المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثتحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌ يكتبون آيات من القرآن على لوح أسود ويغسلون الكتابة بالماء ويشرب

- ‌ توفي رجل عن ابنين وبنتين وزوجة وأخ شقيق وأخت شقيقة، فما نصيب كل واحد منهم

- ‌ وطء الحائض في الفرج

- ‌ أصول الشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون واحدة

- ‌ المرأة لا تنجس بحيض ولا نفاس، ولا تحرم مؤاكلتها ولا مباشرتها فيما دون الفرج

- ‌ حكم التصوير في الإسلام

- ‌من فتاوى:سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل

- ‌ تسلسل جرح البينة

- ‌هل صلاتي لا تنفع طالما أنني جاهل بالتوحيد وغير كافر بالطاغوت

- ‌ المسلم إذا فعل شيئا من الشرك كالذبح والنذر لغير الله جاهلا

- ‌ التوسل بجاه فلان أو حق فلان

- ‌ من يتحاكم إلى القوانين العرفية، والقوانين القبلية، هل حققوا معنى لا إله إلا الله

- ‌ النكاح بنية الطلاق

- ‌بيان معنى لا إله إلا الله

- ‌من مظاهر موالاة الكفار:

- ‌ مظاهر موالاة المؤمنين:

- ‌أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء:

- ‌القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معاداة معها

- ‌القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما

- ‌القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة

- ‌حكم الشهادة والحكمة من مشروعيتها وأركانها

- ‌أولا: حكم الشهادة:

- ‌ثانيا: الحكمة من مشروعية الشهادة:

- ‌ثالثا: أركان الشهادة:

- ‌الركن الأول: الشاهد

- ‌الركن الثاني والثالث: المشهود له وعليه:

- ‌الركن الرابع: المشهود به:

- ‌الركن الخامس: الصيغة:

- ‌المطلب الأولتحرير محل النزاع

- ‌المطلب الثالثتحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها

- ‌المطلب الرابعالموازنة والترجيح

- ‌المطلب الخامسسبب الخلاف

- ‌المطلب السادس*ثمرة الخلاف

- ‌المطلب السابعمقدار البحث عن القائلين به

- ‌تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم

- ‌فوائد تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع

- ‌أولا: أن نسبة النساء في أي مجتمع من المجتمعات البشرية تفوق نسبة الرجال وتزيد عليها

- ‌ثانيا: أن الرجل يتأخر نضجه الجنسي والاجتماعي واستعداده للزواج

- ‌ثالثا: أن رغبة المرأة إلى الجماع أقل من رغبة الرجل

- ‌رابعا: المرأة معرضة للعقم والإياس، والمرض الذي يفوت على الرجل الاستمتاع بها

- ‌خامسا: الزواج المتعدد فيه نبل وتضحية من الرجل وتحمل للمشقات والتبعات

- ‌شروط تعدد الزوجات

- ‌حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌موضوع الفتيا:

- ‌النسخ الأصول

- ‌منهج التحقيق:

- ‌الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومسنده

- ‌الوضع القائم في عصره:

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌حفظه:

- ‌ثناء الأئمة عليه:

- ‌احترام العلماء له:

- ‌زهد الإمام أحمد:

- ‌فقه الإمام أحمد:

- ‌الإمام أحمد والجرح والتعديل:

- ‌محنة الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌آثار الإمام أحمد:

- ‌الحكمة من قطع يد السارق

- ‌حكمة التشريع الإلهي

- ‌الحكمة من إقامة الحدود

- ‌حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق

- ‌من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي

- ‌القرار الأولحكم الماسونية والانتماء إليها

- ‌القرار الثانيمناشدة حكام الدول العربية والإسلاميةبتطبيق الشريعة الإسلامية

- ‌القرار الثالثحكم الشيوعية والانتماء إليها

- ‌نداء لجميع المسلمين وغيرهمللوقوف في صف حكومة السودان وشعبها

- ‌اعتذار. . وتصويب

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌المطلب الثالثتحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها

المخصص.

