المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌ يكتبون آيات من القرآن على لوح أسود ويغسلون الكتابة بالماء ويشرب

- ‌ توفي رجل عن ابنين وبنتين وزوجة وأخ شقيق وأخت شقيقة، فما نصيب كل واحد منهم

- ‌ وطء الحائض في الفرج

- ‌ أصول الشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون واحدة

- ‌ المرأة لا تنجس بحيض ولا نفاس، ولا تحرم مؤاكلتها ولا مباشرتها فيما دون الفرج

- ‌ حكم التصوير في الإسلام

- ‌من فتاوى:سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل

- ‌ تسلسل جرح البينة

- ‌هل صلاتي لا تنفع طالما أنني جاهل بالتوحيد وغير كافر بالطاغوت

- ‌ المسلم إذا فعل شيئا من الشرك كالذبح والنذر لغير الله جاهلا

- ‌ التوسل بجاه فلان أو حق فلان

- ‌ من يتحاكم إلى القوانين العرفية، والقوانين القبلية، هل حققوا معنى لا إله إلا الله

- ‌ النكاح بنية الطلاق

- ‌بيان معنى لا إله إلا الله

- ‌من مظاهر موالاة الكفار:

- ‌ مظاهر موالاة المؤمنين:

- ‌أقسام الناس فيما يجب في حقهم من الولاء والبراء:

- ‌القسم الأول: من يحب محبة خالصة لا معاداة معها

- ‌القسم الثاني: من يبغض ويعادي بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما

- ‌القسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة

- ‌حكم الشهادة والحكمة من مشروعيتها وأركانها

- ‌أولا: حكم الشهادة:

- ‌ثانيا: الحكمة من مشروعية الشهادة:

- ‌ثالثا: أركان الشهادة:

- ‌الركن الأول: الشاهد

- ‌الركن الثاني والثالث: المشهود له وعليه:

- ‌الركن الرابع: المشهود به:

- ‌الركن الخامس: الصيغة:

- ‌المطلب الأولتحرير محل النزاع

- ‌المطلب الثالثتحرير الأقوال وذكر أدلتها ومناقشتها

- ‌المطلب الرابعالموازنة والترجيح

- ‌المطلب الخامسسبب الخلاف

- ‌المطلب السادس*ثمرة الخلاف

- ‌المطلب السابعمقدار البحث عن القائلين به

- ‌تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم

- ‌فوائد تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع

- ‌أولا: أن نسبة النساء في أي مجتمع من المجتمعات البشرية تفوق نسبة الرجال وتزيد عليها

- ‌ثانيا: أن الرجل يتأخر نضجه الجنسي والاجتماعي واستعداده للزواج

- ‌ثالثا: أن رغبة المرأة إلى الجماع أقل من رغبة الرجل

- ‌رابعا: المرأة معرضة للعقم والإياس، والمرض الذي يفوت على الرجل الاستمتاع بها

- ‌خامسا: الزواج المتعدد فيه نبل وتضحية من الرجل وتحمل للمشقات والتبعات

- ‌شروط تعدد الزوجات

- ‌حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌موضوع الفتيا:

- ‌النسخ الأصول

- ‌منهج التحقيق:

- ‌الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومسنده

- ‌الوضع القائم في عصره:

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌حفظه:

- ‌ثناء الأئمة عليه:

- ‌احترام العلماء له:

- ‌زهد الإمام أحمد:

- ‌فقه الإمام أحمد:

- ‌الإمام أحمد والجرح والتعديل:

- ‌محنة الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌آثار الإمام أحمد:

- ‌الحكمة من قطع يد السارق

- ‌حكمة التشريع الإلهي

- ‌الحكمة من إقامة الحدود

- ‌حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق

- ‌من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي

- ‌القرار الأولحكم الماسونية والانتماء إليها

- ‌القرار الثانيمناشدة حكام الدول العربية والإسلاميةبتطبيق الشريعة الإسلامية

- ‌القرار الثالثحكم الشيوعية والانتماء إليها

- ‌نداء لجميع المسلمين وغيرهمللوقوف في صف حكومة السودان وشعبها

- ‌اعتذار. . وتصويب

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق

ولها ضراوة في نفوسهم، ولا تكون إلا اختفاء بحيث لا يراه الناس).

ص: 307

‌حرمة التعدي على المال وأثر قطع يد السارق

اهتم الإسلام بالأموال اهتماما عظيما وحماها حتى جعل المال شقيق الروح ومساويا لها في الحرمة؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه (1)» . وقال أيضا في خطبته المشهورة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا (2)» رواه البخاري (3).

فحمى المال من أن تمتد إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين، فهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور حبسا أو قطعا أو قتلا أو صلبا أو تشريدا.

{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4)(المائدة 33).

كما نهى سبحانه وتعالى عن كل ما يجر إلى أكل أموال الناس بالباطل، فحرم التعامل بالربا وجعله من أكبر الكبائر؛ لما يجلبه من الأحقاد والضغائن، وحرم المقامرة والرشوة ونحوهما، وحرم أكل أموال اليتامى والضعفاء وأكل صداق المرأة إلا ما طابت به نفسها.

وجملة القول: إن الاعتداء على أموال الناس بأي وجه من الوجوه حرام، سواء كان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة والنصب، أو جحد العارية، والغش في المعاملة، وأكل الأجور ومنعها أصحابها، إلى غير ذلك مما يستحله أصحاب النفوس الضعيفة.

وفي مقدمة هذه الكبائر جريمة السرقة التي نهى عنها الإسلام وحذر

(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 277).

(2)

صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 371).

(3)

جـ8، ص 82 من صحيح البخاري.

(4)

سورة المائدة الآية 33

ص: 307

منها، وتحريمها ثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع السلف الصالح، وليس هذا محل تفصيله.

وقد رتب الله سبحانه وتعالى عليها حد قطع اليد؛ مما يدل على أن فاعلها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، وفعل جرما؛ فقال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).

