الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الثَّانِي:
73 -
[11] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ لأَنْ أَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 5112].
74 -
[12] وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ،
ــ
الفصل الثاني
73 -
[11](ابن عباس) قوله: (حُمَمَةً) في (القاموس)(1): حمم كصرد: الفحم، واحدته بهاء.
وقوله: (ردّ أمره) الظاهر أن الضمير للرجل، والأمر بمعنى واحد الأمور، ويحتمل أن يكون للشيطان، والأمر واحد الأمور أو واحد الأوامر.
74 -
[12](ابن مسعود) قوله: (لمة) بفتح اللام، في (القاموس) (2) أَلَمّ به: نزل، كَلَمّ، أي: نزولًا وقربًا وإصابة، (فإيعاد بالشر) بلفظ الإفعال، وكذا في قوله:(فإيعاد بالخير) قالوا: قد غلب استعمال الوعد في الخير، والوعيد في الشر، فقيل: الإيعاد في الأول في موقعه، وفي الثاني مشاكلة، وقيل: الوعيد في الاشتقاق اللغوي كالوعد، ولا فرق بينهما لغة.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 1013).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1068).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال في (القاموس)(1): وعده الأمر، وبه، [يَعِدُ] عدة ووَعْدًا ومَوْعِدًا ومَوْعِدَةً ومَوْعُودًا ومَوْعُودَةً، خيرًا وشرًا، فإذا أُسقِطا قيل في الخير: وعد، وفي الشر: أوعد، وقالوا: أوعد الخير وبالشر، وقيل: ذلك التمييز إنما هو عند الإطلاق، وأما ههنا فالفارق موجود بلا التباس، وهو لفظ الخير والشر، وقد يروى (فاتعاد) بلفظ الافتعال في الموضعين أو في الثانية.
قال التُّورِبِشْتِي: الرواية المعتد عليها في الموضعين بلفظ الإفعال، والذي يروي بأنه من باب الافتعال فإنه لم يأت بشيء سوى أنه حرَّف اللفظ عن منهاج الرواية وغيَّر المعنى؛ لأن الاتعاد يستعمل على وجهين، إما بمعنى قبول الوعد، أو بمعنى اتعاد القوم بعضهم بعضًا في الشر، يقال: تواعد القوم، وعد بعضهم بعضًا في الخير، واتعدوا: إذا وعد بعضهم بعضًا في الشر، ولا وجه لإحدى الصورتين في هذا الحديث.
قال سيدي الشيخ عبد الوهاب المتقي قدس اللَّه سره العزيز في رسالته (مفاتيح الغيوب في معرفة خواطر القلوب): مثل القلب كمثل حوض يقع من جوانبه أنهار، فنهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من دم، ونهر من بول، ونهر من صديد، وتجتمع المياه كلها في ذلك الحوض حتى امتلأ، فطريق تطهيره إنما يكون إذا سدّ خوخات الأنهار عن الوقوع في الحوض، ثم يعالج في إخراج ما يجتمع فيه من المياه الطاهرة والنجسة كلها، ثم يفتح خوخات الأنهار التي هي طاهرة ويسدّ ما دونها، فحينئذ يمتلئ الحوض بالمياه الطاهرة، ويتطهر عن المياه النجسة، فمن أراد تطهير ذلك من غير هذا الطريق تعب وضيع عمره، فكذلك القلب حوض، والحواس كلها مثل الأنهار يقع منها
(1)"القاموس المحيط"(ص: 308).
فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" ثُمَّ قَرَأَ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الآية [البقرة: 268]. . . . .
ــ
فيه أنواع الخير والشر فامتلأ بذلك، فمن أراد تطهيره فعليه أولًا بسدِّ جميع الحواس، وثانيًا بإخراج ما اجتمع في القلب من الحواس من الخير والشر بمعرفة الذكر، وثالثًا بفتح ما هي طاهرة محمودة، وسدّ ما هي نجسة مذمومة، فإذا أراد تطهيره من غير هذا الطريق تعب وضيع عمره، انتهى كلامه قدس سره.
وقوله: (فليعلم أنه من اللَّه) أي: صادر من جانب لطفه ورحمته، فلمة الشيطان صادرة من قهره وغضبه.
اعلم أن المشايخ الصوفية قسموا الخاطر إلى أربعة: حقاني، ونفساني، وملكي، وشيطاني، ويفهم من هذا الحديث اثنان: الملكي والشيطاني، ولعله باعتبار إرجاع النفساني إلى الشيطان، والحقاني إلى الملكي، ويستأنس له بقراءته صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة وآخرها {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، فافهم.
