الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تَقدِيْمٌ بِقَلَمِ: أ. د. موَفَّقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ القَادِرِ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ - جَامِعَةُ أُمِّ القُرَى
الحمد للَّه ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيّدِ الأولين والآخرين نبيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
لقد اعتنى المُحَدِّثون عناية فائقة بشرح السُّنَّة النَّبويَّة المطهرةِ، واتبعوا في ذلكَ مناهج متنوعة تدل على عُلُوِّ الفِكْرِ، واتساع الأفقِ، فمنهم مَن صَنَّفَ في غريب الحديثِ، ومنهم مَن أَلَّفَ في النَّاسِخِ والمنسوخِ، ومنهم مَن ألَّفَ في مُشكل الآثار، ومنهم مَن ألَّف في السُّنَّةِ، ويريد بها خلاف البدْعَةِ، ومنهم مَن ألَّف في جزءٍ من الأجزاء الحديثية، والتي يُريد بها جَمع الأحاديث التي تشتمل على مُعيَّنٍ مِنَ المطالبِ، ومنهم مَن صَنَّفَ في الجوامع والمُصَنَّفات، وهي مرتبة على الأبواب الفقهية، مشتملة على السنن وما هو في حيزها، أو له تعلق بها، بعضها يُسَمَّى مُصَنَّفًا، وبعضها جامِعًا، ومنهم مَن صَنَّفَ كتبًا تعرف بـ (السنن)، وهي في اصطلاحهم: الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية، من الإيمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، إلى آخرها، وليس فيها شيء من الموقوف، لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سُنَّة، ويسمى حديثًا. . . وغير ذلِكَ مِنَ المؤلَّفات التي يطول ذِكْرها. . .
وكثير مِنَ المُصَنَّفات اتبعت عناوينَ الكُتُبِ، والأبواب، أو الفصول، التي تدلُّ
على المرادِ مِن الشَّرحِ والبيانِ. . .
وصنَّفَ الإمامُ الحسين بن مسعود الفرَّاء البغويّ (ت: 516 هـ) كتاب (مصابيح السُّنَّة)(1)، جمع فيها أحاديث النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تحت أبواب الفقه والعقيدة والأخلاق دُون ذكر الصَّحابي ولا المسند ولا الكتاب الذي خرّج الحديث. . .
ولم يذكر الإمامُ البَغَويُّ في مقدمة كتابه اسمًا صَريحًا للكتاب، بل قال:". . . هُنَّ مصابيح الدُّجَى"، ولذا فقد اختلفت الأقوال في تسميته، فمنهم من سَمَّاه (المصابيح)، ومنهم مَن سَمَّاهُ (المصابيح في الصِّحاح والحسان)، ومنهم من أطلق عليه (المصابيح المقتبسة)، و (مصابيح السُّنَّة)، وكل هذه المسميات تدور حول المضمون العلمي للكتاب.
وقد شرح (مصابيح السُّنَّةِ) كثير من الشُّرَّاح، ذكر حاجي خليفة وبروكلمان أكثر من اثنين وأربعين شرحًا ومختصرًا وتخريجًا لهذا الكتاب (2).
وجاء الإمام وليّ الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الخطيب العُمري التبريزي، المتوفى سنة (741 هـ)، فتمم كتابه بأن ذكر اسم الصحابي والكتاب الذي خرّجه وأضاف عليه بعض الأحاديث وسماها (مشكاة المصابيح)(3).
(1)"سير أعلام النبلاء"(19/ 440)، و"المعجم المفهرس" لابن حجر، برقم (1727)، وطبع بتحقيق يوسف المرعشلي، ومحمد سليم سمارة، وجمال الذهبي، دار المعرفة، بيروت، (4 مج)، (2232 ص)، وحققه أيضًا ضحى الخطيب، دار الكتب العلمية، 1419 هـ، (2 مج).
(2)
انظر: "كشف الظنون"(ص: 1698)، و"تاريخ الأدب العربي"(6/ 245).
(3)
"مشكاة المصابيح" لمحمّد بن عبد اللَّه الخَطيب التبريزي، طبع بتَحْقِيق الشيخ مُحَمَّد نَاصِر الدِّين الألباني، الطبعة الأولى (1380 هـ - 1961 م)، المكتب الإسلامي، بيروت. وقد بلغ عدد أحاديث مشكاة المصابيح (6285) حديثًا.
واعتنى بشأن (مشكاة المصابيح) العلماء فقاموا بشرحه والتعليق عليه. . .
ولقد لقي كتاب (مشكاة المصابيح) كلّ عناية وإكرام مِن قِبَلِ عُلماء القارة الهنديَّة، فقاموا بشرحه في أكثر من شرح رائق عذبٍ متلألئ، جمعوا فيه فِكر المتقدمينَ، ومحاسِنَ المتأخرين. . .
إنَّ عُلماء هذه القارة احتفوا بالسُّنَّة النَّبويَّة أيَّما حفاية، فنالت منهم صدق الرِّعاية، فقاموا بخدمتها عبر السنين الطوال، ولا عجب في ذلك، فروح الكرم فيهم نزاعة، وروح المبرة فيهم مستمرة، وحبهم للسُّنَّة مُخيم لا ينقطع، وهذا من تمام الدِّين. . .