فقد نصت هذه الآية الكريمة على أن عقوبة السارق قطع يده، ولا خلاف بين الفقهاء ممن يعتد بقولهم في أن المراد بالقطع في الآية الكريمة {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) هو إبانة اليد وإزالتها؛ لأن لفظ القطع موضوع لها حقيقة لتبادرها منه، والتبادر إمارة الحقيقة كما هو مقرر عند علماء اللغة:

قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (3)(القطع إبانة بعض أجزاء الجسم من بعض فصلا، والقطع مصدر قطعت الحبل قطعا، والأقطع المقطوع اليد، ويد قطعاء أي مقطوعة).

والأحاديث الشريفة والآثار الصحيحة تؤيد هذا المعنى وتدل عليه، وليس هذا مكان ذكرها.

والآن نأتي إلى الحكمة من قطع يد السارق، فنقول: إن مما لا شك فيه أن قطع اليد في السرقة عقوبة لها أثرها في القضاء على هذه الجريمة.

والشريعة الإسلامية المحكمة تهدف من وراء ذلك إلى حماية الجماعة وحفظها حتى تقضي قضاء تاما على خطر يهدد الناس في أموالهم، وما يتبع ذلك من ترويع وإذلال. فلقد أحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية وشرعها على أكمل الوجوه، مع عدم مجاوزة

(1) سورة المائدة الآية 38

(2)

سورة المائدة الآية 38

(3)

انظر لسان العرب، جزء (10)، ص 149.

ص: 308

ما يستحقه الجاني من عقاب حتى يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولم يترك تحديد العقاب على السرقة إلى اجتهاد أو نظر أو رأي جماعة؛ لما في ذلك من التناقض الذي لا تؤمن عاقبته ولا يضمن فيه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر، بل إن من رحمته سبحانه وتعالى بعباده ورأفته بهم أن تكفل بتقرير العقوبات على الخطير من الجرائم حتى تحفظ الضروريات الخمس التي هي حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ المال، وجعل لكل جريمة عقوبة تناسب ما قد يخفى علينا تعقلها ومعرفة الحكمة منها.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى ما نصه:

(فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا على عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووضعا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعدله ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال)(1) اهـ.

فالإسلام في أهدافه السامية معني بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن، ولا يكون ذلك إلا بحماية الفضيلة، والقضاء على الفساد والرذيلة، وكل ما شأنه أن يدنس واجهة الإسلام التي أرادها نقية ناصعة، ولما كانت الغاية السامية تبرر الوسيلة الحازمة، وأن القسوة والشدة ليست شرا دائما، كان من العدل الضرب بشدة على يد من لا يراعي مصلحة الجماعة،

(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، جزء (2)، ص 96.

ص: 309

ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، فالعدل كل العدل أن يعاقب من يستحق العقاب، وليس أجدر بذلك النوع من العقاب إلا المجرمون الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء الذي يترك الرهبة والرعب الشديد في نفوس الناس.

وقد قال الله تعالى بعد تقرير عقوبة السرقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (1).

فإن هذا النص يدل على أن العقوبة مكافئة ومساوية للجريمة بكل آثارها الناتجة عنها، مما تحدثه السرقة من ترويع وإفساد، وكل ما يمكن السارق من تحقيق مأربه، ولو أدى ذلك إلى القتل، فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم، فلا يهمه إلا ما يحصل عليه من أموال الناس، من أجل ذلك شدد الشارع في تلك العقوبة حتى يردع الإثم ويطمئن الأمن.

ولما كانت العقوبة مرتبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب، بدليل أن الشارع قطع يد السارق في ربع دينار، كما قطع يد سارق الأكثر. ولو كان القطع على ذات الفعل لتفاوتت العقوبة في كل منهما) (2).

يقول العز بن عبد السلام في قواعده: (إن السرقتين استويتا في المفسدتين، وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر، وقد جعل الله تلك العقوبة نكالا تمنع الغير من ارتكاب السرقة اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم. وإن مادة النكال من نكل بفلان إذا صنع به صنعا يحذر منه غيره إذا رآه، ومنه قول الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} (3) أي عبرة.

(1) سورة المائدة الآية 38

(2)

مكافحة جريمة السرقة في الإسلام، ص 204.

(3)

سورة البقرة الآية 66

ص: 310

ولا عبرة أعظم من قطع يد السارق في السرقة يفتضح بها صاحبها طول حياته، ويوسم بميسم الخزي والعار يلاحقه حتى مماته) (1).

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2):

(ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة).

ويقول العز بن عبد السلام في قواعده الفقهية: (من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق؛ فإنه إفساد لها ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال، فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق)(3) اهـ.

ومن الحكمة في قطع اليد ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره حيث قال:

{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4) هذا تعليل للحد، أي: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيئ، ونكالا وعبرة لغيرهما، فالنكال مأخوذ من النكل وهو (بالكسر) قيد الدابة، ونكل عن الشيء عجز أو امتنع لمانع صرفه عنه.

فالنكال هنا ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا، ولعمر الحق أن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم الذل والعار وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم؛ لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السراق عند العلم بهم، إلى أن قال: فهو سبحانه يضع الحدود والعقوبات بحسب

(1) جزء (1)، ص 40.

(2)

إعلام الموقعين، جزء (2)، ص 103.

(3)

جزء (1)، ص 116.

(4)

سورة المائدة الآية 38

ص: 311

الحكمة التي توافق المصلحة) (1).

وقال الدهلوي في معرض كلامه على السرقة وما يتعلق بها ما نصه: (وقال صلى الله عليه وسلم في سارق: «اقطعوه ثم احسموه» أقول: إنما أمر بالحسم لئلا يسري فيهلك؛ فإن الحسم سبب عدم السراية. وأمر عليه السلام باليد فعلقت في عنق السارق، أقول: إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق)(2) اهـ. أما الفقهاء رحمهم الله تعالى فلم يتعرضوا في كتبهم في الغالب لعلة الحكم الشرعي أو حكمة تشريعه، بل جل اهتمامهم بذكر الأحكام فقط، اللهم إلا بالنزر القليل الذي يأتي في معرض الكلام كقول السرخسي من جملة كلامه على قوله عليه الصلاة والسلام في حق السارق:«اذهبوا به فاقطعوه (3)» : (فيه دليل على أن القطع للزجر، لا للإتلاف؛ لأنه أمر بالحسم بعد القطع، وهو دواء وإصلاح يتحرز به عن الإتلاف، وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل بالحد إذا كان مصرا على ذلك، ولأنه خزي ونكال، وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب).