4 -

أنه يجوز العمل به لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم من غير بحث عن المخصص.

5 -

أنه يجوز العمل به لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعليم، كأن يكون جوابا عن سؤال ونحو ذلك.

ص: 155

‌المطلب الثالث

تحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها

القول الأول:

أنه يجب العمل بالعام إذا حضر وقت العمل به ولا يتوقف فيه إلى أن يتم البحث عن المخصص.

وهذا القول هو ظاهر كلام الشافعي في الرسالة حيث قال: " فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله: (بأبي هو وأمي) يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض "(1).

وقال أيضا: " وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عمومه وجملته حتى يجد دلالة يفرق بها فيه بينه "(2).

وذكر نحو ذلك في مواضع أخرى (3).

وهذا المذهب هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد استخرجها أصحابه مما جاء في رواية ابنه عبد الله أنه سأله عن

(1) الرسالة (ص 341).

(2)

الرسالة (ص 395).

(3)

انظر (ص 296، 322) من الرسالة.

ص: 155

الآية إذا جاءت عامة مثل قوله تعالى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1).

وأخبر أن قوما يقولون: لو لم يجئ فيها خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم توقفنا عندها، فلم تقطع حتى يبين الله لنا فيها أو يخبر الرسول. فقال أحمد قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (2)

كنا نقف عند ذكر الولد لا نورثه حتى ينزل الله أن لا يرث قاتل ولا عبد؟ " (3).

قال القاضي أبو يعلى (ت 458هـ) بعد ذلك: "وظاهر هذا الحكم به في الحال من غير توقف، وهو اختيار أبي بكر من أصحابنا، وذكره في أول كتاب التنبيه، فقال: وإذا ورد الخطاب من الله تعالى، أو من الرسول بحكم عام أو خاص حكم بوروده على عمومه حتى ترد الدلالة على تخصيصه، أو تخصيص بعضه (4).

وجاء في المسودة بعد نقل كلام القاضي ما نصه: (قلت: إنما رد على من يقف إذا لم يرد مخصص، ليس فيه عدم البحث عن المخصص)(5).

وقد اختار هذا القول الصيرفي من الشافعية (6).

وهو اختيار ابن حزم (7)(ت 456هـ) والقاضي أبي يعلى (8)، وابن

(1) سورة المائدة الآية 38

(2)

سورة النساء الآية 11

(3)

العدة (2/ 526).

(4)

العدة (2/ 526).

(5)

المسودة (ص 90).

(6)

البرهان (1/ 406، 407)، والمحصول (1/ 3 / 29).

(7)

الأحكام لابن حزم (3/ 341).

(8)

العدة (2/ 526).

ص: 156

عقيل (1)(ت513هـ) وابن قدامة (2)(ت 620هـ)، والبيضاوي (3)(ت 685هـ) والسبكي (4)(ت 771هـ) وغيرهم.

ونسبه صاحب فواتح الرحموت إلى الحنفية فقال: " والحنفية يوجبون العمل به قبل البحث، واستقر هذا المذهب إلى الآن"(5).

وسيأتي أن هذا ليس مذهب جميع الحنفية كما يتبادر من كلامه.

الأدلة:

استدل أصحاب هذا القول بأدلة نذكر منها ما يلي:

الدليل الأول: أن الصيغة تقتضي العموم وضعا، فيجب العمل بمقتضاه حتى يرد ما يعارضه، كما أنه يجب العمل بنصوص الكتاب والسنة قبل انقطاع الوحي مع احتمال ورود الناسخ، ولم يقل أحد إنهم كانوا لا يعملون بالنصوص إلا بعد السؤال عن الناسخ والبحث عنه، بل كانوا يبادرون إلى العمل بالنص من كتاب أو سنة متى بلغهم من غير أن ينتظروا الناسخ، وإذا لم يجب التوقف للبحث عن الناسخ لم يجب للبحث عن المخصص (6).

