المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الثاني: - لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبد الحق الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌تقديم بقلم: أ. د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُحْسِنِ التُّرْكِيِّ (الأمِيْنِ العَامِّ لِرَابِطَةِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ)

- ‌تَقْدِيْمٌ بِقَلَمِ: سَمَاحَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الرَّابِعِ الحَسَنِيِّ النَّدْوِيِّ رَئِيْسِ نَدْوَةِ العُلَمَاءِ بِالهِنْدِ

- ‌تَقدِيْمٌ بِقَلَمِ: أ. د. موَفَّقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ القَادِرِ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ - جَامِعَةُ أُمِّ القُرَى

- ‌تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ: فَضِيلَةِ الأُسْتَاذِ المُحَدِّثِ الفَقِيْهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد تَقِي العُثْمَانِيِّ شَيْخِ الحَدِيثِ بِجَامِعَةِ دَارِ العُلُومِ كراتشي في باكستان

- ‌مُقَدِّمَةُ المُحَقّقْ

- ‌عَمَلي في هَذا الكِتَاب

- ‌تَرْجَمَةُ الإمَامِ المُحَدِّثِ عَبْدِ الحَقِّ البُخَارِيِّ الدِّهْلَوِيِّ

- ‌ كيف دخل الإسلام الهند:

- ‌ علم الحديث في القرن العاشر الهجري:

- ‌ اسمه ولقبه وأسرته ومولده ونشأته:

- ‌ تدريسه قبل سفره إلى الحجاز:

- ‌ ارتحاله لطلب العلم:

- ‌ ارتحاله إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ عودة الشيخ المحدث من الحجاز إلى الهند:

- ‌ منهج الشيخ المحدث في الدعوة في هذه الظروف:

- ‌ شيوخه:

- ‌ اختيار الشيخ المحدث إسنادًا خاصًّا لرواية الحديث:

- ‌ اعتراف شيوخه برسوخه في العلم:

- ‌ الفرق بين منهج المحدث عبد الحق الدهلوي وبين منهج الإمام ولي اللَّه الدهلوي:

- ‌ وصايا الشيخ عبد الوهاب للشيخ المحدث:

- ‌ وصايا الشيخ أبي المعالي للشيخ المحدث:

- ‌ استكمال التربية والسلوك من الشيخ الكبير عبد الباقي النقشبندي المعروف بخواجه باقي باللَّه:

- ‌ الشيخ المحدث وعلاقته بالربانية:

- ‌ البركة في أعمال الشيخ المحدث:

- ‌ الشيخ المحدث بين التصنيف والتأليف:

- ‌ الشيخ المحدث ومآثره:

- ‌ علاقة الشيخ المحدث مع الإمام السرهندي:

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ خلفه:

- ‌ وفاته:

- ‌ وصول إسناده إلى الحرمين الشريفين:

- ‌ مؤلفاته

- ‌ أشعة اللمعات في شرح المشكاة:

- ‌ لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح:

- ‌ مصابيح السنة:

- ‌تَرْجَمَةُ صَاحِبِ المِشْكَاةِ

- ‌ مشكاة المصابيح:

- ‌ عدد أحاديثه:

- ‌ وصف النسخ المخطوطة:

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية:

- ‌ النسخة الثالثة:

- ‌ النسخة الرابعة:

- ‌ النسخة الخامسة:

- ‌ النسخة السادسة:

- ‌صور المخطوطات

- ‌مُقَدِّمَةُ اللّمَعَات

- ‌مُقَدِّمَةٌ فِي بَيَانِ بَعْضِ مُصْطَلَحَاتِ عِلْمِ الحدِيثِ مِمَّا يَكْفِيْ فِي شَرْحِ الكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيْلٍ وإِطْنَابٍ

- ‌[تَعْرِيف الحَدِيث]:

- ‌[الْمَرْفُوع]:

- ‌[الْمَوْقُوف]:

- ‌[الْمَقْطُوع]:

- ‌[الحَدِيث والأثر]:

- ‌[الْخَبَر والحَدِيث]:

- ‌[الرّفْع قِسْمَانِ صَرِيح وحكمي]:

- ‌[القولي الصَّرِيح]:

- ‌[الفِعْلِيّ الصَّرِيح]:

- ‌[التقريري الصَّرِيح]:

- ‌[القولي الْحكمِي]:

- ‌[الْفعْلِيّ الْحكمِي]:

- ‌[التقريري الْحكمِي]:

- ‌فصل

- ‌[السَّنَد]:

- ‌[الإِسْنَاد]:

- ‌ المتن

- ‌[الْمُتَّصِل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[الْمُعَلق]:

- ‌[تعليقات البُخَارِيّ]:

- ‌[حكم التَّعْلِيق بِصِيغَة الْمَعْلُوم والمجهول]:

- ‌[الْمُرْسل]:

- ‌[حكم الْمُرْسل]:

- ‌[المعضل]:

- ‌[الْمُنْقَطع]:

- ‌[طَرِيق معرفَة الانْقِطَاع]:

- ‌[المدلس]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس اصْطِلاحًا]:

- ‌[تَعْرِيف التَّدْلِيس لُغَة]:

- ‌[وَجه التَّسْمِيَة بِهِ]:

- ‌[حكم المدلِّس]:

- ‌[حكم التَّدْلِيس]:

- ‌[حكم رِوَايَة المدلس]:

- ‌[أَسبَاب التَّدْلِيس]:

- ‌[تَدْلِيس الأكابر]:

- ‌[المضطرب]:

- ‌[حكم المضطرب من الرِّوَايَات]:

- ‌[المدرج]:

- ‌ تَنْبِيه:

- ‌[الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى]:

- ‌[رِوَايَة اللَّفْظ أولى]:

- ‌[العنعنة]:

- ‌[المعنعَن]:

- ‌[شُرُوط العنعنة]:

- ‌[الْمسند]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌المنكر

- ‌[الشاذ لُغَة]:

- ‌[الشاذ اصْطِلَاحًا]:

- ‌[الْمَعْرُوف]:

- ‌[حكم الْمَعْرُوف وَالْمُنكر والشاذ وَالْمَحْفُوظ]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للشاذ]:

- ‌[تَعْرِيف ثَالِث للشاذ]:

- ‌[الْمُعَلل]:

- ‌[المتابع]:

- ‌[فَائِدَة الْمُتَابَعَة]:

- ‌[دَرَجَات الْمُتَابَعَة]:

- ‌[مَتى يسْتَعْمل "مثله" و"نحوه

- ‌[شَرط الْمُتَابَعَة]:

- ‌[الشَّاهِد]:

- ‌[تَعْرِيف آخر للمتابع وَالشَّاهِد]:

- ‌[الاعْتِبَار]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌الصحيح

- ‌[الصَّحِيح لذاته]:

- ‌[الصَّحِيح لغيره]:

- ‌[الْحسن لذاته]:

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[الْحسن لغيره]:

- ‌[النُّقْصَان المُعْتَبر فِي الْحسن]:

- ‌[الْعَدَالَة]:

- ‌ التقوى

- ‌المروءة

- ‌[عدل الرِّوَايَة أَعم من عدل الشَّهَادَة]:

- ‌[الضَّبْط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بِالْعَدَالَةِ]:

- ‌[1 - الْكَذِب]:

- ‌[الْمَوْضُوع]:

- ‌[حكم متعمد الْكَذِب]:

- ‌[المُرَاد بالموضوع]:

- ‌[مَسْأَلَة الحكم بِالْوَضْعِ ظنية]:

- ‌[2 - اتهام الرَّاوِي بِالْكَذِبِ]:

- ‌[الْمَتْرُوك]:

- ‌[حكم الْمُتَّهم بِالْكَذِبِ]:

- ‌[حكم من يكذب نَادرًا]:

- ‌[3 - الْفسق]:

- ‌[4 - جَهَالَة الرَّاوِي]:

- ‌[حكم الْمُبْهم]:

- ‌[5 - الْبِدْعَة]:

- ‌[حكم حَدِيث المبتدع]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[وُجُوه الطعْن الْمُتَعَلّقَة بالضبط]:

- ‌[1 - و 2 - فرط الْغَفْلَة وَكَثْرَة الْغَلَط]:

- ‌[3 - مُخَالفَة الثِّقَات]:

- ‌[4 - الْوَهم]:

- ‌[غموض علم الْعلَّة ودقته]:

- ‌[5 - سوء الْحِفْظ]:

- ‌[حكم سيئ الحِفْظ]:

- ‌[الْمُخْتَلِط]:

- ‌[حكم الْمُخْتَلط]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْغَرِيب]:

- ‌[الْعَزِيز]:

- ‌[الْمَشْهُور]:

- ‌[الْمُتَوَاتر]:

- ‌[الْفَرد]:

- ‌[الْفَرد النسبي]:

- ‌[الْفَرد الْمُطلق]:

- ‌[المُرَاد بِكَوْن الرَّاوِي اثْنَيْنِ أَو أَكثر]:

- ‌[لَا تنَافِي بَين الغرابة وَالصِّحَّة]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الضَّعِيف]:

- ‌[مَرَاتِب الصَّحِيح وَالْحسن]:

- ‌[أصح الأَسَانِيد]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[اصْطِلَاحَات التِّرْمِذِيّ]:

- ‌[إِشْكَال اجْتِمَاع الغرابة وَالْحسن]:

- ‌[جَوَاب الإِشْكَال]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الاحْتِجَاج بِالصَّحِيحِ وَالْحسن]:

- ‌[الاحْتِجَاج بالضعيف]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[صَحِيح البُخَارِيّ أَعلَى الصِّحَاح]:

- ‌[وَجه تَرْجِيح صَحِيح مُسلم عِنْد بعض المغاربة]:

- ‌[الْمُتَّفق عَلَيْهِ]:

- ‌[عدد الأَحَادِيث الْمُتَّفق عَلَيهَا]:

- ‌[دَرَجَات الصِّحَاح]:

- ‌[معنى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[البُخَارِيّ وَمُسلم لم يستوعبا الصِّحَاح]:

- ‌[مُسْتَدْرك الْحَاكِم]:

- ‌[صَحِيح ابْن خُزَيْمَة]:

- ‌[صَحِيح ابْن حبَان]:

- ‌[صَحِيح الْحَاكِم (الْمُسْتَدْرك)]:

- ‌[المختارة للمقدسي]:

- ‌[صِحَاح أُخْرَى]:

- ‌فَصْلٌ

- ‌[الْكتب السِّتَّة]:

- ‌[أَحَادِيث الْكتب الأَرْبَعَة]:

- ‌[اصْطِلَاح الْبَغَوِيّ]:

- ‌[كتاب الدَّارمِيّ]:

- ‌[مصَادر السُّيُوطِيّ فِي جمع الْجَوَامِع]:

- ‌[جمَاعَة من الأَئِمَّة المتقنين]:

- ‌مُقَدِّمَةُ المِشْكَاةِ

- ‌1 - كتاب الإيمان

- ‌ الفصل الأول:

- ‌ الفصل الثاني:

- ‌ الفصل الثالث:

- ‌1 - باب الكبائر وعلامات النفاق

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّل:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب الوسوسة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب الإيمان بالقدر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب إثبات عذاب القبر

- ‌ الْفَصْل الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌(2) كِتَابُ العِلْمِ

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

الفصل: ‌ الفصل الثاني:

لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي" فِي "بَابِ ثَوَابِ هَذهِ الأُمَّةِ" إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. [خ: 3533، م: 1677].

*‌

‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

212 -

[15] عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: . . . . .