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى تحت عنوان " لماذا قطعت يد السارق ولم يقطع فرج الزاني"؟:

فصل: وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة، وليس في حكمة الله تعالى ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة، وقلب مراتبها. وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا

(1) تفسير المنار، جزء (6)، ص 380.

(2)

حجة الله البالغة، الجزء الثاني، ص 123.

(3)

سنن النسائي قطع السارق (4877).

ص: 312

وأفعاله الحميدة تأبى ذلك.

وليس مقصود الشرع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة. إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء.

واليد للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولذلك يقال: وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه، وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو، ثم يقطع في المرة الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحما على وضم، فيستريح ويريح اهـ).

ويقول في موضع آخر: (وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا، وعقوبة السارق فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جناية حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي

ص: 313

جعله وسيلة إلى أذى الناس، وأخذ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه وشر يده التي بطش بها، ورجله التي سعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف؛ لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن بقى له يدا من شق ورجلا من شق) (1).

ويقول رحمه الله تعالى في موضع آخر: (فصل، وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والناصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطع لسرق الناس بعضهم بعضا وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم)(2).

وقال عبد الرحمن الحريري: (حد السرقة من الحدود الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فذكر الله تعالى حده في الآية الكريمة، وأمر بقطع يد السارق ذكرا كان أو أنثى، عبدا أو حرا، مسلما أو غير مسلم؛ صيانة للأموال وحفظا لها، ولقد كان قطع يد السارق معمولا به في الجاهلية قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقره وزاد عليه شروطا معروفة)(3) إلى أن قال: (ولهذا علل الله تعالى قطع اليد في السرقة بقوله عز وجل: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4)

أي تقطع مجازاة على صنعها السيئ في أخذهم أموال الناس بأيديهم

(1) إعلام الموقعين للإمام ابن القيم، ص 84.

(2)

إعلام الموقعين للإمام ابن القيم، ص 44.

(3)

كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الحريري - المجلد الخامس، ص 153.

(4)

سورة المائدة الآية 38

ص: 314

فناسب أن يقطع العضو الذي استعانا به على ذلك {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (1) أي تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك الفعل، وعبرة لغيرهما، فإن قطع اليد يفضح صاحبه طول حياته، ويجلب له الخزي والعار، ويسقطه في نظر المجتمع، وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة، وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم.

وها هنا سؤال معروف، وهو أن قطع اليد فيه إتلاف لعضو من أعضاء الإنسان، وذلك لا يتناسب مع الجريمة إذا كانت يسيرة، فإن أقل ما تقطع فيه اليد عشرة دراهم والعقوبة شديدة. وهذا الكلام منشؤه الغفلة عن معنى الجريمة، وعن الآثار الضارة المترتبة عليها، فإنك قد عرفت أن هذه الجريمة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت السرقة بين الناس فقد هددوا في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم كما ذكرنا، وأصبحت حياتهم مريرة لا فائدة منها، فإن السارق كالحيوان المفترس الذي يفتك بكل ما يلاقيه، فجريمته يجب أن تقابل بالقسوة المتناهية كي ينقطع دابرها من بين الناس بتاتا، فإذا تخيل شخص أن العقوبة شديدة فإنه يجب أن يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع أشد وأنكى.

ثم إن العقوبات لم توضع إلا لزجر فاسدي الأخلاق، وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتمثل أمامهم شدة العقوبة فإنهم لا ينزجرون أبدا) (2).

وقال الشيخ علي أحمد الجرجاوي أحد علماء الأزهر - ما نصه: (حكمة عقاب السارق):

(إن الذين لم يفقهوا هذا الدين الحنيف الذي جاء شاملا كاملا لكل منفعة لبني الإنسان، ولم يقفوا على حقيقة العلل الشرعية التي لأجلها جعلت العقوبات متنوعة في الشدة. هؤلاء يقولون: إن عقاب السارق بهذا الشكل مضر ببني الإنسان وليس فيه مصلحة للأمة.

(1) سورة المائدة الآية 38

(2)

كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، تأليف عبد الرحمن الحريري - المجلد الخامس، ص 191.

ص: 315

وهذا القول منقوض مردود، وهو وهم وليس من الحكمة في شيء، ولأجل أن نوقف هؤلاء الناقدين والطاعنين على الإسلام في وجوب العقاب هكذا نبين لهم بقدر الإمكان ضرر السرقة، ثم نكل إلى ذوي العقول منهم الحكم بعد ذلك.

أولا: إن المرء يكد ويكدح في هذه الحياة طلبا للرزق وما يقوم به أود حياته، إما بفلح الأرض واستثمارها فيصهر جلده لعاب الشمس في الصيف، ويهري أطرافه الزمهرير في الشتاء، وهكذا من المشاق التي يعانيها الفلاح المسكين كما هو مشاهد لنا برأي العين. وإما بالسفر مشيا على القدمين أو ركوبا على الدابة، معرضا نفسه للوحوش الضارية والسباع الكاسرة في فسيح الفلوات وبين الجبال والوهاد، يترقب الخطر كل لحظة وأخرى، والطامة الكبرى إذا فقد الزاد فإنه يقع بين خطرين عظيمين، وهما فقد الأمن والزاد، وفي هذه الحالة يكون الموت والهلاك منه قاب قوسين أو أدنى، هذا مع بعد المسافات واحتمال الحر والبرد. وإما بركوب السفن فيكون دائما معرضا للخطر إذا هبت الرياح الهوج وهاج البحر واضطرب وجرت السفينة في موج كالجبال، خصوصا إذا كان البر بعيدا والقاع عميقا في المحيطات الكبرى الفسيحة اللجج والغمرات. وقد يكون الريح ساكنا فتتعطل السفينة إذا لم تكن بخارية وتطول الشقة ويفنى الزاد. وهكذا من وعثاء السفر.

