمر مسند إلى الجار والمجرور والضمير للرجل، أي: أوقع الأمر للملائكة بسبب الرجل ولأجله بالسحب، وهكذا يكون المعنى في مثل هذا التركيب يكون المأمور به مدخول الفاء، وهي كثيرة في الأحاديث، وليست الباء في (به) صلة الأمر.
وقوله: (وقرأ القرآن) أي مع وجود الاشتغال بالعلم قرأ القرآن وتعهد.
وقوله: (تعلمت العلم وعلمته) أي: خالصًا لوجهك بقرينة السياق، ويحتمل
(1)"شرح الطيبي"(1/ 365).
وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: إِنَّكَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1905].
206 -
[9] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، . . . .
ــ
أن تكون الأفعال الثلاثة متنازعة في (فيك)، لكن الظاهر من تأخير القرآن تعلقه بـ (قرأت) خاصة، فافهم.
وقوله: (تعلمت. . . إلخ) لم يذكر التعليم لأنه تابع للتعلم وفرع له، فلم يذكره اكتفاء.
وقوله: (ثم ألقي في النار) قيل: أتى بـ (ثم) ههنا، وبـ (حتى) في الاثنين لأنه أقبح، فافهم.
206 -
[9](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (انتزاعًا) مفعول مطلق للنوع من غير لفظ الفعل، و (ينتزعه) جملة مبينة للانتزاع ومؤكدة له لا صفة له لعدم الضمير وعدم جودة المعنى.
حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 34، م: 2673].
207 -
[10] وَعَن شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 68، م: 2821].
ــ
وقوله: (حتى إذا لم يبق عالمًا) في بعض الشروح: قال الشيخ (1): (حتى إذا لم يبق عالم) بفتح الياء والقاف، فعالم مرفوع، وللأصيلي بضم الياء وكسر القاف وعالمًا منصوب أي: لم يبق اللَّه عالمًا، وفي رواية مسلم:(لم يترك عالمًا).
وقوله: (رؤوسًا) وفي شرح الشيخ: بضم الهمزة والتنوين جمع رأس كما في رواية البخاري، وفي رواية مسلم: رؤساء بفتح الهمزة والمد: جمع رئيس، والأول أظهر.
207 -
[10](شقيق) قوله: (يتخولنا بها) باللام في أكثر الروايات يتعهدنا ويتنقدنا ويحسن رعايتنا ويعظنا في مظان القبول وعدم السآمة، وروي بالنون مكان اللام، والتخول والتخون بمعنى واحد، فقد ذكر في (القاموس) (2): تخول في باب اللام، وقال: تخول فلانًا: تعهده، وفي باب النون أيضًا وقال: تخونه: تعهده، وذكره
(1)"فتح الباري"(1/ 195).
(2)
"القاموس"(ص: 916، 1100).
208 -
[11] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ. . . . .
ــ
في (الصحاح)(1) تخول باللام، وأورد هذا الحديث ثم قال: وكان، الأصمعي يقول: و (يتخوننا) بالنون أي: يتعهدنا.
وقال في (المشارق)(2): يتخولنا معناه يتعاهدنا، والخائل: المتعاهد للشيء المصلح له، وقال ابن الأعرابي: معناه يتخذنا خَوَلًا، وقيِل: يفاجئنا بها، وقيل: يصلحنا، وقال أبو عبيدة: يذللنا، يقال: خوّله اللَّه لك، أي: سَخّره لك، وقيل: يحبسهم عليها كما يحبس خولك، قال أبو عبيد. ولم يعرفها الأصمعي قال: وأظنها يتخونهم، وقال أبو نصر: يتخون مثل يتعهد، هذا كلامه، ويدل على أن الأصمعي لم يعرف اللام وأنكرها كما يدل عليه كلام (الصحاح) أيضًا على خلاف ما قال التُّورِبِشْتِي (3): إن الأصمعي يثبت اللام والنون كليهما، والمنكر للام إنما هو أبو عمرو، وقد روي (يتحولنا) بالحاء المهملة واللام، قال في (المشارق): وقال أبو عمرو: الصواب يتحولهم [بالحاء] أي: يطلب حالاتهم وأوقات نشاطهم. قال التُّورِبِشْتِي: لكن الرواية في الصحاح بالخاء المعجمة.
ثم اعلم أنهم إنما تعرضوا لبيان الروايات واختلافها في (يتخولنا)، ولا يعرف أن على حسب هذا الاختلاف يختلف في (أتخولكم) أيضًا، أو هو على حاله على رواية واحدة، والاختلاف إنما هو في الثاني، واللَّه أعلم.
208 -
[11](أنس) قوله: (إذا تكلم بكلمة) أراد بـ (كلمة) الجملة المفيدة
(1)"الصحاح"(4/ 169).
(2)
"مشارق الأنوار"(1/ 392).
(3)
"كتاب الميسر"(1/ 101).
أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. [خ: 95].