ومن هؤلاء الشُّرَّاح الشَّيخ عبد الحقّ بن سيف الدِّين الدَّهْلوي (958 - 1052 هـ)، رحمه اللَّهُ تعالى مؤلِّف كتاب (لمعات التَّنقيح في شرح مشكاة المصابيح) كانَ مُحَدِّثَ الهند في عصره، جاور في الحرمين الشَّريفين أربع سنوات، فنال جزيل الأجرِ، وأخذ عن علمائها، فقصدهُ النَّاسُ وائتموا به، كانَ واسع النَّفَس، ذو باعٍ طويلٍ، كتبَ بالعربية، والفارسيَّةِ، وقيلَ: بلغت مُصنَّفاته مئة مُجلَّدٍ، كان بارعا بالحديثِ وعلومهِ، عارفًا بالمسائل واختلاف العلماء والفتاوى، قدمهُ عُلماء بلدهِ، وزارهُ الأمراءُ والأشرافُ، وأثنَى عليه غيرهم من عُلماء الدِّيار الإسلاميَّة. . .
بلغ التّسعينَ من عُمُرهِ، وكان يتمتعُ بالصِّحَّةِ وروح الشَّبابِ، وللَّهِ في خلْقِهِ أسرار. . .
وكتابهُ (لمعات التَّنقيح في شرح مشكاة المصابيح)، هو واحد من الشروح التي أثنى عليها عدد من أهل العلمِ. . . شرحٌ عذبٌ لباغي الحديثِ وطالبِ السُّنَّة، تشرق منه الفوائد، وتغيبُ فيه الغوامض، وتُرْتَشفُ من ثناياه الدُّرر، فيكرع طلاب العلم من زلاله العذبِ، فتخصب العقول، {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]. . . .
إنَّ هذا الشَّرح كنزٌ مِن كنوز الدَّهرِ، ثقيلةٌ مؤنتهُ، خفيفةٌ حمولتهُ، وسطٌ بينَ الشُّروح، و"البَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطّعَامِ، فكُلُوا مِنْ حَافتَيْهِ". . .
وأمَّا مُحقق الكتابِ، فهو الشَّيخُ الأستاذ الدكتور، تَقيُّ الدِّين النَّدويّ، سَمعتُ به وعرفتهُ من خلالِ كُتُبهِ النَّافعةِ، قَدِمَ لمكة المُكَرَّمَةِ مُعتمرًا في شَهْرِ رَمَضَان المبارك، فاتصل بني رَاغبًا مُخاطبًا. . . فطرتُ كأني قانص طيرٍ، فلمَّا رأيتُه وقع في قلبي "طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ". . . واستضفتُهُ في دَارِنا فجلسنا وتحدثنا، فرأيتُ رجلًا مُتقدِّمًا بالسِّنِّ والفضلِ، وصِناعَةِ الحديثِ، عَيْنًا من عيون الهندِ، تاريخهُ تاريخ العلماء ورواةِ الآثار. . . فقلتُ: النَّاس سابق أو مسبوقٌ، وأنا أرتقب الفرصة لألج بابَها، فطلبتُ منه الإجازة في الحديث عن شيوخه، فلم يبخل بجوابهِ، ومدَّ يدهُ الكريمة فأخذَ القَلمَ وجَمع الكَلم، وما جف المداد حتَّى نلتُ المراد البعيد. . .
نَعم سُررت، فقد أجازني بمروياته قبلهُ شيخنا العلامة أبو الحسن النَّدويّ رحمه اللَّه تعالى، فكان العهد المعقودُ بالإجازة والسَّماعِ للأسانيد الهنديَّةِ، نسأل اللَّه تعالى أن نكون ممن نستحق أن يُسند إلينا باللِّقاءِ والإجازة. . .
إنَّ تحقيق ونشر كُتُب التُّراث على مشقته قد غَلبَ على قلبِ الشَّيخ النَّدويّ، وزيَّنَ عقلهُ، فهو يتقلُبُ فيه، ويمشي مَعهُ، ولا عجب في ذلكَ فقد نشأ الشَّيخ وترعرع وهو يكتب الحديثَ ويسعى فيه {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. . .
لقد اعتنى الشَّيخُ يحفظه اللَّه تعالى في تحقيق كتاب (لمعات التَّنقيح في شرح
مشكاة المصابيح)، فَوَفَّر الأصول الخطية لهُ، وسارَ على نهج النَّص المُختار، وعارض بينَ النُّسخِ المتعددة، وأعادَ النَّظر أكثر مِن مَرَّةٍ، لتجنبِ الخطأ والخلافات والتَّفاوتِ التي تقع أحيانًا بينَ النُّسَخِ. . . واستعان بفريق يعينهُ، وَمَنَحَ طبعته هذهِ مميزات: من تعليقٍ نافعٍ، وتخريجٍ موجزٍ، وتعريفٍ للأعلامِ، مقرونة بمقدمة ماتعةٍ عن الكتابِ ومؤلِّفهِ. . .
فجزى اللَّه الشَّيخ تقي الدِّين خير الجزاء، وبارك في أعماله وجهده. . .
والشُّكر موصول لِمَن أعانَ الشَّيخ وسَعَى في طباعة الكتابِ ونشره، وقد قال عُرْوَةُ بنُ الزُّبير:"الشُّكر وإنْ قل، ثمنٌ لكل نوال وإنْ جَل". . .
وأختم هذه المقدمة بحديث عَائِشَة رضي الله عنها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْغَيْثَ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا"(1).
واللَّه تعالى الموفق والهادي إلى سواء السَّبيل. . .
كَتَبَهُ أ. د. موفق بن عبد اللَّه بن عبد القادر
مكة المكرمة - جامعة أم القرى - قسم الكتاب والسنة
حرر في: 9/ 8/ 1435 هـ
* * *
(1) أخرجه أبو داود (5099)، وابن ماجه (3890).