الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الثَّانِي:
130 -
[6] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَللآخَرِ: النَّكَيرُ،
ــ
ووجه آخر، وهو أن الأحياء ما زالوا يوارون سوآت الأموات طبعًا وحمية، وندبوا إلى ذلك شرعًا أيضًا بقوله:(اذكروا أمواتكم بالخير)، فلو سمعوا صياح المعذبين لاحتمل أن يحملهم ذلك على أن يطرحوا موتاهم في صحاري بعيدة خوفًا من أن يطلع الناس على ذلك، فإن القبور كالمنازل يجتمعون عليها، ولا ينسون مواضعها، فافهم، واللَّه أعلم.
الفصل الثاني
130 -
[6](أبو هريرة) قوله: (أسودان أزرقان) قال التُّورِبِشْتِي (1): أسودان يحتمل أن يكون على الحقيقة لما في لون السواد من الهول والنكر، ويحتمل أن يكون كناية عن قبح المنظر وبشاعة الصورة، وأما الزرقة فالمراد به وصفهما بتقليب البصر وتحديد النظر إليه يقال: زرقت عينه نحوي: إذا انقلبت وظَهَرَ بياضُها، كما ينظر العدو إلى من يعاديه، وقيل: إنما وصف العدو بالزرقة؛ لأن الروم أعداء العرب وهم زرق العيون، وقال في (القاموس) (2): الزَّرَقُ: العمى، وَ {يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] أي: عميًا، انتهى. وفي الحديث الآتي:(ثم يقبض له أعمى) كناية عن عدم الترحم والشفقة.
وقوله: (يقال لأحدهما المنكر، وللآخر: النكير) النكرة خلاف المعرفة، ونكر
(1)"كتاب الميسر"(1/ 73).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 820).
فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ،
ــ
الأمر ككرم: صعب، ونكر فلان الأمر كفرح، والمنكر ضد المعروف اسم مفعول من الإنكار، ونكير فعيل من النكر، وإنما سميا بهما لعدم معرفة الميت إياهما وتوحشه عنهما وعدم استيناسه بهما.
وفي (شرح العقيدة الأمالية) لبعض الفقهاء المحدثين من أهل المدينة: قال الحليمي: يشبه أن تكون ملائكة السؤال جماعة كثيرة يسمى بعضهم منكرًا، وبعضهم نكيرًا، فيبعث إلى كل منهم اثنان كما أن الموكل عليه لكتابة عمله ملكًا، وفيه: قال بعض العلماء: منكر ونكير اسمان لملكي المذنب، وأما المطيع فملكاه اسمهما مبشر وبشير، وقال السيد السمهودي: ولم أقف على أصل لما قاله، وقد عزاه الحافظ ابن حجر لبعض الفقهاء، والذي يقتضيه ما في الأحاديث استواء المؤمن في اسميتهما ووصفيتهما، أقول: وهو الظاهر؛ لأن مجيء الملكين إنما هو للامتحان والابتلاء، فالظاهر الإتيان بصفة النكرة، ثم هما يبشران المؤمن بعد تثبته في الجواب، واللَّه أعلم.
وقوله: (قد كنا نعلم أنك تقول هذا) بإيناس سيماء الإيمان في وجهه أو بإعلام اللَّه.
وقوله: (كنومة العروس) وفي (القاموس): الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما، وهم عروس، وهن عرائس، والعرس بالكسر: امرأة الرجل، والعرس بالضم وبضمتين:
حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُ مِثْلَهُ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. [ت: 1071].
131 -
[7] وَعَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُول: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ؛ فَذَلِكَ قَولُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآيَة [إبراهيم: 27]، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَق عَبدِي فَأفْرِشُوهُ. . . . .
ــ
طعام الوليمة والنكاح، وأعرس: اتخذ عرسًا، وبأهله: بنى عليها.
وقوله: (حتى يبعثه اللَّه من مضجعه) متعلق بمحذوف، أي: ينام هكذا إلى يوم البعث.
131 -
[7](البراء بن عازب) قوله: (ما هذا الرجل) أي: ما وصفه؟ .