ــ

مِنْهَا} [النساء: 85]، واللَّه أعلم.

وقوله: (وسنذكر حديث معاوية: لا يزال من أمتي) ذكر صاحب (المصابيح) هذا الحديث من معاوية في الفصل الأول من (باب الاعتصام بالكتاب والسنة)، وفي الفصل الأول من (كتاب العلم) أيضًا، والمؤلف ذكره (في باب ثواب هذه الأمة) وأشار إلى ذكره في هذا الباب في كلا الموضعين، وأما حديث جابر (لا تزال طائفة من أمتي) المذكور في (المصابيح) في الفصل الأول من (باب الاعتصام)(1)، فلم يذكره المؤلف في (باب ثواب هذه الأمة)، وقد وعد يذكره ثمة كما أشرنا إليه هناك.

الفصل الثاني

212 -

[15](كثير بن قيس) قوله: (في مسجد دمشق) بكسر الدال وفتح الميم، وقد يكسر: قاعدة الشام سميت ببانيها دمشاق بن كنعان أو دامشقيوش.

وقوله: (قال: فإني سمعت) يحتمل أن يكون هو الحديث الذي جاء الرجل

(1) تحت حديث (16).

ص: 545

"مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا. . . . .

ــ

له، ويحتمل أن يكون توطية ومدحًا وتحسينًا لطلبه ولمطلوبه.

وقوله: (من سلك طريقًا. . . إلخ) سبق شرحه (1) في الفصل الأول من حديث أبي هريرة غير أن الباء في (به) ههنا للتعدية، والضمير لـ (من)، وقال الطيبي (2): يجوز أن يكون الباء للسببية، والضمير للعلم، ويكون (سلك) من السلك كما أنه على الأول من السلوك، والمفعول محذوف كقوله:{يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، انتهى. فـ (سلك) يجيء لازمًا ومتعديًا، وهذا كما أن رجع يجيء لازمًا من الرجوع ومتعديًا من الرجع.

وقوله: (إن الملائكة لتضع أجنحتها) يحتمل أنه أراد به تليين الجانب والانقياد والفيء عليه بالرحمة والانعطاف، كقوله تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، ويحتمل أن يكون المراد منه فرش الأجنحة تواضعًا لطلاب العلم حيث يبذل سعيه في ابتغاء مرضات اللَّه سيما إذا وجدت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم (3).

(1) تحت حديث (204).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 371).

(3)

قال القاري: أَوِ الْمُرَادُ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تُشَاهَدْ، وَهِيَ فَرْشُ الْجَنَاحِ وَبَسْطُهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ لِتَحْمِلَهُ عَلَيْهَا وَتُبَلِّغَهُ مَقْعَدَهُ مِنَ الْبِلَادِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ بِالْبَصْرَةِ فَحَدَّثَنَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي الْمَجْلِسِ شَخْصٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَطْرُقَنَّ غَدًا نَعْلِي وَأَطَأُ بِهَا أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ فَفَعَلَ وَمَشَى فِي النَّعْلَيْنِ فَحَفَتْ رِجْلَاهُ وَوَقَعَتْ فِيهِمَا الأَكَلَةُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ يَحْيَى السَّاجِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَمْشِي فِي أَزِقَّةِ الْبَصْرَةِ إِلَى بَابِ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، وَكَانَ مَعَنَا رَجُلٌ =

ص: 546

رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ،

ــ

وقال الطيبي (1): يحتمل أن يكون المراد بوضع الأجنحة كفها عن الطيران والنزول لسماع العلم كما ورد: (إلا ونزلت عليهم السكينة وحفّت بهم الملائكة)، ثم إنه يحتمل أن يكون هذا الصنع من الملائكة لطالب العلم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، واللَّه أعلم، والكلام في أجنحة الملائكة أهي حقيقة أو المراد بها القوى الملكية؟ مذكور في موضعه.

وقوله: (رضا لطالب العلم) الظاهر أنه مفعول له (لتضع)، وقد يجيء منصوبًا وإن لم يكن فعلًا لفاعل الفعل المعلل به نحو قوله تعالى:{يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (2)[الرعد: 12]، والمشترطون لذلك يأولونه بنحو إرادة خوف وطمع أو إخافة وإطماعًا، فههنا أيضًا يقدر إرادة رضًا أو يأول بإرضاء، هكذا قال الطيبي (3). هذا إذا كان المراد رضا طالب العلم، وأما إن كان المراد رضا الملائكة فلا حاجة إلى التأويل، ويكون من قبيل: قعدت من الحرب جبنًا، هذا، ويجوز أن يكون تمييزًا، فتأمل.

= مَاجِنٌ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ فَقَالَ: ارْفَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا تَكْسِرُوهَا كَالْمُسْتَهْزِئِ بِالْحَدِيثِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى حَفَتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ إِلَى الأَرْضِ، اهـ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 296).

(1)

"شرح الطيبي"(1/ 372).

(2)

أي: خَوْفًا من الصاعقة ومن ضرر المطر في السفر وللزرع في بعض الأحيان وبعض الأمكنة، وَطَمَعًا من الغيث حين ينفع للزرع أو لدفع الحر -وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف أي: إرادة خوف أو طمع- أو بتأويل الإخافة والأطماع -أو على الحال من البرق- أو من المخاطبين بتقدير ذو -أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغة. "التفسير المظهري"(5/ 223).

(3)

"شرح الطيبي"(1/ 373).

ص: 547

وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ،

ــ

وقوله: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء) هذا ترقي في وصفهم بإرادة أهل الخير له لشمول بركته إياهم، ولا مغايرة بين العالم وطالب العلم، فإن كل من طلب العلم وجد شيئًا من العلم، ويصدق عليه اسم العالم، والعالم يكون طالبًا للمزيد منه لعدم تناهي مراتبه، نعم إذا حصل الطالب علمًا ووصل إلى مرتبة التعليم في أنواع العلم يسمى عالمًا، فكأنه أشار إلى أن المرء ما دام في طلب العلم وتحصيله ترحمه وتتعطف عليه الملائكة إمدادًا وإعانة وإدخالًا لكنوز في قلبه حتى يسعى ويتقوى عليه سلوك طريق العلم؛ وإذا صار عالمًا وبلغ مرتبة التعليم تحيط بركته العالمين كلهم حتى يشكروا له ويريدوا به الخير ويدعوا له بمغفرة الذنوب المزيلة عنه البركات والأنوار الموجبة للنقمة وسخط الرب تعالى، كما ورد: اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تزيل بها النعم، وتوجب بها النقم، حتى تكون البركات باقية دائمة في المزيد وتصل إليهم أجمعين.

وفيه أن العالم تغفر ذنوبه وتكفر سيئاته باستغفار من في السماوات ومن في الأرض، وكرر (من) إشارة إلى استقلال كل من الفريقين في الاستغفار وإرادة الخير، ثم قالوا: إن المراد بمن في السماوات الملائكة بأصنافهم، وبمن في الأرض الثقلان، والحيتان إشارة إلى جميع أنواع الحيوان، لكن خصص الحيتان بالذكر دلالة على أن إنزال المطر والخصب يكون ببركتهم كما ورد:(بهم يمطرون وبهم يرزقون).

ويمكن أن يقال: المراد بـ (من في الأرض) ما يشمل ذوي العلم وغيرهم، لكنه عبر بـ (من) للعقلاء على غيرهم، أو لأنه لما أسند الاستغفار إليهم صاروا في حكم أولي العلم، فيكون (من في الأرض) عامًا، وذكر الحيتان تخصيص بعد التعميم.

ص: 548

وَإنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ. . . . .

ــ

فإن قلت: يلزم في قوله: (يستغفر) الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن حقيقة الاستغفار لا يتأتى من الحيوانات، فالجواب أن يجعل من باب عموم المجاز بحمل الاستغفار على ذكره باللسان أو اقتضائه بلسان الحال، على أن من المحققين من يحمل تسبيح الأشياء كلها على حقيقة، فليكن الاستغفار كذلك، أو المراد مغفرة اللَّه ورحمته على العالم بعدد كل شخص إرادة اللازم من الملزوم؛ لأن المغفرة لازمة للاستغفار.

قال التُّورِبِشْتِي (1): ووجه الحكمة أن صلاح العالم بالعلم، وما من شيء من الأصناف المذكورة إلا وله مصلحة معقودة بالعلم، وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: تَرَكَنَا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وما من طائر يحرك جناحيه في السماء إلا قد أَذْكَرَنا علمًا منه، فكتب اللَّه على كل نوع منها لطالب العلم استغفارًا جزاءً عنها لعلمه المعقود به صلاحًا.

وقوله: (إن فضل العالم على العابد) كان شيخنا الشيخ عبد الوهاب المتقي المكي -رحمه اللَّه تعالى وأوصل إلينا من بركاته وبركات علومه- يقول: المراد بالعالم ههنا من يصرف جل أوقاته إلى العلم والاشتغال به بالتعليم والتدريس والتصنيف والتفكر في معاني كتاب اللَّه وسنة رسوله نشرًا للعلم وتقويةً وترويجًا للدين، ويكتفي من العبادة بالفرائض والواجبات والنوافل المتأكدة كالرواتب وأمثالها من غير أن يستوعب أقسام النوافل ويشغل أوقاته بها، والمراد بالعابد من حصل العلم ولكنه بعد تحصيله اشتغل بالعبادة، وصرف عموم أوقاته بالعبادة، ويستوعب أقسام العبادات والأوراد والأذكار، قال رحمه الله: ولما كان نفع هذا العالم في دين اللَّه أكثر من العابد كان فضله أعظم وأوفر، وكان يقول: العلم في حكم الغذاء، والذكر في حكم الدواء، يستعمل لدفع

(1)"كتاب الميسر"(1/ 104).

ص: 549

كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو داوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَسَمَّاهُ التِّرْمِذِيُّ قَيْسَ بْنَ كَثِيرٍ. [حم: 5/ 196، ت: 2682، د: 3741، جه: 223، دي: 198].

ــ

العلة، والعلم محتاج إليه في جميع الأوقات، ولكن أصلحوا نيتكم ولا فساد بعد ذلك، ونقل الطيبي (1) عن سفيان الثوري أنه قال: لا أعلم اليوم شيئًا أفضل من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ فقال: طلبهم له نية، وقد نقل عن بعض العلماء باللَّه أنه قال: تعلمنا العلم لغير اللَّه فأبى العلم أن يكون إلا للَّه، وهذا صحيح واقع فيمن تعلم العلم الداعي إلى الدين والزاجر عن الدنيا، وأما العلوم البدعية الغير الشرعية فكلّا، نسأل اللَّه العافية.

وقوله: (كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) ما أحسن تشبيه العابد بالكواكب الذي لا يتعدى نوره منه إلى غيره، وتشبيه العالم بالقمر يتعدى نوره ويستضيء به وجه الأرض، وإنما شبه بالقمر لأنه يستضيء بنور النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو شمس العلم والدين، وإنما قيد بليلة البدر لكمال إضاءة القمر فيها وانمحاء الكواكب في شعاعها.

وقوله: (فمن أخذه أخذ بحظ وافر) أي: من أخذ العلم وتعلمه أخذ حظًا وافرًا من الدين والسعادة، والباء زائدة، وقيل: أخذ الثاني بمعنى الأمر وإن كان اللفظ ماضيًا، فمعناه من أراد أن يأخذ فليأخذ منه حظًا وافرًا ولا يقنع بقليله.

وقوله: (وسماه الترمذي قيس بن كثير) والصحيح كثير بن قيس، قال صاحب

(1)"شرح الطيبي"(1/ 374).

