الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقَدِّمَةُ المِشْكَاةِ
الْحَمْدُ للَّه، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
ــ
قوله: (الحمد للَّه) أتى بالحمد بعد التسمية اقتداء بكتاب اللَّه، بل نقول: امتثالًا لأمره سبحانه بناءً على ما قيل: إن فاتحة الكتاب تعليم من اللَّه تعالى للعباد بأن يحمدوه على صفات كماله، ويشكروه على عظيم نواله، ويبتدؤوا به في عزائم أمورهم في كل حال وفي كل حين، وهو الموجب لورود الحديث بالابتداء به والوعيد على تركه، والتزام السلف تصدير كتبهم به، ولذا أتى بلفظ (الحمد للَّه)، ثم الظاهر أنه محمول ههنا على حقيقة الإخبار باستحقاقه سبحانه الحمد، واختصاصه به، وإنشاؤه إنما هو بقوله:(نحمده) وإلا يلزم التكرار، يعني أنه تعالى لما كان مستحقًا للحمد بالذات، وكان ثابتًا له دائمًا، سواء كان من العباد أو منه على ذاته المقدسة في الكلام القديم، أو ببث الآيات (1) وإظهار الكمالات وإفاضة الآلاء وإسباغ النعماء، وقد أمرنا به، فلا بدّ أن نحمده، ويجوز أن يحمل على الإنشاء، ويتجدد فائدةُ قوله:(نحمده) بعطف (نستعينه ونستغفره) عليه.
ولفظ الجمع في نحمده وما عطف عليه لنفسه ولجميع أفراد النوع الإنساني معه، بل لجميع الخلق الجسماني والروحاني الحامدين لربهم بلسان القال والحال، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] إشارة إلى أن هذا الأمر العظيم لا يتيسر من واحد
(1) كذا في (ب)، وفي (ر):"وإثبات الآيات".
وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّه فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ
ــ
من أفراد النوع الإنساني حتى يجتمعوا بل ومن عداهم من الخلائق أجمعين، ومع ذلك نحتاج إلى إعانته تعالى وتأييده وتيسيره، ونتبرأ من حولنا وقوتنا، ونستغفر من تقصيراتنا في أداء ذلك كما هو حقه من الصدق والإخلاص، وكما يليق بجناب قدسه وكبريائه، ويناسب كمال عظمته وتواتر آلائه.
ثم أكده بقوله: (نعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) بأن يراد بها إثبات الحول والقوة وشوب الرياء والسمعة في حمد ذاته العظيمة وشكر نعمائه الجسيمة، أو الاشتغال بغير حمده وشكره مع تواتر الآلاء ودوام النعماء والغفلة عن ذكره ومراقبته تعالى مع كونه حاضرًا ناظرًا دائمًا.
ويجوز أن يراد بها التصدي للتصنيف في علم الحديث مع قصور في تجريد الإخلاص وتصحيح النية، أو تقصير في أداء حق الشكر على هذه النعمة الجزيلة، أو التكلم بالباطل وما لا يعني؛ لقوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، أو يكون المراد أعم من ذلك، من ارتكاب المحرمات والمكروهات والتهاونِ في أداء العبادات والطاعات مطلقًا.
ولما أضاف الشر والسوء إلى نفسه باعتبار الفعل والكسب أشار إلى أن الكل بخلق اللَّه، وأن القدر خيره وشره منه تعالى، ومنه الهداية والإضلال فقال:(من يهده (1) اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) وهذا الكلام وإن كان خبرًا عن
(1) قال القاري: إنَّ الضَّمِيرَ الْبَارِزَ ثَابِتٌ فِي "يَهْدِهِ"، وَأَمَّا فِي "يُضْلِلْ" فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِالْجَائِزَيْنِ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 8).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بيانه الواقع وإثبات توحده وتفرده سبحانه بالهداية والإضلال، لكنه في المعنى طلبٌ وسؤال للهداية منه تعالى والحفظ والوقاية عن الإضلال كأنه قال: أنت الهادي وأنت المضلّ، لا إله إلا أنت، فاهدنا ولا تضلّنا، فإنك قادر على ما تشاء.
ثم الهداية لها معنيان، أحدهما: الدلالة وبيان الطريق الموصل وتعليم علاماتها وكيفية سلوكها، وهذا الذي يسند إلى القرآن والرسول كالضلالة إلى الأصنام والشيطان، وثانيهما: الدلالة الموصلة والإيصال إلى المقصد، وهذا فعل اللَّه تعالى دون غيره تعالى، وهو المراد ههنا.
ولما ورد في الحديث: (كل خطبة ليس فيها تشهُّد فهي كاليد الجذماء)، رواه الترمذي (1)، وقال: هذا حديث حسن، ورواه أبو داود وسكت عليه، أورد الشهادتين، ووصف الشهادة بكونها وسيلةً للنجاة عن عذاب النار وسخط اللَّه والبعد عن جناب قربه تعالى، وكفيلةً لرفع درجات الجنة وقرب اللَّه تعالى ورضاه، وهي التي تكون بالصدق والإخلاص ومواطأة القلب باللسان مع الاستقامة عليها إلى وقت الموت، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13].
وإيراد صيغة الجمع في الحمد والاستعانة والاستغفار، ولفظ الواحد في الشهادة؛ لأن الأول مقام الفرق وملاحظة الكثرة برؤية الآلاء والتقصيرات والذنوب، والثاني مقام الجمع ومشاهدة وحدة الذات فيناسب لفظ الواحد، فتدبر، وليوافقَ كلمة الإسلام ومواردها في الأحاديث.
اعلم أن هذا الكلام الذي ذكره في الخطبة أكثره من كلام النبوة كما روى
(1)"سنن الترمذي"(1106)، و"سنن أبي داود"(4843).
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه شَهَادَةً تَكُونُ لِلنَّجَاةِ وَسِيلَةً،
ــ
مسلم (1) عن ابن عباس: (أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاءَ من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنونٌ، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعلّ اللَّه يشفيه على يديَّ، قال: فلقيه فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، [وإن اللَّه يشفي على يدي من يشاء] فهل لك؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، [أما بعد! قال: ] فقال: أَعِدْ عليَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادهنّ عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ ناعوس (2) البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه).
وقوله: (أشهد أن لا إله إلا اللَّه) المراد بالإله المعبود بالحق، وباللَّه الذات المقدسة الإلهية، فإن التحقيق أنه عَلَمٌ للذات لا صفة، وخبرُ (لا) محذوف، فقيل: يقدر في الإمكان ليفيد امتناع وجود إله غيره تعالى، وقيل: في الوجود لأن (لا) التي لنفي الجنس إنما تكون قرينة على نفي الوجود، ولأن النزاع إنما وقع فيه، والأصوب أن لا يقدر الخبر على لغة بني تميم.
(1)"صحيح مسلم"(2045).
(2)
قال النووي: ضبطناه بوجهين أشهرهما "ناعوس" بالنون والعين، هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني "قاموس" بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير "صحيح مسلم"، وقال القاضي عياض: أكثر نسخ "صحيح مسلم" وقع فيها "قاعوس" بالقاف والعين، فال أبو عبيد: قاموس البحر وسطه، وقال صاحب كتاب "العين": قعره الأقصى، انظر:"المنهاج" للنووي (6/ 157).
وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَفِيلَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي بَعَثَهُ،
ــ
وقوله: (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) اعلم أن محمدًا عَلَمٌ منقول موضوع في الأصل لمن كثرت خصاله الحميدة، سمي به نبينا بإلهام من اللَّه لجده عبد المطلب بذلك، وقد سماه اللَّه به قبل الخلق بألفي عام على ما ورد عند أبي نعيم (1)، وروى ابن عساكر عن كعبِ الأحبار (2): أن آدم عليه السلام رآه مكتوبًا على ساق العرش، وفي السموات، وعلى كل قصر وغرفة في الجنة، وعلى الحور العين، وعلى ورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، ولم يسمّ أحد قبله به، لكن لما قرب زمنه ونشر أهل الكتاب نعته صلى الله عليه وسلم سمّى قوم أولادهم به رجاء النبوة لهم، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، وعِدَّتهم خمسة عشر كما بيّنه بعض العلماء.
وإنما قدم (عبده) على (رسوله) لما ورد في الحديث الصحيح (ولكن قولوا: عبده ورسوله) ولأنه أحب أسمائه صلى الله عليه وسلم إلى اللَّه وأرفعها إليه، ومن ثم وصفه اللَّه تعالى به في أشرف المقامات، فذكره في إنزال القرآن عليه فقال:{مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وقال:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، وقال:{نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، وفي مقام الدعوة إليه في قوله:{لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وفي مقام الإسراء والوحي إليه في {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، ومن ثَم لما خُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو نبيًّا عبدًا اختار الثاني، وسليمان عليه السلام سأل الأول، فانظر بُعدَ ما بين المرتبتين.
(1) انظر: "حلية الأولياء"(3/ 273)، و"كنز العمال"(33043).
(2)
انظر: "تاريخ دمشق"(23/ 281).
وَطرقُ الإِيمَانِ قَدْ عَفَتْ آثَارُهَا، وَخَبَتْ أَنْوَارُهَا، وَوَهَنَتْ أَرْكَانُهَا، وَجُهِلَ مَكَانُهَا، فَشَيَّدَ صَلوَاتُ اللَّه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِها مَا عَفا، وشَفَى مِنَ الْعَلِيلِ فِي تَأْيِيدِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَنْ كَانَ عَلَى شفى،
ــ
وقوله: (وطرق الإيمان قد عفت آثارها) إلى آخر الفقرات الأربع، يحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان: الأنبياءَ والرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين، ومتابعيهم من العلماء الأتقياء، والمراد بعفاء الآثار وخبو الأنوار ووهن الأركان: تركَ العمل بما شَرَعوه وأَمروا به العباد وأوضحوا من الأحكام: الفرائض والواجبات والسنن والآداب والأخلاق، وتركَ تعلّمها وتعليمها، وعدمَ فهم ما قصدوا بها من العلوم والمعارف، والمراد بجهل مكانهم: الجهلَ بمراتبهم ومنازلهم في الدين.
ويحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان: الأشياءَ التي يوصل بها إلى كماله من الأعمال والآداب والأخلاق والرياضات، وبعفاء آثارها وخبو أنوارها ووهن أركانها وجهل مكانها: عدمَ العلم والعمل بها وعدم الاتصاف بالأشياء المذكورة، كذا قيل، فتدبر.
وقوله: (فَشَيَّدَ) أي: رفع وأعلى، شاد الحائطَ يَشيده: طَلاه بالشِّيد بالكسر، وهو ما طُلِيَ به حائط من جصٍّ ونحوه، والمعالم: جمع معلم، ومعلم الشيء: مظنته وما يستدل به كالعلامة، وفي (الصراح) (1): معلم بالفتح نشان كه برراه نهند.
وقوله: (وشفى من العليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفى) في (القاموس)(2): الشفاء الدواء، وفي (الصراح) (3): شفاء بالكسر والمد: تندرستي يافتن
(1)(ص: 484).
(2)
"القاموس المحيط"(3/ 438).
(3)
(ص: 568).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وتندرستي دادن، يقال: شفاه اللَّه من مرضه؛ أي: أنجاه منه، والعليل فعيل من العِلّة وهي بالكسر: المرض، علّ يَعِلّ وأعلّه اللَّه فهو مُعَلٌّ وعَلِيلٌ، ولا تقل: مَعْلُولٌ، والمتكلمون يستعملون هكذا، كذا في (القاموس)(1)، والمراد بكلمة التوحيد كلمة الإيمان وهي لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه.
والشفا بالفتح والقصر حرف كل شيء؛ أي: طرفه وجانبه، وأشفى على الشيء: أشرف عليه. وفي (مجمع البحار)(2): يقال: هو على شفًا بفتح الشين مقصور منونٌ؛ أي: على شرف الهلاك، ومنه: مرضت مرضًا أشفيت منه على الموت، وحذف منه التنوين في لفظ الكتاب للوقف، ويقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي إلا شفًا؛ أي: قليلٌ.
والمعنى: شفى وأنجى من الهلاك والردى من كان على جانب من الطريق وطرف منه غير سالك لها، أو على طرف من نار جهنم قريب الوقوع فيها، فيكون تلميحًا إلى قوله تعالى:{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} [آل عمران: 103]، أو كان على شرف الهلاك بسبب الضلال، والمراد الجنس؛ أي: المعلولين بعلة الجهل والكفر، و (من) بيانية، وهو بيان لمن قدم عليه للسجع أي: شفى من كان على شفا من المعلولين، أو تبعيضية أي: شفى من جملة المعلولين من كان على شفا.
وقوله: (في تأييد) الظاهر أنه متعلق بقوله: (شفى) حال من ضميره؛ أي: كائنًا ثابتًا في تأييد كلمة الحق، أو يكون (في) للتعليل، وقيل: يجوز أن يكون متعلقًا بعليل؛
(1)"القاموس المحيط"(3/ 137).
(2)
"مجمع بحار الأنوار"(3/ 240).
وأَوْضَحَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَهَا، وَأَظْهَرَ كُنُوزَ السَّعَادَةِ لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا.
ــ
أي: العليل الضعيف في هذا الأمو، فظهر بما ذكرنا أن العليل بالعين المهملة وهو الموجود في النسخ.
قال الأمير جمال الدين المحدث رحمة اللَّه عليه في ترجمته على ديباجة الكتاب: وهو الثابت في أصل سماعنا والمصحَّح في النسخ الحاضرة من (المشكاة) قال (1): ويجوز أن يكون بالغين المعجمة، إما من الغِل بالكسر بمعنى الحقد والضغن، أو من الغلل بفتحتين بهذا المعنى، أو بمعنى حرقة العطش؛ أي: من كان ذا ضغن وحقد على أهل الإيمان، أو كان تائهًا حائرًا في تيه الضلال مشرفًا على الهلاك كالعطاش، انتهى. ويكون وجه الإعراب كما ذكر آنفًا، وأقول: قد جاء الغليل بمعنى المصدر، ومنه قول الشاعر (2):
إن الذين ترونهم إخوانكم
…
يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا
وفي (القاموس): وكأميرٍ: العطشُ أو شدتُه، أو حرارة الجوف (3)، وحينئذ يكون من الغليل متعلقًا بـ (شفى).