وقوله: (أن صدق عبدي) أن مفسرة لما في النداء من معنى القول، كقوله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} [الصافات: 104] وسمي المؤمن عبدًا لإطاعته وانقياده، وأضافه إلى نفسه تشريفًا له بخلاف الكافر.
وقوله: (فأفرشوه) قال التُّورِبِشْتِي (1): أفرشوه بألف القطع أي: اجعلوا له
(1)"كتاب الميسر"(1/ 75).
مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ فيُفْتَحُ، قَالَ: فَيَأتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَذَكَرَ مَوْتَهُ، قَالَ: وَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ،
ــ
فرشًا من فرش الجنة، ولم نجد الإفراش على هذا المعنى في المصادر، وإنما هو أفرش أي: أقلع عنه، فهذا اللفظ إذًا على هذا المعنى من باب القياسي الذي ألحق الألف بثلاثيه، ولو كان من باب الثلاثي لكان حقه أن يروى بألف الوصل، والمعنى ابسطوا له، ولم نجد الرواية إلا بالقطع، انتهى.
وفي (القاموس)(1): فَرَشَ فَرْشًا وفراشًا: بسطه، والفرش: المفروش من متاع البيت، وما أفرش عنه: ما أَقْلَعَ، وأفرشه بساطًا: بسط له، كفَرَشَهُ فرشًا وفَرَّشَه تفريشًا، ويظهر منه الإفراش جاء بمعنى بسط الفرش.
وقوله: (ألبسوه) أيضًا بهمزة القطع.
وقوله: (ويفسح له فيها) أي: في القبر كما مر في الحديث السابق: (ويفسح له في قبره)، ولعل تأنيث الضمير باعتبار الجنة أي: في قبره في جانب الجنة التي يفتح له باب إليها، فافهم، ومد البصر أي مداه وهي الغاية، وقد سبق أنه يفتح له في قبره سبعون في سبعين ذراعا، وكلاهما كناية من غير اعتبار تعينه، والفسحة المقدرة بالذراع لعوام المؤمنين وذلك أدناها، والفسحة مد البصر لخواص عباد اللَّه الصالحين.
وقوله: (فذكر) بلفظ المعلوم أي: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ويعاد روحه في جسده) ظاهر في الإحياء حقيقة كما في الدنيا، ولا يظهر لتخصيصه بالكافر وجه إلا أن يقال: فيه كمال التعذيب والمبالغة فيه، واللَّه أعلم.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 555).
وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أعْمَى أَصَمُّ مَعَهُ مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمغْرب إِلَّا الثَّقَلَيْنِ،
ــ
وقوله: (هاه هاه) كلمة توجع وتحير.
وقوله: (فأفرشوه من النار) يحتمل أن يكون (من) تبعيضية أو زائدة، فيكون الفراش واللباس من النار بعينها، وأن يكون ابتدائية كما في قوله:(من الجنة)، ويجوز أن يكون في النار فرشًا وألبسة قبيحة مؤلمة، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثم يقيض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد)(يقيض) على لفظ المضارع المجهول أي: يقدر ويسلط، وأصل الكلمة من القيض وهي القشرة العلياء من البيض، أي يستولي عليه استيلاء القيض على البيض، وقيل: أصلها القيض بمعنى البدل، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة أي: ملك في صورة رجل أعمى وأصم، وكونه أعمى وأصم كناية عن عدم الرحمة والرقة، والمرزبة بكسر الميم وسكون الراء وبفتح الزاء والباء مشددة أو مخففة، وهي التي يكسر بها المدر، كذلك الأرزبة، قال في (القاموس) (1): الأرزبة والمرزبة مشددتان أو الأولى فقط: عُصَيَّةٌ من حديد.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 96).
فَيَصِيرُ تُرَابًا، ثُمَّ يُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. [حم: 4/ 287 - 288، 295، 296، د: 4753].