209 -
[12] وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ أُبْدِع بِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ:"مَا عِنْدِي"،
ــ
كما يقال: كلمة الحق، وفي التنزيل:{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، ثم الظاهر أن المراد الكلمة التي يهتم بها وبإفادتها كما يشير إليه قوله:(حتى تفهم عنه)، واللَّه أعلم.
وقوله: (أعادها ثلاثًا) أي: كررها حتى يصير ثلاثًا.
وقوله: (سلم عليهم ثلاثًا (1)) الأول للاستئذان، والثاني للتحية، والثالث عند المفارقة، فالمراد بـ (إذا) الوقت الممتد من أول الدخول إلى آخره، وقيل: ذلك في الاستئذان إذ لم يؤذن مرتين، والأول أوجه.
209 -
[12](مسعود) قوله: (إنه أبدع بني) في (القاموس)(2): أبدعت الراحلة: كلت وعطبت، أو لا يكون الإبداع إلا بضلع، وفي (الصحاح) (3): أبدع بالرجل إذا كلت راحلته يستعمل مجهولًا.
وقوله: (ما عندي) أي: راحلة حتى أحملك عليها، أو ما تشتري به أو تستجير
(1) قال القاري: قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَعَلَّ هَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ، اهـ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمُوَاجِهِينَ ثُمَّ يَمْنَةً ثُمَّ يَسْرَةً. "مرقاة المفاتيح"(1/ 291).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 647).
(3)
"الصحاح"(3/ 1184).
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1893].
210 -
[13] وَعَنْ جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَهُ قَوْمٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ. . . . .
ــ
به، ولهذا حذف.
وقوله: (من دلّ على خير) أورد الحديث في باب العلم؛ لأن الدلالة تعليم، ثم إن كانت هذه الدلالة بالقول بأن قال له: اذهب إلى فلان فاسأله فإنه سيجيء بحملك كان تعليمًا بالقول، وإن دل عليه من غير قول كان بالفعل، فإن قلت: كيف يمكن الدلالة من غير قول أصلًا؟ قلت: يكفي في ذلك ذكره في حضرته صلى الله عليه وسلم ثم دلالته، ولا حاجة إلى قول آخر.
210 -
[13](جرير) قوله: (مجتابي النمار) في (القاموس)(1): اجتاب القميص: لبسه، والنمار جمع نمرة، وهي شملة فيها خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب، وفي (النهاية) (2): كل شملة مخططة من مآزر الأعراب (3) فهي نمرة، وجمعها نمار، كأنها أخذت من لون النمور فيها من السَّواد والبياض، وهي من الصفات الغالبة، أي جاءه قوم لابسي أُزُرٍ مخطّطة من صوف، وفي (مجمع البحار) (4): نمرة بفتح النون وكسر ميم: بردة من صوف أو غيره مخطط،
(1)"القاموس"(ص: 79).
(2)
"النهاية"(5/ 118).
(3)
في الأصول الثلاثة: "العرب"، وهو تحريف.
(4)
"مجمع بحار الأنوار"(4/ 810).
أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخَرِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]،
ــ
وقيل: الكساء.
وقوله: (أو العباء) شك من الراوي (1)، والعباء بالمد وفتح العين جمع عباءة وعباية، ضرب من الأكسية.
وقوله: (متقلدي (2) السيوف) القلادة: ما جعل في العنق وتقلد لبسها.
وقوله: (عامتهم من مضر بل كلهم من مضر) حكم أولًا بأن عامتهم من مضر احتياطًا لاحتمال أن يكون فيهم غيرهم؛ لأنه قد يدخل في قوم غيرهم في غلبة الاجتماع، ثم لما أمعن تيقن بأن كلهم من مضر ليس فيهم غيرهم، وقد يتبادر إلى الفهم أن هذا مبالغة في كون أكثرهم من مضر وغلبتهم، وكذا الكلام في قوله:(بل قد عجزت).
قوله: (فتمعّر) مَعرّ وجهه: غَيّره غيضًا، فتمعر، وبه معرة بالضم والسكون، والمعرة بالضم: لون يضرب إلى الحمرة، والْمَمْعُور الْمُقَطِّب غضبًا.
وقوله: (من الفاقة) الفاقة: الفقر والحاجة.
وقوله: (فدخل) أي: البيت ليجد شيئًا يعطيهم، (ثم خرج) بعد زمان ولبث للفحص ولم يجد شيئًا.
(1) أو للتنويع، قاله القاري (1/ 292).
(2)
بلا واو في بعض النسخ، قال القاري: فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِالْوَاوِ، وَعَلَيْهِ صَحٌّ بِالْحُمْرَةِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 292).