وقوله: (وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها) يقال: المراد بكنوز السعادة: الإسلام والإيمان والإحسان والطاعات والعبادات والتوجهات التي هي من مقتضيات هذه المقامات، والعلوم والمعارف والأنوار والأسرار التي هي مواهب هذه المكاسب
(1) انظر: "مرقاة المصابيح"(1/ 10).
(2)
هو عبدة بن الطبيب، انظر:"منتهى الطلب من أشعار العرب"(ص: 84).
(3)
"القاموس المحيط"(3/ 142).
أَمَّا بَعْدُ:
ــ
ونتائجها، وفيه رمز خفي إلى قوله صلى الله عليه وسلم:(لا حول ولا قوة إلا باللَّه كنز من كنوز الجنة)(1)، وهذه الجملة على وزان قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] باعتبار انتفاعهم بها، وإلا فالإيضاح والإظهار عام شامل للكل مَن أراد أو لم يرد، وقصد أو لم يقصد.
وقوله: (أما بعد) قال الزّجّاج: مقام استعمال (أما بعد) هو أن يسوق المتكلم كلامًا على أسلوب فيريد أسلوبًا آخر فيقول: أما بعد، وقال بعضهم: تقدير الكلام أما الثناء على اللَّه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو ما ذكر، أما بعد الثناء والصلاة فهو كذا، فيكون في المعنى لتفصيل ما أجمل، والمشهور أنه في ابتداء الكلام يكون للاستئناف، وذكر هذه الكلمة مسنون في الخطبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول في الخطبة بعد الثناء على اللَّه بما هو أهله:(أما بعد، فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد. . .)(2)، الحديث.
واختلفوا في أول من تكلم بها فقيل داود عليه السلام، وقال الشيخ في (فتح الباري) (3): أخرجه الطبراني مرفوعًا عن أبي موسى الأشعري، وقال: في إسناده ضعف، وأخرج موقوفًا عن الشعبي: أن فصل الخطاب الذي أوتي داود عليه السلام كما قال اللَّه سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] هو هذه الكلمة، وقيل: يعقوب عليه السلام، وقيل: أول من تكلّم بها يعرب بن قحطان، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: سحبان بن وائل، وقد أشار إلى ذلك فيما ينسب إليه من البيت من قوله:
(1) انظر: "صحيح البخاري"(4205)، و"صحيح مسلم"(2704).
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(867)، وأحمد في "مسنده"(3/ 371)، وابن حبان في "صحيحه"(10).
(3)
(2/ 404).
فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَدْيهِ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا بِالاِقْتِفَاءِ لِمَا صَدَرَ مِنْ مِشْكَاتِهِ،
ــ
لقد علم الحي اليمانون أنني
…
إذا قلت أما بعد أنى خطيبها
وقال الشيخ: القول الأول أشبه وأثبت، وقد يجمع بين الأقوال بأن الأولية في الأول حقيقةٌ وفي البواقي إضافية، واللَّه أعلم.
وقوله: (فإن التمسك بهديه (1)) الهدي بفتح الهاء وسكون الدال: الطريقة والسيرة، وكذا الهدْية بكسر الهاء وفتحها، يقال: هدى هدي فلان؛ أي: سار سيرته.
وقوله: (لا يستتب) أي: لا يستقيم ولا يستمر، وفي (الصحاح) (2): استتب له الأمر؛ أي: تهيأ واستقام واستمر، كذا في (النهاية)(3).
وقوله: (إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته) المشكاة: كوّة في الجدار غير نافذة يوضع فيها المصباح، وفي (الصراح) (4): مشكاة: سوراخ ناكَذاره كه جراغ دروي نهند، شبّه صدره صلى الله عليه وسلم بالمشكاة التي فيها مصباح، وهو قلبه المنوَّر بنور اللَّه، أو شبّه قلبه بالزجاجة التي كالكوكب الدري، واللطيفةَ القدسية المنوِّرة لقلبه بالمصباح، حتى يوافق بقوله سبحانه:{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} الآية [النور: 35]، فافهم.
(1) أَي: التَّشَبُّثَ وَالتَّعَلُّقَ بطَرِيقه عليه الصلاة والسلام، وَيحْتملُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي "هَدْيِهِ" إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِهَدْيِهِ تَوْحِيدُهُ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 10).
(2)
"الصحاح"(1/ 208).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر"(1/ 465).
(4)
(ص: 568).
وَالاِعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّه لَا يَتِمُّ إِلَّا بِبَيَانِ كَشْفِهِ،
ــ
وقوله: (والاعتصام بحبل اللَّه لا يتم إلا ببيان كشفه) اعتصم بفلان: تمسك به، والحبل معروف، والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وفي (الصراح) (1): بيان: سخن بيدا وكشاده كَفتن وفصاحت، ويقال: فلان أبين من فلان؛ أي: أفصح، وفي الحديث:(إن من البيان لسحرا)، وسيجيء بيانه في (باب البيان والشعر) من الكتاب، والكشف: الإظهار ورفع شيء عما يواريه ويغطيه، كذا في (القاموس)(2)، وفي (الصراح) (3): كشف: كشاده وبرهنه كردن.
وإضافة البيان إلى كشفه بيانية، والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد بحبل اللَّه: عهده الذي أخذ من عباده بالإيمان والتوحيد والإقرار بربوبيته والتزام طاعته وعبادته، المشارُ إليه بقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وهذا العهد قد نسوه بسبب تعلق الأرواح بالأبدان، وطريان الكدورات والحجب الحاصلة لها من هذا التعلق، وتراكم ظلمات الذنوب والمعاصي، فأرسل اللَّه تعالى الرسل إليهم لتذكير هذا العهد خصوصًا سيد الرسل صلوات اللَّه عليه وعليهم، أظهره وذكرهم به ببيانٍ صحيحٍ وكشفٍ صريحٍ حتى يوفوا به فتحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، والفوز بنعيم الجنة، كما قال:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
ويحتمل أن يكون المراد بحبل اللَّه القرآن كما ورد في الحديث: (القرآن حبل
(1)(ص: 502).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 783).
(3)
(ص: 362).
وَكَانَ "كِتَابُ الْمَصَابِيحِ" الَّذِي صَنَّفَهُ الإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ،
ــ
اللَّه) (1) الممدود من السماء إلى الأرض، فكما أن استعمال الحبل سبب الوصول إلى ماء البئر الذي [هو] سبب الحياة الدنياوية وبقاء الأجسام، كذلك العمل بالقرآن سبب الوصول بعين الحياة الأبدية وحياة الأرواح بالمعارف الإلهية والعلوم الدينية والفوز بنعيم الجنة، أو لأن الحبل سبب النجاة من الردى والوقوع في البئر عند الاحتياج إلى الماء، كذلك القرآن سبب النجاة عن النار والوقوعِ فيها، وجاء في حديث آخر:(القرآن حبل اللَّه لا تنقضي عجائبه، من اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم)(2)، هذا الطرف من الحديث يأتي ذكره في فضائل القرآن. وقال:
لقد ظفرت بحبل اللَّه فاعتصم
وقوله: (الذي صنفه) يقال: صنفه تصنيفًا: جعله أصنافًا وميّز بعضها عن بعض، من الصنف بالكسر والفتح: النوع والضرب، وجمعه: أصناف.
وقوله: (محيي السنة) السنة في اللغة: الطريقة، وفي الشريعة: الطريقة المسلوكة في الدين، وقد سبق معناه في اصطلاح المحدثين، وهو قول النبي وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، وقد يعمّ بما يتناول الصحابة والتابعين، وعند الأصوليين: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن عليه دليل الوجوب، وقد يعتبر مع المواظبة الترك أحيانًا.
وقوله: (قامع البدعة) قمعه كمنعه: قهره وذلَّلَه، وقَمَعَ البردُ النَّباتَ: رَدّه وأحرقه، والبدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو مما استُحْدِثَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم من
(1) أخرجه الدارمي (3378)، وأخرج نحوه مسلم (2408)، والترمذي (2906).
(2)
أخرجه البزار في "مسنده"(836)، والترمذي نحوه (2906).
أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرّاءِ الْبَغَوِيُّ،
ــ
الأهواء والأعمال، كذا في (القاموس)(1)، وستجيء أقسامه وما هو مذموم منها وغير مذموم في (باب الاعتصام بالكتاب والسنة) إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: (الفراء) صانع الفرو وبائعه، وهذا نعت لأبي الشيخ كان ذلك صنعته.
وقوله: (البغوي) منسوب إلى بغشور قرية بين هراة ومرو، والأغلب في النسبة إلى المركَّب الامتزاجي النسبة إلى الجزء الثاني، وقد ينسب إلى الجزء الأول أيضًا، نحو مَعْدِيٌّ في معدي كرب، وبَعْلِيٌّ في بعلبك، والبغوي من هذا القبيل، وقد يقال لتلك القرية: بغ، فعلى هذا لا حاجة إلى الاعتذار، ويقال في توجيه وجود الواو: إنه أجرى (بغ) مجرى (دم) محذوف العجز، فأعيدت الواو في حال النسبة مثل دموي، كذا قيل، ولزيادة الواو قاعدة في النسبة نحو علوي وغزنوي ذكرت في علم الصرف، فليرجع ثمة.
وقد ذكر في وجه تلقيبه بمحيي السنة أنه لما صنف كتابه (شرح السنة) رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: أحياك اللَّه كما أحييت سنتي.
وقال: في (جامع الأصول)(2): الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي صاحب (كتاب المصابيح) و (شرح السنة) و (كتاب التهذيب) في الفقه، وله من التصانيف الحسان ما يشهد له بعلو المنزلة، مات بعد المئة الخامسة سنة ست عشرة وخمس مئة، رحمه الله.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 647 و 697).
(2)
(12/ 312).
رَفَعَ اللَّه دَرَجَتَهُ أَجْمَعَ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي بَابِهِ، وَأَضْبَطَ لِشَوَارِدِ الأَحَادِيثِ وَأَوَابِدِهَا، وَلَمَّا سَلَكَ رضي الله عنه طَرِيقَ الاِخْتِصَارَ،
ــ
وقوله: (أجمع كتاب صنف في بابه) المراد أنه من أجمع كتاب، أو هو مبالغة للترغيب في تحصيله، وهي صادقة من وجه، والمراد من (بابه) جميع أحكام الإسلام والإيمان من العمليات والاعتقاديات وما يتعلق بها من الفضائل والآداب وأمثالها، فيكون الضمير في (بابه) لكتابه.
وقوله: (وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها) ضبطه ضبطًا: حفظه، ورجل ضابط، وجمل ضابط: قوي شديد، والشوارد جمع شاردة، وشرد البعير شرودًا وشرادًا بالكسر: نفر، والأحاديث جمع حديث ضد القديم، وقد عرفت معناه الاصطلاحي، ونقل عن الفراء أنه قال: الأحاديث جمع أحدوثة في الأصل، ثم جعل جمع حديث، وقال في (القاموس) (1): الحديث: الجديد والخبر، وجمعه أحاديث شاذٌ، وقال: الأحدوثة ما يُتَحَدَّثُ به، والأوابد جمع آبدة: البهيمة المتوحشة، وفي (القاموس) (2): الأوابد: الوحوش، وأَبَدَت البهيمة وتأبدت: وحشت وتوحشت.
والمراد بالشوارد: الأحاديثُ المخرجة في الأصول، ومواضع إيرادها فيها قد خفيت على الطالبين، فكأنها نفرت منهم، وبالأوابد: الأحاديثُ التي دلالتها على معانيها التي قصدت منها خفية، فكأنها توحشت من الطلاب، وبإيراد محيي السنة إياها في الأبواب المناسبة والمواضع اللائقة التي تظهر منها معانيها ويتضح المراد منها ارتفع الشرود وانتفى التوحش منها، وصارت مضبوطة مأنوسة، كذا قال الأمير جمال الدين
(1)(ص: 166).
(2)
(ص: 254).
وَحَذَفَ الأَسَانِيدَ؛ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ، وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ -وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ- كَالإِسْنَادِ، لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ كَالأَغْفَالِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى، . . . .
ــ
المحدث رحمة اللَّه عليه.
وقوله: (وحذف الأسانيد) عطف على (سلك) على طريقة عطف التفسير، والإسناد قد عرف معناه في المقدمة، وهو عبارة عن رجال الحديث، والمراد ههنا ترك ذكر المُخْرِج؛ لأن المصنف إنما زاد على صاحب (المصابيح) ذكر الصحابي وذكر مخرج الحديث، فالظاهر أن مقصوده بيان ما أهمله الشيخ مما ذكره، ويشعر بهذا الاحتمال قوله الآتي:(ليس ما فيه أعلام كالأغفال)، ويحتمل أن يراد بالإسناد المعنى المصطلح، أعني ذكر الرجال كلهم، لكن المصنف اكتفى بذكر المخرج لما سيأتي من قوله:(وإني إذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهر قوله:(وإن كان نقله -وإنه من الثقات- كالإسناد)، وعلى هذا الوجه يكون ذكر الصحابي غير محتاج إليه بل يكون للتبرك والتأكيد، فافهم.
وقوله: (وإنه من الثقات) صحح (إنه) بالكسر على أنه حال من المضاف إليه، أعني الضمير المجرور في (نقله)، وبالفتح عطف على اسم كان بتأويل المصدر؛ أي: وإن كان نقله وكونه من الثقات، والأظهر عندي هو المعنى الأول، والثقات جمع ثقة، وهو مصدر في الأصل من وثق يثق ثقة كوعد يعد عدة، سمي به الرجل الذي يوثق به ويعتمد عليه.
وقوله: (لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال) الأعلام بالفتح: جمع علم كقلم وأقلام، وهو أثر دال على شيء، والأغفال: جمع غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء كقفل وأقفال، والغفل: الأرض التي ليس فيها أثر عمارة وليست فيها علامة؛ أي:
وَاسْتَوْفَقْتُ مِنْهُ، فَأَعْلَمْتُ مَا أَغْفَلَهُ، فَأَوْدَعْتُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهُ فِي مَقَرِّهِ كَمَا رَوَاهُ الأَئِمَّةُ الْمُتْقِنُونَ،
ــ
ليست الأراضي التي فيها أعلام كالأراضي التي لا علامة فيها، ويجوز أن تكون الأعلام والأغفال بكسر الهمزة على لفظ المصدر، ولا يذهب عليك أن مقتضى السياق أن يقول: ليس الأغفال كالتي فيها الأعلام (1)، فافهم.