ص: 550

213 -

[16] وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ. . . . .

ــ

(جامع الأصول) في حرف القاف: قيس بن كثير سمع أبا الدرداء، وروى عنه داود ابن جميل، وكذا أخرج حديثه الزهري عن قيس بن كثير، وقال: كذا حدثنا محمود بن خداش، وإنما هو كثير بن قيس، وكذلك سماه أبو داود كثير بن قيس، وأورده البخاري في (تاريخه) في باب كثير لا في باب قيس، وقال في حرف الكاف: هو كثير بن قيس روى عنه داود بن جميل روى عن أبي الدرداء، وقد جاء عن الترمذي أنه قيس بن كثير، قال: وقيل: كثير بن قيس، وهو الأصح.

213 -

[16](أبو أمامة الباهلي) قوله: (كفضلي على أدناكم) سبحان اللَّه فضله على الأنبياء والمرسلين على أي عظمة حتى على صحابته خصوصًا على أدناهم، ففيه مبالغات لا يخفى، ويجوز أن يكون الخطاب لعامة الأمة فيكون أبلغ، واللَّه أعلم.

وقوله: (وأهل السماوات) تعميم للملائكة حتى لا يتوهم تخصيص ببعض الملائكة، وأهل السماوات والأرض ويشمل الملائكة والجن والإنس والحيوانات كلها.

وقوله: (حتى النملة) بالنصب عطفًا على (أهل السماوات والأرض) أو بالجر على أن يكون (حتى) جارة، ويجوز فيه الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، يعني حتى النملة تصلي، والحوت يصلي، وحينئذ يكون (ليصلون) خبر (إن) المتعلق لغير النملة والحوت، فافهم، ووجه تخصيص النملة والحوت بالذكر الإشارة إلى جنس

ص: 551

عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2685].

214 -

[17] وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ: رَجُلَانِ، وَقَالَ:"فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وسرد الحَدِيث إِلَى آخِره. [دي: 1/ 88].

ــ

الحرام والحلال، وقيل: إلى جنس المنهي عن القتل وغير المنهي، وقيل: إلى جنس حيوان البر والبحر، كذا في بعض الشروح، وفي قوله:(ليصلون) فيه تغليب للعقلاء على غيرهم وإن قدر لقوله: حتى النملة والحوت خبر؛ لأن الحيوانات الأخر داخلة في أهل الأرض، وأيضًا فيه اشتراك؛ لأن الصلاة من اللَّه رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن المؤمنين دعاء، وقد استدل بمثل هذا من جوز عموم المشترك كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وأيضًا جمع بين الحقيقة والمجاز كما مر في الحديث السابق، والحمل على المعنى المجازي العام يرفعهما، وإنما قال ههنا: يصلون بلفظ الصلاة، وفي السابق: ليستغفر؛ لأن الصلاة يطلق في حق اللَّه سبحانه، بخلاف الاستغفار فإنه لا يطلق في اللَّه تعالى.

وقوله: (على معلم الناس الخير) إشارة إلى وجه تفضيل العالم على العابد؛ فإن خيره متعد، وإلى أن المراد بالعالم المفضل هو المعلم النافع بعلمه للناس (1).

214 -

[17](مكحول) قوله: (ولم يذكر رجلان) أي: الدارمي لم يذكر قوله: ذكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلان، بل ذكر الحديث هكذا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، ثم تلا هذه الآية، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

(1) كذا في (د) و (ب)، وفي (ر):"العالم النافع يعلم للناس".

ص: 552

215 -

[18] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 265].

216 -

[19] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ. . . . .

ــ

(إن اللَّه وملائكته. . . إلخ).

215 -

[18](أبو سعيد الخدري) قوله: (إن الناس لكم تبع) التبع محركة يكون واحدًا وجمعًا، ويجمع على أتباع، كذا في (القاموس)(1)، ومن ههنا أخذ لفظ التابعين والأتباع لمن بعد الصحابة رضي الله عنهم، وفيه: أن الصحابة متبوعون يجب على الناس متابعتهم والإتيان عليهم لطلب العلم.

وقوله: (إن رجالًا) هم الذين نفروا من قومهم للتفقه وطلب العلم على ما نطق به القرآن: {وَفَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122].

وقوله: (فاستوصوا بهم خيرًا) أي: علموهم علوم الدين، وأصل الاستيصاء طلب الوصية، ولما كان في معنى المطلب ههنا خفاء وجهوه بأن المراد اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهم بخير، ويعدى بالباء، أو يطلب بعضكم من بعض الوصية بالخير في حقهم، وقيل: الاستيصاء بمعنى قبول الوصية أي: اقبلوا الوصية مني بالإحسان في حقهم، وقيل: الاستيصاء بمعنى الإيصاء، وأوصاه ووصّاه توصية: عهد إليه، ومنه حديث:(استوصوا بالنساء خيرًا).

216 -

[19](أبو هريرة) قوله: (الكلمة الحكمة) بالوصف مبالغة، ويروى

(1)"القاموس"(ص: 650).

ص: 553

ضَالَّةُ الْحَكِيمِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ،

ــ

(كلمة الحكمة) بالإضافة، والاختصاص باعتبار إفادتها إياها، ويروى:(الكلمة الحكيمة) بالإسناد المجازي وصفًا للشيء بوصف صاحبها كالأسلوب الحكيم، والحكمة: الفقه في دين اللَّه ونور يقذفه اللَّه في قلب من يشاء.

وقوله: (ضالة الحكيم) ويروى: (ضالة المؤمن)، والضالة في الأصل الضائعة من كل ما يعتنى من الحيوانات وغيره، يقال: ضلّ: إذا ضاع، وهي من الصفات الغالبة غلبت على ما ضل من البهيمة من ذكر أو أنثى، وقد يخص بالإبل، قال في (القاموس) (1): الضالة من الإبل التي تبقى بمضيعة بلا ربٍّ للذكر والأنثى، والمراد أن الحكيم يطلب الحكمة، فإذا وجدها فهو أحق بالعمل بها من قائلها، إذ ربما لم يكن أهلًا لها.

وفي قوله: (فحيث وجدها فهو أحق بها) أن الحكيم يأخذ الحكمة من أي شخص تفوه بها ولا ينظر إلى خساستها، كصاحب الضالة يأخذها من واجدها وإن كان خسيسًا، وإن من سمع كلامًا لم يفهم معناه فعليه أن يحمله إلى من هو أهله، وهو أفقه منه، كما أن الرجل إذا وجد ضالة فسبيله أن يتفحص عن صاحبها حتى يجده فيرد عليه، وإن العالم لا يحل له المنع عن السائل المستعد، كما أنه لا يحل لواجد الضالة منعها عن صاحبها، ففيه أنه يجوز منع غير الحكيم فإنها ليست ضالته، فالعلم كما لا يجوز منعه عن أهله لا يجوز صرفه إلى غير أهله، ويكون هذا كبيع سيف من قاطع طريق.

(1)"القاموس"(ص: 942).

ص: 554

وَإِبْراهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. [ت: 2687، جه: 4169].

ــ

وهذا كما يختلف باعتبار أشخاص المتعلمين يختلف باعتبار أنواع العلم، فأحكام اللَّه تعالى المتعلقة بالمعاملات يبذل عمومًا، وفيما وراء ذلك التمسك بالحذر أولى خصوصًا في موارد اختلاف العلماء وأقاويلهم للعامة، فإنه يضرهم حتى يخرجهم عن العقد الإيماني خصوصًا في زماننا، وأشد من ذلك علوم الحقائق والدقائق اتخذها ناس سلمًا لاستهواء قلوب العامة وأخذ أموال الظلمة والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة حتى إن بعضهم خرج عن الملة، وأشد من ذلك إشارات القوم في التوحيد وحقائق الوجود، وينبغي أن يراعى في ذلك حال السائل لحديث:(حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب اللَّه ورسوله (1)؟ )، وقيل لجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن مسألة واحدة فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا، فقال: الجواب على قدر السائل.

وقوله: (وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث) قال ابن حبان: وهو فاحش الخطأ، وفي (الكاشف) (2): إبراهيم بن الفضل المخزومي عن المقبرى وغيره، وعنه وكيع وابن نمير، وضعفوه، وفي (التهذيب) (3): هو أبو إسحاق المدني عن ابن عقيل، قال البخاري: وهو منكر الحديث، وقال النسائي مرة: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه، وهو عندي ممن لا يجوز الاحتجاج بحديثه.

(1) أخرجه البخاري (127).

(2)

"الكاشف"(رقم: 185).

(3)

"تهذيب التهذيب"(1/ 131).

ص: 555

217 -

[20] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. [ت: 2681، جه: 2022].

218 -

[21] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ واللُّؤلُؤَ وَالذَّهَبَ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإِيمَانِ" إِلَى قَوْلِهِ:"مُسْلِمٍ". وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مَتْنُهُ مَشْهُورٌ،

ــ

217 -

[20](ابن عباس) قوله: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) إن كان المراد من الفقيه الذي رزق الفهم في الدين والتفطن لمداركه فهو عارف بكيد الشيطان ولمته، ورزق علم الخواطر وتميزها كما سبق في (باب الوسوسة)(1)، وإن كان المراد العالم بأحكام الدين وتفاصيلها مما يجوز ومما لا يجوز فكذلك، لأنه يعلمها ويحذر عن المواقع المحرمة، فلا يستخفها ولا يستحلها، فلا يقع في ورطة الكفر، بخلاف المتعبد الذي ليس في درجته بالمعنيين.

218 -

[21](أنس) قوله: (طلب العلم فريضة) اختلف كلامهم في المراد بهذا العلم، والصواب أن المراد به ما لا بد منه للعبد عن تعلمه، مثلًا إذا أسلم وجب عليه معرفة الصانع وصفاته ونبوة رسوله وغير ذلك مما يصح به الإيمان، ثم إذا دخل وقت الصلاة وجب تعلم أحكامها قبيل الدخول في وقت يسع التعلم فيه، فإذا جاء رمضان وجب تعلم أحكام الصوم، وإذا ملك النصاب وجب تعلم أحكام الزكاة، فإذا مات قبل ذلك من غير تعلم لم يكن عاصيًا، كذا إذا تزوج وجب تعلم علم الحيض

(1) تحت حديث (74).

ص: 556

وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ كُلُّهَا ضَعِيفٌ. [جه: 224، شعب: 1543].

219 -

[22] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: . . . . .

ــ

والنفاس ونحوهما، وإن كان تاجرًا وجب علم البيع والشراء، وعلى هذا القياس، ثم إذا دخل في الإسلام وشرع في العمل بأحكامه، ودخل في الطاعات والعبادات وجب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفوس وما يفسد الأعمال، فإنه أيضًا واجب حتى يكمل الإيمان، وشرح ذلك في كلام الإمام الغزالي، فتدبر.

وقوله: (وقد روي من أوجه كلها ضعيفة) لكن كثرة الطرق تدل على تقوي بعضها ببعض، وقد أشبعت الكلام في نقل طرقها في (شرح سفر السعادة) فليطلب ثمة، وهذا الحديث مما رواه الإمام أبو حنيفة في (مسنده) قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)(1).

219 -

[22](أبو هريرة) قوله: (خصلتان لا تجتمعان) ظاهره يدل على أن واحدة منهما قد تحصل في المنافق لكن الاجتماع غير واقع، وقال الطيبي (2): ليس المراد ذلك بل هو تحريض للمؤمنين على اتصافهم بهما، والاجتناب عن ضدهما وهو من باب التغليظ.