- المناقشة:

اعترض على هذا الاستدلال من قبل المانعين من وجهين:

الأول: أن الصيغة تقتضي العموم، لكن ليس اقتضاؤها إياه مطلقا، بل هو مشروط بالتجرد عن المخصص، ولا يتحقق ذلك إلا بالبحث عن المخصص (7).

(1) الواضح (2/ 94).

(2)

الروضة (ص 242).

(3)

منهاج الوصول، ومعه نهاية السول، ومنهاج العقول (2/ 91).

(4)

جمع الجوامع مع شرح المحلى وحاشية البناني (2/ 8).

(5)

فواتح الرحموت (1/ 267).

(6)

راجع الأحكام لابن حزم (2/ 342)، والعدة (2/ 529)، والواضح (2/ 95) والروضة (ص 243).

(7)

راجع العدة (2/ 531)، والواضح (2/ 95).

ص: 157

- ودفع هذا الاعتراض من وجوه:

1 -

أن الأصل عدم المخصص، فإن لم يعلم وجب العمل بالأصل.

2 -

أنه يلزمهم أن يقولوا في الأعداد والحقائق الأخرى مثل ذلك.

3 -

أنه يلزمهم أن يقولوا في تخصيص الزمان وهو النسخ مثل ذلك؛ لأن احتمال النسخ قائم، لكنه خلاف الظاهر (1).

الثاني: أن النسخ يفارق التخصيص؛ لأن النسخ لا يكون متراخيا، لذلك لم يجب انتظاره، بخلاف المخصص فإنه يكون مقارنا. وأيضا فإن انتظار الناسخ يؤدي إلى تعطيل العمل بالدليل السابق مطلقا، ورفع الحكم إنما يكون بعد العمل به، فلو كان قبل العمل به لم يكن للفظ الأول فائدة، وهذا بخلاف المخصص، فإن انتظاره لا يؤدي إلى تعطيل العمل بالدليل؛ لأنه إذا لم يوجد المخصص عملنا بالدليل على عمومه، وإن وجد المخصص عملنا به فيما سوى المخصص، وتحققنا أن المخصوص غير مراد باللفظ، فالعمل بالعام بعد البحث حاصل على كل حال، إما في عمومه من غير استثناء، أو فيما بقي (2).

ودفع هذا الاعتراض القاضي وابن عقيل فأجابا عن الشق الأول من الاعتراض بأن المخصص يجوز تأخيره عندنا، فهو كالناسخ في ذلك (3).

وأجاب ابن عقيل عن الشق الثاني بأن البحث عن الناسخ لا يعطل العمل بالدليل، بل إن عدم الناسخ عملنا بالدليل، وإن وجد علمنا أن العمل بالدليل الأول لا يجوز، وكذا الشأن في المخصص، فإذا لم يوجد المخصص عمل بالعموم، وإن وجد لم يعمل به في عمومه، بل فيما عدا المخصوص.

(1) العدة (2/ 532)، الواضح (2/ 95).

(2)

الواضح (2/ 95).

(3)

العدة (2/ 529)، الواضح (2/ 95).

ص: 158

وقولهم: إن رفع الحكم لا يكون إلا بعد العمل به غير مسلم به، يجوز أن يرفع الحكم قبل التمكن من العمل به على الأرجح. وفائدة الأمر الأول ظهور عزم المطيع على العمل، وعزم العاصي على المعصية (1).

الدليل الثاني: أن الصيغة موضوعة للعموم حقيقة، والتخصيص متوهم، فلا يجوز تأخير العمل بالعام لتوهم الخصوص، كما أن الحقائق لا يتوقف فهم معانيها، والعمل بها على البحث عن القرائن الصارفة لها عن حقيقتها إلى المجاز. فإذا وجب التمسك بالحقيقة والعمل بها من غير بحث عما يصرفها عن حقيقتها إلى المجاز فكذلك يجب العمل بالعام من غير بحث عما يصرفه عن عمومه إلى الخصوص (2).

- المناقشة:

اعترض على هذا الاستدلال بأن صيغة العموم تخالف سائر الحقائق في أنه إذا خص من العموم بعض أفراده لم يصر مجازا في الباقي، والحقائق إذا صرفت عما وضعت له صارت مجازات عند الجميع.