وقوله: (استوفقت) بتقديم الفاء على القاف من التوفيق، وهو الموجود في النسخ المصححة، وفي بعضها:(استوقفت) بتقديم القاف من الوقوف، وفي بعضها:(استوثقت) بالمثلثة مكان الفاء من الوثوق.
وقوله: (فأعلمت ما أغفله) يعني أن صاحب (المصابيح) تَرَكَ ذكر الصحابي في الأحاديث كثيرًا، وأنا التزمت ذكره في كل حديث، وتَرَكَ ذكر مخرج الأحاديث بحيث يعلم في كل حديث بخصوصه، وأنا أوردت ذكره في كل حديث بخصوصه، وإن كان الاصطلاح قرره في قوله:(من الصحاح) و (من الحسان) أن يذكر في الأول أحاديث الشيخين جمعًا أو فرادى وفي الثاني أحاديث غيرهما يعلم المخرج مجملًا، فافهم.
والتخريج: إيراد الحديث بإسناده، كما يقال: أخرجه الشيخان، أو أخرجه الترمذي، أو أخرجه أبو داود مثلًا، ويراد أنهم أوردوا الحديث في كتبهم بإسناده،
(1) قال القاري: وَلَعَلَّهُ قَلَبَ الْكَلَامَ تَوَاضُعًا مَعَ الإِمَامِ، وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ عَنْ بُلُوغِ ذَلِكَ الْمَرَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي صَنِيعِ الْبَغَوِيِّ قُصُورًا فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ آخِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِد. "مرقاة المفاتيح"(1/ 13).
وَالثِّقَاتُ الرَّاسِخُونَ؛ مِثْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّه مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ (1)، وَأَبِي الْحُسَيْنِ مُسْلِم بْنِ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرَيِّ (2)،
ــ
والمصنف ذكر (رواه) مكان أخرجه.
(1) هو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، إمام الأئمة المجتهدين، سلطان المحدثين، أبو عبد اللَّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بردزبه الجعفي مولاهم ولاء إسلام، البخاري، نسبة إلى بخاري بلدة عظيمة من بلاد ما وراء النهر لتولده فيها، وصار بمنزلة العلم له ولكتابه، ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة 194 هـ، وتوفي وقت العشاء ليلة السبت ليلة الفطر سنة 256 هـ، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر بخرتنك على فرسخين من سمرقند، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، ولم يخلف ولدًا، قال السيد جمال الدين المحدث: يقال له: أمير المؤمنين في الحديث، وناصر الأحاديث النبوية، وناشر المواريث المحمدية، قيل: لم ير في زمانه مثله من جهة حفظ الحديث واتقانه وفهم معاني كتاب اللَّه وسنة رسوله، ومن حيثية حدة ذهنه، ودفة نظره، ووفور فقهه، وكمال زهده، وغاية ورعه، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله، وقوة اجتهاده واستنباطه، وكانت أمه مستجابة الدعوة، توفي أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر والدته ثم عمي، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فرأت إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قائلًا لها: قد رد اللَّه على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد اللَّه عليه بصره، كَانَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ يَقُولُ لَهُ: دَعْنِي أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَيَا طَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ أَحَدًا بِالْعِرَاقِ وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُ مِنْهُ. وانظر ترجمته في: "المرقاة"(1/ 14)، ومقدمة "الفتح" (ص: 563 - 583)، و"تهذيب التهذيب"(9/ 47 - 55)، ومقدمة "إرشاد الساري"(1/ 31 - 46)، و"تهذيب الأسماء واللغات"(1/ 67 - 76)، و"طبقات الشافعية"(2/ 2 - 19)، و"تاريخ بغداد"(2/ 4 - 34)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 135).
(2)
هو الإمام الحافظ الحجة أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري صاحب الصحيح، يلقب بعساكر الدين، ولو أنه عجمي المولد والمسكن لكنه عربي السلالة والأرومة، =
وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الأَصْبَحِيِّ (1)،
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إذ إن نسبه يتصل بقبيلة بني قشير من أشهر قبائل العرب ولذلك يقال قشيريًا -بالتصغير-، ولد عام وفاة الشافعي سنة أربع ومئتين، وقيل: سنة 206 هـ ورجحه ابن الأثير في مقدمة "جامع الأصول"(1/ 187)، وبه قال ابن خلكان. وتوفي في رجب سنة إحدى وستين ومئتين، سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقتيبة بن سعيد والقعنبي، وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره وحفاظ دهره، كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وخلائق. وله المصنفات الجليلة غير جامعه الصحيح.
انظر ترجمته في: "المرقاة"(1/ 16 - 17)، و"تاريخ بغداد"(13/ 100 - 104)، و"جامع الأصول"(1/ 187)، و"وفيات الأعيان"(5/ 194 - 196)، و"تهذيب الكمال"(5923)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 588)، و"العبر"(2/ 23)، و"تاريخ ابن كثير"(11/ 33 - 35)، و"المنتظم"(5/ 32)، و"تهذيب التهذيب"(10/ 126 - 128)، و"النجوم الزاهرة"(3/ 33)، و"طبقات الحفاظ" (ص: 260)، و"شذرات الذهب"(2/ 144)، و"أشعة اللمعات"(1/ 13 - 14)، و"الإكمال" للمصنف، و"بستان المحدثين" (ص: 116 - 117)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 175).
(1)
هو أحد الأئمة الأعلام، ركن من أركان الإسلام، فقيه الأمة، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب، أبو عبد اللَّه مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الحِمْيَرِيُّ الأَصبَحِيُّ المَدَنِيُّ، كان من أسرة عربية عريقة من أشرف القبائل جاهلية وإسلامًا، وأول من نزل من آبائه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم هو جده الأعلى أبو عامر، وهو من ذي أصبح بطن من اليمن من ملوك اليمن بني أبرهة بن الصباح. ولد سنة ثلاث وتسعين على الأشهر، وكذا قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ"(1/ 122)، وتوفي سنة تسع وسبعين ومئة، ودفن بالبقيع. انظر ترجمته في: مقدمة "أوجز المسالك"(1/ 75)، ومقدمة "التعليق الممجد"(1/ 73)، و"المرقاة"(1/ 19)، و"سير أعلام النبلاء"(8/ 48)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 207 - 213)، و"العبر" للذهبي (1/ 272)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 85).
وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ (1)، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيّ (2)،
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) هو الإِمَامُ، عَالِمُ العَصْرِ، نَاصِرُ الحَدِيثِ، فَقِيهُ المِلَّةِ، صاحب المذهب أَبُو عَبْدِ اللَّه مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ بنِ العَبَّاسِ بنِ عُثْمَانَ بنِ شَافِعِ بنِ السَّائِبِ بنِ عُبَيدِ بنِ عَبْدِ يَزِيدَ بنِ هِشَامِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ القُرَشِيُّ، المُطَّلِبِيُّ، الشَّافِعِيُّ نسبة إلى جده الأكبر شافع، قيل: شافع كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه فأسلم، وقيل: لقي شافع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، ولد بغزة سنة 150 هـ، على الأصح، وهي سنة وفاة أبي حنيفة، وتوفي آخر يوم من رجب ليلة الخميس أو ليلة الجمعة سنة أربع ومئتين، ودفن بعد العصر يوم الجمعه بقرافة مصر، وعاش أربعًا وخمسين سنة. انظر ترجمته في:"المرقاة"(1/ 20)، و"تهذيب التهذيب"(9/ 25)، و"سير أعلام النبلاء"(10/ 5)، و"تذكرة الحفاظ"(1/ 361)، و"تاريخ بغداد"(2/ 56 - 73)، و"البداية والنهاية"(10/ 251)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 108).
(2)
هو الإمام الحافظ الحجة صاحب المذهب أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي البغدادي، كان عربيًا خالصًا من قبيلة شيبان، قدم به أبوه من مرو وهو حمل، فوضعته أمه ببغداد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة، ومات بها لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين، وله سبع وسبعون سنة، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أتقى وأورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل، قال أبو زرعة: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب، وقال أيضًا: حزرت كتبه اثني عشر حملًا أو عدلًا كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه، وقال أبو داود السجستاني: كأن مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا. انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب"(1/ 57)، و"سير أعلام النبلاء"(11/ 177)، و"تاريخ بغداد"(4/ 412 - 432)، و"المرقاة"(1/ 22)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 119).
وَأبي عِيسَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى التِّرْمِذِيِّ (1)، وَأَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ (2)،
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) هو الإمام الحافظ الحجة أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الضرير البوغي الترمذي، نسبة إلى ترمذ، واختلف في ضبطها كثيرًا، والمعروف المشهور على الألسنة كسر التاء والميم وبينهما راء ساكنة بوزن "إثمد" كما ضبطها صاحب "القاموس"، وهي مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، وتقع الآن بجنوب أوزبكستان قرب الحدود الأفغانية، ولد سنة 209 هـ، وتوفي بترمذ سنة تسع وسبعين ومئتين. وله تصانيف كثيرة في علم الحديث، انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(13/ 270)، و"تهذيب التهذيب"(5/ 248)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 634)، و"المرقاة"(1/ 23)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 224).
(2)
هو الإمام الحافظ الحجة أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني بكسر السين الأولى وتفتح وبكسر الجيم وسكون السين الثانية بعدها تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان، وهي بين هراة والسند قرب بلوجستان، وسجستان معرب سيستان، ولد في سجستان سنة 202 هـ، لكن قضى جلّ أيام حياته في بغداد، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة 275 هـ عن ثلاث وسبعين سنة.
قال الذهبي: تفقه أبو داود بأحمد بن حنبل ولازمه مدة، قال: وكان يشبه به، كما كان أحمد يشبه بشيخه وكيع، وكان وكيع يشبه بشيخه سفيان، وكان سفيان يشبه بشيخه منصور، وكان منصور يشبه بشيخه إبراهيم، وكان إبراهيم يشبه بشيخه علقمة، وكان علقمة يشبه بشيخه عبد اللَّه ابن مسعود رضي الله عنه، وقال: كان يشبه عبد اللَّه بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله، انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(13/ 211)، و"تهذيب التهذيب"(2/ 389)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 591)، و"وفيات الأعيان"(2/ 405)، و"طبقات الشافعية الكبرى"(2/ 296)، و"البداية والنهاية"(11/ 75)، و"المرقاة"(1/ 23)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 201).
وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيِّ (1)، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يزِيدَ ابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينيِّ (2)، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ (3)،
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام ناقد الحديث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي ابن سنان بن بحر بن دينار الخراساني النسائي صاحب السنن، نسبه إلى نسأ -بفتح النون والسين المهملة وبعدها همزة-، وهي مدينة بخراسان، ولد سنة 215 هـ، وتوفي في شعبان سنة 303 هـ، وفي رواية أنه دفن في الرملة في فلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، وعاش ثمان وثمانين سنة. انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(14/ 125)، و"تهذيب التهذيب"(1/ 28)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 298)، و"وفيات الأعيان"(1/ 77)، و"المرقاة"(1/ 24)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 250)، و"بستان المحدثين" (ص: 111).
(2)
هو الحَافِظُ، الكَبِيرُ، الحُجَّةُ، المُفَسِّرُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يَزِيدَ ابنِ مَاجَهْ القَزْوِينيُّ، الربعي بالولاء، مُصَنِّفُ "السُّنَنِ"، وَ"التَّارِيخِ"، وَ"التَّفْسِيرِ"، وَالقَزْوِينيّ نسبة إلى قَزْوِينَ، وهي من أشهر عراق العجم -أي: إيران-، وُلِدَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَمئتَيْنِ. ومَاتَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمئتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَعَاشَ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَة. انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(13/ 277)، و"تهذيب التهذيب"(5/ 339)، و"البداية والنهاية"(11/ 71)، و"وفيات الأعيان"(4/ 279)، و"المرقاة"(1/ 25)، و"أعلام المحدثين" للمحقق (ص: 278)، و"بستان المحدثين" (ص: 112)، و"العجالة النافعة" (ص: 28).
(3)
هو الإِمَامُ الحَافِظُ أَحَدُ الأَعْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الفَضْلِ بْنِ بَهْرَامَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ الدَّارِمِيُّ، السَمَرْقَنْدِيُّ. وَدارِمٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ بنِ حَنْظَلَةَ بنِ زَيدِ مَنَاةَ بنِ تَمِيمٍ. وُلِد سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمئَةِ، عامَ توفي ابْنُ المُبَارَكِ، وتوفي سَنَة خَمسٍ وَخَمْسِينَ وَمئتَينِ، يَوْمَ التَّروِيَةِ بَعْدَ العَصرِ، وَدُفِنَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(12/ 224)، و"تهذيب التهذيب"(5/ 294)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 534)، و"طبقات الحفاظ" (ص: 235)، و"شذرات الذهب"(2/ 130)، و"المرقاة"(1/ 25).
وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيِّ (1)، وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيِّ (2)، وَأَبِي الْحَسَنِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْعَبْدَرِيِّ (3) وَغَيْرِهِمْ وَقَلِيلٌ مَا هُوَ.
ــ
وقوله: (العبدري) منسوب إلى عبد الدار بن قصي، بطن مشهور من قريش،
(1) هو الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، شَيْخُ الإِسلَامِ، عَلَمُ الجهَابذَةِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ بنِ أَحْمَدَ بنِ مَهْدِيِّ بنِ مَسْعُودِ بنِ النُّعْمَانِ بنِ دِينارِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ البَغْدَادِيُّ، مِنْ أَهْلِ مَحَلَّةِ دَارِ القُطْنِ بِبَغْدَادَ. أول من صنّف القراءات وعقد لها أبوابًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحَاكِمُ فِي كِتَابِ "مُزكِّي الأَخبارِ": أَبُو الحَسَنِ صَارَ وَاحدَ عَصْرِهِ فِي الحِفْظِ وَالفَهْمِ وَالوَرَعِ، وإِمَامًا فِي القُرَّاءِ وَالنَّحْوِييِّنَ. وُلِدَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِ مئَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الخَمِيسِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِ مئَةٍ.
انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(16/ 449)، و"البداية والنهاية"(11/ 317)، و"وفيات الأعيان"(3/ 297)، و"المرقاة"(1/ 25)، و"تذكرة الحفاظ"(3/ 991)، و"العبر"(3/ 28)، و"طبقات الحفاظ" (ص: 393).
