الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الركن الرابع: المشهود به:
وذلك بأن يكون المشهود به معلوما. فإذا كانت الشهادة بمجهول لم تقبل؛ لأن علم القاضي بالمشهود به شرط صحة قضائه، ومبنى علمه شهادة الشهود بمعلوم. وعلى هذا فإن القاضي لا يقضي بالمشهود به إذا لم يعرفه الشهود عنده تعريفا كافيا لعلمه به.
ولكن الفقهاء اختلفوا في القدر الكافي من تعريف الشاهد بالمشهود به الدال على علمه عند أدائه للشهادة، وذلك في بعض المسائل.
فلو شهد رجلان - مثلا - عند القاضي أن فلانا وارث هذا الميت لا وارث له غيره، فإن شهادتهما جائزة عند الحنابلة، والشافعية، وغير جائزة عند الحنفية؛ لأنهم يرون أنه لا بد أن يقول الشهود بأنه ابنه ووارثه، لا يعلمون له وارثا غيره، أو أخوه لأبيه وأمه، لا يعلمون له وارثا غيره.
الركن الخامس: الصيغة:
اتفق الفقهاء على الركن الخامس، وهو الصيغة في الشهادة، إلا أنهم اختلفوا في اللفظ الذي تؤدى به الشهادة، فهل يجب على الشاهد إذا حضر في مجلس القضاء لأداء الشهادة أن يؤديها بلفظ:"أشهد" دون غيره من الألفاظ، أو أن شهادته تصح بأي لفظ آخر يؤدي المعنى كأعلم، وأتيقن.
ولأهمية هذا اللفظ، واختلاف العلماء فيه على قولين فإنني أوضح كلا منهما وأدلة أصحابه به فيما يلي:
القول الأول:
إنه يجب على الشاهد عند تأديته الشهادة أن يؤديها بلفظ "أشهد" بصيغة المضارع، فلا يجوز شهدت، لاحتمال الإخبار عما مضى،
فلا يكون بذلك شاهدا للحال، بخلاف لفظ "أشهد" فهي بمعنى الشهادة في الحال حيث يتضمن المشاهدة والقسم، والإخبار في الحال، ولا يقبل غير هذا اللفظ كأعلم، وأتيقن.
وقد ذهب إلى هذا القول جمهور الفقهاء.
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول - الجمهور - على وجوب أداء الشهادة بلفظ "أشهد" بالكتاب، والسنة، واللغة.
أولا: الأدلة من الكتاب:
استدلوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1).
وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2).
وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (3).
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (4).
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (5).
وبغير هذه الآيات من آيات عموم الشهادة.
فقد استعملت هذه الآيات وغيرها لفظ "أشهد" في مجال إثبات الحقوق، والدعوة إلى أداء ما علمه الإنسان وإقامته، وعدم كتمانه، دون غيره من الألفاظ، وهذا يدل على وجوب أدائها بلفظ:"أشهد".
(1) سورة البقرة الآية 282
(2)
سورة البقرة الآية 282
(3)
سورة البقرة الآية 283
(4)
سورة الطلاق الآية 2
(5)
سورة النساء الآية 135
قال في تكملة رد المحتار: " فالنصوص ناطقة بلفظ الشهادة، فلا يقوم غيرها مقامها، لما فيها من زيادة توكيد؛ لأنها من ألفاظ اليمين، فيكون معنى اليمين ملاحظا فيها "(1).
ثانيا: الدليل من السنة:
استدلوا من السنة بما روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم له: هل ترى الشمس؟ قال نعم، قال: على مثلها فاشهد، أو دع (2)» .
ففي هذا الحديث الشريف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم السائل بلفظ "أشهد" عندما سأله عن الشهادة بعد أن بين له ضرورة التأكد مما يشهد به، وهذا يدل على أن هذا هو اللفظ الذي يجب أن تؤدى به الشهادة.
ثالثا: الدليل من اللغة:
إن سبب عدم جواز الشهادة بالتصريفات الأخرى كلفظ "شهدت" بدلا من لفظ "أشهد"؛ لأن لفظ "شهدت" موضوع للإخبار بأمر وقع في زمن ماض، فإذا شهد باللفظ المذكور فلا يكون المشهود به مخبرا به في الحال، بل يحتمل معنى أنه شهد في الزمن الماضي.