(1) لم أجد زيادة قوله: "ومسلمة" فيما عندي من مسند الإمام أبي حنيفة، وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 442): قد ألحق بعض المحققين بآخر هذا الحديث "ومسلمة"، وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان معناها صحيحًا.

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 379).

ص: 557

حُسْنُ سَمْتٍ وَلَا فِقْهٌ فِي الدِّينِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2684].

220 -

[23] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْم فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والدَّارِمِيُّ. [ت: 2647، دي: 1/ 139].

221 -

[24] وَعَن سَخْبَرَةَ. . . . .

ــ

وقوله: (حسن سمت) في (القاموس)(1): السمت: الطريق وهيئة أهل الخير، وفي (مجمع البحار) (2): السمت الهيئة الحسنة، وفي الحديث:(فينظرون إلى سمته وهديه)(3)، أي: حسن هيئته ومنظره في الدين، وفيه:(ما نعلم أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد) أي: عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، والسمت الطريق القصد، ويستعار لطريق أهل الخير، وفي الحديث:(ويتسمت في ملأته) أي: يلزم طريقة أهل الخير في اشتمال الملحفة.

وقوله: (ولا فقه) أي: فهم وفطانة في الدين، ولا زائدة للتأكيد.

220 -

[23](أنس) قوله: (فهو سبيل اللَّه) أي: فله أجر من خرج إلى الجهاد؛ لأنه يجاهد الشيطان والنفس جهادًا أكبر، وله أجره إلى أن يرجع إلى بيته كما في الجهاد، وكذلك قالوا في الحج، وأما بعد الرجوع فيكون له أجر التعليم والتكميل ومضي الجهاد.

221 -

[24](سخبرة الأزدي) قوله: (سخبرة) بفتح المهملة وسكون

(1)"القاموس"(ص: 155).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(3/ 115).

(3)

انظر: "كنز العمال"(رقم: 37211).

ص: 558

الأَزْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الإسْنَادِ، وَأَبُو دَاوُدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ. [ت: 2648، دي: 1/ 139].

222 -

[25] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجنَّة". . . . .

ــ

المعجمة وفتح الموحدة.

وقوله: (الأزدي) بفتح الهمزة وسكون الزاي، وقد تبدل الزاي سينًا، اسم قبيلة، وفي (القاموس) (1): أزد بن الغوث، وبالسين أفصح، أبو حي باليمن، ومن أولاده الأنصار كلهم، ويقال: أزد شنوءة.

وقوله: (أبو داود الراوي يضعف) أبو داود هذا غير أبي داود صاحب (السنن) حاشاه، إنه ثقة أي: ثقة اتفاقًا، وفي بعض الشروح: أبو داود اسمه نفيع، قال ابن حبان: نفيع بن الحارث، أبو داود الأعمى القاضي الهمداني، من أهل الكوفة، كان ممن يروي من الثقات الموضوعات توهمًا، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه، وسئل يحيى عنه فقال: ليس بثقة ولا مأمون.

وقوله: (كان كفارة لما مضى) من الذنوب، التكفير فيما عداه من الأعمال كالوضوء والصلاة إنما هو من الصغائر، وقد يكون من الكبائر كما في الحج، ويمكن أن يكون الحال في العلم كذلك، واللَّه أعلم.

222 -

[25](أبو سعيد الخدري) قوله: (من خير يسمعه) المسموع هو العلم، و (الجنة) بالنصب والرفع خبر يكون أو اسمه، وفي الحديث دلالة على أن المؤمن

(1)"القاموس"(ص: 254).

ص: 559

رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2686].

223 -

[26] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. [جم: 2/ 263، 305، د: 3658، ت: 2649].

224 -

[27] وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ. [جه: 264].

ــ

الحريص على طلب العلم يموت على الإيمان، اللهم ارزقنا.

223، 224 - [26، 27](أبو هريرة، وأنس) قوله: (ثم كتمه) ثم للتراخي في الرتبة، فإن مرتبة كتمان العلم والسؤال عنه بعيدة في القبح والشناعة والإثم.

وقوله: (بلجام) بكسر اللام، وقال في (سفر السعادة): إنه لم يصح في هذا الباب شيء (1)، انتهى. ومع ذلك الظاهر أنه يكون إذا كان العلم فرضًا، ولم يكن هناك مانع صحيح ديني أو دنيوي، بل يكون للبخل وعدم الاعتناء بالعلم والدين، وقال التُّورِبِشْتِي (2): هذا من باب المقابلة في العقوبة، وذلك أنه ألجم نفسه بالسكوت حيث

(1) هذا الحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم، وقال المنذري في "مختصر السنن" (3/ 410) بعد نقل تحسين الترمذي: وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال، والطريق الذي أخرج بها أبو داود طريق حسن. وما رواه ابن ماجه عن أنس ففي سنده يوسف بن إبراهيم، قال البخاري: هو صاحب عجائب. وقال ابن حبان: روى عن أنس من حديثه ما لا يحل الرواية عنه، انتهى. وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف. قال المنذرى: وقد روي هذا الحديث أيضًا من رواية ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر بن الخطاب، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وعلي بن طلق، وفي كل منها مقال، انتهى. وبالجملة المتن ثابت، والكلام في خصوص الأسانيد لا يقدح في ثبوته. انظر:"مرعاة المفاتيح"(1/ 325).

(2)

"كتاب الميسر"(1/ 106).

ص: 560

225 -

[28] وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاس إِلَيْهِ. . . . .

ــ

فرض عليه البيان، فألجم بلجام من نار.

225، 226 - [28، 29](كعب بن مالك، وابن عمر) قوله: (ليجاري به العلماء) قال التُّورِبِشْتِي (1): المجاراة أن يجري الإنسان مع آخر، فيباريه في جريته، والمعنى أنه يطلب العلم ليعدل بنفسه العلماء ترفعًا ورياء وسمعة.

وقوله: (أو ليماري به السفهاء) أي: يجادل ويحاج فيما فيه مرية، والمرية بالكسر والضم: الشك والجدل، وماراه مماراة وامتراء ومِراء، وامترى فيه، وتمارى: شك، وأصل ذلك من مرى الناقة بمريها: إذا مسح ضرعها فَأَمَرَتْ هي لبنها، كذا في (القاموس)(2)، ومَرَى الشيءَ: استخرجه، وكل من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر، والسفهاء: جمع سفيه، والسفه محركة وكسحاب وسحابة: خفة العلم أو نقيضه أو الجهل، وسفه كفرح وكرم: جهل، والمحاجة والمجادلة جائز إذا كان فيه غرض صحيح، ولا يثرا (3) الخصومة والشحناء لأجل النفس.

وقوله: (أو يصرف به وجوه الناس) ليحصل منهم المال والجاه، ويصرفها في أمور الدنيا وشهوات النفس.

(1)"كتاب الميسر"(1/ 106).

(2)

"القاموس"(ص: 1224).

(3)

هكذا في (ر) و (ب)، وفي (د):"ولا تأثير"، والصحيح باعتبار المعنى "لا تصح"، واللَّه أعلم.

ص: 561

أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2654].

226 -

[29] وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. [جه: 253].

227 -

[30] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا. . . . .

ــ

وقوله: (أدخله اللَّه النار) أي: استحق عذاب اللَّه إن شاء عذبه.

227 -

[30](أبو هريرة) قوله: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه اللَّه) يجوز أن يكون (من) بيانية، ففيه تخطية وتوبيخ على أن ما كان لا يبتغى به وجه اللَّه يقبح غاية القبح أن يبتغى به ما سواه، ويجوز أن يكون تبعيضية، فيفهم من تقييد كون العلم مما يبتغى به وجه اللَّه أنه لو لم يكن منه بأن لا يكون من العلوم الدينية بعد ما كان مباحًا لو تعلمه ليصيب به الدنيا لم يقبح ذلك القبح، وكان يقول أحد من طلاب العلم يشتغل بالمعما وأقسام علوم الشعر حين قيل له في ذلك: أنا أحب أن أجعل هذه العلوم آلة لتحصيل الدنيا ووسيلة إلى صحبة أربابها دون العلوم الدينية، والطيبي أيضًا نقل مثل هذا القول من بعض العلماء الزاهدين رحمهم الله.

وقوله: (لا يتعلمه إلا ليصيب) يفيد أن من تعلم لرضا اللَّه مع إصابة عرض الدنيا لا يدخل تحت هذا الوعيد، بل ينقص من هذا الوجه بقليل، ومآل المسألة إلى مزج الرياء وخلوصه، ولعل هذا هو المراد من الحديث السابق لأن الظاهر من العلة هي التامة، فافهم.

وقوله: (عرضًا من الدنيا) العرض بفتح الراء، وهو متاع الدنيا وحطامها، وأما العرض بالسكون فيما سوى النقدين.

ص: 562

لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" يَعْنِي رِيحَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. [حم: 3/ 338، د: 3664، جه: 252].

228 -

[31] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي. . . . .

ــ

وقوله: (لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) العرف بفتح العين المهملة وسكون الراء: الريح -كما فسره الراوي- طيبةً كانت أو منتنة، وأكثر استعماله في الطيبة، وظاهر العبارة يفيد تحريم الجنة عليه، فيكون المراد عدم دخوله مع السابقين الناجين، والوجه أن الآمنين من الفزع الأكبر المتلقين بالبشرى والرضوان إذا وردوا الموقف يجدون روائح الجنة تقويةً لقلوبهم وإزاحةً لهمومهم، وهذا العبد المهجور المفتون يحرم منها، ويكون كمزكوم لا يجدها ولا يهتدي إليها سبيلًا للأمراض الكامنة في قلبه المخلة بالقوى الإيمانية، يدل على هذا المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: لم يجد عرفها على الإطلاق، إنما قال: لم يجد عرفها يوم القيامة، وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين، وذلك من حين يحشرون إلى حين ينتهي بهم الأمر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، كذا قيل.

228، 229 - [31، 32](ابن مسعود، وزيد بن ثابت) قوله: (نضر اللَّه عبدًا) وفي رواية: امرءًا، و (نضر) يروى بالتخفيف والتشديد، فروى أبو عبيد بالتخفيف، وقال: هو لازم ومتعد، ورواه الأصمعي بالتشديد، وقال: المخفف لازم، والمشدد للتعدية، وعلى الأول للتكثير والمبالغة، والنضرة والنضارة في الأصل حسن الوجه والبريق كقوله تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]، وقوله سبحانه:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، أي: نضرة في الوجه وسرورًا في القلب، والمراد

ص: 563

فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. . . . .

ــ

ههنا حسن خلقه ورفعة قدره وعلو منزلته في الدنيا والآخرة، أي: خصه اللَّه بالبهجة والسرور والشرف والقدر؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة ورفع قدر العلم ومنزلته، وكفى باعثًا على طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة وغناء في الدارين أن يستفاد بركة هذا الدعاء المبارك من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رزقنا اللَّه.

وقوله: (فحفظها ووعاها) في (القاموس)(1): وعاه يعيه: حفظه وجمعه، كأوعاه فيهما، وقال الطيبي (2): يقال: وعى كلامًا إذا حفظه ودام على حفظه ولم ينسه، انتهى. قيل: وذلك بالتكرار والتذكار، وقيل: بالرواية والتبليغ فيكون عطف (وأدّاها) عليه قريبًا من عطف تفسيري.

وقوله: (فرب حامل ففه غير فقيه) وغير في أصل وضعه للتقليل، وكثر استعماله للتكثير، وهو المناسب ههنا، وغير فقيه صفة لحامل فقه.