وإما بالاتجار في البضائع وهو في بلده، فيوما يربح ويوما يخسر، وآونة يفقد رأس المال، وهو في كلتا الحالتين يبقى دائما في همين: هم وقوع الخسارة إذا لم يربح، أو فقد رأس المال، فهو دائما في كد وكدح وهم ونصب، وإما بمباشرة الصناعة التي تهد الجبال وتفني الجسد، وإما بالخدمة في الحكومة أو غيرها، فهو دائما في تعب وذل لسطوة الرؤساء وغطرستهم وعقابهم إياه؛ أهمل أو لم يهمل. بل لمجرد الصولة والسطوة، وربما كان

ص: 316

عقابه قطع راتبه شهرا أو أقل أو أكثر، أو الرفث في بعض الأوقات، فيكون الضرر أعظم كما لا يخفى، وهلم جرا من الأعمال التي يعانيها الإنسان في سبيل الكسب، والتي يعرض لأجلها روحه على الموت، والتي تدعو أرباب الأعمال في كثير من الأحايين إلى الإضراب عن العمل وتوقف الحركة، فيختل النظام ويجرد الحسام كما هو واقع في الشرق والغرب.

ثانيا: أن هذه الأموال التي يكتسبها الإنسان بالكد والكدح تصرف إما للقوت، وهو قوام الحياة، وإما على الملبس وعليه وقاية الجسد. وإما لإعانة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، واليتامى، والمرضى، وذوي البيوتات التي لا يحصى عددها، الذين أضنى عليهم الدهر. وقل ما شئت في وجوه الصرف التي لا يحصى عددها، والتي عليها قوام الحياة، ونظام هذا الكون.

فيجتهد الإنسان هذا الاجتهاد في الكسب لهذه الأغراض الشريفة، ثم يأتي اللص فيسلبه ثمرة أتعابه سلبا هو في الحقيقة تقويض لدعائم العمران والأمن العام للأسباب التي سلفت.

ثالثا: إن اللص قد يسرق سلبا ونهبا بالإغارة على الناس وهم آمنون في ديارهم، فيزعجهم ويقلق راحتهم، وربما أدت الحالة إلى إراقة الدماء فتذهب الأرواح وتيتم الأطفال وترمل النساء، كما هو الحال في بلاد الأرياف وبعض المدن.

رابعا: إن السارق إذا تعود السرقة مالت نفسه إلى الكسل والبطالة، فتتعطل حركة الأعمال ويحل بالعالم النكال والوبال، ويأكل الناس بعضهم بعضا لجلب ما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة.

إذا عرفت هذا عرفت أن اللص عضو فاسد في جسم الأمة يجب تلافي شره.

ومن حكمة الشارع أنه جعل العقوبة على الجارحة التي استعان بها على السرقة، وهي اليد التي تناول بها المسروق، والرجل التي سعى بها

ص: 317

ليسرق، فإذا ما شاهد الناس سارقا أو سارقة في الطريق بهذا الشكل ارتعدت فرائصهم من لفظ سرق - يسرق - سارق - مسروق، فضلا عن مباشرة السرقة فعلا، ولنام الناس في بيوتهم وهي مفتحة الأبواب، وكذا خزائن الأموال، ولا حارس لهم إلا عدل هذا الشارع الحكيم، ولخلت السجون من اللصوص، ولما احتاجت الحكومات إلى إتعاب الفكر في إيجاد أنجع الطرق والوسائل التي تقطع دابر اللصوص، ولما احتاجت للجند والشرطة اللهم إلا لعدو في الحرب أو طارق، لا للص وسارق.

والحكمة في قطع الرجل عند العودة، والحبس إذا تكررت السرقة من السارق، هو أن الإبقاء على اليد والرجل يمكنه الارتزاق بقدر الإمكان، فلا يكون عولا على الناس؛ إذ المراد من القطع هو لأجل الاتعاظ والعقوبة، أما العقوبة فقد حصلت، وأما الاتعاظ فهو يحصل بالقطع إذا رأوه الناس) (1).

وعن أهمية قطع يد السارق وتنفيذ هذه العقوبة حسبما أمر به الشرع يقول عبد القادر عودة ما نصه:

(ثانيا: القطع - أساس القطع: الأصل في القطع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (2).

وعقوبة القطع لا يجوز العفو عنها لا من المجني عليه ولا من رئيس الدولة، ولا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تجافوا العقوبة فيما بينكم، فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا» . كذلك لا يجوز تأخير تنفيذ

(1) انظر كتاب حكمة التشريع وفلسفته - الجزء الثاني من صفحة 295 - 299، الطبعة الرابعة.

(2)

سورة المائدة الآية 38

ص: 318

العقوبة أو تعطيلها، وهذه المبادئ متفق عليها.

وقال في موضع آخر: (وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه عن طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق، أو الظهور ليرتاح من عناء الكد والعمل، أو ليأمن على مستقبله، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء.

وقد حاربت الشريعة الإسلامية هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان جريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.

ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة

ص: 319

عالمنا حتى الآن. وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديما. وهو السر الذي جعلها تنجح نجاحا باهرا في الحجاز في عصرنا هذا، فتحوله من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان.

لقد كان الحجاز قبل أن تطبق فيه الشريعة الإسلامية أخيرا أسوأ بلاد العالم أمنا، فكان المسافر إليه أو المقيم فيه لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل، بل ساعة من نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصا وقطاعا للطرق، فلما طبقت الشريعة أصبح الحجاز خير بلاد العالم كله أمنا، يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق حتى يأتي الشرطة فيحملونها إلى حيث يقيم صاحبها) (1).