أما صيغة المضارع فلما كانت موضوعة للإخبار في الحال فإنه إذا قال: أشهد فإنها بمعنى الشهادة في الحال، كما أن هذا اللفظ يتضمن: المشاهدة، والقسم، والإخبار في الحال، فإذا شهد الشاهد بذلك اللفظ كان معنى قوله: إنني أقسم بالله أنني مطلع على ذلك عن مشاهدة وإنني أخبر عنه الآن، وهذا المعنى مفقود في الألفاظ الأخرى كلفظ الإخبار والإعلام ونحوهما وإن كان يؤدي الشهادة تعبدا غير معقول المعنى إلا أنه
(1) حاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار جـ 7 ص 77، انظر تبيين الحقائق جـ 4 ص 210.
(2)
نصب الراية جـ 4 ص 82، سبل السلام جـ 4 ص 171، بلوغ المرام ص 245، المستدرك جـ 4 ص 98.
تعين هذا اللفظ "أشهد" احتياطا واتباعا للمأثور، ولأن الشهادة خبر محتمل للصدق والكذب، فلا يصلح حجة ما لم يؤيد بمؤيد وهو لفظ "أشهد"، لأنه يمين بدلالة قوله عز وجل مخبرا عن المنافقين (1):
{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (2).
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3).
القول الثاني:
إنه لا يجب على الشاهد تأدية الشهادة بلفظ معين، بل تصح تأديتها بأي لفظ أو صيغة تفيد المعنى.
وقد ذهب إلى هذا القول المالكية، والإمام أحمد بن حنبل في إحدى رواياته، وبه قال ابن قيم الجوزية، وشيخه ابن تيمية، والظاهريون. ونقل عن ابن القيم أن هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وظاهر كلام أحمد بن حنبل.
أدلة أهل هذا القول:
استدل أهل هذا القول على عدم وجوب الاقتصار على لفظ "أشهد" عند أداء الشهادة، وجواز قول الشاهد للقاضي: أنا أخبرك، أو أنا أقول لك، أو أنا أعلمك، أو رأيت كيت وكيت، أو سمعت نحو ذلك، بدلا من أنا
(1) معين الحكام ص 88.
(2)
سورة المنافقون الآية 1
(3)
سورة المنافقون الآية 2
أشهد، وعلى أن ذلك سواء، ويعتبر شهادة تامة يجب على القاضي الحكم بها، بأن الغرض من الشهادة هو إخبار الشاهد عما علمه ليتمكن القاضي من الحكم وإيصال الحق إلى صاحبه، وهذا يتحقق بأي لفظ يفيد العلم؛ كأتيقن أو أعلم أو رأيت أو سمعت. . إلخ فينبغي المصير إلى اعتبار هذه الألفاظ.
أما القول بأن النصوص استعملت لفظ الشهادة فيرد عليه بأن الشرع استعمل لفظ الشهادة مرادفا لألفاظ أخرى، مما يؤكد عدم تفرد لفظ الشهادة بمعنى خاص، وأن الله تبارك وتعالى قال:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1).
وروى مسلم بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا): الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، أو قول الزور. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (2)» .
وعن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، قال:«الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور (3)» .
فجاء في نص الحديث الشريف قول الزور مرادفا لشهادة الزور، وعلى هذا فإن القول والشهادة سواء.
وورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} (4).
ومعلوما قطعا أنه ليس المراد التلفظ بلفظ "أشهد" في هذا، بل مجرد
(1) سورة الحج الآية 30
(2)
صحيح البخاري الشهادات (2654)، صحيح مسلم الإيمان (87)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 37).
(3)
رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، عن أبي بكرة، واللفظ لمسلم، انظر: صحيح مسلم جـ 1 ص 91، صحيح البخاري جـ 3 ص 151، جـ 7 ص 70، 71، سنن الترمذي جـ 4 ص 548.
(4)
سورة الأنعام الآية 150
الإخبار بتحريمه. وقد قال الله تعالى:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (1).
ولا تتوقف صحة الشهادة على أنه يقول سبحانه: "أشهد بكذا".
وقال تعالى:
{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} (2).
أي أخبر به وتكلم به عن علم، والمراد به التوحيد.