(2)
هو الإِمَامُ الحَافِظُ، الثَّبْتُ، الفَقِيْهُ، شَيْخُ الإِسْلَامِ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ مُوْسَى البَيْهَقِيُّ، نسبة لبيهق على وزن صيقل بلد قرب نيسابور. وقال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله، صنف السنن الكبرى وغيرها من كتب الحديث، ولد فِي شَعْبَانَ سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربع مئة. انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء"(18/ 163)، و"وفيات الأعيان"(1/ 75)، و"المرقاة"(1/ 27)، و"تذكرة الحفاظ"(2/ 1132)، و"العبر"(3/ 242)، و"طبقات الحفاظ" (ص: 433).
(3)
هو الإِمَامُ، المُحَدِّثُ الشَّهِيرُ، أَبُو الحَسَنِ رَزِينُ بنُ مُعَاوِيةَ بنِ عَمَّارِ، أَبُو الحَسَنِ العَبْدَرِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ، السَّرَقُسْطِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ "تَجرِيدِ الصِّحَاحِ". تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي المُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِ مئَةٍ. "سير أعلام النبلاء"(20/ 204).
وَإِنِّي إِذَا نسَبْتُ الْحَدِيثَ إِلَيْهِمْ كَأَنِّي أَسْنَدْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنّهُمْ قَدْ فَرَغُوا مِنْهُ، وَأَغْنَوْنا عَنْهُ. وَسَرَدْتُ الْكُتُبَ وَالأَبْوَابَ كَمَا سَرَدَهَا، وَاقْتَفَيْتُ أثَرَهُ فِيهَا، وَقَسَّمْتُ كُلَّ بَابٍ غَالِبًا عَلَى فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ:
ــ
والدار صنم، وبه سمي عبد الدار.
وقوله: (وسردت الكتب والأبواب (1)) السرد: الخَرْز في الأديم، ونسج الدرع، والتتابع في الكلام، وفي الصوم كما في حديث:(لم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردًا) أي: يتتابعه ويستعجل فيه، وحديث:(يسرد الصوم) أي: يواليه ويتتابعه، ويجيء بمعنى جودة سياق الحديث أيضًا، يقال: فلان يسرد الحديث، إذا كان جيد السياق له، والمناسب للمقام إرادة هذا المعنى، يعني: لما رأيت الشيخ سرد الكتب (2) والأبواب واتخذ لها التراجم والعنوانات على الوجه اللائق المناسب اتَّبعته في ذلك من غير تقديم وتأخير وتغيير وتبديل.
واعلم أن من عادة المصنفين أن يتخذوا مبحثا عامًا شاملًا لمباحث كثيرة تحته كالجنس بالنسبة إلى الأنواع التي تحتها الأصناف ويعنونوه بالكتاب، والمباحث التي تحته بالأبواب، والأصناف التي تحت الأنواع بالفصول، ككتاب الطهارة وأبواب الغسل والوضوء والتيمم وفصل غسل الجنابة وغسل الجمعة مثلًا، لكن المصنف جعل الأبواب منحصرة في الفصول ولم يذكر فيها شيئًا سوى ما في الفصول، فتدبر.
وقوله: (واقتفيت أثره فيها) الاقتفاء: الاتباع، والأثر بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما: العلامة، وفي (الصراح) الأثر: نشان با.
(1) أَيْ: أَوْرَدْتُهَا، وَوَضَعْتُهَا مُتَتَابِعَةً مُتَوَالِيَةً. "مرقاة المفاتيح"(1/ 33).
(2)
في المطبوعة: "لما رتَّب الشيخ الكتب".
أَوَّلُهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَاكْتَفَيْتُ بِهِمَا وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الْغَيْرُ؛ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ.
ــ
وقوله: (أولها ما أخرجه الشيخان (1). . . إلخ) هذا على زعم الشيخ، مع كونه كثيرًا غالبًا، وكون خلافه كما فعل المؤلف نادرًا قليلًا.
وقوله: (لعلو درجتهما في الرواية) أي: فلا يُحتاج في أصل الصحة إلى نسبة الحديث مع وجودهما إلى غيرهما، مع ما فيه من الاختصار والاقتصار على المقصود، فلا يرد ما قيل: لو ذكر المصنف غير الشيخين أيضًا لكان أولى وأحرى؛ لأنه وإن لم يكن محتاجًا إليه في أصل الصحة ولكن يحتاج في الترجيح؛ لأن كثرة الروايات من وجوه الترجيحات.
واعلم أن ما أخرجه الشيخان معًا يسمى حديثًا متفقًا عليه في اصطلاح المحدثين لكن بشرط أن يروياه من صحابي واحد، ولو روى أحدهما من صحابي والآخر من صحابي آخر لا يسمى متفقًا عليه في الاصطلاح، صرح به الشيخ ابن حجر في (شرح
(1) والمراد بالشيخين فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أبو حنيفة وأَبُو يُوسُفَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وأما الإخراج والتخريج فهو إيراد المحدث الحديث بسنده في كتابه، ويقال له الرواية أيضًا، فلا يقال في حق أحد ممن جمع الأحاديث في مؤلفاتهم ونقلوها من كثب الأصول كالبغوي في "المصابيح" والخطيب في "المشكاة" وابن الأثير في "جامع الأصول" وأمثالهم، قال الجزائري في "توجيه النظر" (1/ 349): أما التخريج فيطلق على معنيين: أحدهما: إيراد الحديث بإسناده في كتاب أو إملاء، وأكثر ما تقع هذه العبارة للمغاربة، والأولى أن يقولوا: الإخراج كما يقوله غيرهم، الثاني: عزو الأحاديث إلى من أخرجها من الأئمة، ومنه قيل:"خرج فلان أحاديث كتاب كذا"، و"فلان له كتاب في تخريج أحاديث الإحياء"، ونحو ذلك، انتهى. انظر:"مرقاة المفاتيح"(1/ 33)، و"مرعاة المفاتيح"(1/ 23).
وَثَانِيهَا: مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ.
وَثَالِثُهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْبَابِ مِنْ مُلْحَقَاتٍ مُنَاسِبَةٍ مَعَ مُحَافَظَةٍ عَلَى الشَّرِيطَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْثُورًا عَنِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. ثُمَّ إِنَّكَ إِنْ فَقَدْتَ حَدِيثًا فِي بَابٍ؛ فَذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرٍ أُسْقِطُهُ. . . .
ــ
نخبة الفكر).
وقوله: (مع محافظة على الشريطة) وهي التزام ذكر الصحابي والمخرج في كل حديث، وهذا الفصل الثالث زيادة من المصنف وليس مذكورًا في (المصابيح)، وإنما المذكور فيه هو القسم الأول والثاني، وذلك أيضًا ليس معنونًا بعنوان الفصل بل عنون القسم الأول بقوله: من الصحاح، والثاني بقوله: من الحسان، وتسميته بالحسان اصطلاح جديد من محيي السنة وإلا ففيه من صحاح الحديث أيضًا، أو هو تغليب.
وقوله: (ثم إنك إن فقدت حديثًا -إلى قوله: - وإن عثرت) شرع في بيان بعض تصرفاته وأعماله في الكتاب، (ثم) ههنا للتراخي في الرتبة والتكلم؛ أي: بعد ما سمعت من المقدمات، اعلم أنه قد يوجد حديث في باب المذكور في (المصابيح) ولم أذكره لكونه وقع مكررًا فيه فأسقطته لأجل التكرار، وقد يكون حديث اختصره الشيخ فأتركه أنا أيضًا على اختصاره، وقد أضم إليه في بعض المواضع بقية الحديث، وذلك لشيء يدعوني إما إلى تركه على اختصاره أو إلى ضم بقيته إليه، أما الداعي إلى الاختصار فكما يكون جزء من حديث مناسبًا للباب دون باقي أجزائه أو يكون جزءًا مناسبًا لهذا الباب وجزءًا آخر مناسبًا لباب آخر فأختصر وأقتصر على جزءٍ منها في هذا الباب، وأذكر جزءًا آخر في ذلك الباب، وما لم يَجمع من الحديث بين هذين الوصفين ألحقت معه باقيه.
وَإِنْ وَجَدْتَ آخَرَ بَعْضَهُ مَتْرُوكًا عَلَى اخْتِصَارِهِ، أَوْ مَضْمُومًا إِلَيْهِ تَمَامُهُ؛ فَعَنْ دَاعِي اهْتِمَامٍ أَتْرُكُهُ وَأُلْحِقُهُ، وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْفَصْلَيْنِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الشَّيْخَيْنِ فِي الأَوَّلِ، وَذِكْرِهِمَا فِي الثَّانِي؛ فَاعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ تَتَبُّعِي كِتَابَي "الْجمع بَين الصحيحن" لِلْحُمَيْدِيِّ، وَ"جَامِعَ الأُصُولِ"؛ . . . .
ــ
وقوله: (بعضه) بدل من قوله: (آخر)، والضمير في (اختصاره) للحديث، وهو الأظهر، وقد يجعل لمحيي السنة وفيه من تفكيك الضمير ما لا يخفى.
وقوله: (وإن عثرت على اختلاف في الفصلين -إلى قوله: - وإن رأيت)، شرح هذا الكلام يستدعي بسطًا في الكلام، فاعلم أن المصنف يقول: قد تقرر أن ما أورده الشيخ محيي السنة رحمه الله من الأحاديث في القسم الأول فهو من الشيخين، منهما أو من أحدهما، وما أورد في القسم الثاني فهو من غيرهما من الأئمة المذكورين.
وقد يذكر الشيخ حديثًا في الأول ونسبتُه أنا إلى غير الشيخين، وذلك مذكور في مواضع كما في الفصل الأول من (باب سنن الوضوء)، ومن (باب فضائل القرآن) وغيرهما، ونسبت بعض أحاديث القسم الثاني إلى الشيخين كما في الفصل الثاني من (باب ما يقرأ بعد التكبير) و (باب الموقف) وغيرهما، فاعلم أن عذري في ذلك ودليلي عليه أني تتبعت كتابين جُمع فيهما أحاديث الشيخين، أحدهما كتاب (الجمع بين الصحيحين) للحميدي (1)، والثاني (جامع الأصول) لابن الأثير الجزري (2)، ولم أقتصر
(1) هو الإِمَامُ القُدْوَةُ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي نَصْرٍ فُتُوح بن عَبْدِ اللَّهِ بنِ فُتُوحِ بنِ حُمَيْدٍ الأَزْدِيُّ الحُمَيْدِيُّ، صَاحِبُ "الجَمعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ". ولد قَبْل سَنَة عِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مئَةٍ، وتُوُفِّيَ فِي سَابع عَشر ذِي الحِجَّةِ، سنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِ مئَةٍ. انظر:"سير أعلام النبلاء"(19/ 126)، و"تذكرة الحفاظ"(4/ 1218)، و"الكامل في التاريخ"(10/ 254).
(2)
هو الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري، ولد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في معرفة أحاديث الشيخين على تتبع هذين الكتابين، بل اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما؛ أي: أصلي كتابيهما ونفسيهما دون (الجمع بين الصحيحين) و (جامع الأصول) المشتملين عليهما المغايرين لهما كالشرحين لهما، فما وجدت من الأحاديث للشيخين في الكتابين المذكورين وفي أصلي صحيحهما نسبتها إليهما، وما لم أجد لم أنسب إليهما وإن كان مخالفًا لما ذكره الشيخ محيي السنة، وهذا ادِّعاء منه كمال التتبع والتصفح لأحاديث الشيخين، يعني: أني لو اقتصرت على تتبع الكتابين وقلت: ليس هذا الحديث للشيخين، لكان لقائل أن يقول: لعله يكون في متني صحيحهما، ولو اقتصرت على تتبع متني صحيحهما يقال: لعله يوجد في كتابي (الجمع بين الصحيحين) و (جامع الأصول)، فتتبعت الكل ليحصل الوثوق والاعتماد في هذه النسبة على وجه الكمال، ولم يبق لأحد مجال المقال.
هذا ولكن لا يخفى أن تتبع الصحيحين ومتنيهما و (الجمع بين الصحيحين) و (جامع الأصول) إنما يفيد معرفة أحاديث الشيخين وذكرهما في الفصل الثاني، وأما ذكر غير الشيخين في الفصل الأول فلابد من تتبع كتب الآخرين من الأئمة وتصفح سننهم لتُعرف أحاديثهم، فيُذكرون في الفصل الأول، وغاية ما يعرف من تتبع الصحيحين وأختيهما عدمُ كون الحديث المذكور في الفصل الأول منهما، وأما كونه من غيرهما من الأئمة فلابد فيه من تتبع كتبهم كما لا يخفى، ولعل المصنف لم يتعرض لها لظهور المراد ووضوح المقصود، ولأن مطمح نظره إظهار المخالفة مع الشيخ في النسبة إلى
= سنة 544 هـ، وتوفي سنة 606 هـ. انظر:"سير أعلام النبلاء"(21/ 488)، و"العبر"(5/ 19)، و"الكامل في التاريخ"(12/ 120).
اعْتَمَدْتُ عَلَى صَحِيحَي الشَّيْخَيْنِ وَمَتْنَيْهِمَا، وَإِنْ رَأَيْتَ اخْتِلَافًا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ؛ فَذَلِكَ مِنْ تَشَعُّبِ طُرُقِ الأَحَادِيثِ، وَلَعَلِّي مَا اطَّلَعْتُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سَلَكَهَا الشَّيْخُ رضي الله عنه، وَقَلِيلًا مَا تَجِدُ أَقُولُ: مَا وَجَدْتُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كُتُبِ الأُصُولِ أو وَجَدْتُ خِلَافَهَا فِيهَا، فَإِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ. . . .
ــ
الشيخين، فافهم وباللَّه التوفيق.
وقوله: (وإن رأيت اختلافًا في نفس الحديث. . . إلخ) أي: إن وجدت حديثًا أورده محيي السنة بلفظ، وأنا أوردته بلفظ آخر، (فذلك) الاختلاف ناشٍ (من تشعب طرق الأحاديث) وتعدد أسانيدها، فاللفظ الذي أورده الشيخ جاء بطريق، واللفظ الذي أوردته أنا جاء من طريق آخر، ولما كان ههنا محلُّ أن يقال: فَلِمَ لم تورد بلفظ الشيخ ولِمَ اخترت هذا اللفظ؟ قال في جوابه: (ولعلي ما اطلعت على تلك الرواية التي سلك طريقها الشيخ)، فلما لم أطلع كيف أوردها؟ وههنا احتمال آخر وهو أنه اطلع عليها، ولكن كان الطريق الذي أوردها المؤلف أسلم وأقوى، ولم يذكره اكتفاءً وتواضعًا مع الشيخ واعترافا بعدم علمه واطلاعه.