ويقول السيد سابق في معرض كلامه عن حد السرقة وحكمة التشديد في العقوبة فيها:

(وشدد في السرقة فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة؛ إذ إن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول، كما أن في قطع يد السارق عبرة لمن تحدثه نفسه بالسطو على أموال الناس، فلا يجرؤ أن يمد يده إليها، وبهذا تحفظ الأموال وتصان. يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2).

إلى أن قال: (والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة دون غيرها من

(1) التشريع الجنائي الإسلامي، جزء (1)، ص 652 و653.

(2)

سورة المائدة الآية 38

ص: 320

جرائم الاعتداء على الأموال هي ما جاء في شرح مسلم للنووي: قال القاضي عياض رضي الله عنه: (صان الله الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة؛ فإنها تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها)(1).

ويقول أحمد الحصري: (وقد أجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق دون نكير ممن يعتد بآرائهم وأفكارهم).

المعقول: قال الشافعية: المال من أهم دعائم الحياة فيجب الحفاظ عليه من أن تعبث به أيدي اللصوص، ويجب أن يأمن الناس على أموالهم حتى تستقر أمورهم وتنتظم حياتهم، ولقد وردت السنة تفيد وتؤكد وجوب الدفاع عن المال واعتبار من يموت دفاعا عن ماله أنه مات في سبيل الله.

ولهذا كان لا بد للشارع الحكيم من أن يشرع من العقوبات ما يحفظ بها المال من الضياع ويؤمن أصحاب الأموال على أموالهم حتى تسير أمور المسلمين على خير حال، فكانت عقوبة السرقة عقوبة رادعة زاجرة مؤكدة تصميم الشارع على عدم ترك العابثين يعبثون دون ردع وزجر، فكانت العقوبة هي قطع اليد الآثمة السارقة.

وقد حاول الزنادقة والمغرضون من أعداء الإسلام التشكيك على الشريعة في الفرق بين دية اليد إذا اعتدي عليها من إنسان، وبين وجوب قطعها عقوبة على سرقة دراهم معدودة، فقال أبو العلاء المعري:

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

وأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:

(1) فقه السنة، جـ 2، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 485.

ص: 321

وقاية النفس أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

وهذا الرد هو جواب بديع مع الاختصار، ومعناه أن اليد لو كانت تودى بما قطع فيه لكثرت الجنايات على الأطراف؛ لسهولة الغرم في مقابلتها، لكن الشارع الحكيم وقاية للنفوس غلظ الغرم على الأطراف حفظا لها.

قال ابن الجوزي: وقد سئل عن شدة العقوبة في السرقة في مقابل مال زهيد، بينما اليد التي تقطع عقوبة لهذه الجريمة قيمتها لو اعتدي عليها يزيد أضعافا مضاعفة على قيمة المسروق الذي تقطع فيه، قال: لما كانت اليد أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت) اهـ.

ويقول الدكتور محمد فاروق النبهان: (أود أن أشير إلى أن حد القطع هو حد من حدود الله أريد به حماية المجتمع من أخطار من يهددون أمنه واستقراره، فالسرقة جريمة من الجرائم الأساسية التي يعاني منها مجتمعنا المعاصر، وكم سقطت ضحايا نتيجة هذه الجريمة الشرسة التي لم تستطع القوانين الجزائية المعاصرة أن تضع حدا لها، بل إن الإحصائيات تشير إلى أن هذه الجرائم تزداد مع الزمن، ولا تختص بالمجتمعات المتخلفة والفقيرة، وإنما هي ظاهرة نجدها بصورة أكثر شراسة ووحشية في المجتمعات المتقدمة والغنية، حيث نجد العصابات الإرهابية تأخذ طابعا مميزا في جرائمها الوحشية التي تأنف منها إنسانية الإنسان.

وإن الذين يتباكون على اليد المقطوعة التي روعت المجتمع بجرائمها أولى بهم يرون أن يتباكوا أيضا على الضحايا الذين يسقطون بالمئات نتيجة أعمال النهب والسلب في كل مجتمع من المجتمعات المعاصرة، ويد واحدة تقطع على ملأ من الناس كفيلة بردع كل مجرم، وزجر كل من تسول له نفسه أن يتخذ من السرقة بابا من أبواب الرزق.

ص: 322

وإذا كان علماء القانون الجزائي يضعون النظريات المثالية التي يستدرون بها الدموع، ويستجدون بها العواطف على المجرمين، فأولى بهؤلاء أن ينظروا ولو مرة واحدة إلى الجرائم المروعة الدامية التي تحل بالآمنين المطمئنين من السكان الذين استسلموا وألقوا سلاحهم اعتمادا على الأمن والاستقرار والحماية التي توفرها أجهزة الأمن لهم من خلال التشريعات الجزائية الواقية.

وقطع يد السارق هي عقوبة من الله، فأولى بالبشر أن يتمسكوا بهذه العقوبة الرادعة الزاجرة التي ما أريد بها إلا حماية المجتمع وحماية أمنه واستقراره.

ولتكف الأعين الدامعة أسى وحزنا على المجرمين، وإذا كان المجرم يستحق نظرة رحمة وشفقة فإن البريء بدون شك هو أحوج لهذه النظرة البريئة).

ويقول ابن مودود في الاختيار ما خلاصته:

(المال محبوب إلى النفوس، تميل إليه الطباع البشرية، ومن الناس من لا يردعه عقل ولا يمنعه نقل، ولا تزجرهم الديانة، أو تردهم المروءة والأمانة. فلولا الزواجر الشرعية لبادروا إلى أخذ أموال الناس، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى، فناسب شرع هذا الزاجر الذي هو القطع في السرقة) حسما لباب الفساد، وإصلاحا لأحوال العباد، فهذا المعتدي الذي ترك ما أباح الله تعالى له، واستحسنه الناس من المكاسب الشريفة التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالصالح العام، فأقدم على أموال الناس بغير حق، وأفزعهم وأخافهم، يناسبه في العقوبة أن تقطع يده؛ فإن الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، وهذا من العدل

ص: 323

الذي تقوم به السماء والأرض، ولهذا حكم سبحانه وتعالى بقطع يد السارق، فجعله عقوبة مثلة عدلا، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد (أو السجن) فأليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم).

