الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: الحكمة من مشروعية الشهادة:
من حكمة الله تعالى أن جعل حياة الإنسان حياة جماعية؛ لأنه لا يستطيع الوفاء بما يحتاجه بمفرده في هذه الحياة من ضروريات، فكان في الحياة الجماعية قيام كل فرد بجزء من متطلباتها، مما ينجم عنه الوفاء بحاجياتها عن طريق التعاون الجماعي. قال الله تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1).
ومع أن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض في هذه الحياة، فمنذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإنه يحصل بينهم مشاحنات، ويحصل من بعضهم على بعض تطاولات واعتداءات على الأنفس، والأعراض، والثمرات، نتيجة لتجمعاتهم، ولما تحويه الأنفس من غرائز الطمع، والجنس، وغيرهما مما يجعل بعضهم يعتدي على البعض الآخر، ويحاول الاستيلاء على الممتلكات من غير حق.
وقد حصلت التعديات والاعتداءات في عهد صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي عهد صحابته الأطهار الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر (2)» .
وقد تجلت حكمة الله تعالى بأن شرع من الحدود ما يناسب الفطرة البشرية؛ حفاظا على أبدانها، وعقولها، وأعراضها، وأموالها، وكان من كراماته أن شرع طرقا لإثبات هذه الحدود والحقوق عند تنازع الناس فيها، ومن هذه الطرق الشهادة التي يستدل بها القاضي على الحق ويحكم بموجبها
(1) سورة الزخرف الآية 32
(2)
أخرجه البيهقي بسند صحيح، انظر: البيهقي جـ 10 ص 252، نصب الراية جـ 4 ص 95، بلوغ المرام ص 346، سنن الدارقطني جـ 4 ص 157.
بعد أخذ الحيطة للتأكد من عدالة الشهود وغيرها، وعدم وجود حجة قطعية أو ظنية تحول دون تغليب حجية الشهادة في القضية.
وهي وسيلة عظيمة وجليلة لدفع التظالم ولإثبات الحقوق وردها إلى أهلها إذا اعتدى عليها، وتمكين القضاء من توقيع العقوبة على من يستحقها، وبدونها فإنها تضيع. كما أنها ترجح قول المدعي على قول المدعى عليه.
ولو أن القاضي اقتصر على علمه بالحادثة المراد منه الحكم فيها بحيث يكون علما منطبقا على الواقع بأن يشاهد الحادثة بنفسه ويحيط بها إحاطة تامة، أو يصل إليه خبرها بطريق التواتر المفيد للعلم، فإن أكثر مصالح الناس سوف تتعطل؛ لأن علمه إذا حصل في حادثة واحدة أو اثنتين فإن الكثير من الحوادث يتعذر عليه الوقوف عليها والعلم بها، كما يتعذر عليه العلم بها عن طريق التواتر المفيد لليقين؛ لأنه ليس من اليسر والسهولة وصول أخبار الحوادث دائما بطريق التواتر، ولذلك اقتضت حاجات الناس فيما يتقاضون فيه قبول الحجة الظنية ليبنى عليها الحكم؛ لأنهم إما أن يهملوا النظر في الحوادث والقضايا التي لم يقم على ثبوتها دليل قطعي عند القاضي، ويترتب على هذا ضياع حقوق الناس وفوضى واضطراب في حياتهم ونظامها، وإما أن يقبلوا الدليل الذي يغلب على الظن صدقه كالشهادة، ويحفظوا حقوق الناس بها.
وبالنظر في هذين الأمرين يتعين قبول الدليل الظني دفعا لأشد الضررين، وعلى هذا فإن الحقوق تثبت بما يفيد العلم القطعي، وبما يفيد الظن الراجح. وإذن فإن الحاجة ماسة إلى الشهادة؛ إذ إنها سبب في إثبات
الحقوق، وحفظ الأرواح، والأموال، والأنساب، والعقول.
فهي طريق لإنصاف المظلومين، وردع للظالمين، وحسم للنزاع بين العالمين، الذي ينشأ من حين لحين؛ لأن المجتمعات البشرية على اختلاف زمانها ومكانها لا تخلو من الأسباب المفضية إلى المنازعات والخصومات مهما بلغت هذه المجتمعات من رقي وعلم وحضارة.
ولأهميتها فقد نطق القرآن الكريم بفضلها، ورفع الله جل جلاله نسبتها إلى نفسه، وشرف بها ملائكته ورسله وأفاضل خلقه، فقال تعالى وهو أصدق القائلين:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} (1).
وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2).
فجعل كل نبي شهيدا على أمته لكونه أفضل خلقه في عصره.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3). وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4).
ويكفي الشهادة شرفا أن الله تعالى خفض الفاسق عن قبول الشهادة.
فقال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (5).
وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (6).
فأخبر أن العدل هو المرضي بقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (7).
(1) سورة النساء الآية 166
(2)
سورة النساء الآية 41
(3)
سورة آل عمران الآية 18
(4)
سورة آل عمران الآية 110
(5)
سورة الحجرات الآية 6
(6)
سورة الطلاق الآية 2
(7)
سورة البقرة الآية 282