الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي عليه السلام إذا لم يكن الصحابي ملازما للنبي ملازمة طويلة مع زيادة الفطنة والانتباه؛ إذ ليس كل من في عهد النبي عالما.
المطلب الرابع
الموازنة والترجيح
الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ.
أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما.
ولكن إذا ابتلي بعض طلاب العلم بمنصب قضاء أو فتوى نظرا لانعدام المجتهد المطلق أو لندرة وجوده فلا يجوز له أن يحكم ولا أن يفتي قبل أن يتدبر أدلة الشرع، ويعرف ما قاله أهل العلم الذين سبقوه في هذه المسألة، وما استدل به كل منهم؛ حتى يتضح له وجه الصواب فيقدم على ما يراه حقا حينذاك، ولو أجزنا لهؤلاء أن يكتفوا بعمومات الأدلة
التي بلغتهم لضلوا وأضلوا.
ووجه هذا التفصيل أن العلماء المجتهدين قد أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وعرفوا الخاص والعام والناسخ والمنسوخ، وقد سبق لهم البحث في العمومات، وعرفوا ما دخله التخصيص منها، وما لم يدخله التخصيص، فالبحث قد حصل منهم سابقا، قبل أن يتصدروا للفتيا أو القضاء، فإذا ألزمناهم بمعاودة البحث فلا يخلو إما أن نقول: تكفيهم غلبة الظن أو لا بد من القطع بعدم المخصص.
فإن قلنا: تكفيهم غلبة الظن، فغلبة الظن حاصلة لهم عند سماع العام الذي لم يعرفوا له مخصصا، وإن قلنا: يلزمهم القطع عطلنا العمل بنصوص الشريعة العامة، وآل بنا الأمر إلى مذهب الواقفية الذين لا يرون العمل بالعمومات؛ لأن القطع لا سبيل إليه في أكثر العمومات.
ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين:
الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه.
وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: " وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى
نقض ما أمضاه بتبين الخلاف " (1).
ومثل هذا التوقف لا ينبغي الخلاف في أنه واجب.
الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجيح قول المانعين:"وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض"(2).
فقوله: إن هذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين إلا بعد البحث عن المعارض. يدل على أنه إنما منع من ذلك خشية أن يتشبث بعض مدعيي العلم ببعض العمومات، ويتركوا البحث عن مخصصاتها.
والذين نقلوا الإجماع على المنع ربما قصدوا المنع من الاعتقاد الجازم قبل البحث، لا المنع من العمل إذا حضر وقت العمل بالعام. وقد أشار إمام الحرمين إلى ذلك حيث قال: "إذا وردت الصيغة الظاهرة في اقتضاء العموم ولم يدخل وقت العمل بموجبها. فقد قال أبو بكر الصيرفي من أئمة الأصول: يجب على المتعبدين اعتقاد العموم فيها على جزم، ثم إن كان الأمر على ما اعتقدوه فذلك وإن تبين الخصوص تغير العقد. وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء. ومضطرب العلماء، وإنما هو قول صدر
(1) فواتح الرحموت (1/ 267).
(2)
مجموع الفتاوى (29/ 166 - 167).
من غباوة واستمرار في عناد. . (إلى أن قال): " والذي يكشف الغطاء في هذه المسألة أن المتعبد قبل أن يحين العمل يتردد، وقد يغلب على ظنه العموم لظهور اللفظ في اقتضائه، ثم إذا لم يرد مخصص ودخل وقت العمل فيقع ذلك على وجهين:
أحدهما: القطع بالتعميم، فينتهض اللفظ العام مع ما يبدو من القرائن نصا، وقد يقع ذلك نصا في مسالك الظنون، فإن العمل لا ينحصر في مدارك القطع، فالمقطوع به وجوب العمل بالعموم، فأما أن يعتقد إرادة العموم فلا، وهذا يطرد في كل ما لا يكون قاطعا كأخبار الآحاد والأقيسة الظنية، فالمقطوع به في جميع هذه الأبواب وجوب العمل به " (1).
فهذا الكلام يدل بوضوح على أن إمام الحرمين لم ينكر على الصيرفي القول بوجوب العمل بالعام إذا حضر وقت العمل من غير توقف، وإنما أنكر عليه القول بوجوب اعتقاد العموم الذي لم يحضر وقت العمل به، من غير بحث عن المخصص اعتقادا جازما، وقد اتهمه بالغباوة والعناد، وعد قوله مخالفا لمسالك العقلاء؛ وذلك لأن العام ظاهر لا يرتفع إلى درجة النص إلا بقرائن تدل على أنه أريد به العموم، فكيف يصح أن تقطع بأن مطلقه أراد التعميم من غير بحث عما قد يخصصه؟
ثم بين أن وجوب العمل به لا يدل على أنه ارتفع إلى درجة القطع، بل المقطوع به وجوب العمل، لا إرادة التعميم.
والحنابلة وإن كان منهم من أوجب اعتقاد عمومه قبل البحث، لكن لا يقصدون بذلك الاعتقاد الجازم، بل اعتقاد موقوف على عدم تبين المخصوص، أو هو ظن غالب.
وأما الذين أجازوا العمل بالعموم قبل البحث لمن سمعه من النبي
(1) البرهان (1/ 406 - 408)