ــ
وقوله: (فيصير ترابًا ثم يعاد فيه الروح) كرر الإعادة كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]، ولعله خص هذا بالكافر تشديدًا ومبالغة في تعذيبه وجزاءً لإنكاره بالبعث، ثم الذي يقطع بوجوده في القبر إيجاد شيء من الحياة في جزء من أجزاء الميت يدرك به الألم، وإن لم يكن إحياءً حقيقة كما في الدنيا، فإن كان المراد بالإعادة هذا المعنى فذاك، وإن كان الإحياء الحقيقي فهذا أيضًا يكون مخصوصًا بالكافر تشديدًا في العذاب، وعلى هذا يكون في القبر إحياءان وإماتتان.
قال الطيبي (1): ولا يبعد أن يتسمك به من يقول: إن في القبر إماتتين وإحيائين في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]، انتهى.
وشرح هذا الكلام أنه قد قيل: إن المراد بالإماتة الأولى خلقهم أمواتًا، فإن الإماتة جعل الشيء عادمًا للحياة ابتداءً أو بتصيير كالتصغير والتكبير في قولهم: سبحان من صغّر البعوض وكبّر الفيل، والإماتة الثانية تصييرهم أمواتًا عند انقضاء الآجال، والإحياء الأول إيجادهم، والثاني إحياؤهم بالبعث، وقيل: الإماتة الأولى عند انخرام الأجل، والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال، والإحياءان ما في القبر والبعث، كذا قال البيضاوي (2)، ويظهر من هذا الحديث أنه يحيى الكافر في القبر للسؤال، ثم
(1)"شرح الطيبي"(1/ 288).
(2)
"تفسير البيضاوي"(5/ 53).
132 -
[8] وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى، حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ (1)،
ــ
يموت ثم يعاد فيه الروح، ثم يموت، فيقول الطيبي: لا يبعد أن يتمسك بالحديث من يقول: إن في القبر إماتتين وإحيائين، وهو صحيح.
ثم قد تمسك به المنكرون بعذاب القبر بهذه الآية، وقالوا: لو كان في القبر إحياء وإماتة لقالوا: ربنا أمتنا ثلاثًا وأحييتنا ثلاثًا، ولا يتم التمسك فإنهم ذكروا اثنين ولم يذكروا الآخر، ولا يجب ذكر الكل.
ثم لا يذهب عليك أنه يظهر مما ذكروا أن الميت بعد السؤال والعذاب والتنعيم وفتح باب الجنة والنار وإراءة المقعد من كل منهما يموت، ثم يحيى بالبعث، فتعلق الروح بالبدن في القبر يكون لأجل السؤال والتعذيب فقط، نعم شعور الروح باق حتى إنه يعرف الزائر كما جاء في الأخبار، فتدبر.
132 -
[8](عثمان) قوله: (حتى يبل لحيته) أي: يبل عثمان لحيته بدموعه.
(1) أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ يَعْنِي مِنْ أَجْلِ خَوْفِهِ، قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يَبْكِي -عُثْمَانُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ- إِمَّا لِاحْتِمَالِ أَنَّ شَهَادَتَهُ عليه الصلاة والسلام بِذَلِكَ كَانَتْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ، أَوْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ آحَادًا، فَلَمْ يُفِدِ الْيَقِينَ، أَوْ كَانَ يَبْكِي لِيُعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَخَافُ مَعَ عِظَمِ شَأْنِهِ وَشَهَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْجِنَّةِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِأَنْ يَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْتَرِزَ مِنْهُ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَالأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّبْشِيرِ بِالْجَنَّةِ عَدَمُ عَذَابِ الْقَبْرِ، بَلْ وَلَا عَدَمُ عَذَابِ النَّارِ مُطْلَقًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّبْشِيرُ مُقَيدًا بِقَيْدٍ مَعْلُومٍ أَوْ مُبْهَمٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْسَى الْبِشَارَةَ حِينَئِذٍ لِشِدَّةِ الْفَظَاعَةِ، أَوْ بُكَاؤُهُ لِفَقْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، أَوْ لِابْتِلَائِهِ بِزَمَنِ الْجَوْرِ وَأَرْبَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ سَعْدِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كُلُّ سَعِيدٍ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 215).