ولا تفتقر صحة الإسلام إلى أن يقول الداخل فيه: "أشهد أن لا إله إلا الله، بل لو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله" كان مسلما بالاتفاق (3).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (4)» . فإذا تكلموا بقول: لا إله إلا الله حصلت لهم العصمة وإن لم يأتوا بلفظ "أشهد".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "شهد عندي رجال مرضيون - أرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب". ومعلوم أن عمر لم يقل لابن عباس: أشهد عندك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكن أخبره فسماه ابن عباس شهادة (5).
قال ابن قيم الجوزية: (وقد تناظر الإمام أحمد، وعلي بن المديني في
(1) سورة النساء الآية 166
(2)
سورة الزخرف الآية 86
(3)
الطرق الحكمية ص 203.
(4)
رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ للبخاري، انظر: صحيح البخاري جـ 1 ص 11، صحيح مسلم جـ 1 ص 52، جامع الترمذي جـ 5 ص 439، سنن النسائي بشرح السيوطي جـ 5 ص 14، سنن ابن ماجه جـ 2 ص 1295، وقد ورد الحديث بلفظ "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" في مسلم والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وفي البخاري جـ 2 ص 110.
(5)
الطرق الحكمية ص 203، انظر: تبصرة الحكام جـ 1 ص 262.
العشرة - رضوان الله عليهم - فقال علي: أقول: "هم في الجنة، ولا أقول: أشهد بذلك". بناء على أن الخبر في ذلك خبر آحاد، فلا يفيد العلم، والشهادة إنما تكون على العلم.
فقال الإمام أحمد: " متى قلت: هم في الجنة فقد شهدت ". حكاه القاضي أبو يعلى، وذكره ابن تيمية.
فكل من أخبر بشيء فقد شهد به، وإن لم يتلفظ بلفظ "أشهد". وقال: ومن العجب أنهم احتجوا على قبول الإقرار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (1).
قالوا: هذا يدل على قبول إقرار المرء على نفسه. ولم يقل أحد: إنه لا يقبل الإقرار حتى يقول المقر: "أشهد على نفسي"، وقد سماه الله "شهادة"(2).
وأما ما ورد في شرح فتح القدير على الهداية من (أن النصوص نطقت باشتراط هذه اللفظة، وهي قوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3).
وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (4).
وقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (5).
وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (6).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد (7)» ، وأن حاصل هذا أن النصوص وردت بلفظ الشهادة. وقوله: فإن قيل: غاياتها وردت بلفظ الشهادة، وذلك لا يوجب على الشاهد لفظ الشهادة؛ كما قال تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (8).
(1) سورة النساء الآية 135
(2)
الطرق الحكمية ص 204.
(3)
سورة الطلاق الآية 2
(4)
سورة البقرة الآية 282
(5)
سورة النساء الآية 15
(6)
سورة الطلاق الآية 2
(7)
نصب الراية جـ 4 ص 82، سبل السلام جـ 4 ص 171، بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص 345.
(8)
سورة المدثر الآية 3
ولم يرد من السنة في تكبير الافتتاح إلا بلفظ التكبير؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «تحريمها التكبير (1)» ولم يشترط لذلك لفظ التكبير عند أبي حنيفة، فمن أين لزم في الشهادة؟ وجوابه عليه بقوله: قلنا الفرق معنوي، وهو أن لفظة الشهادة أقوى في إفادة تأكيد متعلقها من غيرها من الألفاظ كأعلم، وأتيقن، لما فيها من اقتضاء معنى المشاهدة والمعاينة التي مرجعها الحس، ولأنها من ألفاظ الحلف، فالامتناع مع ذكرها عن الكذب أظهر. وقد وقع الأمر بلفظ الشهادة في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» ، فلزم لذلك لفظ الشهادة بخلاف التكبير فإنه التعظيم، وليس لفظ أكبر أبلغ من أجل وأعظم، فكانت الألفاظ سواء، فلم تثبت خصوصية توجب تعيين لفظ أكبر (اهـ.) (3) فقد رد عليه الشيخ أحمد إبراهيم قائلا:
أقول: (إن عجيبا من مثل صاحب الفتح أن يقتنع بمثل هذا الكلام):
أولا: استدلاله بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (4) وبقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» على أن الأمر وقع بلفظ الشهادة، فكيف هذا وكل ما في الآية الكريمة هو الأمر بإقامة الشهادة لله، وليس في ذلك ما يستلزم أن يكون الأداء بلفظ مشتق من مادة (ش هـ د)، فضلا عن لفظ أشهد بخصوصه، فإقامة الشهادة قد تأتي بغير ذلك اللفظ، ولا أحسب أن هذا يخفى على مثل صاحب الفتح على جلالة قدره، ومتانة علمه، بل هو لا يخفى على من دونه بدرجات، والاستدلال بالحديث على ذلك أبعد من
(1) سنن أبي داود جـ 1 ص 208، سنن الترمذي جـ 2 ص 3، سنن ابن ماجه جـ 1 ص 101، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(2)
سورة الطلاق الآية 2
(3)
شرح فتح القدير على الهداية جـ 7 ص 376.