ثم الظاهر أن يقول: تشعب طرق الحديث؛ أي: هذا الحديث له طرق وروايات متعددة، وكأنه أراد بالأحاديث: الروايات لهذا الحديث أو المعنى، فذلك من تشعب الطرق التي تكون للأحاديث، وما نحن فيه من هذا الباب، أو لأنه لم ينحصر ذلك في حديث واحد بل في أحاديث متعددة فجمع لهذا الاعتبار، فافهم.
وقوله: (في كتب الأصول) المراد بها كتب الأئمة ومؤلفاتهم التي هي أصول الروايات ومعادنها.
وقوله: (فإذا وقفت عليه) أي: على قولي هذا المنبئ عن نسبة شيء من الخطأ
فَانْسِبِ الْقُصُورَ إِلَيَّ لِقِلَّةِ الدِّرَايَةِ، لَا إِلَى جَنَابِ الشَّيْخِ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ فِي الدَّارَيْنِ، حَاشَا لِلهِ مِنْ ذَلِكَ.
ــ
والاشتباه ونحوهما إلى الشيخ وقلة تصفحه.
وقوله: (لا إلى جناب الشيخ) في (القاموس)(1): الجناب: الفناء، وفي (الصراح) (2): جناب بالفتح دركَاه، والعرب إذا أرادوا أن يذكروا اسم أحد من العظماء بالتعظيم والاحترام أضافوا الجناب إليه، كأنه لا يمكن ذكر اسمه لعلو قدره إلا اسم جنابه وعتبته.
وقوله: (حاشا للَّه من ذلك) في (القاموس)(3): حاش للَّه؛ أي: تنزيهًا له، ولا يقال: حاش لك بل حاشاك وحاشا لك.
اعلم أن للنحاة خلافًا في معنى هذه الكلمة وفي أنها اسم أو فعل أو حرف، فقال بعضهم: الصحيح أنه اسم مرادف للتنزيه بدليل أن بعض القراء قرأ في {حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف: 31، 51] الواقع في سورة يوسف: (حاشًا للَّه) بالتنوين، وبعضهم قرأ بالإضافة:(حاش اللَّهِ)، واللام في (للَّه) للبيان، أي: لبيان المنزه والمبرئ على صيغة اسم الفاعل، كأنه قال: براءة وتنزيه، ثم قال: للَّه، أي: هذه البراءة والتنزيه للَّه، أي: المنزِّه والمبرئ اللَّه، وهذه اللام مثل اللام في سقيًا لك وهنيئا لك.
فحاصل المعنى على هذا القول: الشيخُ منزّه ومبرأ عن أن يُنسب القصور وقلة الدراية إليه، وهذا التنزيه والتبرئة للَّه؛ أي: هو المنزِّه والمبرئ، وحينئذ وإن كان الظاهر
(1)(ص: 78).
(2)
(ص: 22).
(3)
(ص: 547).
رَحِمَ اللَّهُ مَنْ إِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَنَا طَرِيقَ الصَّوَابِ. . . .
ــ
أن يقول: اللَّه بلا لام لكن أدخل اللام ليفيد معنى الاختصاص كأنه قال: تنزيهه عن ذلك مخصوص باللَّه تعالى وله تنزيهه ولا ينبغي لغيره، وفيه تعظيم وتنزيه لهذا التنزيه.
ويحتمل أن يكون حاصل المعنى على هذا القول: أقول في حقه: التنزيه للَّه ولوجهه خالصًا لا لأمر آخر، وفيه أيضًا من المبالغة ما لا يخفى.
وقال بعضهم: (حاشا) فعل، وفسروا قوله تعالى:{حَاشَ} أي: جانب يوسف الفاحشة، وجعلوا اللام في {لِلَّهِ} بمعنى الأَجْل؛ أي: جانب يوسف الفاحشة لأجل اللَّه ولوجهه ورضاه لا لغرض آخر.
وعلى هذا القول حاصل المعنى في عبارة (المشكاة) يرجع إلى أنه: جانَبَ الشيخ محيي السنة ذلك القصور لأجل اللَّه، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد أني إنما قلت:(حاشا) في شأنه للَّه لا لغرض آخر، وقال قوم: حاشا اسم فعل؛ أي: أبرئ أو أبرأت.
وأما القائلون بكونه حرفًا فإنما يقولون به في مقام الاستثناء، ولا يستقيم معنى الاستثناء ههنا، فتدبر، كذا ذكر الأمير جمال الدين رحمه الله (1).
وقوله: (وقف على ذلك) أي: على ما ذكر الشيخ من الرواية ولم أجده.
وقوله: (نبهنا عليه) التنبيه إن حمل على حقيقته اختص بزمان حياة المصنف وإلا فالمراد به إصلاح الكتاب على سبيل المحو والإثبات والتبديل والتحويل وتعليق الحواشي عليه، وهو صحيح على طريق المجاز.
(1) انظر: "مرقاة المفاتيح"(1/ 36).
وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي التَّنْقِيرِ وَالتَّفْتِيشِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَنَقَلْتُ ذَلِكَ الاِخْتِلَافَ كَمَا وَجَدْتُ، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ رضي الله عنه مِنْ غَرِيبٍ أَوْ ضَعِيفٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بَيَّنْتُ وَجْهَهُ غَالِبًا،
ــ
وقوله: (ولم آل جهدًا) أي: لم أقصر، و (جهدًا)، إما تمييز أو حال بمعنى مجتهدًا، أو ظرف؛ أي: في الاجتهاد، وفي هذه العبارة كلام وتحقيق ذكر في شرح (التلخيص) وحواشيه في ديباجة متن (التلخيص)(1)) فليرجع ثمة، والجهد بضم الجيم وفتحها: الطاقة والمشقة والجد والاجتهاد كذا في (القاموس)(2)، وفي (الصراح) (3): جهد بالفتح والضم توانائي وكوشش، وقال الفراء رحمة اللَّه عليه: بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة.
وقوله: (في التنقير والتفتيش) هما بمعنًى، وحاصله التفحص والتصفح؛ أي: إني لم أقصر في طلب الأحاديث والروايات المختلفة من كتب الأصول، ونقلت ذلك الاختلاف كما وجدت بلا زيادة ونقصان وتغيير وتبديل.
وقوله: (بينت وجهه غالبًا) وذلك ما ينقل المؤلف عن الأئمة كلامًا يحكم فيه بضعف الحديث أو غرابته مثلًا خصوصًا عن الترمذي، فإنه المتكلم بذلك في الأغلب كما ستعرف في مواضعه إن شاء اللَّه تعالى، وإنما قال: غالبًا؛ لأن في بعض المواضع لم يبين، إما لعدم الاطلاع على وجهه أو لأمر آخر، واللَّه أعلم.
(1) هو "تلخيص المفتاح في المعاني والبيان" للشيخ الإمام جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الشافعي، المتوفى: سنة تسع وثلاثين وسبع مئة. وهو متن مشهور، وله شروح كثيرة. انظر:"كشف الظنون"(1/ 473).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 263).
(3)
(ص: 126).
وَمَا لَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ مِمَّا فِي الأُصُولِ؛ فَقَدْ قَفَّيْتُهُ فِي تَرْكِهِ، إِلَّا فِي مَوَاضِع لغَرَضٍ،
ــ
وقوله: (فقد قفيته) هكذا في جميع النسخ الحاضرة المعتمدة (قفيته) بتشديد الفاء من التقفية، وهو يستعمل متعديًا بنفسه وبالباء، في (القاموس) (1): قفيته زيدًا وبه: أَتْبَعْتُه إياه، وقد استعمل بالباء في قوله تعالى:{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46]، وقوله سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87]، فيكون معنى قوله:(قفيته) جعلته تابعًا، ولا معنى له؛ لأن المعنى ههنا الاتباع والاقتفاء، فالظاهر قفوته بتخفيف الفاء من القفو، وفي (القاموس) (2): قفوته قَفْوًا: تبعته كتقفّيته واقتفيته.
وقوله: (إلا في مواضع لغرض) بين الطيبي (3) الغرض بأن بعض الطاعنين على (المصابيح) أفرزوا أحاديث منها وحكموا بوضعها، وقد فاز المؤلف من جانب بعض الأئمة كالترمذي وغيره تصحيحها وتحسينها، فبيَّن ذلك دفعًا لطعنهم، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه:(المرء على دين خليله) صرح الطاعنون بأنه موضوع، وقد قال الترمذي في (جامعه) (4): إنه حسن، وذكر النووي أنه صحيح الإسناد.
ومن جملة الأغراض أنه قد قال محيى السنة في خطبة (المصابيح): إني أعرضت عن إيراد الحديث المنكر، مع أن فيه أحاديث منكرة متعددة، وقد أقر بإنكار بعضها ولم يبين في بعضها، فنبه المؤلف على ذلك، هذا حاصل كلام الطيبي.
(1)(ص: 1217).
(2)
(ص: 1217).
(3)
"شرح الطيبي"(1/ 87).
(4)
"سنن الترمذي"(2378).
وَرُبَّمَا تَجِد مَوَاضِعَ مُهْمَلَةً، وَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى رَاوِيهِ فَتَرَكْتُ الْبَيَاضَ، فَإِنْ عَثَرْتَ عَلَيْهِ فَأَلْحِقْهُ بِهِ، أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَكُ.
وَسَمَّيْتُ الْكِتَابَ بِـ:
"مِشْكَاةِ المَصَابِيحِ"
ــ
وقد يقال في جوابه: إن مراد صاحب (المصابيح) من المنكر: المتفق على إنكاره، وأما بيانه الإنكار في بعضها فلئلا يحمل على ذهوله وغفوله، وأما عدم البيان في بعض آخر فبناءً على أن الحكم بإنكاره غير معتبر عنده.
وقوله: (وريما تجد مواضع) قالوا: أصل وضع (رب) للتقليل وقد شاع استعمالها في التكثير بحيث صار استعماله في التقليل كالمجاز محتاجًا إلى القرينة، والظاهر ههنا الحمل على التقليل؛ لأن تلك المواضع قليلة معدودة، ولو نظر إلى كثرتها وتعددها في الجملة جاز حملها على التكثير حملًا على ما هو الشائع في بعض الاستعمال.
وقوله: (مهملة) أي: متروكًا فيها ذكر المخرج.
وقوله: (وذلك) أي: الإهمال.
وقوله: (فألحقه) أي: ذكر الراوي (به) أي: بالكتاب، واكتبه في موضع البيان، وقد بيَّن بعض العلماء المواضع المهملة، وكتب في هامش الكتاب، وترك البياض الذي تركه المصنف على حاله ليعلم أنه ليس البيان من المصنف، وقد يكتب في بعض النسخ في موضع البيان في الهامش: أنه كان في الأصل بياض والكتابة عارض، كما يظهر بالنظر في نسخ المشكاة، وأكثرها وقع من الشيخ محمد الجزري أحسن اللَّه جزاءه.
وقوله: (وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح) قد عرفت أن المشكاة هي الكوّة الغير النافذة في الجدار التي يوضع فيها المصباح، فوجه التسمية أنه كما يوضع المصباح
وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَالإعَانَةَ وَالْهِدَايَةَ وَالصِّيَانَةَ، وَتَيْسِيرَ مَا أَقْصِدُهُ،
ــ
في الكوّة كذلك وضع كتاب (المصابيح) فيها، وتشتمل عليه اشتمال المشكاة على المصباح، أو لأن الأحاديث التي ذكرت في هذا الكتاب كل منها كالمصباح، فهذا الكتاب كالكوّة التي وضع فيها المصابيح المتعددة، فافهم (1).
وقوله: (وأسأل اللَّه التوفيق) بإيجاد الأسباب والإعانة بترتب المسببَّات عليها، والهداية لسلوك طريق الصواب في ذلك، والصيانة عن الخطأ والزلل فيه، وتيسير ما أقصده من ذلك، ولا يخفى أن الظاهر أن يراد سؤال التوفيق في تصنيف الكتاب وتتميمه على النمط المطلوب، فتكون هذه الخطبة سابقة على التصنيف، فتحمل الألفاظ المذكورة قبلُ على القصد والنية، أو يكون المراد التوفيق والتيسير في سائر الأمور والأحوال.
ويجوز أن يكون قوله: (وأسأل) جملة حالية بتقدير المبتدأ.
(1) قَالَ الطِّيبِيُّ: رُوعِيَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الاسْمِ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمِشْكَاةَ يَجْتَمِعُ فِيهَا الضَّوْءُ فَيَكُونُ أَشَدَّ تَقَوِّيًا بِخِلافِ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ، وَالأَحَادِيثُ إِذَا كَانَتْ غَفلًا عَنْ سِمَةِ الرُّوَاةِ انْتَشَرَتْ، وَإِذَا قُيِّدتْ بِالرَّاوِي انْضَبَطَتْ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي مَكَانِهَا، اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: الأَظْهَرُ فِي وَجْهِ الْمُطَابقَةِ أَنَّ كِتَابَهُ مُحِيطٌ، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مَا فِي "الْمَصَابِيحِ" مِنَ الأَحَادِيثِ كَمَا أَنَّ الْمِشْكَاةَ مُحِيطَةٌ وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمِصْبَاحِ، اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِالْمَصَابِيحِ الأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي كِتَابِهِ مِمَّا فِي الْمَصَابِيحِ وَغَيْرِه مُشَبَّهًا بِهَا لأِنَّهَا آيَاتٌ نُورَانِيَّةٌ وَدَلَالَاتٌ بُرْهَانِيَّةٌ صَدَرَتْ مِنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَقتَدِيَ بِهَا أُمَّتُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي بَيْدَاءِ الضَّلَالَةِ، وَصَحْرَاءِ الْجَهَالَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ:"أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ"، وَشَبَّهَ كِتَابَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَامِعٌ لَهَا، وَمَانِعٌ مِنْ تَفَرُّقِهَا بِالْمِشْكَاةِ، وَهِيَ الْكُوَّةُ الْغَيْرُ النَّافِذَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فِيهِ مَعْنَى التَّوْرِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلِمَةٍ لَهَا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ، وَالآخَرُ بِعِيدٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ الْبَعِيدَ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 39).
وَأَنْ يَنْفَعَنِي فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
1 -
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يُتَزَوَّجُهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ". مُتَّفق عَلَيْهِ. [خ: 1، م: 1907].