ويقول أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري في كتابه محاسن الإسلام وشرائع الإسلام، حينما تكلم عن محاسن الحدود وتكلم عن كل حد قال:

(وأما حد السرقة فالحسن فيه صيانة أموال المسلمين عن التلف، وصيانة السارق عن السرقة، فإن من سرق أسرف إذا حصل له مال مجموع غير مكسوب، فإن السرقة إنما تنشأ من لؤم الطبيعة وخبث الطينة، وسوء ظنه بالله تعالى، وترك الثقة بضمان الله تعالى، وترك الاعتماد على قسم الله تعالى. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1).

وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (2).

فجوزي لهذه الأنواع من الجناية.

وآخر: إن مالك المال يعتمد عصمة الله تعالى في حال نومه وغفلته وغيبته، والسارق ينتهز هذه الفرصة ولا يبالي من هذه العصمة، فجازاه الله بقطع العصمة من آلة الجناية، وهي اليد؛ فإنه بها يتمكن من السرقة في غالب أحواله. ثم الحسن فيه أن جوزي بالقطع لا بالقتل؛ لأنه فوت على المالك بعض المنافع، فيجازى بتفويت بعض المنافع). . . وهكذا.

وخلاصة ما تقدم في البحث ما يلي:

(1) سورة هود الآية 6

(2)

سورة الذاريات الآية 23

ص: 324

أن الله لما خلق الإنسان وفضله وكرمه على سائر خلقه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (1).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2).

فقد أنزل سبحانه وتعالى من الأحكام على يد رسله الذين اختارهم واصطفاهم، وكان الهدف من هذه الأحكام هو المحافظة على الإنسان الذي كرمه على سائر خلقه، كما تهدف أيضا إلى المحافظة على الأرواح والأموال والأعراض والعقول وغيرها من مقاصد تنظيم المجتمع تنظيما دقيقا ناجحا، ومن هذه الأغراض والمقاصد الأساسية التي تهدف إليها الشريعة الغراء المحافظة على مال الإنسان ونفسه.

ولذلك فقد شرع سبحانه حد السرقة، وهو (قطع يد السارق)؛ لأن السرقة تؤدي إلى إتلاف المال وضياعه، والمال مخلوق لوقاية النفس والمحافظة عليها، فكانت الحكمة من شرعية حد السرقة هي المحافظة على المال، وعلى النفس، وعلى العرض، كما أن السرقة إذا انتشرت في قوم سادهم الخوف والقلق وعدم الاستقرار، وإذا سادت هذه الأشياء مجتمعا من المجتمعات فلن يصلح حاله ولن يتقدم مهما كانت أسباب التقدم فيه، ولقد خلق الله المال حماية للإنسان. يقول تعالى:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3).

ويقول الشاعر في المال:

أصون عرضي بمالي لا أدنسه

لا بارك الله بعد العرض في المال

ولا يمكن المحافظة على النفس، أو العقل، أو النسل إلا به. لذا كانت

(1) سورة ق الآية 16

(2)

سورة الإسراء الآية 70

(3)

سورة البقرة الآية 29

ص: 325

ضرورته للحياة ملحة، وكان مقصدا شرعيا لتضامن الأدلة على حفظه ورعايته، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (1).

والسارق لما أخذ مال غيره خفية وظلما وانتهبه بغيا وعدوانا، وكان أكبر مساعد له على فعله اليد التي امتدت لأخذه وانبسطت لسلبه، وتحركت لاغتياله ونهبه، كانت أحق بالعقوبة دون سائر الجوارج؛ لذلك أوجب الله قطعها؛ لأن بها البطش والسطو، زجرا واعتبارا كيلا تمتد يد لسرقة، ولا تحدث نفس صاحبها بها أصلا؛ لأنه إذا علم أنه إن سرق بترت يمينه وشوهت بنيته، ونقصت خلقته، وصار مثلا يضرب، وعارا يذكره الناس به إذا مشى، ونكاية وزجرا لغيره، وامتنع عن مجرد التفكير فيها. فلأجل هذا أوجب الدين الإسلامي قطع يد السارق ليكون ذلك ردعا ومنعا من هذه الفعلة الشنيعة، وقطعا لدابر من تسول لهم أنفسهم بإخافة المجتمع وتعكير صفوه.

وباستقراء ما سبق وتأمله نكاد نستخلص من حكم حد قطع اليد ما يلي:

1 -

أنه لا يجوز تعديلها ولا العفو عنها متى علم بها الحاكم الشرعي، ولا يجوز تأخير تنفيذها إلا بمسوغ شرعي، يدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل الشفاعة في المخزومية التي سرقت وقال مقالته المشهورة:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2)» متفق عليه.

2 -

هذه العقوبة وهذا الجزاء فيه الردع والمنع لنفس الجاني ولغيره من الجناة الذين يفكرون في فعل مماثل لفعله، فحينما يرى السارق

(1) سورة النساء الآية 5

(2)

هذا من حديث رواه البخاري في باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، جـ (8)، ص 16، باب 12، وكذا رواه مسلم في باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود جـ (5)، ص 114.

ص: 326

يده قد قطعت، ويرى الآخرون ذلك ماثلا بين أعينهم، يكون ذلك مانعا قويا من الجريمة مهما كانت.

3 -

الجزاء الذي ذكره الله لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة.

4 -

في القطع إظهار السارق بين الملأ بمظهر ينبئ عن خسته ودنائته، وينفر المجتمع منه، وليعرف من يراه أنه مجرم، ومن ثم يحذر منه ومن أن يفعل مثل فعله، ويكون عبرة أمام غيره ممن تسول لهم نفوسهم ارتكاب هذا الذنب العظيم.