(4)
سورة الطلاق الآية 2
الاستدلال بالآية، والأمر ظاهر.
ثانيا: أن ذلك الفرق المعنوي بين لفظي الشهادة والتكبير ممنوع، كيف وذلك المعنى الذي يستفاد من تأدية الشهادة بلفظ أشهد يمكن أن يستفاد من مثل قول الشاهد:"رأيت ما أخبر به الآن بعيني التي في رأسي، وسمعت كلام المدعي عليه بأذني سمعا حقيقيا، وإني متأكد مما أقول، وأقسم بالله العظيم إني لصادق". فهل تقصر مثل هذه العبارة عن أن تؤدي المعنى المستفاد من لفظ أشهد أو هي تزيد عليه؟ على أنه كم شاهد يشعر بأن في قوله: "أشهد" معنى اليمين، بل هل ورد عن العرب أن لفظ أشهد يؤدي معنى الإخبار عن معاينة مع تضمنها القسم في آن واحد، فمن الذي ادعى هذا ممن يوثق بنقله من أئمة اللغة؟ فالمسألة في الحقيقة من قبيل المشترك اللفظي، وهل يتناول اللفظ المشترك في استعمال واحد معنييه معا أو جميع معانيه؟
ثالثا: أن التكبير جاء في الصلاة التي هي من العبادات، والشهادات جاءت في المعاملات، والأصل عند المحققين من أئمة الشريعة أن أحكام المعاملات معللة معقولة المعنى جملة وتفصيلا، بخلاف العبادات، فيا للعجب كيف يدخل الرأي والقياس في العبادات، وكيف يمتنع في المعاملات؟! على أنه من الذي يدرينا أن معنى أجل وأعظم أبلغ من معنى أكبر عند الشارع، أليس للشارع وحده أن يتعبدنا بما شاء، فمنه الأمر وعلينا الامتثال، ولا معنى للتعبد قليلا أو كثيرا، وما الذي يدرينا أن هذا الذي استنبطناه بالرأي يكون عبادة يرضاها الشارع منا؟ فالأسلم في جانب العبادة أن تكون بمعزل عن الرأي والقياس. وأما المعاملات الدنيوية فجانب المعنى فيها في
غاية الظهور، فلا معنى لأن يدخلها التعبد. فالحق أنه لا دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من القياس على اشتراط أن يكون الأداء بلفظ الشهادة فضلا عن لفظ "أشهد" بخصوصه (اهـ.).
الترجيح:
إذا نظرنا إلى أدلة جمهور الفقهاء لا نجد فيها نصا صريحا يستوجب الاقتصار على لفظة "أشهد" عند تأدية الشاهد لشهادته أمام القاضي؛ لأن جميع أدلتهم عامة، خالية من نص خاص يؤيد ما قالوا به، أو تعليل يفرض نفسه سوى تضمن هذا اللفظ للإعلام، والإخبار، والقسم، إضافة إلى أنهم قالوا في معرض تبريرهم بأن هذا اللفظ تعبدي غير معقول المعنى، وأنه ورد اللفظ به على لسان الشارع، فنسلم به، ونقصر لفظ الشهادة عليه دون غيره من الألفاظ كأعلم، وأتيقن.
أما الفريق الآخر فإن أدلتهم وإن ورد بها ما يفيد عدم اقتصار الشهادة المعتبرة شرعا على لفظ الشهادة أمام القاضي، حيث عبر في الحديث الشريف بقول الزور، وبشهادة الزور، وقال في الآية الكريمة:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (1).