وَالآيَةُ الَّتِي فِي الْحَشْرِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجِزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَينِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ،
ــ
وقوله: (والآية التي) أي: وقرأ الآية التي في سورة الحشر، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
وقوله: (تصدق رجل) ظاهر اللفظ أن يكون على صيغة الماضي إخبارًا، ولم يساعده ظاهر قوله:(ولو بشق تمرة) إذ الظاهر أن المعنى: ليتصدق رجل ولو بشق تمرة، فقيل: لفظ الماضي ههنا بمعنى الأمر، وصحح في بعض النسخ بالجزم، وقال الطيبي (1): لعل الظاهر ليتصدق، ولام الأمر محذوفة، وجوزه ابن الأنباري، ولكن يأبى عن الحمل عليه عدم حرف المضارعة، والأمثلة التي أوردها مشتملة عليها مع أنها يحتمل الاستئناف كما لا يخفى.
وقوله: (فجاء رجل من الأنصار) الظاهر أن المراد فرد من الأفراد، وهو الأنسب بقوله:(ثم تتابع) له، ولا دليل على استغراقه كما ارتكبه الطيبي خصوصًا في محل الإثبات إلا أن يرتكب لإرادة المبالغة بمعونة المقام، أو تظهر رواية الجمع في طريق من الطرق، واللَّه أعلم.
وقوله: (كومين) صحح في نسخ بفتح الكاف، وفي (الصحاح) (2): كومة من
(1)"شرح الطيبي"(1/ 368).
(2)
"الصحاح"(5/ 2025).
حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ،
ــ
تراب بالضم مثل صبرة من طعام، وفي (مجمع البحار) (1) عن النووي: هو بفتح كاف وضمها: الصبرة، وفي (مختصر النهاية) (2) للسيوطي: الكومة بالفتح: من ذهب ومن طعام، أي: صبرة، وبعضهم بضم الكاف، وقال في (مشارق الأنوار) (3):(كومين من طعام) بفتح الكاف عندهم، وقيد الجياني بضمها، وقال أبو مروان بن سراج: هو بالضم اسم لما كوم، وبالفتح اسم للفعلة الواحدة، والكوم بالفتح اسم للمكان المرتفع من الأرض كالرابية، والكومة الصبرة، والكوم العظيم من كل شيء.
وقوله: (يتهلل) أي: يستضيء ويستنير للسرور.
وقوله: (كأنه مذهبة) روي هذا اللفظ بوجهين: الأول مدهنة بالدال المهملة الساكنة وضم الهاء وبالنون على وزن مكحلة، واحد المدهن، وهو آلة الدهن وقارورته، ومستنقع الماء، أو كل موضع فيه حفرة تسيل، شَبَّه صفاء وجهه صلى الله عليه وسلم لإشراق السرور بصفاء هذا الماء المجتمع في الحجر، أو بصفاء الدهن، أو بالموضعين المذكورين، وجزم الحميدي بهذه الرواية، ولم يذكر غيرها وشرحه بما ذكر، والثاني وهو المشهور مذهبة بضم الميم وسكون الذال المعجمة وفتح الهاء وبعدها موحدة، كذا في (سنن النسائي) وبعض طرق مسلم، وبه جزم القاضي عياض، وقال (4): وصحف هذا الحرف بعض الرواة فقال: مدهنة بدال مهملة ونون، وليس بشيء، وفسرها بفضة مذهبة أو جلدة مذهبة، وقيل: ذلك من قولهم: فرس مذهبة: إذا غلبت حمرته صفرة، وخص
(1)"مجمع بحار الأنوار"(4/ 455).
(2)
"الدر النثير"(2/ 902).
(3)
"مشارق الأنوار"(1/ 566).
(4)
"مشارق الأنوار"(1/ 431).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمَلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1017].
211 -
[14] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ . . . . .
ــ
الأنثى لأنها أصفى لونا وأرق بشرة، والإهذاب والتهذيب: التموية، والرواية من الإذهاب، واللَّه أعم بالصواب.
وقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: طريقة مرضية، أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضل الرجل الذي جاء أولًا بِصُرّةٍ، ثم تتابع الناس.
قوله: (فله أجره) الضمير لـ (من)، وفي أكثر النسخ: أجرها، والضمير لـ (سنة)، أي: أجر سنة سنها وعمل بها، والثاني أكثر رواية وإن كان الأول أسد معنى، وسنّ السنة من باب التعليم، فلذلك أوردها في هذا الباب، وهو فيما نحن فيه بالفعل.
211 -
[14](ابن مسعود (1)) قوله: (كفل) الكفل: الحظ والنصيب والمثل، وكان الكفل فيما نحن فيه الوزر لتضمنه معنى الكفالة والضمان، ويستأنس له بقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
(1) في "التقرير": ظاهر الحديث أن القاتل هذا هو قابيل -أول مولود- ابن آدم، به قال الطيبي وابن حجر، لكن المفسرين على أنه بعد بطون من حواء، حتى اختلف المفسرون في أنهما من صلب آدم كما يدل عليه جهالتهم عن الميت فاحتاجوا إلى غراب يبحث، أو من بني إسرائيل كما يدل عليه {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا} الآية [المائدة: 32]، كذا في البيضاوي (2/ 407).