ودفع هذا الاعتراض بأنه قد اشترك العام مع سائر الحقائق في أنه موضوع لمعناه حقيقة، وإنما قلنا: إنه بعد التخصيص لا يصير مجازا؛ لأن البعض الباقي ليس غير ما وضع له اللفظ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي (3).

وهذا الجواب كما هو واضح لا يتمشى إلا مع مذهب القائلين بأن التخصيص لا يصير العام مجازا. وأما من قال: إنه يصير مجازا فلا يخفى أن الاعتراض لا يرد عليه أصلا.

الدليل الثالث: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم

(1) الواضح (2/ 95، 96).

(2)

العدة (2/ 528)، والواضح (2/ 95)، والمحصول (1/ 3 / 30).

(3)

راجع الواضح (2/ 96).

ص: 159

التوقف في العمل بالعام إلى أن يستقصي البحث عن المخصص، ولا أنكر أحد منهم على من استدل بالعام قبل استقصاء البحث عما يخصصه، بل قد روي عنهم ما يخالف ذلك؛ فقد حكم عمر رضي الله عنه بدية الأصابع بمجرد العلم بكتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه، وترك القياس، والرأي، ولم يبحث عن المخصص ولم يسأل عنه، وتمسكت فاطمة رضي الله عنها بعموم آية:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1).

ولم تبحث عن المخصص؛ إذ لو بحثت واستقصت في البحث لوجدته، وقد أقرها أبو بكر على ذلك الاحتجاج، ولم ينكر عليها، ولكن بين لها أن العموم مخصوص (2).

الدليل الرابع: أنه لو لم يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص لأفضى ذلك إلى ترك العمل بالدليل العام؛ لأن الأصول كثيرة، والإحاطة بها ليس بالأمر الهين، فما لم يجده المجتهد اليوم قد يجده غدا (3).

(1) سورة النساء الآية 11

(2)

فواتح الرحموت (1/ 267).

(3)

روضة الناظر (ص 243).

ص: 160

الدليل الخامس: أن الأصل عدم المخصص، وهذا يورث ظنا غالبا بأن المخصص معدوم، والظن الغالب كاف لإثبات الأحكام (1).

القول الثاني:

أنه لا يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص.

وهذا القول هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. وقد استنتجها أصحابه من قوله فيما كتبه إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني حيث قال: "فأما من تأوله على ظاهره - يعني القرآن - بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكما عاما، ويكون ظاهرها في العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله، وما أراد وأصحابه أعلم بذلك منا لمشاهدتهم الأمر، وما أريد بذلك (2).

قال القاضي بعد نقل هذا النص: " ظاهر هذا أنه لا يجب اعتقاده، ولا العمل به في الحال حتى يبحث وينظر هل هناك دليل تخصيص (3).

وقال الإمام أحمد أيضا في رواية صالح: " إذا كان للآية ظاهر فينظر ما عملت السنة، فهو دليل على ظاهرها "(4).

(1) العدة (2/ 528)، والمحصول (1/ 3 / 31)

(2)

العدة (2/ 527)، والمسودة (ص 102).

(3)

العدة (2/ 527)، والمسودة (ص 102).

(4)

العدة (2/ 526)، والمسودة (ص 111).

ص: 161

واختار هذا القول ابن سريج وأكثر الشافعية (1). وهو اختيار أبي الخطاب (510هـ) وشيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة (2).

الأدلة:

استدل أصحاب القول الثاني بأدلة أهمها ما يلي:

الدليل الأول:

أننا لو قدرنا وجود المخصص لما صح الاستدلال بالعام على عمومه، فإذا لم نبحث عن المخصص حتى يحصل لنا علم أو ظن غالب بعدمه فالدليل العام متردد بين أن يكون حجة وأن لا يكون. والأصل ألا يكون حجة إبقاء للأشياء على حكم الأصل. فيكون الدليل العام قبل البحث عن المخصص ليس بحجة (3).