فرادف القول الشهادة، فإن شهادة الزور سميت شهادة مجازا.
أما قول الإمام أحمد: "متى قلت: هم في الجنة فقد شهدت"(2) فإنه كلام إمام مجتهد لا يخلو من معارض.
(1) سورة الحج الآية 30
(2)
الطرق الحكمية ص 204، الاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 361.
والذي يترجح عندي عدم الاقتصار في الشهادة على لفظ "أشهد" عند تأدية الشاهد لها أمام القاضي، واعتبار أي لفظ يفيد المعنى ويؤدي الغرض المطلوب، وهو إيضاح الحقيقة تبيانا للعدل، وإيضاحا للحق، وذلك للأسباب التالية:
1 -
عدم وجود نص صريح يستوجب الاقتصار على هذا اللفظ.
2 -
أنه ما دام أن الدخول في الإسلام يتم بدون شرط التلفظ بالشهادة بالرغم من ورود ذلك في نص الحديث، فإن هذا اللفظ ليس بشرط. فإن قيل: إن هذا من معاني الشهادة العامة، قلت: وكذلك استعمالها عند القاضي ليس في موضوع معين، بل في عامة القضايا.
3 -
وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (1).
حيث لا تتوقف الشهادة على أنه سبحانه يقول: أشهد بكذا.
4 -
كذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} (2).
فإنه إذا كان قد احتج بهذا على إقرار المرء على نفسه ولم يقل أحد بقصر الإقرار على قول المقر: أشهد على نفسي بكذا وكذا. وقد سمى الله الإقرار هنا شهادة؛ فإنه كما يجوز الإقرار بأي لفظ فكذلك الشهادة من باب أولى، سيما وأنها لا ترد من الشخص المقر، بل من شخص - في الغالب - لا يطلب مغنما ولا يدفع مغرما.
5 -
أنه هناك من المسلمين غير العرب من لا يفهم معنى كلمة أشهد باللغة العربية، وفي حالة شهادته حادثة ما، واستلزم الأمر لشهادته مع
(1) سورة النساء الآية 166
(2)
سورة النساء الآية 135
أنه لا يستطيع تأديتها بالعربية، أفنضطره على أن ينطق بهذا اللفظ مع عدم معرفته لمعناه؟ لا شك أن هذا شبه مستحيل، ويصعب على أي عاقل أن ينطق بكلام لا يفهم معناه ويوافق على تدوينه والتوقيع عليه. وإذا صرف النظر عن شهادته فسيضيع الحق إذا كانت قد تعينت عليه الشهادة لكمال النصاب به.
وإذا اكتفى بإدلائه بشهادته بلغته، ثم ترجمت إلى العربية - وهذا هو الافتراض الذي أرى أنه لا محيد عنه من لدن أي عاقل يدرك سماحة الشريعة وحرصها على حقوق الناس - فإن الترجمة حينئذ لن تكون حرفية، فقد يمليها المترجم بلفظ أعلم أو أتيقن، أو غيرهما مما يفيد علمه بالواقعة، فهل نصرف النظر عن هذه الشهادة لعدم قول المترجم لفظ: أشهد؟!
كما أن المترجم قد يترجم لفظ أعلم أو أتيقن بلغة الشاهد إلى لفظ أشهد، وتكون الشهادة المملاة من الناقل وهو المترجم مغايرا لفظها للفظ الصادر من الشاهد، فيكون ظاهر الحكم على هذه الشهادة صحيحا وباطنه باطلا. بخلاف الحالة الأولى حيث يطابق فيها لفظ لغة الشاهد للفظ: أشهد مع ترجمتها إلى أعلم أو أتيقن، فيكون ظاهر هذه الشهادة باطلا وباطنها صحيحا. وعندئذ فإنه سيكون هناك مشقة على المسلمين عند تأدية الشهادات وتحملها، سيما في البلاد التي تكثر فيها اللغات، والله تعالى يقول:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1){إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2).