ــ
وقوله: (أن ينفعني) الظاهر أن الضمير المستتر للَّه تعالى، ويجوز أن يكون للكتاب باعتبار التسبب.
وقوله: (في الحياة) بالمطالعة والتعليم والعمل وإيصاله إلى الناس وأداء حق النصيحة لهم.
وقوله: (وبعد الممات) بالأجر والثواب وحصول رضاه تعالى.
وهذا أوان الشروع في شرح أحاديث الكتاب مستعينًا باللَّه، وأول حديث بدأ به المؤلف الكتاب:
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لِامْرِئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله فهجرته إلى اللَّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وقد كثر كلام الشارحين في هذا الحديث، ولا علينا أن ننقل بعينها بل ننقل شيئًا منها مع تحرير وتنقيح بزيادة ونقصان مما سنح في أثناء المقال، ولا نخاف الإطالة والإملال، ونذكره في أربعة أجزاء:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: في فضل هذا الحديث وشرفه، اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في مدح هذا الحديث بعظم موقعه وكثرة فوائده، وأنه أصل عظيم من أصول الدين، ومن ثَمَّ خطب به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر كما في رواية البخاري (1)، وخطب به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري أيضًا، ولهذا قال أبو عبيد: ليس في الأحاديث أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث.
وقال بعضهم: إنه نصف العلم، ووجهه: أن الأعمال قسمان: أعمال القلب وأعمال الجوارح، والنية أجلُّ أعمال القلب وأفضلها، فالعلم المتعلق بها يكون نصفًا بل أعظم النصفين؛ لأن النية أصل لجميع الأعمال القلبية والقالبية، وعليها مدار جميع الطاعات والعبادات صحة وثوابًا، والمعاملات والمباحات ثوابًا كما يأتي تقريره، وبهذه الاعتبارات إن أريدت المبالغة ساغ أن يقال: كأنه العلم كله، والأكثرون منهم الشافعي -فيما نقله البويطي عنه- وأحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعلي بن المديني وأبو داود والدارقطني على أنه ثلث العلم أو ثلث الإسلام.
وقال البيهقي في توجيهه: إن كسب العبد إما بقلبه أو بلسانه أو بأركانه، فالنية التي هي عمل القلب أحدها وأرجحها لأنهما تابعان لها صحةً وفسادًا وثوابًا وحرمانًا، ولا يتطرق إليها رياء، وقد تكون النية عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها.
وقال الشيخ في (فتح الباري)(2): وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه
(1) أما خطبته صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث على المنبر فلم نجده صريحًا في "صحيح البخاري" نعم ذكره الزبير ابن بكار في "أخبار المدينة"، كما ذكره العلامة عابد السندي في "المواهب اللطيفة".
(2)
(1/ 11).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي تردُّ إليها جميع الأحكام، أولها هذا الحديث، وثانيها (ومن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وثالثها (الحلال بين والحرام بين)، ومنهم من قال: ربعه، وقد نقل الشافعي من الشعر ما يدل على ذلك قال:
عمدة الخير عندنا كلمات
…
أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع
…
ما ليس يعنيك واعملن بنية (1)
ونقل عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا، فقيل: إنه يريد به المبالغة في معنى الكثرة؛ لأن هذا العدد قد تعارف ذكره في هذا المعنى، والتحقيق أنه على حقيقته، وأقول: إنما حَمَل من حمله على المبالغة؛ لأنه يدخل في كثر من سبعين بابًا وليس منحصرًا فيه، إذ يدخل في قسم العبادات من الواجبات والمستحبات وفي المباحات وفي العادات وفي أكثر المعاملات ثوابًا مما يَعسر ضبطه وحصره، وقد عدُّوه في كتبهم مفصَّلًا فعليك بها.
ثم إن هذا الحديث مما اتفقوا على صحته أخرجه الأئمة المشهورون، وقال الشيخ: إلا الموطأ، ووهم من ظن أنه في الموطأ مغترًا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك (2)؛ ولكنه ليس بمتواتر كما توهم البعض؛ لأنه فرد في الأصل، رواه
(1) وفي "فيض الباري"(1/ 4): ونسبهما علي القاري (1/ 43) إلى الإمام الشافعي، وهو سهو منه، بل هما لشاعر آخر. وفي "جامع العلوم والحكم" (1/ 63) هما للحافظ أبي الحسن طاهر ابن مفوز المعافري الأندلسي. وقال أبو داود: يكفي للإنسان لدينه أربعة أحاديث، هذه الأحاديث الثلاثة والرابع: حديث أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه بدل حديث ازهد. انظر: "التوضيح" لابن الملقن (2/ 196)، و"أعلام المحدثين" (ص: 215).
(2)
قلت: بل هو في الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (ح: 982)، انظر: "التعليق =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عمر رضي الله عنه ولم يصح منه إلا برواية علقمة، ولا عن علقمة إلا برواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا برواية يحيى بن سعيد، ولا خلاف بين أهل الحديث أنه لم يرو صحيحًا بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد، ثم اشتهر عن يحيى بن سعيد وبلغ حد التواتر، فقيل: روى عن يحيى مئتان وخمسون نفسًا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده يجاوز ثلاث مئة، وقيل: سبع مئة من أصحاب يحيى، قال الشيخ: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة [والأجزاء المنثورة] منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المئة (1)، انتهى.
وبالجملة وهو حديث شريف عظيم الشأن كثير المنفعة، وقد جَرَتْ عادة المحدثين أكثرهم على ابتداء تصانيفهم به وإيراده في أوائلها إشارة إلى حسن نيتهم وتمحض إخلاصهم فيها، وأنها ليست مشوبة بغرض من الأغراض والأعواض.
والأولى أن يقال: إن الابتداء به تنبيه للطالبين والمصنفين بتخليص نياتهم وتحسينها، وإشعار بأن الاشتغال بعلم الحديث والتصدي للتأليف فيه في حكم الهجرة، فينبغي أن يكون للَّه ولرسوله حتى يصير مقبولًا، وسمّاه بعضهم طليعة كتب الحديث.
وقال أبو سليمان الخطابي: إن المتقدمين من مشايخنا كانوا يستحسنون تقديم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) قبل كل أمر من أمور الدين كانوا يبدؤون به، وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول: من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث (2).
= الممجد" (3/ 513).
(1)
انظر: "فتح الباري"(1/ 11).
(2)
انظر: "أعلام الحديث"(1/ 106)، وفيه "يستحبون" بدل "يستحسنون".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثاني: في قوله: (إنما الأعمال بالنيات) هذا أشهر الروايات وأظهرها لإفادته الاستغراق صريحًا؛ لأن (إنما) مفيد للحصر بمنطوقه لكونه بمعنى (ما) و (إلا) كما يدل عليه موارد استعمال الآيات والأحاديث وكلام العرب، وذلك بحكم الوضع، وما ذكروا من وجوه إفادته الحصر فلمناسبات ذكروها في وضع (إنما) بمعنى (ما) و (إلا) كما هو عادة النحاة، ولو قيل بعدم إفادة (إنما) الحصر كما ذهب إليه بعض، واستدل بما لا يتم الاستدلال به كما ذكر في موضعه، فإفادة اللام للاستغراق في الأعمال كافية في ذلك، إذ معناه: كل عمل بالنية، ويلزم منه أنه لا أعمال إلا بالنية، وقد وقع في معظم الروايات بإفراد النية، والمراد بها الجنس، وقيل في وجه إفراده: إن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالجوارح وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص المراد به الواحد الأحد الذي لا شريك له، وقد جاء في (صحيح ابن حبان):(الأعمال بالنيات) بحذف (إنما)، وجمع الأعمال والنيات، وكذا وقع في (العتق) من (صحيح البخاري) من رواية الثوري، وفي (الهجرة) من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في (النكاح) بلفظ:(العمل بالنية) بإفراد كل منهما، كذا في (فتح الباري)(1).
ويجوز إرادة الحصر في الجميع بحمل اللام على الاستغراق جمعًا أو مفردًا، وقالوا: المراد بالأعمال أعمال الجوارح، فلا يتوجه أن النية أيضًا من الأعمال، فينبغي أن يتوقف على النية ويتسلسل، والتحقيق أنها تعم أفعال الجوارح وأفعال القلوب؛ لأن الكل يتوقف على النية صحةً أو ثوابًا.
(1)"فتح الباري"(1/ 12).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال الخطابي (1): مقتضى العموم فيها أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالِها وأفعالِها، فرضِها ونفلِها، قليلها وكثيرِها، إلا بنية، ودخل فيها التوحيد الذي هو رأس الأعمال الدينية فلا يصح إلا بقصد إخلاص فيه، انتهى.
قلت: هذا الذي ذكره الخطابي من دخول أفعال القلوب صحيح بلا شبهة، فإن معنى النية هو قصد التقرب إلى اللَّه، وذلك جائز وجودًا وعدمًا في الأفعال القلبية كحب أحد أو بغضه لا لقصد التقرب، ولذا ورد:(الحب للَّه والبغض للَّه)، لكن في دخول التوحيد والتصديق الذي هو من أعمال القلب شيء من الخفاء، والظاهر دخوله أيضًا؛ لأن التصديق القلبي الذي هو عبارة عن الإيمان يجب أن يكون على قصد التقرب والإخلاص وتحصيل اليقين الذي يتنوّر به جوهر القلب حتى يصير سببًا للتقرب من اللَّه ومعرفته وحصول رضاه، ويصير سببًا للفوز بنعيم الجنة والنجاة من العذاب الأليم، لا على نية أن يصفه الناس بالإيمان ويَعُدُّوه في زمرة المؤمنين، وتظهر آثاره عندهم، وتجرى عليه ظواهر أحكام الإسلام فيصير سببًا لحصول الغنائم والعزة عند الناس، كما هو حال المنافقين في الإقرار، فلا يتّجه ما قال الكرماني (2): ليس دخول التوحيد فيها مسلَّمًا، لأن التوحيد من الاعتقاديات لا من العمليات، إلا أن يراد بالتوحيد قول كلمة الشهادة، وبالعمل ما يتناول عمل اللسان.
أقول: ويَرِدُ عليه أن الاعتقاديات من أعمال القلوب فتشتملها الأعمال، ولعله زعم أنه لو كانت الاعتقاديات التي هي من أعمال القلوب داخلة لزم التسلسل؛ لأن من
(1) انظر: "أعلام الحديث"(1/ 113).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 20).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
جملتها النية فيحتاج إلى نية أخرى وهلمّ جرًّا، ويَرِدُ عليه أيضًا: أن النية وإن كانت من أعمال القلوب لكنها تكون مستثناة من الأعمال ألبتة؛ لأن المراد من النية قصد التقرب إلى اللَّه، وتوقفه على قصد التقرب فيه مما لا يعقل، ولا يحتاج إليه، بل القصد مطلقًا يُحتاج إليه في صدور الفعل، ثم لا يحتاج إلى قصد آخر في القصد، بخلاف الاعتقاديات وسائر أعمال القلوب فإنها تحتاج في الصحة والثواب إلى النية، ولا يلزم من توقفها على النية التسلسل، فافهم.
وتكلموا في المعرفة أيضًا بأنها داخلة في الأعمال أم لا؟ فقال بعضهم: إنها غير داخلة لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف، فيلزم أن يكون عارفًا قبل المعرفة.
وتعقِّب بما محصله: أنه إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلَّم، وإن كان المراد بالمعرفة النظر في الدليل فلا؛ لأن كل عاقل يشعر مثلًا بأن له من يدبره، فإذا أخذ بالنظر في الاستدلال عليه لتحققه لم يلزم محذور، كذا قال في (فتح الباري)(1).
ثم الظاهر أن جميع الأعمال داخلة فيها من العبادات والعادات، ولكن وقع الاختلاف بين أبي حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله في الوضوء وأمثالها، فما لا يكون مقصودًا بذاته بل يكون وسيلة فالشافعي رحمه الله يقول: لا يصح إلا بالنية، ولا تجوز الصلاة بوضوء من غير نية، وأبو حنيفة يقول: يصح ويصير مفتاحًا للصلاة، ولكن لا يحصل الثواب.
ومبنى الاختلاف كما هو المشهور أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ليس
(1)"فتح الباري"(1/ 13).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المراد به حقيقته، فإن حقيقته عدم وجود ذات الفعل بدون النية وانتفائه بدونها، وليس كذلك، لأنه قد يوجد ذات العمل بغير نية، وأيضًا الشارع إنما بعث لبيان الشرائع والأحكام، فالمراد نفي حكم الفعل، والحكم نوعان: دنيوي كالصحة والفساد، وأخروي كالثواب والعقاب، والدينية مرادة بالاتفاق، فلا يصح إرادة الدنيوية لئلا يلزم عموم المشترك، فالمراد: ثواب الأعمال بالنيات، لكن الثواب هو المقصود في العبادات المقصودة لذاته، فإذا انتفى انتفت الصحة، وفيما ليس مقصودًا بذاته ليس المقصود الثواب، فلا يلزم من انتفائه انتفاء الصحة، لا يقال: الخصم قائل بعموم المشترك فيلتزمه، ولا محذور في ذلك عنده، لأنا نقول: قال المحققون من الشافعية كالغزالي وغيره: أن لا عموم للمشترك، ولا يجوز ذلك في لغة العرب قطعًا، فتدبر.
وقد يرجح تقدير الصحة بأنه أشبه بنفي الشيء نفسه؛ ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليلُ نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة، كذا قالوا، ويمكن ترجيح تقدير الثواب بأنه المقصود الأصلي من العمل، وورود هذا الحديث للترغيب في تحصيل النية حتى يقع العمل مقبولًا ويثاب عليه، ويدل على ذلك تفريع:(فمن كانت هجرته إلى اللَّه وإلى رسوله. . . إلخ)، واللَّه أعلم. لكن الوسائل من حيث هي وسائل ليس الثواب منظورًا فيها فيصح بدون النية.
ثم اختلفوا في التروك هل هي داخلة أم لا؟ فقيل: لا تدخل، لأنها لا تسمى أعمالًا فلا تشترط النية فيها، ولذا لم تشترط النية في إزالة النجاسة لأنها من باب التروك، وشدّد بعضهم فأوجبها، وهذا عند الشافعية رحمهم الله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أما عندنا فلا تشترط لأنها من الوسائل كالوضوء، والحق أن التروك داخلة إذا كان فيها كف النفس وهو عمل ولابد فيها من النية حتى يحصل الثواب، ويكون امتثالًا للشارع، فالتارك للزنا مثلًا إن فعل تركه لوجه اللَّه وقصد التقرب يثاب عليه وإلا فلا.