وقد ذكر الشيخ قدس سره في الرسالة المذكورة الخواطر الأربعة الجارية على ألسنة المشايخ وبيّنها وفصّلها بما لا مزيد عليه، ولم نعرف أحدًا ذكره فيما نعلم، قال فيه: وقال بعضهم: الخاطر على سبعة أنواع: ستة من المخلوقات، وسابع من الخالق عز وجل الستة التي هي من المخلوقات، فأولها: الخاطر الدنياوي، وثانيها: الخاطر الأخروي، وثالثها: الشيطاني، ورابعها: الملكي، وخامسها: النفساني، وسادسها: الروحاني، فالدنياوي يقابل الأخروي، والشيطاني يقابل الملكي، والنفساني يقابل الروحاني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثم ينقسم كل واحد من هذه الأقسام إلى ثلاثة أقسام، فالدنيوي ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: تذكير بما مضى مما لا درك له، والثاني: تذكير بما يأتي مما لا يدري هل يوصل له؟ والثالث: تذكير بالأحوال الحاضرة، وهي سبب عمارة الدنيا المنسي للمعاد وعمارة الآخرة.
والأخروي ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: تذكير بما قضى على العبد وكتب عليه، وأن ذلك لا يزاد فيه ولا ينقص، والثاني: تذكير بما يلقى العبد في المعاد والدار الآخرة، والثالث: تذكير للعبد بما هو ملابس له من أمور الإيمان، وهل هو متصف بها حقيقة؟ .
والشيطاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: نهي عن الخير كله من جميع جهاته، والثاني: أمر بالشر كله من جميع جهاته، والثالث: إفساد معاني الخير وتقوية معاني الشر.
والملكي على ثلاثة أقسام: الأول: أمر بمعروف من كل وجه، والثاني: نهي عن المنكر من كل وجه، والثالث: إبطال معاني الشر والحض على تقوية معاني الخير.
والنفساني على ثلاثة أقسام: الأول: يدعو إلى الشهوات وتناول الأغراض، والثاني: يدعو إلى الاستكبار والعلو والظهور ومنازعة الربوبية وصفاتها، والثالث: يتقلب في جميع الخواطر، فمع الخير بالتثبيط والتكاسل، ومع الشر بالتقوية والإمداد.
والروحاني على ثلاثة أقسام: الأول: التنزه عن دنيء الأخلاق، والثاني: الاتصاف بمحاسن الأخلاق وأعاليها، والثالث: الأمر بإعطاء المملكة حقوقها وتنفيذ الأوامر الشرعية فيهم.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذا حَديثٌ غَرِيبٌ. [ت: 2988].
ــ
وأما السابع: وبه تمت الخواطر، وهو خاطر الحق عز وجل، فهو على ضربين: الأول: يأتي بواسطة، وهو جميع ما تقدم من الخواطر، فإنها مضافة إليه تعالى حقيقة وإلى غيره مجازًا، والثاني: يرد على السر بحكم الجبر لا يمكن الانفصال عنه ولا الانفكاك منه، فإن الحق تعالى ما تجلى بشيء إلا خضع له، واللَّه غالب على أمره.
قلت: وقد يكون خاطر الشيخ، فهو إمداد همة الشيخ يصل إلى قلب المريد الطالب مشتملًا على كشف معضل وحلِّ مشكل حصل للمريد في الواقعات والواردات الربانية، وهذا الخاطر إنما يرد على قلب المريد عند اشتكشافه ذلك باستمداده من ضمير الشيخ، فينكشف ويتبين الحال، سواء كان الشيخ حاضرًا أو غائبًا، حيًّا أو ميتًا، يدل عليه ما قال الشيخ العارف باللَّه علي بن حسام الدين المتقي -أسكنه اللَّه بحبوحة جنته، وتغمده بلفطه ورحمته-: يا عبد الوهاب إذا أشكل عليك شيء من الواقعات والواردات فاعرضها عليَّ بقلبك، واستكشف ذلك باستمدادك مني ولو بعد موتي، فجرَّبت ذلك فوجدته كما قال.
وهذا الخاطر أيضًا في الحقيقة داخل تحت خاطر الحق سبحانه؛ لأن قلب الشيخ بمثابة باب مفتوح إلى عالم الغيب، وهو واسطة بين المريد وبين الحق سبحانه، فيصل إمداد فيضه على قلب المريد بواسطته، انتهى كلامه قدس سره.
وقوله: (هذا حديث غريب) الغرابة لا تنافي الصحة، وليس طعنًا في الحديث؛ لأن الغريب هو أن يروي واحد عن واحد، ولكن قد يطلق بمعنى الشاذ، وهو بهذا المعنى ينافي الصحة، وقد ذكرناه في المقدمة فتذكر.