قال ابن عباس في تفسير هاتين الآيتين: لا يغلب عسر يسرين (3)، والدين الإسلامي في غاية اليسر والسماحة والمثالية ومراعاة مصالح الناس، وإن الشريعة مقاصدها المحافظة على مصالح الناس، وكيان المجتمع
(1) سورة الشرح الآية 5
(2)
سورة الشرح الآية 6
(3)
تفسير القرطبي جـ 20 ص 107.
بكفالة ضروريات الناس وتوفير حاجياتهم، والمحافظة على حياتهم وشؤونها. والأمور الضرورية للناس هي: المحافظة على خمسة أشياء، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. ولا يتأتى حفظ هذه الأشياء إلا بتطبيق شريعة الله، ومن ذلك الأخذ بالشهادة بأي لفظ يفيد المعنى ويتحقق الحق به.
وقد قال ابن حزم بأنه: (إن قال الشاهد للقاضي: أنا أخبرك، وأنا أقول لك، وأنا أعلمك، أو لم يقل: أنا أشهد - فكل ذلك سواء - وكل ذلك شهادة تامة فرض على الحاكم الحكم بها؛ لأنه لم يأت قرآن، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قياس ولا معقول، بالفرق بين شيء من ذلك. ثم قال: فإن قيل بأن القرآن والسنة وردا بتسمية ذلك شهادة؟ قلنا: نعم، وليس في ذلك أنه لا يقبل حتى يقول: أنا أشهد فقد جعلنا معتمدنا وجعلتم معتمدكم في رد شهادة الفاسق قول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1).
فصح أن كل شهادة نبأ، وكل نبأ شهادة وكلاهما خبر، وكلاهما قول، وكل ذلك حكاية (2).
وهذا كلام جيد وموافق للغة والمعقول، وتتحقق به المصالح المنشودة من الشهادة. والله أعلم.
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2)
المحلى لابن حزم جـ 10 ص 640، 641.
صفحة فارغة
حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص
بقلم الدكتور: عياضة بن نامي السلمي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث صغير في مسألة من مسائل أصول الفقه الهامة، التي كثر الكلام فيها بين الأصوليين، وجاء أكثره فيها غير مبين، قد اختلط فيه الغث بالسمين، وأثار الغبار في طريق الدارسين، وبلبل عقول المبتدئين، فأردت أن أسهم بهذا البحث المختصر في حل معضلها، وبيان مشكلها، راجيا الله العليم الحكيم أن يوفقني للصواب ويكتب لي به الأجر والثواب.
وقد قسمت البحث إلى تمهيد وسبعة مطالب على النحو التالي:
1 -
تمهيد في تعريف العام ووجوب العمل به.
2 -
المطلب الأول: تحرير محل النزاع في المسألة.
3 -
المطلب الثاني: ذكر الأقوال فيها إجمالا.
4 -
المطلب الثالث: تحرير الأقوال ونسبتها لأصحابها والاستدلال عليها ومناقشة الأدلة.
5 -
المطلب الرابع: الموازنة والترجيح.
6 -
المطلب الخامس: سبب الخلاف في المسألة.
7 -
المطلب السادس: ثمرة الخلاف.
8 -
المطلب السابع: مقدار البحث المخصص عند من أوجبه في تعريف
العام ووجوب العمل به.
تمهيد:
- العام في اللغة: اسم فاعل من العموم، وهو الشمول والإحاطة، والعام هو الشامل المحيط بأكثر من واحد.
- وفي الاصطلاح: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة بلا حصر.
والعمل بالعام من الكتاب والسنة هو مذهب جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة والظاهرية وغيرهم من الطوائف. وإنما نقل الخلاف فيه عن بعض المتكلمين الذين يزعمون أن ألفاظ العموم التي يذكرها العلماء لا تفيد العموم إلا بقرائن، فإن لم توجد قرائن تدل على العموم أو الخصوص وجب التوقف فيها، وهذا القول لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، وما زال العلماء قديما وحديثا يستدلون بعمومات الكتاب والسنة غير معتدين بمن خالف فيها.
والصحابة رضوان الله عليهم هم أعرف الناس بهذا الشرع وبلغته التي أنزل الله بها كتابه، وتكلم بها نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد عملوا بعمومات الكتاب والسنة في وقائع كثيرة حصل بمجموعها العلم بأنهم كانوا مجمعين على إجراء ألفاظ الكتاب والسنة على عمومها ما لم يصرفها صارف إلى الخصوص.