وبالجملة العمل في الأصل عبارة عن الحركة، وههنا يراد به معنى يشتمل الحركات والسكنات، فإن النية معتبرة في الكل.
ثم اعلم أنه قد استثني من هذه الكلية بعض الأحكام مثل صريح الطلاق والإعتاق والبيع والشراء، فإنه لا تشترط فيها النية؛ لأن الشارع عيّن هذه الألفاظ لهذه المعاني وجعلها كأنها عينها، فالتلفظ بها بمنزلة النية، هذا كلامهم، ويوهم أن المراد بالنية ههنا القصد القلبي الذي هو المعنى اللغوي للنية، وإنما المراد ههنا المعنى الشرعي الذي هو قصد التقرب إلى اللَّه، وحصولُ الثواب بدون النية بهذا المعنى في هذه العقود ممنوع، فافهم.
وأما الهزل بالكفر فإنما يكون كفرًا وإن لم يكن هناك نية؛ لأن الهزل بالكفر نفسه كفر، لا من جهة قصد المعنى، وأما صحة الإيمان بالهزل والإكراه فلكونه مقصودًا وحسنًا لذاته فجعلت صورته كمعناه، وفروع الإيمان من العبادات والمعاملات وجزئياتُها واشتراطُ النية وعدمه مذكورة في كتب الفقه فلينظر ثمة.
هذا، والظاهر أن هذا البحث خارج عما هو المقصود من هذا الحديث، فإن المقصود منه الترغيب والحث على رعاية التقرب إلى اللَّه وإرادة وجهه ليصير العمل مقبولًا عنده، ويَنظر هذا إلى رجحان ما قاله الحنفية رحمهم الله.
والنيات جمع النية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور من نوى بمعنى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قصد، فأصله نِوْيَة، ثم أعلت كسيد، وقد جاء في بعض اللغات بالتخفيف أيضًا من ونى بمعنى أبطأ؛ لأنه يُحتاج في تصحيحها إلى نوع الإبطاء.
ومعنى النية في اللغة: القصد إلى الفعل، قال الخطابي: معنى النية: قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له (1). وقال النووي: النية: القصد وهو عزيمة القلب. وقال الكرماني (2): ليس النية عزيمة القلب لما قال المتكلمون: إن القصد إلى الفعل هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد فلا يصح تفسيره به، انتهى.
ويمكن أن يقال: إن مراد النووي بالعزيمة ههنا هو قصد القلب المقارِن للفعل، لا العزمُ الذي يكون قبله، وهو المعنى الذي عبر عنه التيمي بوجهة القلب، وقال: النية ههنا وجهة القلب؛ أي: توجهه إليه بإيجاده وإحداثه.
ونقل الطيبي عن القاضي البيضاوي (3): أن النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ من جلب نفعٍ أو دفع ضررٍ حالًا أو مآلًا، والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة إلى الفعل ابتغاءً لوجه اللَّه وامتثالًا لحكمه، والنية في الحديث محمولةٌ على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه لما بعده وتقسيمه إلى من كانت هجرته إلى كذا وكذا، فإنه تفصيل لما أجمله، انتهى. يعني أن قوله:(ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها) عطف على قوله: (من كانت هجرته إلى اللَّه وإلى رسوله) والشرطيتين
(1)"أعلام الحديث"(1/ 112).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 18).
(3)
انظر: "شرح الطيبي"(1/ 89)، و"تحفة الأبرار"(1/ 19).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تفصيل الإجمال الذي في قوله: (إنما الأعمال بالنيات) والنية بالمعنى الشرعي مفقودة في الشرطية الثانية، فلا يصلح تفصيلًا لذلك الإجمال بهذا المعنى، فينبغي أن يحمل على النية بالمعنى اللغوي حتى يكون المعنى: فمن كان نيته وقصده إلى وجه اللَّه فهو كذا، ومن كان قصده إلى ما سواه فهو كذا.
ويَرِدُ عليه أن الحمل على المعنى الشرعي أظهر وأنسب لكلام الشارع، ولا يُخل بالتفصيل المذكور، فإن المعنى أن الأعمال محسوبة ومربوطة بالنية الشرعية، فما وجد فيه ذلك فهو مقبول، وما لم يوجد فهو مردود وغير معتدٍّ به، وبهذا المعنى صح كونه تفصيلًا لذلك الإجمال، وهذا ظاهر.
وقيل: إن قوله: (فمن كانت هجرته. . . إلخ) تفصيل جملة (وإنما لامرئٍ ما نوى) لا لقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، وفيه: أنه على القول بكون الجملة الثانية تأكيدًا للأولى لا ينفع هذا الكلام، وعلى القول بكونه تأسيسًا لا تأكيدًا أيضًا غير نافع لكونه مشتملًا على ذكر النية، فإن حمل على المعنى اللغوي فذاك، وإن كان محمولًا على المعنى الشرعي فالمحذور لازم، فالجواب هو الأول لا غير، وسيجيء بيان الفرق بين الجملتين فانظر ثمة.
والباء في قوله: (بالنيات) يحتمل أن يكون للمصاحبة فيفيد وجوب استصحاب النية للعمل، لكنهم فضلوا مواضع النية، فمنها ما تجب مقارنتها للعمل كنية الصلاة.
ومنها: ما يجوز تقديمها عليه كالصيام، وقد تقع في بعض الأحوال على إبهام، ثم يقع التعيين فيما بعد، كمن عليه كفارتان من قتل وظهار، فاعتق رقبة ونوى بعده لأحدهما، فينبغي أن يكون الاستصحاب الذي هو مدلول الباء ما هو أعم من المقارنة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن كان بمعنى المقارنة فيقال: المراد الاستصحاب حقيقة أو حكمًا، وفي صورة التقديم والتأخير كما ذكر مستصحب حكمًا.
وقيل: الأولى أن يكون للاستعانة؛ لأن الحمل على الاستصحاب يشعر بوجوب استصحاب النية، ووجودِها إلى آخر العمل، ولم يقل به أحد، وجوابه ما ذكرنا من إرادة الاستصحاب أعم من أن يكون حقيقة أو حكمًا بأن لا يطرأ عليه ما يناقضه، وهذا شرط اتفاقًا.
ويحتمل أن يكون للسببية، لأن النية لما كانت مقوِّمة للعمل ومحصِّلة له من جهة الاعتداد به، فكأنها سبب في إيجاده، ومتعلق الجار والمجرور هو الحصول والاستقرار كما هو المقدر في الظرف المستقر، لكن الاستقرار والحصول ههنا باعتبار الصحة والثواب، وما ذكره الشارحون من أن المحذوف مثل: تُعتبر أو تَكمل أو تصح، فراجع إلى ما ذكرنا، فافهم.
والألف واللام في (النيات) بدل عن الإضافة، والتقدير: أي الأعمال بنياتها، فدل على اعتبار نية العمل بخصوصه من كونه صلاة أو غيرها، وكونه فرضًا أو نفلًا، وكونه ظهرًا أو عصرًا، وهل يُحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ ففيه نظر، والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، نعم جوزوا النفل بنية مطلقة، وتمامه في الفقه.
واعلم أن النية المعتبرة في جميع العبادات -بل وغيرها من مواضع النية- إنما هي بالقلب لأنها فعل القلب دون اللسان، فلو تلفظ بالألفاظ الدالة على النية مع غفلة القلب عنها لم تعتبر، ولو حصلت بالقلب من غير تلفظ فهي معتبرة بلا خلاف، بل لو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خالف اللسانُ القلبَ لم يضر في حصول النية ووجودها.
واختلف العلماء في التلفظ بما يدل على النية في الصلاة مثلًا بعد الاتفاق على أن الجهر بذلك غير مشروع، ولا ينبغي لأحد أن يجهر بألفاظ النية سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا، فقيل: التلفظ بالنية شرط لصحة الصلاة، وهذا القول شاذ بل باطل، والأكثر على أن التلفظ بما يدل على النية مستحب لتحصل المواطأة بين القلب واللسان، وذلك أفضل، وأيضًا يسهل عند التلفظ تعقل معنى النية واستحضارها في القلب.
وقيل: لا يجوز التلفظ بالنية بمعنى أن ذلك خلاف السنة إذ لم ينقل ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم، وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة قال: اللَّه أكبر، ولو كان يقول شيئًا قبلُ لروي ذلك، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر الرجل الذي لم يحسن صلاته بالإعادة، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، والفاء تدل على تعقيب التكبير بالقيام من غير تراخ من غير أن يتخلل بنيهما شيء آخر، وقال أبو داود: وسألت محمد بن إسماعيل أنك تقول قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا، والاتباع كما يكون في الفعل يكون في الترك، فمن واظب على ما لم يفعله الشارع فهو مبتدع، كذا قال المحدثون.
الثالث: في قوله: و (إنما لامرئ ما نوى) وفي رواية: (وإنما لكل امرئ ما نوى) والامرئ الرجل، وفيه لغتان: امرئ على وزن زِبْرِج، ومَرْء على وزن فاس، ولا جمع لهذه الكلمة من لفظه، وعينه تابع للامه في الحركات الثلاث: الرفع والنصب والجر، وهو من الغرائب، وفي مؤنثه أيضًا لغتان امرأة ومرأة، وفي الحديث استعملت على اللغة الأولى مذكرًا ومؤنثًا، والظاهر أن هذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وفيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص وتقرير له، وقال بعضهم: بل تأسيس تفيد ما لا تفيده
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأولى، ووجهوه بوجوه لا يخلو أكثرها عن شيء.
أحدها: أن الجملة الأولى تفيد أن صحة العمل أو ثوابه منوط بالنية، وهذه الجملة الثانية تبين أن تعيين المنوي على وجه يتميز عن غيره شرط، كمن عليه صلوات فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة منها لا على التعيين حتى يعينها ظهرًا أو عصرًا مثلًا، نعم إن كانت فائتة واحدة يكفيه أن ينوي الفائتة من غير تعيين ظهر أو عصر، وهذا التعيين يستفاد من لفظ (ما نوى) بخلاف الجملة الأولى، فليس فيها ما يفيده، وقيل: كأن هذا القائل استنبط هذا المعنى من (ما) الموصولة لأنها من المعارف المفيدة للتعيين، وفيه: أن هذا المعنى يفهم من الجملة الأولى أيضًا؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي انقسام الأحاد على الأحاد، فالمعنى: أن كل فرد من أفراد العمل معتبر ومحسوب بنية ذلك الفرد، وأيضًا قد ذكرنا أن اللام بدل عن المضاف إليه، أو نقول: اللام للعهد على ما هو الأصل فيها، بل ذكر صاحب (المفتاح): أن أصل وضع لام التعريف للعهد، فتدبر.
وثانيها: أن الجملة الأولى دلت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.
وثالثها: أن الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئًا يحصل له، يعني: إذا عمله بشرائطه أو حال دونه ما يعذر به شرعًا، وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ولا يخفى أن هذين الوجهين يفيد التغاير بين مفهومي الجملة بحسب الظاهر، ولكن بحسب المآل واحد، ولا يبعد استفادة هذين المعنيين من الأولى أيضًا، وبهذا الاعتبار جعل من جعل الثانية مؤكدة للأولى ومحقِّقة لها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وههنا فائدة ينبغي أن ينبّه عليها وهي: أنه قد تكون نية عامة شاملة لخصوصيات تندرج تحتها وتحصل في ضمنها من غير أن يكون للعامل نية فيها فهل يحصل له ثوابها؟ اختلف فيه أنظار العلماء، فبعضهم يقولون: يحصل؛ لاندارجها تحت النية العامة، وقال بعضهم: لا يحصل؛ لأنه لم ينو في الخصوصيات، وظاهر هذا الحديث يدل عليه، ويؤيد الأول (1) حديث:(الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل اللَّه فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفًا أو شرفين كانت أرواثها وآثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات)(2)، الحديث.
وقد يحصل ثواب تحية المسجد وإن لم ينوها لأن المقصود بالتحية شغل البقعة، وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة؛ فإنه لا يحصل له ثواب غسل الجمعة على الأرجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلابد [فيه] من القصد إليه بخلاف تحية المسجد، كذا في (فتح الباري)(3).
ورابعها: أن الجملة الثانية أفادت التعميم المستفاد من كلمة (ما)؛ لأنها من صيغ العموم، ولما أشار في الجملة الأولى إلى أن صحة الأعمال الشرعية أو ثوابها يتوقف على النية عمم في الثانية على وجه أفادت أن الحاصل لكل شخص من كل عمل
(1) انظر: "مرفاة المفاتيح"(1/ 45).
(2)
أخرجه "البخاري"(286)، و"مسلم"(987).
(3)
"فتح الباري"(1/ 14).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يعمله ما نواه، سواء كان خيرًا أو شرًّا، محمودًا أو مذمومًا، فرضًا كان أو مندوبًا، محرمًا أو مكروهًا، أفعالًا كانت أو تروكًا، عبادات كانت أو عادات، في كل ذلك يحصل له الثواب إذا نوى، لأن المباحات تصير في حكم المندوبات بإقران نية التقرب إلى اللَّه، مثل الأكل والشرب بنية القوة في عبادة اللَّه، وأمثال ذلك، وأنت خبير بأن هذا المعنى يستفاد من الجملة الأولى أيضًا بحمل اللام على الاستغراق، اللهم إلا أن يفرق بكونه مستفادًا من الثانية صريحًا نصًّا، وفيه ما فيه، ومع ذلك لا يخرجه عن كونها تأكيدًا للأولى.
وخامسها: أنه أفادت الثانية أن النيابة لا تصح في النية على ما أفاده قوله: (ما نوى)، والجملة الأولى عارية عن الدلالة عليه.
وسادسها: أن الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها.
وسابعها: أن الثانية أفادت أن العمل إذا كان مشتملًا على جهات متعددة من الخير يحصل للعامل ثواب ما نوى من تلك الجهات دون الأخرى، مثلًا إذا أعطى فقيرًا قريبًا له: إن أعطاه من جهة فقره، ولم يخطر قرابته له ولم ينوها، يحصل له ثواب الصدقة فقط، وإن أعطاه لأجل القرابة وصلة الرحم ولم تخطر حيثية فقره، يحصل له ثواب الصلة فقط، وإن نواهما يحصل ثوابهما معًا، والجملة الأولى لا تفيد هذا المعنى.