- المناقشة:

لقد أجاب الرازي عن هذا الاستدلال بأن الدليل العام وإن كان مترددا بين الحجية وعدمها إلا أن كونه حجة أغلب على الظن؛ لأن فيه إجراء للعام على ظاهره، والظن الغالب يكفي للاحتجاج (4).

الدليل الثاني: قياس اللفظ العام على الشهادة فإنه لا يجوز للقاضي المبادرة إلى العمل بشهادة الشهود قبل أن يستكشف حالهم هل هم عدول؟ ولا يكتفي بأصل العدالة. قالوا: فكذلك الشأن في اللفظ العام فإنه وإن كان ظاهره يدل على دخول جميع أفراده لكن لا بد أن يبحث

(1) راجع المحصول (1/ 3 / 29).

(2)

راجع روضة الناظر (242)، ومجموع الفتاوى (29/ 166، 167).

(3)

راجع المحصول (1/ 3 / 32).

(4)

راجع المحصول (1/ 3 / 32).

ص: 162

المجتهد عما يخصص هذا العموم، ولا يكتفي بدلالة الصيغة في أصل الوضع (1).

- المناقشة:

اعترض على هذا الاستدلال بأن الشهود لم تثبت عدالتهم من قبل، وإلا لوجب على القاضي العمل بموجب شهادتهم من غير حاجة إلى تزكية، وأما العام فقد علمت دلالته على أفراده بأصل الوضع، فيعمل بتلك الدلالة حتى يرد ما يخالفها.

قال ابن حزم في الجواب عن هذا الاستدلال: " وهذا تشبيه فاسد؛ لأن الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك الحالة، ولا يحل التوقف في شهادتهما، والغرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان، وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى أو خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، وإنما يتوقف في الشاهدين إذا لم يعلمها "(2).

وأيضا فإن الشهادة تفارق النقل والرواية من وجوه كثيرة؛ فإن رواية الواحد صحيحة يجب قبولها والعمل بها، بخلاف الشهادة فلا تصح من واحد (3).

الدليل الثالث: أن السامع إذا سمع قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4).

فإما أن يعتقد عموم الآية مباشرة حتى إنه يعتقد خلق صفة الكلام، والإرادة، والعلم، ونحوها من صفات الله عز وجل، وإما أن يتوقف حتى ينظر فيما يجوز دخوله تحت الآية فيدخله، وما لا يجوز إدخاله فيخرجه، والاحتمال الأول باطل، فيتعين الثاني، وإذا قلتم به فقد قلتم بوجوب البحث

(1) راجع العدة (2/ 528)، والأحكام لابن حزم (3/ 342)، والواضح (2/ 95).

(2)

الأحكام لابن حزم (3/ 342).

(3)

انظر في الفرق بين الرواية والشهادة كتاب الفروق للقرافي (1/ 10 - 22).

(4)

سورة الزمر الآية 62

ص: 163

عن المخصص (1).

- المناقشة:

أجيب عن هذا الدليل بأن دليل العقل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته سابق لكل سمع، فإذا سمع العاقل هذه الآية ونحوها بعدم دخول الله وصفاته تحت عمومها (2).

ولا يخفى أن هذا الدليل إنما يتجه على من أوجب اعتقاد العموم والجزم به قبل البحث عن المخصص كالصيرفي، ولا يدل على عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عما يخصصه.

القول الثالث: التفصيل، فيجب التوقف في حق البعض ولا يجب في حق البعض الآخر، وقد اختلفوا في كيفتيه على ثلاثة أقوال:

أ - مذهب أبي بكر الجصاص:

وهو أن السامع للفظ العام إن كان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حادثة فأنزل الله في ذلك قرآنا عاما أو أجابه النبي بجواب عام، فعليه إمضاء لفظه على عمومه من غير طلب للمخصص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يذكر للسائل اللفظ العام من غير ذكر المخصص إلا إذا كان مرادا به العموم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وإن كان سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم باللفظ العام ابتداء من غير أن يسأله، أو بلغه الدليل العام عن طريق النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم من غير مشافهة، فلا يخلو إما أن يكون السامع من أهل الاجتهاد أو لا. فإن كان من أهل الاجتهاد ففيه وجهان:

(1) راجع العدة (2/ 532).