وقوله: (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه) أي: حامل فقه فقيه أداه إلى من هو أفقه ليفيد ما لا يفقهه الحامل، والفعل المتعلق به (رب) يكون محذوفًا في الأكثر، أي: وجدته وأدركته ونحوهما، وفيه ترغيب وتحريض على رواية الحديث باللفظ، وقد جوز الرواية بالمعنى، والمختار أن العزيمة هو الثقل باللفظ، والنقل بالمعنى رخصة؛ لأن لكل لفظ خصوصية ليس في الآخر وإن كان يرادفه في أصل المعنى، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام ليس لها مع غيرها، لا سيما في كلام من هو أفصح

(1)"القاموس"(ص: 1232).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 384).

ص: 564

ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ. . . . .

ــ

الفصحاء، ويختلف المراد بوضعها مقامها، وله أمثلة كثيرة ذكر الطيبي بعضًا منها، فالاحتياط في نقل كلامه أن يروى كما هو، وذلك ظاهر، لكن قد شاع بينهم الرواية بالمعنى، وذلك من العارف بالعربية والحاذق فيها.

وفي (سنن الدارمي)(1) عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم، وعن جرير بن حزم قال: كان الحسن يحدث بالحديث، الأصلُ واحدٌ والكلامُ مختلفٌ.

وبالجملة قد اختلفوا في الرواية بالمعنى، والأكثر على الجواز، ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به وإن لم يكن هناك ضرورة؛ فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه باللغة العربية أولى، وقيل: إنما يجوز في المفردات دون المركبات، وقيل: إنما يجوز لمن يستحضر اللفظ ليتمكن من التصرف فيه، وقيل: إنما يجوز لمن كان يحفظ الحديث فنسي لفظه وبقي معناه مرتسمًا في ذهنه، فله أن يرويه بالمعنى لمصلحة تحصيل الحكم بخلاف من كان مستحضرًا للفظه، هذا كلام الشيخ في (شرح النخبة)(2)، وهذا الخلاف في الجواز وعدم الجواز، وأما أولوية الرواية باللفظ فمتفق عليه، ومع ذلك الرواية بالمعنى قد كثر وقوعها من الأئمة، فرب حديث من أصحاب الكتب وغيرهم مروي في كتبهم والألفاظ مختلفة، وذلك أكثر من أن يحصى.

وقوله: (ثلاث لا يغل) روي هذا اللفظ بوجوه: أحدها: (لا يغل) بفتح الياء

(1)"سنن الدارمي"(ح: 321 - 323).

(2)

"نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"(ص: 25).

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وكسر الغين من الغل بالكسر بمعنى الغش والضغن، وثانيها: بضم الياء وكسر الغين من الإغلال بمعنى الخيانة أو السرقة الخفية، وثالثها: بفتح وضم من الغلول (1)، قال التُّورِبِشْتِي (2): لا معنى له ههنا لأن الغلول السرقة والخيانة من المغنم خاصة، انتهى.

ولا يذهب عليك أنه لو صحت الرواية لجاز حمله على مطلق الخيانة إطلاقًا للفظ الخاص على العام، على أن صاحب (القاموس)(3) جعله بمعنى مطلق الخيانة أيضًا، حيث قال: الغلول: الخيانة، غل غلولًا: خان كأغل، أو خاص بالفيء، وقال القاضي عياض في (المشارق) (4) في قوله: نهى عن الغلول، ولا تقبل صدقة من غلول، [وأنه قد غل]، ولا تغلو، كله من الخيانة، وكل خيانة غلول، لكنه صار في عرف الشرع لخيانة المغانم خاصة، يقال منه: غل وأغل، انتهى.

فلو حمل على المعنى الأصلي اللغوي لم يبعد، ويحتمل أن العرف حصل بعد ورود هذا الحديث؛ لأن الترغيب في التعلم مقدم في الإسلام، والمغانم وأحكامها حصلت بعد ذلك بشرعية الجهاد والقتال، واللَّه أعلم. نعم القاضي لم يذكر رواية الفتح مع الضم في الحديث، واقتصر على الروايتين الأوليين، وذلك شيء آخر، لكن عند من ثبت هذه الرواية فله وجه قطعًا.

ورابعها: (لا يغل) بالفتح والكسر مع تخفيف اللام من الوغول بمعنى الدخول،

(1) سمي بالغلول لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة ومجعول فيها الغل بمعنى الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه. "مجمع"(4/ 60).

(2)

"كتاب الميسر"(1/ 108).

(3)

"القاموس"(ص: 957).

(4)

"مشارق الأنوار"(2/ 222).

ص: 566

عَلَيهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمدْخَلِ" (1). [مسند الشافعي: 1208، الرسالة: 1102].

ــ

قال القاضي عياض: وذكر عن حماد بن سلمة أنه كان يرويه (يغل) بتخفيف اللام من وغل يغل وغولًا، يقال: وغل الرجل إذا دخل في الشجر وتوارى فيه، وهذه الرواية أيضًا بعيدة باعتبار هذه الخصوصية في مفهوم الوغول، إلا أن يراد به مطلق الدخول، وقد يفهم من بعض الكتب أنه بمعنى الدخول في شيء، فلا استبعاد.

إذا عرفت هذا فاعلم أن معنى الحديث أن المؤمن لا يغل ولا يغش ولا يخون، ولا يدخل في قلبه ميل وزيغ كائنًا على هذه الخصال الثلاث، والمراد أن هذه تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والخيانة والشر.

و(عليهن) حال، أي: لا يغل قلب مؤمن كائنًا عليها، قدمت لكون ذي الحال نكرة، ثم بين الخصال الثلاث، فأحدها:(إخلاص العمل للَّه) بأن يكون خالصًا له تعالى، لا يشوبه غرض ولا عوض، وشرحه يطلب من كلام السادة الصوفية قدس اللَّه أسرارهم، وثانيها:(النصيحة للمسلمين) عامتهم وخاصتهم وإرادة الخير لهم، وبيانه في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:(الدين النصحية)، وثالثها: لزوم جماعة المسلمين وعدم النفور والخروج والبعد عنها.

وقوله: (فإن دعوتهم) الظاهر أنه تعليل لالتزام جماعة المسلمين.

وقوله: (من وراءهم) بفتح (من) موصولة، وفي بعض النسخ (مِن) بكسرها، والأول هو الأصوب رواية، والمعنى أن دعاء الجماعة قد أحاطت بهم وبمن وراءهم،

(1) وَهِمَ في عدم عزوه لأصحاب السنن، فقد رواه الترمذي (ح: 2658).

ص: 567

229 -

[32] وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ وَأَبا دَاوُدَ لَمْ يَذْكرَا:"ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ" إِلَى آخِرِهِ. [حم: 5/ 183، ت: 2656، د: 366، دي: 1/ 75].

230 -

[33] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ. . . . .

ــ

والوراء بالمد بمعنى خلف وقدام وهو من الأضداد، فلا يكاد الشيطان ينتهز منهم فرصة بطريق الحقد والخيانة وغيرهما من المعاصي والمهالك، ويحتمل أن يكون المراد أنه من دخل في جماعتهم بالاعتقاد لا يحمله الغل على مفارقتهم، فإن اللَّه يكلؤه ويمنعه عن مفارقتهم لإحاطة الدعوة، ويجوز أن يكون تعليلًا لقوله: لا يغل، والأول هو الأظهر، وقالوا: وجه مناسبة هذا الكلام يسابقه أنه صلى الله عليه وسلم لما حث على أداء ما سمع منه أشار إلى ما يؤيده ويقرره ويبعثه عليه، وهي هذه الخصال الثلاث؛ فإنه لو لم يخلص عمله للَّه ولم ينصح المسلمين ولم يلزم جماعتهم لا يحصل الأداء أو لا يتم.

وقال الطيبي (1) ما حاصله: أن الكلام السابق وهو الترغيب والتحريض على أداء ما سمع توطية وتمهيد لهذه الخصال، وهي التي استوصى في حقها أن يبلغ ويؤدي لأنها جامعة بين التعظيم لأمر اللَّه والشفقة على خلق اللَّه، وبها تمام الدين وكماله، هذا، والظاهر أن السابق عام، فالأظهر ما ذكره الشارحون، واللَّه أعلم.

230، 231 - [33، 34](ابن مسعود، وأبو الدرداء) قوله: (من سمع منا) لفظ الجمع للتعظيم على ما يقتضيه المقام، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أشار بأن حكم أصحابي وخلفائي كذلك، واللَّه أعلم.

(1)"شرح الطيبي"(1/ 385).

ص: 568

كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. [ت: 2657، جه: 232].

231 -

[34] وَرَوَاهُ الدَّارمِيُّ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ. [دي: 1/ 75 - 76].

232 -

[35] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2951].

233 -

[36] وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرِ: "اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي. . . . .

ــ

وقوله: (كما سمعه) هذا أصرح مما سبق في محافظة الرواية باللفظ، وهو إما حال أو مفعول مطلق، و (ما) موصولة أو مصدرية.

وقوله: (فرب مبلغ) بفتح اللام المشددة أي المبلغ إليه، (أوعى) قد علم أن معناه الحفظ وإبقاؤه، والمراد ههنا أعلم وأفقه، وقال الكرماني: يقال: قد أوعيت أي: فهمت، انتهى، كأنه بمعنى أكثر وعاء للعلم والفقه.

وقوله: (من سامع) أي: ممن سمع مني وبلغ.

232، 233 - [35، 36](ابن عباس، وابن مسعود وجابر) قوله: (اتقوا الحديث عني) أي رواية الحديث، أو الحديث بمعنى التحديث على أن فعيلًا قد جاء بمعنى المصدر كالنذير بمعنى الإنذار على قول صاحب (الكشاف)(1)، وعلى هذا (عن) متعلق بالحديث.

(1) انظر: "الكشاف"(7/ 103).

ص: 569

إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ". [جه: 32].

234 -

[37] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2950].

ــ

وقوله: (إلا ما علمتم) أي: بالظن الغالب أنه مني لئلا تقعوا في الكذب علي، وقد سبق الكلام فيه في الفصل الأول.

234 -

[37](عنه) قوله: (من قال في القرآن برأيه) القول بالرأي ما لا يكون مؤسسًا على علوم الكتاب والسنة من قواعد العربية المقررة عند الجمهور، وأصول الإسلام المسلمة عند العلماء، ثم إن كان بطريق التفسير ويعني به ما يجزم به بأنه مراد اللَّه فلا بد فيه من النقل الصحيح من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما يكون بطريق التأويل واحتمال أن يكون مرادًا يكفي فيه التأسيس على قواعد العربية وأصول الدين، وبدون ذلك لا يجوز التكلم به لا تفسيرًا ولا تأويلًا، وهذا هو الضابط، وقد يراد بالتفسير بالرأي أي: يكون له رأي وميل من طبعه وهواه، فيأوله على وفق رأيه، ويصرفه إلى ما اعتقد من مذهبه وإن لم تكن الآية واردة فيه، ولو لم يكن له ذلك الرأى بالاعتقاد لما لاح له ذلك، وأما ما يذكره الصوفية من أهل الإشارات والوعّاظ في المقاصد الصحيحة فذلك شيء آخر، وقد منعه بعض الفقهاء وشدّد في ذلك.

وقال آخرون: هم أخطؤوا في الدليل لا في المدلول، وهم لا يدعون الجزم بذلك، بل إشارات تلوح على سرائرهم، وقال حجة الإسلام: الطامات، وهي صرف ألفاظ الشرع من ظواهرها إلى أمور لم يسبق منها إلى الأفهام، كدأب الباطنية من قبيل البدعة المنهية عنها، وبالجملة الأمر في تفسير القرآن خطير يجب الاحتياط فيه

ص: 570

235 -

[38] وَعَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فقد أَخْطَأَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. [ت: 2952، د: 3652].