وعلى العموم فإن الحدود كما قال عنها بعض العلماء: إنما شرعت زواجر وروادع، بمعنى أن إقامتها تجعل الناس ينزجرون ويرتدعون عن الجرائم ويتجنبونها خشية أن تلحقهم تلك العقوبة، وربما استند هؤلاء العلماء إلى بعض النصوص المقترنة بذكر العلة أو حكمة التشريع؛ كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (1). وكقوله تعالى في حد الحرابة: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2).

كما أن من العلماء من يرى أن الحدود جوابر، بمعنى أن من اقترف جريمة من جرائمها ثم أقيم عليه الحد، فإن إقامة الحد تعتبر كفارة لجريمته إذا تاب، ويستند هؤلاء أيضا إلى بعض النصوص الواردة في ذلك، مثل ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين

(1) سورة البقرة الآية 179

(2)

سورة المائدة الآية 33

ص: 327

أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له (1)». . . الحديث ومثل ما رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه من حديث المرأة الجهنية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في شأنها:«إنها تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (2)» ومثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شتم المحدود حينما قالوا: أخزاك الله. فقال لهم رسول الهدى والرحمة: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان (3)» رواه البخاري.

ويظهر والله أعلم أن الحدود تعتبر زواجر وجوابر في وقت واحد: فمن النفوس من لا يرتدع إلا بالعقوبة، ومنها من لا تؤثر فيه العقوبة أبلغ من تأثير الوعد الحسن، ولذلك نستطيع أن نقول: إن الحدود شرعت للغايتين الآتيتين:

أ - تزجر الناس وتردعهم عن اقتحام الجرائم، والنفس البشرية مجبولة على الابتعاد عن الإيلام والإيجاع. فإذا عرفت أن مقارفة الجريمة ستفضي إلى نزول العقوبة بها، كفت عن الإجرام.

ب - وهي أيضا تجبر ما ينثلم من دين المرء الذي اقتحم المعصية ثم عوقب عليها بالحد في الدنيا، لكن هذه الغاية وهذا التكفير والجبر إنما تتحقق لمن تاب وندم على ما اقترف.

هذا قليل من كثير، بل نقطة من بحر فيما جاء في الحكمة والغاية من إقامة حد السرقة الذي شرعه أحكم الحاكمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. والله أعلم.

(1) رواه البخاري في باب الحدود كفارة، جـ 8، ص 15 ورواه مسلم في باب الحدود كفارات لأهلها، جـ5، ص 127.

(2)

في الحدود - في باب من اعترف على نفسه بالزنى من صحيح مسلم جـ (5)، ص 12.

(3)

من حديث رواه البخاري في باب الضرب بالجريد والنعال، جـ 8، ص 14.

ص: 328

مصادر البحث

1 -

اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية: من منشورات المؤسسة السعيدية بالرياض.

2 -

أعلام الموقعين: الإمام ابن القيم، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، طباعة دار الكتب الحديثة، شارع الجمهورية بعابدين.

3 -

الاختيار لابن مودود: نقلا عن رسالة السرقة وأحكامها في الفقه الإسلامي، تأليف سليمان بن محمد الربعي عام 1404هـ.

4 -

التشريع الجنائي: عبد القادر عودة، الطبعة الثانية، مكتبة دار العروبة شارع الجمهورية بالقاهرة.

5 -

الحدود والأشربة في الفقه الإسلامي: تأليف أحمد الحصري، أستاذ الفقه المقارن بالجامعة الأردنية، نشر مكتبة الأقصى، عمان.

6 -

الفقه على المذاهب الأربعة: تأليف عبد الرحمن الحريري، الطبعة الأولى، دار الفكر ببيروت.

7 -

المبسوط لشمس الدين السرخسي: الطبعة الثالثة، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، لبنان.

8 -

حجة الله البالغة للشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المحدث الدهولي: الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية لصاحبها عمر حسين الخشاب عام 1322هـ.

9 -

حكمة التشريع الإلهي وفلسفته: للشيخ علي الجرجاوي، الطبعة الرابعة.

10 -

رسالة السرقة وأحكامها في الفقه الإسلامي بحث لنيل درجة الماجستير، تأليف سليمان بن محمد الربعي 1404 هـ.

11 -

سنن الترمذي: تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

12 -

صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية محمد أوزدمير استامبول، تركيا.

13 -

صحيح مسلم: توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

14 -

فقه السنة: للسيد سابق، نشر دار الكتاب العربي ببيروت، لبنان.

15 -

قواعد الأحكام: لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

16 -

لسان العرب: لابن منظور، دار صابر للطباعة، بيروت 1956 م.

17 -

مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان، نشر وكالة المطبوعات بالكويت ودار العلم ببيروت، لبنان.

18 -

محاسن الإسلام وشرائع الإسلام: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري، نشر دار العربي، بيروت، لبنان.

19 -

مكافحة جريمة السرقة في الإسلام: تأليف خليفة البراهيم الصالح الزرير، الطبعة الأولى، نشر مكتبة المعارف بالرياض.

ص: 329

عدم جواز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم

سماحة الشيخ

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأما بعد:

فقد كثر الإعلان في الجرائد عن وفاة بعض الناس، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين، وهم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له أو مرحوم أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة، ولا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام وعقيدته بأن ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب، أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كالعشرة من الصحابة ونحوهم، ومثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له أو مرحوم، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها: غفر الله له أو رحمه الله أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت.

وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 330

تعقيب وتوضيح

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بعنوان (من أجل أن نكون أقوى أمة) عن صفات الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد.

فقد اطلعت على ما نشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها 3283 الصادر في 3/ 4 / 1408 هـ بقلم الدكتور محيي الدين الصافي بعنوان (من أجل أن نكون أقوى أمة).

وقد لفت نظري ما ذكره عن اختلاف السلف والخلف في بعض صفات الله، وهذا نص كلامه:

(إلا أنه وردت في القرآن الكريم آيات تصف الله تعالى ببعض صفات المخلوقين، من مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1){كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2){الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، وللعلماء في فهم هذه الآيات طريقتان: الأولى طريقة السلف، وهي: أن نثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه، ولكن من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، واضعين نصب أعينهم عدم تعطيل الذات الإلهية عن الصفات، مع جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد، وأن الأصل تنزيه الله تعالى عن كل ما يماثل المخلوقين؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4).