وهكذا قد يحصل للشخص بواسطة النية في عمل واحد أنواع من الثواب، ويحرز جميعها بالنية، كالجلوس في المسجد عمل واحد، ويمكن حصول خيرات كثيرة وحسنات متعددة بالنية:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: أن المسجد بيت اللَّه تعالى وتقدس، فالداخل فيه يكون في حكم الزائر له تعالى، فينوي زيارة مولاه الكريم رجاء في إيفاء وعده، فقد ورد:(من قعد في المسجد فقد زار اللَّه، وحق على المزور إكرام زائره)(1).
الثاني: انتظار الصلاة بجماعة، وورد في الصحيح:(أن الرجل في الصلاة ما دام منتظرًا لها)، وهو معنى المرابط المأمور بها بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] عند بعض المفسرين، وقد ورد في الصحيح:(ألا أدلكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)(2)، وقد جاء من الكفارات المكث في المسجد.
الثالث: قصد حفظ السمع والبصر وسائر الأعضاء من المحظورات والمنهيات على ما هو شأن المؤمن المتقي، ومقتضى ذلك المكانِ الشريف، الذي لا يحصل غالبًا في الأسواق والطرق وسائر المواضع، فقد ورد في الأخبار:(المسجد بيت كل تقي)(3).
الرابع: اطمئنان القلب، والحضور مع اللَّه، وعدم تفرقة الخواطر وتشتت البال، الذي لا يحصل في غير هذا المكان، وربما يتشرف فيه بالتجلي الذاتي، وقد ورد:
(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(4/ 168): أخرجه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث سلمان.
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(384)، و"مسلم"(251).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(20029)، والطبراني في "الكبير"(6/ 254، رقم: 6143).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(المؤمن في المسجد كالسمك في الماء (1)).
الخامس: نية الاعتكاف، وقالوا: إنه ينبغي للرجل أن ينوي كلما دخل المسجد الاعتكاف، فإنه جائز على قول من يقول: أقله ساعة، ولا يشترط فيه الصوم، فيحصل له ثوابه، ويباح بعض ما لا يباح لغير المعتكف من الأعمال في المسجد، وهذا العمل مما يغفل عنه أكثر الناس مع كونه يسيرًا حاصلًا بلا تكلف.
السادس: يحصل ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مسنون في وقت الدخول في المسجد والخروج عنه، فقد صح أن له ثوابًا عظيمًا كثيرًا، ويحصل أيضًا ثواب الأدعية المأثورة عند الدخول والخروج.
السابع: التجرد لذكر اللَّه عزّ شأنه، أو استماع الذكر من غيره، أو تذكير الغير وترغيبه إليه بالقول والعمل، وجاء في الأخبار:(من غدا إلى المسجد يذكُر اللَّه ويذكِّر به كان كالمجاهد في سبيل اللَّه)(2).
الثامن: ثواب الحج والعمرة فقد ورد: (من توضأ وراح إلى المسجد وصلى فيه كان له ثواب الحج والعمرة) أو كما قال.
التاسع: قصد التعليم والتعلم، أو أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر؛ لأنه قد حصل هذا في المسجد من جهة اجتماع أنواع الناس فيه.
العاشر: قصد زيارة أخ في اللَّه تعالى والتبرك والانتفاع بصحبته.
(1) ذكره العجلوني في "كشف الخفاء"(2689)، وقال: لم أعرفه حديثًا وإن اشتهر بذلك.
(2)
ذكره العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(4/ 168)، وقال: هو معروف من قول كعب الأحبار.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الحادي عشر: قصد السلام أو رده على من كان في المسجد من المسلمين أو دخله.
الثاني عشر: قصد التفرغ للفكر في أحوال النفس وأمور الآخرة والاستغفار، والاحتراز عن اللهو واللغو وذكر الدنيا وما لا يعنيه.
ومثل هذا: التطيبُ سواء كان يوم الجمعة أو غيرها؛ فإن فيه اتباع سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان الطيب محبوبًا له صلى الله عليه وسلم وقال: (حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء. . .)(1) الحديث، وقصد تعظيم المسجد، ودفع الروائح الكريهة المؤذية من نفسه ومن غيره، وترويح جلسائه من الملائكة وبني آدم، وقصد سد باب الغيبة على من يغتاب له بالرائحة الخبيثة حتى لا يقع في المعصية لغيبته، وقصد معالجة الدماغ وزيادة الفطنة والذكاء ودرك العلوم الدينية والمعارف اليقينية، وإذا نوى في التطيب هذه الأمور حصل له الثواب وصارت العادة عبادة، وإن تطيب بمجرد لذة جسمانية وشهوة نفسانية حُرم الثوابَ بل قد يستحق العقاب، وأمثال هذه الأعمال والنيات كثيرة لا يخفى استنباطها على المستنبطين من أهل النية والذكاء.
وثامنها: أن الجملة الثانية أفادت أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة؛ لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة، ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، وأما ما حدث فيه عرف -كالتسبيح للتعجب- فلا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه يحصل الثواب؛ لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو
(1) أخرجه النسائي (3940)، وأحمد (2/ 285)، والحاكم (2627) بدون لفظ "ثلاث".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خير من السكوت مطلقًا، أي: المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:(في بضع أحدكم صدقة)، ثم قال في الجواب عن قولهم:(أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ ): (أرأيت لو وضعها في حرام؟ ) وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من الفعل الحرام، كذا في (فتح الباري)(1).
قال العبد الضعيف -صانه اللَّه عما شانه-: إن الأذكار والأدعية والتلاوة، وإن كانت لا تتردد بين العبادة والعادة صورة، ولا يحتاج في ذلك إلى النية، ولكن لابد في كونها عبادة مقبولة مثابًا عليها من نية التقرب إلى اللَّه والإخلاص فيها، بل لا عبادة حقيقة لو تمحضت رياء وسمعة، فلا يكفي في حصول الثواب كونها في صورة العبادة دون العادة.
وتاسعها: قال الكرماني (2): فهم من الأولى أن الأعمال لا تكون محسوبة ومسقطة للقضاء إلا إذا كانت مقرونة بالنيات، ومن الثاني أن النيات إنما كانت مقبولة إذا كانت مقرونة بالإخلاص، انتهى. وهذا مبني على أن لا يقدر ثواب الأعمال، وعلى الفرق بين النية والإخلاص، فافهم.
الرابع: في قوله: (فمن كانت هجرته إلى اللَّه وإلى رسوله فهجرته إلى اللَّه وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وفي بعض الروايات بترك (إلى) في قوله:(ورسوله) شرطًا وجزاءً، وفي الشرط دون
(1)"فتح الباري"(1/ 14).
(2)
"شرح الكرماني"(1/ 23).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الجزاء، وباللام الجارة مكان (إلى) في الثاني شرطًا، فإما أن يكون للتعليل أو بمعنى إلى.
والهجرة: الترك والقطع، وفي عرف الشرع: الخروج من أرض إلى أرض لوجه اللَّه تعالى وابتغاءً لمرضاته.
وقد وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين:
الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرة الحبشة التي وقعت في ابتداء الإسلام، هاجر إليها بعض الصحابة، وكالهجرة من مكة إلى المدينة من بعض الصحابة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها واستقرار أمر الإسلام.
والثاني: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، وذلك بعد استقراره صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهجرة المسلمين إليها من مكة وغيرها، وكانت الهجرة إذ ذاك شاعت وتخصصت بالانتقال من مكة إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة، فارتفع الاختصاص، وحديث:(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) المراد به: لا هجرة بعد فتح مكة منها؛ لأنها صارت دار الإسلام، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه، وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة)، والمراد ههنا: الانتقال من الوطن إلى غيره، سواء كان من مكة أو غيرها إلى المدينة أو إلى غيرها، أعم من أن يكون لرضاء الحق أو لا، ليشتمل الهجرة إلى الدنيا والامرأة.
وسبب ورود الحديث وإن كان خاصًا لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما نقلوا: أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، ولهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما ينوى كما سيأتي، على أن كلام الشيخ (1) وغيره ينظر إلى التردد في صحة هذه القصة، واللَّه أعلم.
وههنا نوع آخر من الهجرة المستحقُّ لأنْ يكون هو حقيقة الهجرة، وهي هجران ما نهى اللَّه عنه والخروج عن موطن الطبيعة، ووقع في الحديث:(المهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه) أي: المهاجر الكامل الحقيقي.
وههنا سؤال مشهور، وهو أن الشرط والجزاء يجب أن يكونا متغايرين، فلا يقال: من أطاع أطاع، وإنما يقال: من أطاع نجى، وقد وقعا متحدين في الحديث، والجواب أنهما [قد] يكونان متغايرين لفظًا، وقد يكونان متغايرين معنى، وههنا وإن اتحدا لفظًا فقد تغايَرا معنى، فالمراد: من كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله قصدًا ونية فهجرته إلى اللَّه ورسوله ثوابًا وأجرًا، أو المراد: من كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله فهجرته مقبولة، وذلك بوجهين: إما أن يجعل كون الهجرة للَّه ولرسوله الذي وقع في جانب الجزاء كنايةً عن كونها مقبولة أو مجازًا بذكر السبب مقام المسبَّب، أو يقدر (مقبولة) خبرًا عن المبتدأ، وقد يقال: إذا اتحد الشرط والجزاء بحسب الظاهر كان المراد المبالغة والتعظيم كما في قول الشاعر:
خليلي خليلي دون ريب وربما
…
ألان امرؤ قولًا فَظُنّ خليلا
أي: خليلي خليل عظيم لا أشك في خلته قد بلغ الكمال في خلتي وصداقتي، وكقولهم: شعري شعري أي: شعر عظيم متصف بكمال الفصاحة، فيكون معنى الحديث على وزانه: من قصد الهجرة إلى اللَّه ورسوله كانت هجرته كاملة عظيمة يترتب
(1) انظر: "فتح الباري"(1/ 10).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليها ثواب عظيم كامل.
وقوله: (إلى اللَّه) و (إلى دنيا)، إما متعلق بالهجرة إن كان لفظ كان تامة، أو خبر لـ (كانت) إن كانت ناقصة، والمراد به أصل الكون والوجود من غير تقييد بزمان من الأزمنة الثلاثة فيشمل الأزمنة كلها، فلا يحتاج إلى قياس أحد الزمانين على الآخر، أو القول بأنه قد علم بالإجماع على أن حكم المكلفين على السواء إلا بعارض.
و(دنيا) بضم الأول، وحكي عن ابن قتيبة كسرها مقصورًا غير منون؛ لأنه غير منصرف لألف التأنيث مثل حبلى، وقد وقع في كلام بعض الشارحين أنه غير منصرف لاجتماع أمرين: الوصفية، والثاني لزوم حرف التأنيث، ولعل الوصفية لأنه تأنيث (أدنى) أفعل التفضيل من الدنو، وهذا في الأصل، وقد صارت اسمًا لما بين السماء والأرض من الجو، أو كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، أو لما يصدّ عن اللَّه من الأموال والأهل والأولاد، أو لجميع ما سوى اللَّه كالعالم لدنوها من الزوال، أو للانحطاط من العالم الأعلى، أو لدناءتها وخساستها، ولكن لا يخفى أنه لا حاجة إلى اعتبار الوصفية مع ألف التأنيث لقيامها مقام العلتين، فقد وقع هذا سهوًا من قائلها.
هذا وقد حكي تنوينها، وهو مشكِلٌ لا يظهر وجهه، وقال الشيخ (1): وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها، وحكي عن ابن مغور أن أبا ذر الهروي في آخر أمره كان بحذف كثيرًا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد؛ لأنه لم يكن من أهل العلم، قال: وهذا ليس على إطلاقه، فإن رواية أبي الهيثم في مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره، انتهى.
(1)"فتح الباري"(1/ 17).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: لعله حذف فيما يتعلق بعلم الإعراب كما يدل عليه سياق كلامه، وأما بحسب حفظ الحديث وألفاظه فلعله يكون أجود وأصوب، وبالجملة لا يظهر وجه تنوين دنيا، اللهم إلا أن يكون لتناسب قوله:(أو امرأة) مثل {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا} ، واللَّه أعلم.
ثم يقال: كان الظاهر استعمالها بالألف واللام لكونه اسم تفضيل كالكبرى والحسنى، إلا أنها خلعت عنها الوصفية رأسًا وأجرت مجرى ما لم يكن وصفًا، فتدبر.
وقوله: (يصيبها) أي: يحصِّلها ويصل إليها، إما صفة لـ (دنيا) أو استئناف، قالوا: شبَّه تحصيلها عند امتداد الأطماع إليها بإصابة السهم بالغرض بجامع سرعة الوصول وحصول المقصود، ووجهُ تخصيص ذكر المرأة بعد ذكر الدنيا مع كونها داخلة فيها لعمومها، إما لزيادة الاهتمام في التحذير، لأن الافتتان بها أشد، أو لأن سبب ورود الحديث قصة مهاجر أم قيس، وحكى ابن بطال (1) عن ابن سراج: أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون الموالي المرأة العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة طمعًا في تزوج النساء.
وقوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) بيان التغاير بين الشرط والجزاء فيه على قياس ما سبق في الوجوه، غير أنه أبهم ههنا ولم يذكر الدنيا ولا المرأة صريحًا، استهجانًا لتصريح ذكرهما وتعميمًا للمطالب كلها، لأنها كثيرة، وصرح بذكر اللَّه ورسوله استلذاذًا
(1)"شرح ابن بطال"(1/ 32)، و"فتح الباري"(1/ 17).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بذكرهما وتبركًا به، ثم لا يخفى أن المراد (ومن كانت هجرته إلى دنيا أو إلى امرأة) فقط، أي: من غير مدخليةِ قصدِ الهجرة إلى اللَّه ورسوله، وإن كان أعم من ذلك بأن يكون في نيته مزجٌ وشوب، فالثواب بحسب النية وعلى قدرها على القول المختار، وإن قيل بأنه لا ثواب في صورة الشركة على ما يقتضيه ظواهر الأحاديث، اللهم إلا أن يكون قصد الثواب غالبًا، وتمام تفصيله في بحث الرياء، وهذا أيضًا يصلح وجهًا للإبهام في قوله:(إلى ما هاجر إليه)، واللَّه أعلم (1).
* * *
(1) واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه للَّه خالصًا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره. " فتح الباري"(1/ 18).
(1)
كتاب الإيمان