236 -

[39] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. [حم: 2/ 286، 300، د: 4603].

ــ

والإمساك عما توقع في الخطر، والكلام فيه كثير، وقد استقصاه السيوطي في كتاب (الإتقان)(1).

235 -

[38](جندب) قوله: (فأصاب) فأخطأ على عكس ما قالوا في المجتهد: إنه وإن أخطأ فقد أصاب؛ بمعنى نيل الأجر والثوب.

236 -

[39](أبو هريرة) قوله: (المراء في القرآن كفر) قد عرفت معنى المراء في حديث كعب بن مالك في هذا الفصل، وقيل المراد بالمراء ههنا الشك كما قال اللَّه تعالى:{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [هود: 17]، أي شك، كذا في بعض الشروح، ولا شك أن الكفر على هذا المعنى يكون على ظاهره، ولكن الظاهر من سوق الأحاديث التشديد والتغليظ فيما لا ينبغي أن يفعل ويفضي إلى الكفر، وأما إنكار القرآن والشك في قرآنيته فظاهر معلوم بالضرورة من الدين أنه كفر، واللَّه أعلم.

وقيل: المراد المجادلة فيما فيه من الأحكام؛ فإنه ربما يفضي إلى الكفر إذا عاند صاحب الحق، وقيل: الجدال المشكك في الآي المتشابهة المؤدي إلى الجحود، فسماه كفرًا باسم ما يخشى عاقبته، وقد يراد إنكار بعض القراءات المروية بالشهرة.

وبالجملة البحث والجدال لا على سبيل الحق وطلبه، وعدم التفويض إلى مراد

(1) انظر: "الاتقان"(1/ 332 - 334).

ص: 571

237 -

[40] وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا يَتَدَارَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا: ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. [حم: 2/ 185، 195، 196، جه: 85].

ــ

اللَّه ورسوله، وعدم الاحتياط في ذلك حرام منهي عنه، وأما على وجه الشك والإنكار فكفر بلا شبهة.

237 -

[40](عمرو بن شعيب) قوله: (يتدارؤون في القرآن) أي: يتدافعون ويجادلون فيه على نحو ما مرّ.

وقوله: (ضربوا كتاب اللَّه بعضه ببعض) وقالوا: هذا يناقض ذلك ويخالفه قدحًا وطعنًا، وهذا مما يستغرب من الصحابة، ولعله كان فيما بينهم من بعض المنافقين قصدًا إلى التشكيك والإفساد، واللَّه أعلم.

وقال التُّورِبِشْتِي (1): خلطوا بعضه ببعض فلم يميزوا بين المحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، من قولهم: ضربت اللبن بعضه ببعض، أي: خلطته، والظاهر أن المراد المجادلة والمنازعة، فشبه صلى الله عليه وسلم حالهم بحال من كان قبلهم من المتشككين تشديدًا وتغليظًا.

وقوله: (فكلوه إلى عالمه) وهو اللَّه ورسوله كما أشير إليه بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقيل: من يعرفه من أهل العلم الراسخ في علمه، واللَّه أعلم.

(1)"كتاب الميسر"(1/ 110).

ص: 572

238 -

[41] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. . . . .

ــ

238 -

[41](ابن مسعود) قوله: (أنزل الفرآن على سبعة أحرف) وقد جاء في رواية: (نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف)(1)، قيل: المراد بسبعة أحرف سبع لغات للعرب مشهور لها بالفصاحة، فإن حرف الشيء: طرفه، ولهذا سميت حروف التهجي لأنها أطراف الكلم، وهذه سبع أطراف اللغات، وهي لغة قريش وطيء وهوازن وأهل اليمن وثقيف وهذيل وبني تميم، فإن القرآن نزل أولًا بلغة قريش، ولما شق على كل العرب القراءة بلغتهم رخص في ذلك، وكان ذلك بسؤال منه صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل، كما ورد في حديث أبي بن كعب.

وقد أورده التُّورِبِشْتِي (2) في شرحه، وكانوا يقرؤنه على اللغات المختلفة المذكورة كما يشتهي كل أحد إلى إمارة عثمان رضي الله عنه، فلما كتب المصاحف وأرسل النسخ إلى بلاد الإسلام جمع الناس على لغة قريش بعد ما جمعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر واستصواب عمر رضي الله عنه بمجموع اللغات، وأمر عثمان بمحو ما عداه رفعًا للخلاف الذي وقع في الناس بإنكار بعضهم قراءة بعض، وتكفير كل من الفريقين الآخر، ولم يبق من الحروف المختلف فيها على نهج التواتر إلا شيء يسير، وبقي المختلف فيه من الإدغام والإمالة والوقف وغير ذلك من القسم المشترك الذي اشتهر عند القراء السبع لاتصال سنده على أصله مقروءًا به، وما عدا ذلك فإنه متروك لا يقرأ به ولا يحتج به لفقد الضرورة التي دعت إليه في أول الوهلة، ثم لسقوط الرواية عنه وانعدام التواتر

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه "(رقم: 30118)، وفيه:"كلٌّ كافٍ شافٍ".

(2)

"كتاب الميسر"(1/ 111).

ص: 573

لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ،

ــ

فيه، وهذه العلة هي التي تعتمد في ترك القراءات التي تخالف نظم المصحف المجمع عليه، وهذا القول المعتمد عليه الذي أكثر الشارحين.

وقيل: المراد بها القراءات السبع، فإنها كلها متواترة ثبت إنزالها، وقراءتها تترتب على كل واحدة منها أحكام التلاوة من جواز الصلاة بها وحرمة مس المصحف الجنب والمحدث إياها. وقد زيدت قراءة يعقوب فصارت ثمانية، وقد تدعى العشر أنها متواترة، والقول المختار الذي عليه الجمهور هو الأول، وقد استوفى الكلام فيه السيوطي في (الإتقان)(1) فلينظر ثمة.

وقيل: معناه أنزل مشتملًا على سبعة معان: الأمر والنهي والقصص والأمثال والوعظ والوعد والوعيد، وقيل: المعاني السبعة: العقائد والأحكام والأخلاق والقصص والأمثال والوعد والوعيد، وقد يقال: المراد بلفظ السبعة التوسعة والكثرة لا العدد المخصوص كما قيل في قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]، قال التُّورِبِشْتِي (2): والعرب تضع السبع موضع الأعداد التامة؛ لأنها قواعد الزمان والمكان.

وقوله: (لكل آية منها) أي: من سبعة أحرف التي أنزل القرآن عليه، وفي بعض النسخ:(لكل آية منه) فالضمير للقرآن.

وقوله: (ظهر وبطن) قيل: الظهر ما ظهر من معناه ويفهمه أهل اللسان جميعًا، والبطن ما خفي منه، ويكون بينه وبين عباده المصطفين، وقيل: الظهر ما بينه التفسير،

(1)"اتقان"(1/ 39).

(2)

"كتاب الميسر"(1/ 111).

ص: 574

وَبكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ". رَوَاهُ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ" [1/ 40].

ــ

والبطن ما يستكشفه التأويل، والتفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية، وقيل: الظهر الإيمان به، والبطن العمل به، وقيل: الظهر القراءة والتلاوة، والبطن التفهم والتدبر، وقيل: ظهرها لفظها، وبطنها معناها، وقيل: قصصه في الظاهر أخبار، وفي الباطن اعتبار.

وقوله: (ولكل حد) أي: لكل حد وطرف ونهاية من الظهر والبطن.

وقوله: (مطّلع) بضم ميم وتشديد طاء وفتح لام، أي: مصعد، أي: موضع صعود يطلع عليه بالترقي إليه، والمطلع مكان إطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا، أي: مأتاه ومصعده، فمطلع الظهر تعلم العربية والعلوم التي تتعلق به ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وأمثال ذلك، ومطلع البطن تزكية النفس وتصفية القلب بالرياضة واتباع الظاهر والعمل بمقتضاه.

وقال التُّورِبِشْتِي (1): المراد بالحد ما شرع اللَّه لعباده من الأحكام، قال اللَّه تعالى:{وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97]، أي: أحكام، فالمعنى: لكل حد من حدود اللَّه وأحكامه التي شرع لعباده من الدين موضع اطلاع من القرآن، فمن وفق أن يرتقي ذلك المرتقى اطلع منه على الحد الذي يتعلق بذلك المطلع، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي رزق الارتقاء إلى مطلع كل حد من القرآن.

وقد قال بعض العلماء: إن عامة سنن الرسول صلى الله عليه وسلم راجعة إلى القرآن، والعلماء في ذلك على طبقاتهم ومنازلهم، وكان صلى الله عليه وسلم يدرك من معاني الوحي ما لا يبلغه فهم غيره، انتهى.

(1)"كتاب الميسر"(1/ 115).

ص: 575

239 -

[42] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ،

ــ

وقيل: الحد: الفرائض والأحكام، والمطلع: الثواب والعقاب، وقيل: أي: لكل حرف حد في التلاوة كالمصحف الإمام لا يتجاوز، وفي التفسير كالمسموع لا يتجاوز، وقيل: المطلع: الفهم الموصل إلى التدبر من التأويل والمعاني، وقيل: معناه: أن لكل حد منتهكًا ويرتكبه، أي: إن اللَّه لم يحرم حرفه إلا علم أن سيطلعها، وهذه المعاني أكثرها ضعيفة نازلة لعيدة خصوصًا المعنى الأخير، والذي ذكره الجمهور هو الأول، وما ذكر التُّورِبِشْتِي معنى صحيح متين كما لا يخفى، واللَّه أعلم بالصواب.

239 -

[42](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (العلم ثلاثة) أي: علم الدين والشريعة وهو العلم النافع المراد بقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، والمطلوب زيادته لقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] بمراتبه ودرجاته، وأما ما سواه فمستعاذ منه بقوله صلى الله عليه وسلم:(أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع) كالفلسفيات ونحوها، أعاذ اللَّه المؤمنين من ذلك.

وقوله: (آية محكمة)(1) إشارة إلى الكتاب، وإنما خص بالآية المحكمة لأنها أم الكتاب وأصله حفظت من الاحتمال والاشتباه، ويحمل ما سواها من المتشابهات عليها، ولا بد في ذلك من علوم هي مباديها، والمراد بـ (السنة القائمة)(2) الثابتة بحفظ

(1) قال القاري: أَيْ: غَيْرُ مَنسُوخَةٍ أَوْ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا تَأْوِيلًا وَاحِدًا. "مرقاة المفاتيح"(1/ 317).

(2)

قال القاري: أَيْ: ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْمُولٌ بِهَا. "مرقاة المفاتيح"(1/ 317).

ص: 576

أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. [د: 2885، جه: 54].

ــ

متونها وأسانيدها.

وقوله: (فريضة عادلة) إشارة إلى الإجماع والقياس لأنهما يعدلان الكتاب والسنة مساويتان لهما للاستثناء والاستنباط منهما، وسميا بالفريضة للإشارة إلى أن العمل بها فرض وواجب كما بالكتاب والسنة، فصار الحاصل أن أدلة الشرع أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأما حمل الفريضة العادلة على سهام الفرائض المذكورة في الكتاب والسنة برعاية العدالة في قسمتها فلا يناسب تخصيصها المقام، إلا أن يكون أيضًا إشارة إلى الاهتمام بها، كما قيل في تسميتها بنصف العلم، والوجه هو الأول كما لا يخفى، وما قيل: إن المراد بالفريضة العادلة ما اتفق عليه المسلمون، فهو أيضًا إشارة إلى الإجماع والقياس.