أما طريقة الخلف، فهي: تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها إلى المعنى، فتكون اليد بمعنى القدرة، والوجه بمعنى الذات، والاستواء

(1) سورة الفتح الآية 10

(2)

سورة القصص الآية 88

(3)

سورة طه الآية 5

(4)

سورة الشورى الآية 11

ص: 331

بمعنى الاستيلاء والسيطرة ونفوذ الأمر؛ لأنه قام الدليل اليقيني على أن الله ليس بجسم، ولقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).

وكل من الطريقتين صحيحة، مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام. إلخ.

وقد أخطأ - عفا الله عنا وعنه - في نسبته للسلف (جزمهم بأن ظاهر هذه الآيات غير مراد) فالسلف رحمهم الله، ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا، يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون حقيقتها اللائقة بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الفتوى الحموية ما نصه: (روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات، فقد حكى الأوزاعي، وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين، الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق، حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا.

وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. وروي أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا:

(1) سورة الشورى الآية 11

ص: 332

أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمروها كما جاءت بلا تكييف. وقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة.

والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهما، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقاتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما) إلى أن قال رحمه الله:(وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1).

كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه، (ومنها) ما رواه الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج.

فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل يكون مجهولا بمنزلة حروف المعجم، وأيضا فإنه لا

(1) سورة طه الآية 5

(2)

سورة طه الآية 5

ص: 333

يحتاج إلى نفي علم الكيفية؛ إذ لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.

وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، لما قالوا: بلا كيف، وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: بلا كيف، أو نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول) اهـ.

فهذا هو مذهب السلف في هذه المسألة، وهو واضح في أنهم يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه من صفات الكمال، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وأن ما تدل عليه الآيات والأحاديث الصحيحة مراد ومفهوم، ولكنهم لا يؤولونها ولا يكيفونها، بل يكلون علم الكيفية لله سبحانه، ويعتقدون تنزيه الله سبحانه عن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وكما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (2)، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3).

أما قوله: (أما طريقة الخلف فهي تأويل هذه الكلمات وصرفها عن ظاهرها) إلى قوله: (وكل من الطريقتين صحيحة مذكورة في الكتب المعتمدة للعلماء الأعلام) اهـ. أقول: هذا خطأ عظيم، فليست كلتا الطريقتين صحيحة، بل الصواب أن طريقة السلف هي الصحيحة، وهي

(1) سورة الشورى الآية 11

(2)

سورة الإخلاص الآية 4

(3)

سورة النحل الآية 74

ص: 334

الواجبة الاتباع؛ لأنها عمل بالكتاب والسنة، وتمسك بما درج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان من التابعين، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام، وفيها تنزيه الله سبحانه وتعالى عن صفات النقص بإثبات صفات الكمال، وتنزيه الله سبحانه عن صفات الجمادات والناقصات والمعدومات، وهذا هو الحق، أما تأويلها على ما يقول علماء الخلف من أصحاب الكلام فهو خلاف الحق، وهو تحكيم للعقل الناقص، وقول على الله بلا علم، وفيه تعطيل الله جل وعلا من صفات الكمال، فهم فروا من التشبيه المتوهم في أذهانهم ووقعوا في التعطيل الذي هو في الحقيقة تشبيه لله سبحانه بالجمادات والمعدومات والناقصات كما تقدم، وتجريد له سبحانه من صفات الكمال التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ونص عليها سبحانه في كتابه الكريم، وتمدح بها إلى عباده، وأرسل بها أفضل رسله وخاتم أنبيائه، وفطر عليها الخلق.

ولو أن هؤلاء المتكلمين المتأولين ساروا على مذهب السلف الصالح، وأثبتوا لله صفات الكمال على الوجه اللائق بالله سبحانه، واكتفوا بنفي التكييف والتمثيل لأصابوا الحق، وفازوا بالسلامة من مخالفة الرسل، وتحكيم العقول التي لم تحط به علما.

والخلاصة: أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب اتباعه والقول به، وأما ما ذهب إليه بعض علماء الخلف من تأويل نصوص صفات الله جل وعلا فهو باطل، مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة.

فالواجب العدول عنه، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وإثبات ما أثبتته ونفي ما نفته، مع الإيمان بأن ما دلت عليه من المعاني حق ثابت لله سبحانه، لا يشابهه فيه أحد من خلقه كما تقدم.

وقوله: (قام الدليل اليقيني على أن الله ليس بجسم) هذا الكلام لا دليل عليه؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة وصف الله سبحانه بذلك أو

ص: 335

نفيه عنه، فالواجب السكوت عن مثل هذا؛ لأن مأخذ صفات الله جل وعلا توقيفي، لا دخل للعقل فيه، فيوقف عند حد ما ورد في النصوص من الكتاب والسنة. وبهذا يتضح خطأ قول الدكتور محيي الدين الصافي ما نصه:(لذا فإن علينا أن نتفق أن من ذهب من علماء المسلمين في العالم الإسلامي الآن إلى الأخذ بإحدى الطريقتين فهو على صواب) إلى آخر ما قال؛ لأن الحق كما ذكرنا هو ما ذهب إليه السلف رحمهم الله، وما خالفه يعتبر باطلا يجب تركه وبيان بطلانه وإظهار الحق للناس، وهو من التعاون على البر والتقوى، ومن إنكار المنكر، ومن الدعوة إلى الحق.

والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، والسير على ما دل عليه كتاب الله العزيز وسنة رسوله الناصح الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى ما درج عليه سلف الأمة في باب أسماء الله وصفاته وفي جميع أبواب الدين، وأن يوفق أخانا الدكتور محيي الدين الصافي للرجوع إلى الحق والتمسك به وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 336