(2)

راجع العدة (2/ 532)، والواضح (2/ 96).

ص: 164

- أحدهما: أنه لا يجوز له الحكم بظاهر الدليل العام حتى يستقرئ الأصول هل فيها ما يخصه؟

- والثاني: أنه يجوز له الحكم بعمومه من غير بحث؛ لأنه لا يمكن أن يخليه الله عند سماع اللفظ العام من إيراد دليل الخصوص إن كان العام مخصوصا؛ لأن إسماع المكلف اللفظ العام المخصوص دون دليل الخصوص تجهيل وتضليل، وهما ممتنعان عن الله جل وعلا.

وأما إن لم يكن السامع من أهل النظر والاجتهاد كالعامي فليس له أن يعمل بالعام قبل سؤال العلماء المجتهدين، فإن سأل من يلزمه قبول قوله فأفتاه بجواب عام لزمه إمضاؤه على عمومه، كمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم (1).

ب- أنه يجوز لمن سمع اللفظ العام من النبي صلى الله عليه وسلم التمسك به قبل البحث عن المخصص، ولا يجوز لغيره ذلك. ونسب هذا القول إلى أبي عبد الله الجرجاني من الحنفية (2).

ووجه هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه تأخير المخصص عن العام، فإذا سمع الدليل العام من النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر المخصص علم أن عمومه مراد، أما آحاد أمته فلا يمتنع عليهم أن ينقلوا العام المخصوص من غير نقل المخصص، فلا يجوز المبادرة بالعمل العام إلا لمن سمعه من النبي عليه السلام (3).

وقد أجاب المجيزون للعمل بالعام من غير بحث عن ذلك من وجوه:

1 -

أن تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب جائز عندنا (4).

(1) راجع أصول الجصاص (2/ 17).

(2)

الواضح (2/ 94).

(3)

العدة (2/ 532)، والواضح (2/ 96).

(4)

العدة (2/ 532)، والواضح (2/ 96 - 97).

ص: 165

2 -

أن المبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يؤدي بعضا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم دون بعض، ولا يجوز له أن يكتم ماله أثر في الحكم، وإلا لكان ملبسا. فوجب أن يكون من سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن سمعه منه؛ لأنه سمع لفظ النبي بنصه من غير زيادة ولا نقصان.

3 -

أن صيغ العموم موضوعة للدلالة عليه، فلا يختلف مدلولها باختلاف الناطقين بها، فيستوي في ذلك من سمع الدليل العام من النبي، ومن سمعه من غيره بنقل العدول الثقات (1) ج - أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص لمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده، وقد ذكر المحلي في شرحه على جمع الجوامع أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني نقل الإجماع على ذلك (2)، ولكن سبق أن عرفنا أن هذا النقل ليس بدقيق.

وهذا القول أوسع من الذي قبله؛ لأن ما قبله لا يجيز العمل إلا لمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أما هذا القول فيجوزه لمن في عهد النبي سواء سمعه منه مباشرة أم بواسطة.

ولعل أصحاب هذا القول احتجوا بأن من في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليهم المخصص إن وجد، بخلاف من بعدهم فربما خفي عليهم.

وهذا الاستدلال ليس بسديد؛ لأن من في عهد النبي عليه السلام قد تخفى عليهم بعض المخصصات كما خفي على فاطمة رضي الله عنها تخصيص آية الميراث بحديث «لا نورث، ما تركناه صدقة (3)» .

وأيضا فإن التابعين، ومن بعدهم فيهم من هو أعلم بكثير ممن في عهد

(1) الواضح (2/ 96 - 97).

(2)

شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 8).

(3)

صحيح البخاري كتاب فرض الخمس (3094)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1757)، سنن الترمذي السير (1610)، سنن النسائي قسم الفيء (4148)، سنن أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء (2963)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 208).

ص: 166