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ"، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا رَأَيْتُ مَنْظرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [ت: 2308، جه: 4267].
133 -
[9] وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، ثُمَّ سَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 3221].
ــ
وقوله: (ما رأيت منظرًا) أي: منظرًا فظيعًا، ولعل هذا مبالغة وإلا فالنار أفظع من كل شيء، ويحتمل أن يكون المراد المناظر التي في الدنيا، واللَّه أعلم.
133 -
[9](عنه) قوله: (سلوا له بالتثبيت)(1) أي: ادعوا له بأن يثبته اللَّه
(1) أَي: ادْعُوَا لَهُ بِدُعَاءِ التَّثْبِيتِ، يَعْنِي قُولُوا: ثَبَّتَهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، أَوِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَهُوَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ مُنْكَرٍ وَنَكَيرٍ، وَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ التَّلْقِينِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّلْقِينِ عِنْدَ الدَّفْنِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ، وَلَا نَجِدُ فِيهِ حَدِيثًا مَشْهُورًا وَلَا بَأْسَ بِهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرْضُ الاعْتِقَادِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْحَاضِرِينَ وَالدُّعَاءُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَالإِرْغَامُ لِمُنْكِرِي الْحَشْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَالْمُرَادُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا عِنْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ. قاله القاري "مرقاة المفاتيح"(1/ 216). قال النووي: اتفق كثير من أصحابنا على استحباب التلقين إذا دفن الميت يقف أحد عند رأسه، ويقولُ: يا فلانُ بن فلانٍ، اذكر العهد الذي خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث مَن في القبور، قُل: رضيتُ باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إمامًا، وبالمسلمين إخوانًا، ربّي اللَّه لا إِلهَ إِلا هو، وهو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، وروي في ذلك حديث عن أبي أمامة ليس بالقائم إسناده ولكن اعتضد بشواهد منها الحديث =
134 -
[10] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيُسَلَّطُ عَلَى الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا تَنْهَسُهُ وَتَلْدَغُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ لَو أَنَّ تِنِّينًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ خَضِرًا". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ، وَقَالَ:"سَبْعُونَ" بدلَ "تِسْعَةً وَتسْعُونَ". [دي: 2/ 321، ت: 2460].
ــ
على جواب الملكين بالقول الثابت، وفيه دليل على أن الدعاء نافع للميت، وفي عقائد أهل السنة والجماعة في دعاء الأحياء للأموات نفع لهم، وتلقين بعد الدفن شيء آخر غير الدعاء، وهو مستحب عند كثير من الشافعية، وقد نقل عن بعض أصحابنا أيضًا، وقد ورد فيه حديث عن أبي أمامة ذكره السيوطي في (جمع الجوامع) من حديث الطبراني وابن النجار وابن العساكر والديلمي، ونقل الطيبي (1): عن سنن البيهقي استحباب قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها، وقد سمعت عن بعض العلماء أنه يستحب ذكر مسألة من المسائل الفقهية (2)، وقال الشيخ ابن الهمام في (شرح الهداية) (3): واختلفوا في إجلاس القراء ليقرؤا القرآن عند القبر، والمختار عدم الكراهة.
134 -
[10](أبو سعيد) قوله: (تسعة وتسعون تنينًا) في (القاموس)(4): التِّنِّين كسكِّيت: حية عظيمة، (تنهسه وتلدغه) النهس بالمهملة: الأخذ بأطراف الأسنان،
= المذكور، وأهل الشام يعملون قديمًا، وذكر في "الأذكار" (ص: 289) عن الشافعي وأصحابه أنه يُستحب أن يقرؤوا عنده شيئًا من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كلَّه كان حسنًا، وفي "سنن البيهقي": أن ابن عمر استحبَّ أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها. انظر: "التعليق الصبيح"(1/ 112)، و"المجموع شرح المهذب"(5/ 304).
(1)
"شرح الطيبي"(1/ 289).
(2)
كذا في الأصول.
(3)
"فتح القدير"(3/ 431).
(4)
"القاموس المحيط"(ص: 1090).