وقوله: (ما كان سوى ذلك فهو فضل) في (القاموس)(1): الفضل: ضد النقص، والجمع فضول، والفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل، والفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه، انتهى. وتحقيقه كما حكاه الطيبي (2) من (المغرب) أن الفضل: الزيادة، وقد غلب جمعه يعني الفضول على ما لا خير فيه، ثم قيل لمن يشتغل بما لا يعنيه: فضولي، وقد وقع في عبارة (إحياء العلوم) الفضل في مثل هذا المقام بمعنى زيادة الفضيلة في العلم، وذلك أنه قسم العلم إلى ما هو فرض عين وفرض كفاية، وعين القدر الضروري والحاجي منه، ثم قال: وأما إحاطة أقسام العلوم والتبحر فذلك فضل

(1)"القاموس"(ص: 961).

(2)

انظر: "شرح الطيبي"(1/ 396).

ص: 577

240 -

[43] وَعَن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَو مُخْتَالٌ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 3665].

241 -

[44] وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَفِي رِوَايَتَه:"أَوْ مِرَاءٌ" بدل "أَو مُخْتَالٌ". [دي: 2/ 319].

ــ

أي: زيادة فضيلة، ومع ذلك يجب أن لا يكون من العلوم البدعية المحرمة، وأما سوق الحديث فليس في ذلك، بل المراد منه أن علم الدين هو الكتاب والسنة وما استنبط منهما، ويشمل هذا على كل ما يتعلق بها من غير اقتصار على قدر الكفاية، وما سوى ذلك فضول، وقد اتفق الشراح على تفسيره بما لا يعنيه، وهو الأنسب بالمقام.

240، 241 - [43، 44](عوف بن مالك الأشجعي، وعمرو بن شعيب) قوله: (لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال) في (القاموس)(1): قَصَّ الخبر: أعلمه، و {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]: نبين لك أحسن البيان، والقاص من يأتي بالقصة، وفي (مجمع البحار) (2): قصصت الرؤيا عليه إذا أخبرته بها، والقص البيان، والقاص من يأتي بالقصة على وجهها، كأنه تتبع وتبين معانيها وألفاظها، وقال: القص: التحدث بالقصص، ويستعمل في الوعظ، يريد أن الواعظ للناس إما الأمير يعظ الناس ويخبرهم بما مضى ليعتبروا به، أو مأمور به يأمره الأمير مأذون من عنده، فحكمه حكم الأمير، ويجوز لهما الوعظ للناس، أو يكون القاص مختالًا يفعل تكبرًا على الناس وطلبًا للرياسة واتباعًا للهوى، والمختال المتكبر المعجب بنفسه يرائي الناس بقوله وعمله، ففيه زجر عن القص والوعظ بغير إذن الإمام، وذلك لأن الإمام أعرف

(1)"القاموس"(ص: 579).

(2)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 285).

ص: 578

242 -

[45] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ،

ــ

بمصالح الرعية، فلينظر في العلماء من رأى فيه العلم والديانة وترك الطمع وحسن العقيدة وصدق الحال يأذن له أن يعظ الناس، ومن لم ير فيه هذه الصفات لم يأذن له لئلا يوقع الناس في الفتنة من البدعة والجهل.

أقول: ويستنبط منه أن التصدر للوعظ والإرشاد مما لا ينبغي إلا بإذن المشايخ وإجازتهم واستخلافهم، كما يفعله المتشيخة من أهل الجهل والهوى، نسأل اللَّه العافية.

وقال التُّورِبِشْتِي (1): قال بعض العلماء: هذا في الخطبة؛ لأن الأمر فيها إلى الأمراء أو إلى من يتولاها من قبلهم، وذكر في بعض الشروح:(محتال) بالحاء المهملة من الحيلة أو الخاء المعجمة من الاختيال أي التكبر، وقال في (شرح السنة): بالمهملة أصح، وقال: وهكذا قيدناه من شيوخنا.

242 -

[45](أبو هريرة) قوله: (من أَفتَى) في (القاموس)(2): أفتاه في الأمر: أبانه له، والفتيا والفُتوى وتفتح: ما أفتى به الفقيه، ونقل الطيبي (3) في معنى الحديث أن (أفتى) الثاني بمعنى استفتى أي: كان إثمه على من استفتاه، فإنه جعله في معرض الإفتاء بغير علم، ويجوز أن يكون (أفتى) الأول مجهولًا أي الإثم على المفتي دون المستفتي، انتهى. وفي الوجه الأول شيئان: أحدهما: حمل (أفتى) على استفتى،

(1)"كتاب الميسر"(1/ 117).

(2)

"القاموس"(ص: 1212).

(3)

"شرح الطيبي"(1/ 297).

ص: 579

وَمَن أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 3657].

243 -

[46] وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الأُغْلُوطَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 3656].

ــ

ولا يوجد ذلك في كتب اللغة، والثاني: لا بد من الحمل على أنه استفتى مع الوقوف على جهلة مع وجود العلماء، وإلا كيف يكون الإثم عليه مع أن الخيانة إنما وقعت من المفتي لإفتائه من غير علم كما لا يخفى.

وقوله: (من أشار على أخيه بأمر) في (القاموس)(1): أشار عليه بكذا: أمره، أي: من استشار أحدًا في أمر وسأله كيف أفعل؟ فأشار المستشار فيه بأمر، وهو يعلم أن المصلحة في غيره فقد خانه.

243 -

[46](معاوية) قوله: (نهى عن الأغلوطات) في (القاموس)(2): الغلط محركة: أن تعيا بالشيء فلا تعرِف وجه الصواب فيه، والغلوطة كصبورة، والأغلوطة بالضم، والمغلطة: الكلام يغلط فيه، ويغالط به.

وفي (مجمع البحار)(3): نهى عن الغلوطات، ويروى: عن الأغلوطات، والأول محذوف الهمزة كجاء الأحمر، وجاء الْحُمْرُ، وغلط من قال:[إنها] جمع غلوطة، أي: يغلط فيها كشاة حلوب، وإذا جعلتها اسمًا قلت: غلوطة بالتاء كحدوبة، وأراد مسائل يغالط بها العلماء ليزِلُّوا فيهيج به شر وفتنة، ونهى عنها لأنها غير نافعة في الدين،

(1)"القاموس"(ص: 392).

(2)

"القاموس"(ص: 626).

(3)

"مجمع بحار الأنوار"(4/ 56).

ص: 580

244 -

[47] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَالْقُرْآنَ وَعَلِّمُوا النَّاسَ فَإِنِّي مَقْبُوضٌ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2031].

ــ

ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع، وأما الأغلوطات فجمع أغلوطة، أفعولة كأحدوثة، وقيل: غلوطات بفتح غين جمع غلوطة، وصوب بعض ضمها، وأصله أغلوطات.

وفي بعض الشروح: الأغلوطات هي المسائل التي يوقع السائل بها المسؤول عنها في الغلط لإشكال فيها وغموض فيمتحنه ليظهر فضل نفسه وقلة علم المسؤول عنها.

وفي (الأزهار) النهي للتحريم إذا كان ابتداء لأنه سبب الإيذاء، والإيذاء حرام وتهييج للفتنة والعداوة، وفيه إظهار فضل النفس ونقص الغير، وأما إن كان جوابًا وجزاء فلا يكون حرامًا لقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

وسئل من الشافعي في مجلس هارون الرشيد عن مسائل مشكلة، فأجابها سريعًا، فسأل الشافعي ممن سئل منه عن رجل مات عن ست مئة درهم ولم يخص أخته إلا درهم، فأطرق مليًّا وعجز، فأشار هارون إلى الشافعي بتصويره فقال: رجل مات عن بنتين وأم وزوجة واثنى عشر أخًا وأخت وست مئة درهم.

244 -

[47](أبو هريرة) قوله: (تعلموا الفرائض) قيل: المراد بالفرائض علم المواريث، والصواب أن المراد منها الفرائض التي فرضها اللَّه على عباده، ولما وقعت في مقابلة القرآن يراد به الفرائض التي يعلم من كلامه صلى الله عليه وسلم ليكون إشارة إلى تعلم الكتاب والسنة، وهما ينقطعان بوفاته صلى الله عليه وسلم بانقطاع الوحي، فوصى بالتعليم والتعلم لهما.

ص: 581

245 -

[48] وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: "هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 2653].

246 -

[49] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً: "يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِم الْمَدِينَةِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَاق، قَالَ إسْحَاقُ بْنُ مُوسَى: . . . . .

ــ

245 -

[48](أبو الدرداء) قوله: (فشخص ببصره إلى السماء) شخوص البصر ارتفاع الأجفان إلى فوق وتحديد النظر وانزعاجه، يقال: أشخص بصره: رفعه ولم يطرق، والباء في (ببصره) للتعدية، ويجيء متعديًا بنفسه، وكأنه انتظر الوحي فأوحي إليه باقتراب أجله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (أوان يختلس) بالإضافة، وقد يضبط بعض الناس بالتوصيف، وقال الشيخ ابن حجر: واللفظ العربي بالإضافة، وفي بعض النسخ:(يختلس فيه)، وهذا الظاهر في التوصيف، ولذا حمله عليه الطيبي، ويختلس بمعنى يسلب، من الخلس بمعنى السلب، والمراد بـ (العلم) الوحي.

246 -

[49](أبو هريرة) قوله: (وعن أبي هريرة رواية) بالنصب على التمييز، وهو عبارة رفع الحديث أي رواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنما يؤتى بهذه العبارة إذا لم يتيقن عند الراوي أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (يوشك) بضم الياء وكسر الشين، وفتحها لغة ردية، وقد مر. وضرب الأكباد كناية عن سرعة السير.

ص: 582

وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. [ت: 2680].

ــ

قوله: (سمعت ابن عيينة أنه قال) وفي بعض النسخ المصححة ههنا: (قال: قيل: هو العمري)، وهذا أحسن لئلا ينافي سابقه.

وقوله: (هو العمري الزاهد، واسمه عبد العزيز بن عبد اللَّه) اعلم أن العمري بضم العين وفتح الميم كثير، والكل منسوب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أولاده، ومنهم عبد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن العمري المدني، قال الشيخ في (التقريب) (1): ضعيف عابد، من السابعة، مات سنة إحدى وسبعين ومئة.

وذكر المؤلف في الفصل الثاني من (باب تعجيل الصلاة) عن الترمذي أنه ليس بالقوي، وذكر في بعض الحواشي عن (الترغيب) (2): هو صدوق حسن الحديث فيه لين، وعن (الكفاية): كان يحيى بن سعيد يضعفه، وقيل: هو لا يحدث عنه، وقد ذكره مسلم في شواهده، وهو ممن غلب عليه الزهد، وشغلته العبادة عن حفظ الحديث وضبطه، ولم يذكره صاحب (جامع الأصول)، وهو عجيب.

وفي (الكاشف)(3) للذهبي: عبد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم العمري عن أخيه عبيد اللَّه ونافع والمقبري، وعنه ابنه عبد الرحمن والقعنبي وأبو مصعب، قال ابن معين: صويلح، وقال ابن عدي: لا بأس به صدوق.

(1)"تقريب التهذيب"(رقم: 3489).

(2)

"الترغيب"(1/ 257).

(3)

"الكاشف"(رقم: 287).

ص: 583

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وفي (التهذيب)(1): كان رجلًا صالحًا، وقال عبد اللَّه بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف، وقال يعقوب بن أبي شيبة: ثقة صدوق، في حديثه اضطراب، وقال النسائي: ضعيف الحديث، وقال أبو زرعة الدمشقي: رأيت أحمد يحسن الثناء عليه.

ومنهم: عبيد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أبو عثمان أخو عبد اللَّه هذا العمري، ثقة ثبت، قدمه أحمد بن صالح على مالك، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين ومئة، كذا في (التقريب)(2).

وقال في (الكاشف)(3): هو العمري الفقيه الثبت، ويقال: رأى أم خالد الصحابية، عن أبيه والقاسم وسالم، وعنه شعبة والقطان وأبو أسامة وعبد الرزاق، مات سنة سبع وأربعين ومئة.

وفي (التهذيب)(4): كان من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلًا وعلمًا وعبادة وشرفًا وحفظًا وإتقانًا، وذكره صاحب (جامع الأصول) (5) وقال: مدني، أحد الأعلام والراسخين في العلم، وكان تقدم على مالك بن أنس، وروى عن أم خالد القرشية، سمع القاسم بن محمد ونافعًا، وروى عنه حميد الطويل.

ومنهم: عاصم بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي العمري، سمع أباه، وسمع منه وكيع وأبو نعيم وأحمد بن يونس، وذكر في

(1)"تهذيب التهذيب"(رقم: 564).

(2)

"تقريب التهذيب"(رقم: 4324).

(3)

"الكاشف"(رقم: 3576).

(4)

"التهذيب"(رقم: 71).

(5)

"جامع الأصول"(12/ 691).

ص: 584

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

(الكاشف)(1): هو صدوق، عن أبيه، وعنه ابن عيينة وقبيصة وأبو الوليد، وفي (التهذيب) (2): قال أحمد ويحيى وأبو حاتم: ثقة، زاد أبو حاتم: لا بأس، ذكره ابن حبان في (الثقات)، وكذا في (التقريب)(3).

ومنهم عمر بن حمزة، في (جامع الأصول) (4): هو عمر بن حمزة بن عبد اللَّه ابن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، ويعرف بالعمري، أصله من المدينة، وسكن المدينة (5)، سمع سالم بن عبد اللَّه بن عمر ونافعًا، وسمع منه أبو أسامة ومروان، قال أحمد: أحاديثه مناكير، وفي (التهذيب) (6): المدني، وذكره ابن حبان في (الثقات)، قال: وكان ممن يخطئ، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، استشهد به البخاري في (الصحيح)، وروى له حديث (7) في الأدب أيضًا، وذكر أبو الحجاج أن مسلمًا روى عنه.

إذا عرفت هذا فاعلم أن تعيين عالم المدينة الذي مدحه رسول اللَّه بقوله: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، ولم يجدوا أحدًا أعلم منه) بالعمري الزاهد الذي هو عبد اللَّه بن عمر المختلف فيه ذلك الاختلاف غير مناسب، والأولى به أخوه عبيد اللَّه

(1)"الكاشف"(رقم: 2519).

(2)

"تهذيب التهذيب"(5/ 50، رقم: 92).

(3)

"تقريب التهذيب"(رقم: 3078).

(4)

"جامع الأصول"(12/ 717).

(5)

كذا في الأصول، وفي "جامع الأصول":"وسكن الكوفة".

(6)

"تهذيب التهذيب"(7/ 374، رقم: 719).

(7)

كذا في الأصول، والظاهر:"حديثًا"، أو يحذف كما في "تهذيب الكمال"(4221).

ص: 585

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الذي اتفقوا على أنه ثبت ثقة، ومدحوه مدحًا بالغًا، وقدمه بعضهم على مالك بن أنس، بل لو فسروا العمري الزاهد به لم يبعد؛ فإنه قد وصف بالعبادة أيضًا كما وصف بالعلم والحفظ والإتقان، نعم لفظ الزاهد اشتهر في عبد اللَّه.

وأما قوله: واسمه عبد العزيز بن عبد اللَّه الظاهر أن الضمير في اسمه يرجع إلى العمري الزاهد، وليس كذلك، إذ لم يذكر أحد أن عبد العزيز بن عبد اللَّه عمري، نعم هو مدني من أعلام علماء المدينة، كما ذكر صاحب (جامع الأصول) (1): هو أبو عبد اللَّه (2)، وقيل: أبو الأصبغ، عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة (3)، واسمه ميمون الماجشون، قال إبراهيم الحربي: الماجشون فارسي، وإنما سمي بذلك لأن وجنتيه كانتا حمراوين فسمي بالفارسية ماه كون، ثم عربه أهل المدينة فقالوا: الماجشون، وعبد العزيز أحد فقهاء المدينة وأعلامهم، سمع ابن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر وعبد اللَّه بن دينار وأبا حازم وحميد الطويل وهشام بن عروة، وروى عنه الليث بن سعد وبشر بن المفضل ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وأبو نعيم، قدم بغداد وحدث بها، ومات سنة أربع وستين ومئة ببغداد، وصلى عليه المهدي.

وفي (الكاشف)(4): عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة الماجشون التيمي مولاهم المدني الفقيه، أجازه المهدي بعشرة آلاف دينار، وكان إمامًا معظمًا، قال أبو الوليد: كان يصلح للوزارة، هذا على ما فهمه الطيبي وإلا فههنا عبد العزيز بن عبد اللَّه

(1)"جامع الأصول"(12/ 653).

(2)

في الأصول: "أبو عبد" وهو تحريف.

(3)

في الأصول: "أبي شملة" وهو تحريف.

(4)

"الكاشف"(رقم: 3395).

ص: 586

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

آخر هو عمري ذكره في (الكاشف)(1)، وقال: عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر ابن الخطاب العمري، سمع أباه وعمه سالمًا، وعنه ابن المبارك ووهيب، صدوق، خرج مع ابن حسن، ثم عفا عنه المنصور، وكان بارع الجمال، وفيه يقول المنصور: إذا قتلت مثل هذا فعلى من أتأمر، واللَّه أعلم، هذا، وقد نقل الطيبي (2) عن المظهر أنه قال: أراد بالعمري عمر بن عبد العزيز، ووجهه أن أمه بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكنيتها أم عاصم، واسمها ليلى، فهو من أولاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من البنت، ولكن رده بأنه ليس من أهل المدينة بل من أهل الشام، فلا يصح تسميته عالم المدينة، نعم كان في المدينة في إمارة وليد بن عبد الملك بن مروان أميرًا عليها من قبله حين بني مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم.

ثم اعلم أنه كان في المدينة وغيره من البلاد علماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم كثيرون كالمذكورين والفقهاء السبعة المشهورين وغيرهم من الأعلام، فتخصيصه بمالك بن أنس والعمري الزاهد لا يخلو عن شيء، ولا بد من الدليل عليه، ولا يقطع بذلك، نعم قد اشتهر مالك، وهو من أتباع التابعين في زمانه بالفقه والحديث والإمامة، وله ملازمة خاصة وجهة مخصوصة بالمدينة التزمها، ولم يخرج منها مدة عمره إلا لحجة واحدة، فلا يبعد أن يذهب الظن إلى ذلك، وأما غيره فتخصيص محض بلا مخصص يوجب الظن، ولعل الصواب أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا الحديث من حال آخر الزمان الذي يارز فيه الدين إلى هذه البلدة الشريفة، ولا يبقى على الأرض عالم إلا فيها، واللَّه أعلم بالصواب.

(1)"الكاشف"(رقم: 3396).

(2)

"شرح الطيبي"(1/ 400).

ص: 587

247 -

[50] وَعَنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 4291].

ــ

247 -

[50](عنه) قوله: (فيما أعلم) هذا لفظ أبي هريرة، أي: في جملة معلوماتي التي حفظتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال. . . إلخ، وقيل: بفتح الميم على لفظ الماضي، فهو قول الراوي من أبي هريرة، وقد يقرأ بضم الهمزة وفتح اللام ورفع الميم على صيغة المجهول المتكلم، وعلى هذا أيضًا هو لفظ أبي هريرة، والأول هو الوجه.

وقوله: (على رأس كل مئة) المراد بالرأس آخر المئة أو قريب من آخرها، هكذا اللفظ العربي، وفي الحديث: فتوفاه اللَّه تعالى على رأس ستين سنة، قال الطيبي (1): أي آخره، وقال: ورأس الآية آخرها، وكذا بعثه اللَّه على رأس أربعين سنة، وقالوا: أن المبعوث على رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز، وهو إنما بعث في آخر المئة الأولى.

وقوله: (من يجدد لها دينها)(2) قد تبادر إلى أفهام أقوام أن المراد به واحد من علماء الأمة أمتاز من بين أهل زمانه بتجديد الدين ونصرته، وترويج السنة وتقويتها،

(1) انظر: "شرح الطيبي"(11/ 44).

(2)

قال الإمام ولي اللَّه الدهلوي في "التفهيمات الإلهية"(1/ 40): والمجدد رجل رزقه اللَّه سبحانه حظًا من علم القرآن والحديث، ثم ألبس لباس السكينة فجعل يضع التحريم والوجوب والكراهية والاستحباب والإباحة موضعها، وينقح الشريعة عن الأحاديث الموضوعة وأقيسة القائسين وعن كل إفراط وتفريط، ثم أظمأ اللَّه أكبادًا إليه فأخذوا عنه العلم، وعندنا أن المئة تخمين لا تعيين، ويعتبر من وفاته صلى الله عليه وسلم، وأقرب الناس إلى المجددية المحدثون القدماء منهم البخاري ومسلم وأشباههم.

ص: 588

248 -

[51] وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ،

ــ

وقمع البدعة وتضعيفها، ونشر العلم حتى عيّنه قوم بأنه في المئة الأولى فلان، وقال صاحب (جامع الأصول) (1): الأولى الحمل على العموم (2) فإنه لفظة: (من) يقع على الواحد والجمع، ولا يخص أيضًا بالفقهاء بل يعم أولى، وكذا القراء وأصحاب الحديث والزهاد، ثم عين إلى قريب من زمانه كل واحد من الطوائف، هذا ولو عمم البلاد بأن يكون في زمان واحد أو جمع من شأنه هذا لم يبعد، وإنما قال: على رأس كل مئة؛ لأن القرن ينقرض في هذه المدة وينقضي وينتهي كماله إليها، ولهذا سمي القيامة الوسطى كما سيجيء في (باب قيام الساعة) إن شاء اللَّه.

248 -

[51](إبراهيم بن عبد الرحمن) قوله: (العذري) بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة منسوب إلى عذرة بن سعد.

وقوله: (من كل خلف)(3) بفتح اللام أي: من كل جماعة يخلف السابقين ويلحق بهم، فـ (من) تبعيضية، و (عدوله) فاعل (يحمل).

وقوله: (تحريف الغالين) التحريف التغير لفظًا أو معنًى، والمراد تبديل الحق

(1)(11/ 319).

(2)

وفي "التقرير": والظاهر أنه جماعة لكل زمان في كل أمر، وكذا في "المرقاة"(1/ 322).

(3)

قال القاري: الْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الرَّجُلُ الصَّالِحِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ أَحَدٍ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ. "مرقاة المفاتيح" (1/ 322). وفي "الصراح": الخلف بالتحريك حسن وبالسكون سيء، يقال: خَلْفُ سوء من أبيه بالتسكين، وخَلَفُ صدق بالتحريك، انتهى. وفي التنزيل:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169، مريم: 59].

ص: 589